ابن باديس فقه التنظير وواقعية التنزيل
بقلم: حميد قلاز -
لاشك أن الإنسان طوال أطوار حياته يتأثر ويؤثر وهذا بفعل احتكاكه المباشر مع عالمي الأفكار والأشخاص، وقد كان إمام الجزائر الإمام عبد الحميد بن باديس رجلا غير عادي تأثر بأفكار غيره من غير بيئته وأثر أيضا بفضل تجربته الفريدة في غيره تأثيرا كبيرا- جعلت رجلا مثل الإمام حسن البنا يسمي جريدته بالشهاب تيمننا بمجلة الشهاب الباديسية -.
لقد كانت رحلة الإمام إلى الحجاز سنة 1913 مفصلية في تكوين شخصيته وصياغة أهدافه المستقبلية صياغة متزنة واعية جامعة بين فقة التنظير وواقعية التنزيل، نعم لقد تبنى الإمام السلفية عقيدة على خلاف ما كان سائدا في بلده لقرون عدة، ولكنه لم يخلع عنه جزائريته ولم يلبس ثياب غيره كما يفعل الكثير من أبناء جلدته اليوم، عاد الإمام من الحجاز وكله إرادة وتصميم لتغيير حال بلده وابتعاث أمة من القبور لشعاب الحياة من جديد، وقد نجح في وضع استراتيجية بعيدة المدى جمعت بين حسن التنظير فقها وعقيدة -وذلك بمحاربة البدع والخرافات التي استحدثتها الطرق الصوفية المنحرفة – وبين مراعاة للواقع الجزائري الخاص، فلم يقع في خطأ الصدام المباشر مع خصوصيات شعب ذاق ويلات الاستعمار ولايزال، بل انتهج نهج تبني كل ما لا يخالف الشرع فأنشأ المدارس والنوادي، واعتنى بالفنون عناية خاصة- جعلته يأمر ببناء مسرح في الطابق العلوي لدار الحديث بتلمسان-، لقد عاش الإمام كما قال: لمن أعيش ؟ أعيش للإسلام والجزائر، عاش للإسلام وبالإسلام فهما ووعيا وعاش للجزائر تضحية وبذلا وعطاء.
جمع بين الإسلام دينا ومرجعا والجزائر أرضا استخلفه الله فيها لينزل بالإسلام واقعا معاشا، وقد بين أن لا تعارض بين الأمرين كما قد يتوهم البعض قائلا: "قد يقول قائل إن هذا ضيق في النظر فليس الإسلام وحده دينا للبشرية ولا الجزائر وحدها وطنا للإنسان، فأقول نحن لما نظرنا الى الإسلام وجدناه الدين الذي يقرر التساوي بين جميع أجناس البشرية ويبين أنهم أجناس للتميز لا للتفضيل وأن التفاضل بالعمل الصالح أما الجزائر فهي وطني الخاص الذي تربطني بأهله روابط من الماضي والحاضر والمستقبل بوجه خاص وأنا أشعر بأن كل مقوماتي الشخصية مستمدة منه مباشرة وكما أنني كلما أردت أن أعمل عملا وجدتني في حاجة إليه؛ إلى رجاله وإلى آماله وإلى آلامه ونحن نخدم الجزائر ليس على حساب غيرها ولا للإضرار بسواها ولكن لننفعها وننفع ما اتصل بها من أوطان الأقرب فالأقرب".
لم يكن الإمام ممن سجنوا أنفسهم في غياهب التاريخ ولا ممن بهرتهم المدنية الغربية ببهرجتها ورونقها، ولكنه انطلق من الإسلام ليفهم واقعه فهما متزنا وسطيا مستفيدا من التجربة التي اكتسبها في رحلته لطلب العلم ومن الواقع الذي وجده حين رجع فجمع في تجربته الفذة بين الإسلام كمرجع ومنهج حياة وبين الجزائر كوطن وأرض يطبق فيه الإسلام، فما أحوجنا لمثل ابن باديس في فهمه وفاعليته وفي مراعاته لخصوصيات بلده ووطنه، وبعيدا عن عقدة التمشرق نجح الإمام في تكوين تجربة جزائرية خالصة بفهم عميق للإسلام قل نظيره بشهادة الجميع.