البطل الجسور الفضيل الورتلاني
بقلم: المستشار عبد الله العقيل-
مولده ونشأته : هو إبراهيم بن مصطفى الجزائري المسمى الفضيل الورتلاني ولد في 06-02-1906م في بلدة (بني ورتلان) في الشرق الجزائري وينتمي إلى أسرة عريقة، فجده الشيخ الحسين الورتلاني من العلماء والمعروفين. وقد حفظ الفضيل الورتلاني القرآن الكريم وهو صغير كما درس علوم اللغة العربية والدين على علماء بلده، واستكمل دراسته في مدينة (قسنطينة) على يد العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تأسست سنة 1931 م.
قد أبتعث الورتلاني إلى فرنسا كمندوب للجمعية حيث أقام في باريس من سنة 1936م إلى سنة 1938م يبث الروح العظيمة في العمال والطلبة الجزائريين بفرنسا. حيث أنشأ النوادي لتعليم اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي ومحاربة الرذيلة في أوساط المسلمين المقيمين بفرنسا واستطاع خلال عامين أن يفتح الكثير من النوادي الثقافية في باريس وضواحيها والمدن الفرنسية الأخرى حيث كانت تلك النوادي تحتوي على قاعة للصلاة ومدرسة لتعليم الدين الإسلامي وتدريس اللغة العربية.
اتصالاته وجولاته :
كانت له اتصالات واسعة بالمسلمين المقيمين في فرنسا من الجزائريين وغيرهم من العرب الدارسين هناك أمثال الشيخ محمد عبد الله دارز والشيخ عبد الرحمن تاج والأستاذ محمد المبارك والأستاذ عمر بها الدين الأميري، وقد آثار هذا النشاط الإسلامي السلطات الفرنسية والمنظمات العنصرية الإرهابية فأخذت تضيق على المسلمين الناشطين وفي مقدمتهم الأستاذ الفضيل الورتلاني الذي قررت منظمة (اليد الحمراء) الإرهابية اغتياله، فما كان منه إلا أن غادر فرنسا إلى ايطاليا بمساعدة الأمير شكيب أرسلان الذي وفّر له جواز سفر حيث توجه إلى مصر سنة 1939م وهناك وجد المناخ المناسب للنشاط الإسلامي فقد سبقه لزيارتها شيخه ابن باديس قبل ربع قرن والتقى علماءها أمثال الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية آنذاك والشيخ أبي الفضل الجيزاوي الذي صار فيما بعد شيخاً للأزهر. وكان الإمام الشهيد حسن البنا شديد الإعجاب بالشيخ عبد الحميد بن باديس وجهاده الإسلامي حتى أنه أسس مجلة فكرية اسماها بـ (الشهاب) تيمناً بمجلة الشهاب الجزائرية، وقد سهلت هذه الصلة الروحية بين الحركتين الإسلاميتين الإخوان المسلمين بمصر وجمعية العلماء الجزائرية بالجزائر الطريق لاتصال الفضيل الورتلاني بالإخوان المسلمين والانضمام إليها وأصبح عضواً بارزاً فيها، وقد ألقى الفضيل الورتلاني (حديث الثلاثاء) بالمركز العام للإخوان المسلمين نيابة عن المرشد العام للإخوان المسلمين حسن البنا الذي كان خارج القاهرة.
نشاطه وجهاده :
شارك الفضيل الورتلاني وهو في مصر تأسيس عدة جمعيات خيرية وسياسية كاللجنة العليا للدفاع عن الجزائر وجمعية الجالية الجزائرية سنة 1942م وجبهة الدفاع عن شمال أفريقيا سنة 1944م التي كان أمينها العام وتضم في عضويتها الشيخ محمد الخضر حسين وحفيد الأمير عبد القادر الجزائري والأمير عبد الكريم الخطابي المغربي.
وكان للفضيل الورتلاني دوره البارز في تنظيم وتنظير ثورة الأحرار في اليمن سنة 1948م مما يعرفه القاصي والداني رجالات اليمن.
ولست ادري من أي الجوانب أبدأ الحديث عن هذا الشخص العظيم، والسياسي المحنك والبطل الشجاع، والمغامر الجسور، والمجاهد الصابر، الذي حار الناس في مواهبه المتعددة، وعجزوا عن مجاراته في انطلاقه لتحقيق الأهداف التي يؤمن بها، والمبادئ التي يدين لها، وهي تحرير الشعوب الإسلامية بكاملها، من ربقة الاستعمار الأجنبي أياً كان لونه وجنسه، والإحلال الإسلام كنظام شامل للحياة كلها عقيدة وعبادة وخلقاً وشريعة ومنهج حياة.
ومن هنا كان بطلنا الشجاع الفضيل الورتلاني صاحب السبق في ميادين الجهاد، والعمل لتحرير العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار.
ولئن كان الورتلاني من أبناء الجزائر فإن تحركه وجهاده لم يكلن للجزائر وحدها، بل للمسلمين عامة؛ لأن غايته الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله.
دوره في اليمن :
لقد أسهم الورتلاني ورفيقه المصري عبد الحكيم عابدين مع إخوانهما في اليمن لرفع الظلم الواقع بهم، وإزاحة العقبات التي تحول دون تحقيق أمانيهم في الحياة الحرة الكريمة كما كان للورتلاني دور فاعل ومؤثر في رفد الجهاد الإسلامي في فلسطين ضد يهود ومن والاهم. فضلاً عن الدور الأساسي الذي يضطلع به مع إخوانه من مجاهدي الجزار لتخليص بلادهم من نير الاستعمار الفرنسي والتصدي لكل القوى الماكرة التي تكيد للإسلام والمسلمين في كل مكان.
صلته بالإخوان المسلمين :
يقول عنه الأستاذ الكبير محمود عبد الحليم في كتابه القيم (الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ) :
(كان الفضيل الورتلاني شاباً جزائرياً من زعماء المجاهدين الذين طاردهم الاستعمار الفرنسي فهرب إلى مصر واتصل بالإخوان المسلمين وكان كثير التردد على المركز العام للإخوان المسلمين، حتى ليكاد يتردد عليه كل يوم باعتبار هذه الدار مركز الحركات التحريرية ضد الاستعمار في كل بلد إسلامي؛ كان الفضيل الورتلاني لماح الذكاء سريع الحركة كثير المعارف، لا يقتصر تحركه على ما يخص موطنه الأصلي – الجزائر – بل كان يرى العالم الإسلامي وحدة لا تتجزأ، وأنه مطالب بتحرير كل جزء منه، واعتقد أن الفضيل الورتلاني كان أول من سافر إلى اليمن التي أطاحت بالإمام يحيى) انتهى.
إن أستاذنا الفضيل الورتلاني علم من إعلام الإسلام المعاصرين، فقد أتاه الله علماً واسعاً وذكاء حاداً وبديهة حاضرة وثروة من التجارب وافرة، وأسلوبا في الحوار نادراً، وجرأة في الحق وقدرة على التصدي للباطل، وسلاسة في الحديث وفصاحة في الخطابة، وقوة في الإيمان ويقظة في الضمير.
ولست في هذا مبالغاً ولكنه بعض ما في الرجل؛ لأن الفضيل الورتلاني نموذج فريد للرجل المسلم القوي، الذي تصغر في عينه عظائم الأمور وتهون أمامه كل الصعاب فلا يتهيب نم اقتحام الميادين مهما عظمت التضحيات ولا يتردد لحظة في مواجهة الباطل المنتفش مهما كانت قوته وجبروته.
ثناء اليمنيين عليه :
يروي القاضي المؤرخ عبد الله الشماحي في كتابه (اليمن الإنسان والحضارة) قصة تعرفه بالإمام الشهيد حسن البنا والفضيل الورتلاني فيقول :
(كان الإمام البنا ممن التقيته في الحج وقويت الصلة به وتلازمنا في منى ومكة والمدينة ودرسنا الوضع العام في العالم الإسلامي، وقد شخّصت للإمام البنا الوشع في اليمن واتفقنا على التعاون بين الإخوان المسلمين والمنظمات اليمنية؛ وقد أوفى الإمام البنا بوعده وساند النضال اليمني بما كانت تنشره صحافة الإخوان المسلمين، ثم أوفد الأستاذ الجزائري الفضيل الورتلاني وغيره إلى اليمن عن طريق عدن.
ويأتي الأستاذ الجزائري الفضيل الورتلاني موفداً من الإمام حسن البنا وروح الثورة تتقدمه، فيمر بعدن ويضاعف حماس قادة حزب الأحرار وأعضائه، ذلك الحماس الزاحف مع الفضيل الورتلاني إلى كل مكان حل فيه.
وفي (تعز) اتصل الفضيل الورتلاني بالقاضي عبد الرحمن الإرياني والسيد زيد الموشكي والسيد أحمد الشامي وغيرهم وتبادلوا النظرات وبه ارتبط السيد أحمد الشامي ولازمه في تجولاته، وتأثر كل منهما بالآخر؛ وفي (صنعاء) قام الفضيل الورتلاني بنشاطه الثوري يرافقه المؤرخ المصري أحمد فخري ويساعده الشامي فيجتذبان إليهما السيد حسين الكبسي، ويندفع الفضيل الورتلاني في إقامة الندوات وإلقاء المحاضرات في المدارس والمساجد والحفلات، فتسري روحه إلى الشباب والضباط وطلاب المدارس) انتهى.
ويري الأستاذ حسين محمد المقبلي في مذكراته (مذكرات المقبلي) :
(... وصل إلى صنعاء الأستاذ الفضيل الورتلاني سنة 1947م وهو جزائري وعضو في حركة الإخوان المسلمين وخطيب لا يجاريه أحد في ذلك، وفهم للإسلام على غرار فهم الشيخ صالح المقبلي صاحب كتاب (العلم الشامخ في الرد على الآباء والمشايخ) وهو في مجمل القول خليفة الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري، عمره حوالي الأربعين عندما وصل اليمن لإنشاء فرع لشركة محمد سالم المصرية للمواصلات البرية.
كان الإخوة الموجودون في مصر وعلى رأسهم الشيخ الشهيد محمد صالح المسمري على صلة كبيرة جداً بالإخوان المسلمين، وكان الإخوان المسلمون - وعلى رأسهم الشيخ حسن البنا – يطمحون إلى تغيير الواقع في البلاد العربية، والى قيادة إسلامية صحيحة، والى ناشئة الإسلامية قوية.
وصل الفضيل الورتلاني يحمل مشعلاً آخر، وبدأ يخطب الناس بأسلوب جديد دفع الشباب اليمني دفعاً إلى اعتناق الثورة، وبدأت أتردد على الفضيل الورتلاني في منزله غير مكتف بملاحقته في المساجد والمجتمعات للاستماع إلى خطبه. وبدأ يحدثني... إننا نحن المسلمين فوق كوكب هذه الأرض نمثل الملايين، ولكني أقول – وهو يضغط على الحروف – إننا مستسلمون ولسنا مسلمين...) انتهى.
ويقول السيد أحمد بن محمد بن عبد الله الوزير في كتابه (حياة الأمير علي بن عبد الله الوزير كما سمعت ورأيت) : (... لقد كان للإخوان المسلمين وعلى رأسهم زعيمهم الإمام حسن البنا – رحمه الله – الذي لم يأل جهداً في بذل مساعيه الحميدة بإخراج اليمن من عزلتها وفقرها وجهلها، وكان الإمام البنا قد راسل الإمام يحيى وأدلى به بالنصح والإرشاد، وحاول أن يتصل بالإمام مباشرة، وأن تقدم جماعة الإخوان المسلمين كل طاقاتها وخبراتها ومعلوماتها لتنشئ دولة إسلامية في شعب مسلم عريق.
لكن الأقدار لم تسمح بعد فتهيئ الفرصة لإقامة الدولة الإسلامية، لما عليه اليمن من جهل وتخلف وحرمان، ولأن الإمام يحيى لا يحب أن يفيق الشعب من سباته العميق، تهرباً من أن يدرك ما فيه من التخلف الحرمان فيهوي بعرشه المتداعي..
وكان وصول الأخ عبد الله بن علي الوزير ومعه فضيلة المجاهد الكبير السيد الفضيل الورتلاني، قد دفعا بالحركة الإصلاحية قفزة واسعة.
وأخذت القضية تتحرك بسرعة واندفاع، فكان السيد الفضيل الورتلاني العلم الجزائري المعروف والخطيب المفصح، يُلهب أحاسيس الناس في الخطب يوم الجمعة، وعن طريق الاجتماعات المستمرة بالشخصيات القوية) انتهى.
ويقول الأستاذ احمد بن محمد الشامي في مذكراته (رياح التغيير في اليمن).
(... وفي اعتقادي أن العالم المجاهد الجزائري السيد الفضيل الورتلاني هو الذي غيّر مجرى تاريخ اليمن في القرن الرابع عشر الهجري وأنه حين وضع قدمه على ارض اليمن كأنما وضعها على (زرّ) دولاب تاريخها فدار بها دورة جديدة في اتجاه جديد، لأن ثورة الدستور سنة 1367هـ - 1948م هي من صنع الورتلاني.. لقد كانت هناك معارضة يمنية وكان هناك نقد وتبرم ومنشورات ضد الدولة، وكانت هناك طموحات وزعامات وتحفزات، وكل ذلك يصلح أن يكون وقوداً لثورة ما.. ولكن (المعارضة) كانت بلا تنظيم، واتجاهات زعمائها مختلفة ومتباينة، والمناشدون بالإصلاح ودعاة التغير والتطور لا توحدهم رابطة، والنقد والتبرم غير موجهين توجيهاً سياسياً هادفاً بناءً.. والطموحات تتنافس فيما بينها، وكل متربص بالآخر، والزعامات العلمية والدينية والسياسية قد خدّرها الوهن، وجمدتها الأطماع، والتحفزات الوطنية ليس لها زعماء أكفاء ذوو مؤهلات قيادية، فلما جاء السيد الفضيل الورتلاني، عمل ما لم يعمله احد من اليمنيين، فوحّد شتات (المعارضة) في الداخل والخارج وارشد المطالبين بالإصلاح والمناشدين بالتغيير والتطوير إلى طرق العمل وجمعهم في رابطة وطنية، وقارب بينهم وبين أرباب الطموحات السياسية والزعامات العلمية والدينية والقبلية والتحفزات الإصلاحية من الناقمين والناقدين والمتبرمين، وصهر مجهوداتهم وأهدافهم واتجاهاتهم وآمالهم وأمانيهم في بوتقة (الميثاق الوطني) وإنني اعتبر الورتلاني هو الذي استطاع أن يقنع الرئيس جمال جميل بأن يؤلف جبهة من ضباط الجيش لتأييد الدستور، وأنه هو الذي أعاد الثقة إلى قلوب الموشكي والشامي، وجعلهما يتعاونان من جديد مع الزبيري ونعمان في إطار الميثاق الوطني، وهو الذي استطاع إقناع الأمراء والعلماء والمشايخ والتجار والضباط والأدباء بمبايعة عبد الله الوزير إماما ثورياً دستورياً. ولولا الورتلاني ما توحّد الأحرار في اليمن فالورتلاني هو مهندس ثورة 1367هـ - 1948م حقاً) انتهى.
ويمضي الأستاذ أحمد محمد الشامي في كتابه المذكور فيقول :
(إن واضع الخطوط العريضة الأولى لميثاق الثورة الدستورية اليمنية هو العلامة الجزائري السيد الفضيل الورتلاني والأستاذ الإمام المرشد العام للإخوان المسلمين حسن البنا، وكان هذان العبقريان المصلحان يهتمان بالمسلمين وشؤونهم في العلام بدافع قرآني خالص، لا يشوبه شعور وطني معين ولا تعصب إقليمي أو طائفي أو مذهبي محدود.
لقد كان لدى الأستاذ الورتلاني من المعرفة بكتاب الله وسنة رسوله والفقه وأصوله، والفهم والعبقرية والفصاحة والتقوى ما يخوله أن يفهم ويعرف ما فهمه وعرفه الإمام زيد بن علي الذي لم يكن (زيدياً) بل كان حنيفاً مسلماً، كما كان الورتلاني والبنا من بعده.
ولا بد أن يدرك أن مجيء السيد الورتلاني كان له الأثر الفعال، حيث إنه هو الذي وحّد بين أحرار اليمن في الداخل والخارج ووحّد بين وجهات النظر المختلفة للفئات اليمنية) انتهى.
وقد وصفه الشاعر اليمني القاضي محمد محمود الزبيري بقوله :
(لا أظن أنه يوجد للفضيل الورتلاني نظير في العالم الإسلامي علماً وكمالاً وإخلاصا وهيبة وجلالاً) انتهى.
دور العلماء في الجزائر :
إن الجزائر المسلمة هي ارض البطولات وبلد التضحيات التي أرخصت الدماء الغالية في سبيل عقيدة الإسلام، والذبّ عن حياض الوطن الإسلامي، وقاومت المستعمرين سنين طويلة، وانتفضت كالمارد بعد طول رقاد، وقدمت الشهداء بمئات الألوف لتفخر أن يكون في طليعة رجالها ومقدمة أبطالها ابنها البار الفضيل الورتلاني، الذي كان كالشامة في جبين الأمة الجزائرية المسلمة، لما يتمتع به من صفات لا تتوافر إلا في القلة القليلة من أصحاب العزائم، لأن الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة.
إن جمعية العلماء المسلمين الجزائرين كان لها الفضل – بعد الله – في تخريج هذه القمم السامقة وهؤلاء الأئمة الأعلام والرجال العظام، ولن ينسى المنصفون من الناس هذا الدور العظيم لهذه الجمعية المباركة، سواء في داخللالجزائر أو خارجها، فقد كان لمكتبها في القاهرة وفيه أمثال الإبراهيمي، والورتلاني دور فاعل مؤثر في تهيئة الرأي العام العربي والإسلامي للوقوف إلى جانب الجزائر في محنتها، كما كان لهذه الجمعية الأثر الكبير في جمع كلمة الدعاة والقادة المسلمين في العالم العربي والإسلامي لمواجهة التحدي الاستعماري الذي يستهدف الإسلام كدين والمسلمين كأمة، والأرض الإسلامية كوطن.
ولقد استطاع الشيخ البشير الإبراهيمي بمؤازرة أخيه الفضيل الورتلاني أن يكسبا تأييد الشعوب العربية والإسلامية، بل بعض الحكام المسلمين بحيث صارت قضية الجزائر المحور الأساسي للخطب والمحاضرات والندوات والمؤتمرات.
وأقبل الناس يجودون بأموالهم بسخاء منقطع النظير، لرفد حركة الجهاد الإسلامي في الجزائر، وقامت المظاهرات الكبرى في أنحاء العالم العربي والإسلامي، كلها تؤيد وتؤازر شعب الجزائر المسلم في تصديه للطغيان الفرنسي، وأصبحت لا ترى مسجداً أو نادياً أو معهداً أو مقهى أو مجتمعاً، إلا وكان الحديث فيه عن الجزائر وجهادها وضرورة الوقوف إلى جانب شعبها المسلم المجاهد. ولقد فاضت انهار الصحف والمجلات بالقصائد والمقالات التي تهيب بالمسلمين جميعاً لدعم إخوانهم مسلمي الجزائر.
إن هذا الدور الرائد الذي قام به الإبراهيمي والورتلاني وإخوانهما ليسجل في صفحات التاريخ المشرقة، كما نرجو من الله تعالى أن يجعل ذلك في موازين حسناتهما يوم القيامة.
تعرضه للمخاطر :
لقد تعرض الورتلاني أثناء جهاده إلى مخاطر عديدة، وكان دمه مهدراً من قبل فرنسا ووقع أكثر من مرة بالأسر ولكن عناية الله حفظته ورعته، وكان للإمام الشهيد حسن البنا دور في الإفراج عنه وعن رفيقه أمين إسماعيل بعد أحداث اليمن عام 1948م.
وبعد فشل ثورة الدستور باليمن حُكم على الفضيل الورتلاني بالإعدام وأصبح مطلوباً حيث قضى خمس سنوات متستراً قضاها في التجوال في الدول الأوروبية والتقى بالشيخ البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء الجزائريين ونائبه الشيخ محمد العربي التبسي في سويسرا.
وقد وافق رئيس وزراء لبنان رياض الصلح على استقرار الفضيل الورتلاني في بيروت شرط أن يكون ذلك سراً.
عودته إلى مصر :
وبعد قيام الضباط الأحرار وعلى رأسهم للواء محمد نجيب بالإطاحة بالملك فاروق عاد الفضيل الورتلاني إلى مصر حيث رحب به العلماء والسياسيون وخصّصت له مجلة (الدعوة) لسان حال الإخوان المسلمين بمصر حواراً شاملاً نشرته في عددها السابع والثمانين كما حياه الأديب الإسلامي الكبير الشاعر علي أحمد باكثير بقصيدة جاء فيها :
أفضيل هذي مصر تحتفل
أمسيت لا أهل ولا وطن
لم تقترف جرماً تدان به
إن الفساد إذا اعترى بلداً
بلقاك فانعم أيها البطل
وغدوت لا سفر ولا نزل
كلا ولكن هكذا البطل
فالمجرمون به م الرسل
مغادرته إلى لبنان :
وبعد استئثار عبد الناصر بالسلطة وخلع محمد نجيب واعتقالاته للإخوان المسلمين وإعدام ستة من قاداتهم هاجم الورتلاني عبد الناصر على محاربته للإخوان وذلك في موسم الحج فكان جزاؤه السجن الحربي مع زميله الشاذلي المكي بعد عودتهما من الحج إلى القاهرة مما حدا بالفضيل الورتلاني أن غادر القاهرة سنة 1955م متوجهاً ثانية إلى بيروت بعد أن تأكد من تآمر المخابرات المصرية عليه وعلى أستاذه الشيخ البشير الإبراهيمي.
استمرار جهاده :
وحين انطلقت الثورة الجزائرية في 1954/11/01 م نشر الورتلاني مقالاً بتاريخ 1954/11/03 م بعنوان (إلى الثائرين من أبناء الجزائر : اليوم حياة أو موت) وبتاريخ 1954/11/15 م اصدر مع الشيخ البشير الإبراهيمي بياناً بعنوان : (نعيذكم بالله أن تتراجعوا) وبتاريخ 17/2/1955م شارك في تأسيس (جبهة تحرير الجزائر) التي تضم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي وممثلي (جبهة التحرير الوطني) : أحمد بن بيلا وحسين آية أحمد، ومحمد خيضر، وبعض ممثلي الأحزاب الجزائرية : الشاذلي مكي وحسين لحول، وعبد الرحمن كيوان، وأحمد بيوض وغيرهم.
وفاته :
واستمر الورتلاني في جهاده إلى أن لقي ربه في 12-03-1959 م في مستشفى في أنقرة وكانت وصيته أن يدفن في أرض الجزائر، إلا أن الطغمة العلمانية التي قفزت إلى السلطة بعد التحرير رفضت ذلك وبقي في الباخرة دون أن تجرؤ دولة عربية على أن يدفن جثمانه في مقابرها، فقبلت تركيا ودفن فيها، وقبل سنوات نقلت رفاته إلى حيث دفن في مسقط رأسه الجزائر.
رحم الله الأستاذ الفضيل الورتلاني رحمة واسعة وأعاد للجزائر وجهها الإسلامي المشرق بجهود أبنائها البررة من رجال الحركة الإسلامية المعاصرة والحمد لله رب العالمين.
أيها المسلمون
لقد قامت الشريعة، وتكونت الأمة، وقامت الدولة من قبل على غير مثال سبق، أو أصل متّبع، ومع هذا فقد بلغ المجتمع الإنساني فيها جميعاً أفضل حالات الكمال، حتى استحق أن يوصف بأنه "خير امة أخرجت للناس" ولا يعوزكم اليوم إلا الإرادة والعزم، والجد والحزم، والمثال معلوم، والأصل قائم، فهل تقدمون؟ ... حسن البنا .
* المقال من كتاب من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة