ابن باديس والجامع الأخضر
بقلم: الشيخ عمار مطاطلة -
إن ابن باديس الذي نتشرف بالحديث عنه إحياء لذكراه، حياته عبارة عن بحر فسيح الأرجاء بعيد الغور زاخر بالدرر و اليواقيت، وقد تصدى العديد من فحول الكتاب من داخل البلاد وخارجها للبحث والدراسة والتحليل قصد التعريف ببعض الجوانب من حياة هذا الرجل ليتعرف عليها الأجيال فأجادوا وأفادوا - ولكل درجات مما عملوا - بيد أني و ان لم أكن من فحول هذا الميدان فقد اخترت موضوعا ، محيطه واسع، يتطلب علما أوسع و جهدا أكبر ، و عقلا على التفكير أقدر و عمرا على التحمل والمعاناة أصبر، والعبد الضعيف الذي يقحم نفسه في هذا الميدان هو إلى هذه الصفحات أحوج وأفقر . ربي إني لما قدرت لي من خير فقير .
والموضوع أيها السادة الأفاضل هو ابن باديس والجامع الأخضر . ابن باديس و عظمته حين طلع صبحه أطفئت القناديل ، والجامع الأخضر الذي صار أكبر مصنع للرجال في القرن العشرين ، و الحديث عنهما يملأ المجلدات وقد ألفت فعلا فيهما مجلدات و مازالت أقلام الكتاب لم يجف حبرها بعد ، و منهم أبناء الجامعات في رسالاتهم و أطروحاتهم ، بورك فيهم.
أما الذي دفعني إلى إختيار هذا الموضوع فهو أنني قضيت جزأ من شبابي بين جدران تلك القلعة الشامخة أمام ذلك الفذ أنهل من معينه العذب و أسمع لذلك الصوت الذي لم يفارق رنينه سمعي و لم تغب عن مخيلتي صورته ما دمت حيا .
فأقول مستعينا بالله الذي علم الإنسان ما لم يعلم : لقد بدا لي أن ابن باديس منذ التحق بجامع الزيتونة كان يحلم هكذا : إذا كان لمصر الجامع الأزهر تدرس فيه العلوم الإسلامية و العلوم الإنسانية و العلوم العربية و آدابها ، و لتونس جامع الزيتونة مثلها ، لمراكش جامع القرويين مثل أختيهما ، فلم لا يكون للجزائر ما كان لأخواتها ؟ و شعبها لا يقل شأنا عنها؟
إذن فليكن للجزائر مركز إشعاع علمي مثل ما كان لإخوتها .. و ليكن الجامع الأخضر الذي يتوسط مدينة قسنطينة و الذي لم يشيده صاحبه للصلاة فقط و لكن شيده للتعليم أيضا ، كما نص على ذلك و كما هو مكتوب على واجهة بيت الصلاة . هكذا تصورته لما عُرف عنه من غيرة على دينه و لغته و وطنه و قد أشار إلى ذلك في بعض أحاديثه .
و لئن كان الثلاثة الأولى الأزهر و الزيتونة و القرويين من صنع دول و أمم فان الجامع الأخضر سيكون من صنع ابن باديس وحده ؛ و لذلك فاني أكون صادقا إذا قلت و انتم معي أن ابن باديس كان أمة يقوم بمفرده بما لا تقوم به إلا أمة من ورائها دولة ، و عبد الحميد يقوم به لوحده بل و من ورائه دولة ظالمة تضع أمامه كل صنوف العراقيل و تحاسبه على كل كلمة ينطق بها و كل خطوة يخطوها من أجل إيقاظ الأمة الجزائرية و إنقاذها من الجهل و الفقر و العبودية المسلطة عليها من طرف استعمار غاشم ظل جاثما على صدرها قرنا كاملا يمعن فيها تقتيلا و تشريدا و تجهيلا و تفقيرا حتى أتى على نصف سكانها قتلا و أصبح النصف الآخر حيا كميت .
وعلى ابن باديس أن يزيح عنها هذه الظلمات كلها فيبعث موتاها ويجمع مشرديها و يكوِّن منها جيوشا جرارة تنطلق من هذا الجامع لتقضي على الجهل أولا ثم على الفقر ثانيا وعلى الاستعمار الذي كان السبب في الآفات كلها ثالثا و أخيرا.. و ما ذلك عى الله ثم على همة ابن باديس القعساء بعزيز
إن الإعداد لهذه المهام العظمى التي عجت عن النهوض بها زعامات و أحزاب و ثورات توالت عشرات السنين ، سينهض بها وحده عبد الحميد ابن باديس ، نعم سينهض بها مستمدا عونه من الله ووسيلته إلى بلوغ ذلك كله كتابه الذي انزله نورا و هدى ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وسنة سيد المرسلين الذي بعث رحمة للعالمين و حول بحكمته و بعون من ربه رعاة غنم إلى قادة أمم .
ها هو ابن باديس العالم الرباني و قد غمرته هذه الأحلام و هذه الآمال و هذا التخطيط الشبه خيالي يقرر الشروع في العمل و لكن كيف؟ ومتى؟ وأين؟.
الشاب الشيخ عبد الحميد بمجرد عودته من جامع الزيتونة حاملا لأعلى شهادة علمية . توجه إلى الجامع الكبير في مسقط رأسه قسنطينة يمارس فيه مهنة التعليم التي يحلم بها و اجتمع حوله طلاب متعطشون للعلم ، بيد أن مفتي قسنطينة المشرف على الجامع الكبير و غيره منعه و استعان على إبعاده عن المسجد بعامل العمالة فما كان من ابن باديس إلا أن صرف طلابه دون إحداث أي شغب و ابتعد عن المسجد. وكان لهذه الحادثة صدمة كبيرة كادت أن تؤثر على معنوياته حتى أنه فكر في الهجرة واللحاق بأستاذه الأول الشيخ حمدان لونيسي الذي هاجر إلى المدينة المنورة فرارا من مضايقات وملاحظات الاستعمار وأعوانه في بلدة قسنطينة لكن والد ابن باديس ، الشيخ المصطفى أبى عليه هذا التصرف، و وافقه على الذهاب لأداء فريضة الحج و أعد له كل ما يحتاج إليه في رحلته لأداء فريضة الحج بما كان لأبيه من مكانة إجتماعية و جاه لدى السلطات الفرنسية . وسافر عبد الحميد فعلا ونزل بطيبة الطيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم و هنالك بدأت القصة التي يتولى عرضها علينا الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله قال :
“كان من تدابير الأقدار الإلهية للجزائر، ومن مخبآت العيوب لها أن يرد علي بعد استقراري بالمدينة أخي و رفيقي في الجهاد بعد ذلك الشيخ عبد الحميد ابن باديس أعلم علماء الشمال الإفريقي و لا أغالي و باني النهضات العلمية و الدينية والاجتماعية و السياسية للجزائر
ومع تقارب بلدينا في الجزائر بحيث لا تزيد المسافة بيننا على مائة و خمسين كيلومترا و مع أننا ندّان في السن رغم ذلك كله فإننا لم نجتمع قبل الهجرة إلى المدينة و لم نتعارف إلا بالسماع
كنا في المدينة المنورة بعد هذا اللقاء و هذا التعارف نؤدي صلاة العشاء الأخيرة كل ليلة في المسجد النبوي و نخرج إلى منزلي فنسمر مع الشيخ ابن باديس منفردين إلى أخر الليل حين يفتح المسجد فندخل مع أول داخل لصلاة الصبح ثم نفترق إلى اليلة التالية و هكذا إلى نهاية ثلاثة أشهر التي أقامها الشيخ بالمدينة.."
يقول الشيخ الإبراهيمي :“كانت هذه الأسمار المتواصلة كلها تدابير للوسائل التي تنهض بها الجزائر ووضع البرامج المفصلة لتلك النهضات الشاملة التي كانت صورا ذهنية تتراءى في مخيلتنا و صحبها من حسن النية و توفيق الله ما حققها في الخارج بعد بضع عشرة سنة و أشهد الله على أن تلك الليالي من سنة 1913 ميلادية هي التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين التي لم تبرز إلى الوجود إلا سنة 1931.
ورجع ابن باديس ليشرع فيما تم الاتفاق عليه بينه و بين الإبراهيمي من تلك البرامج و كان منطلقه هذه المرة الجامع الأخضر و بيده رخصة من السلطات الفرنسية تسمح له بالتعليم بهذا المسجد بكل حرية (و ما النصر إلا بالله)
أقول : رجع ابن باديس من المشرق العربي مزودا بنصائح من علماءها و باجازات علمية من كبار علماءها ، رجع مباشرة إلى الجامع الأخضر ليمارس فيه التعليم بكامل الحرية رغم أنف الحساد و بدء رحمه الله مشواره الطويل… يقول رحمه الله : “أما بداية تعليمي فيه - الجامع الأخضر - فقد كان في أوائل جمادى الأولى سنة 1332هـ (1913م) و كان ذلك بسعي من سيدي أبي لدى الحكومة فأذنت لي بالتعليم فيه بعدما كانت منعتني من التعليم في الجامع الكبير بسعي من المفتي في ذلك العهد، الشيخ مولود بن موهوب “.
أقول شرع - رحمه الله - في تطبيق برنامجه الطويل الأمد و العظيم والصعب الذي تم الاتفاق عليه بينه و بين صديقه الحميم الشيخ البشير الإبراهيمي.
يقول الإبراهيمي رحمه الله : “ وشرع الشيخ بعد رجوعه من أول يوم في تفيذ الخطوط الأولى من البرنامج الذي اتفقنا عليه ففتح صفوفا لتعليم العلم واحتكر مسجدا جامعا من مساجد قسنطينة لإلقاء دروس التفسير وكان إماما فيه، دقيق الفهم لأسرار كتاب الله فما كاد يشرع في ذلك ويتسامع الناس حتى انهال عليه طلاب العلم من الجبال والسهول حتى ضاقت بهم المدينة وأعانه على تنظيمهم و إيوائهم و إطعام المحاويج منهم جماعة من أهل الخير ومحبي العلم فقويت بهم عزيمته بها “.
واشتعلت الحرب العالمية الأولى و هو في مبدأ الطريق فاعتصم بالله فكفاه الله شر الاستعمار، وكان له وجود والده درع وقاه من بطش فرنسا التي كانت لا تصبر على اقل من هذه التحركات، وكانت النتائج تظهر سنة بعد سنة و عدد الطلبة يزداد سنة بعد سنة إلى أن انتهت الحرب ورجع الإبراهيمي من المشرق العربي فامتلأ فرحا وسرورا و إعجابا بما أنجزه الشيخ عبد الحميد في هذه المرحلة الصعبة والمحاطة بالموانع والأخطار وكان إلى ذلك عبد الحميد ابن باديس يمارس جهاده بكل شجاعة و بكل صدق و إخلاص منفردا .
يقول الإبراهيمي: “ورجعت إلى الجزائر ورأيت بعيني النتائج التي حصل عليها أبناء الشعب الجزائري في بضع سنين من تعليم ابن باديس واعتقدت من ذلك اليوم أن هذه الحركة العلمية المباركة لها ما بعدها ، و أن هذه الخطوة التي خطاها ابن باديس هي حجر أساس في نهضة عربية في الجزائر"
و انتهت المرحلة الأولى التي أعلن فيها ابن باديس ثورته التعليمية و الإصلاحية ابتداء من سنة 1913 و كان فيها وحيدا بكل ما تدل عليه الكلمة و امتدت هذه المرحلة إلى سنة 1920 رغم الأوضاع الصعبة التي كانت تمر بها البلاد في تلك المرحلة من حرب عالمية مدمرة و من ركود تام في الحركات السياسية والاجتماعية. راح ابن باديس يخترق هذه الأجواء كلها و يعمل ليل نهار على إحياء ما أماته الاستعمار في نفوس أبناء هذا الشعب من عقائد و أخلاق و عادات و تقاليد متخذا من الجامع الأخضر ثكنته التي يعد فيها كتائب التحرير التي ستكون بحول الله طلائع تنتشر في أنحاء القطر مزودة بنصائحه الغالية وتوجيهاته الحكيمة المستمدة نورها من كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح بعد أن تسلحوا بسلاح العلم و الإيمان و تدربوا على الدعوة بالحكمة و الموعظة الحسنة لمدة سنوات قضوها في حلقات الدرس بالجامع الأخضر الذي كان يمارس فيه الشيخ رحمه الله تطبيق برنامجه التعليمي، فيفتتح دروسه اليومية بعد صلاة الصبح بالحديث الشريف ويختتمها بعد صلاة العشاء يدرس تفسير القران الحكيم . وقد أعطت هذه المرحلة نتائج باهرة ومشجعة كما شهد بذلك اعدل علماء الجزائر الشيخ البشير الإبراهيمي كما مر آنفا.
وبعد انتهاء هذه المرحلة بهذا النجاح الملموس اطمأن ابن باديس إلى أن زرعه قد مد جذوره واستوى على سوقه وأخذ الشعب يجني ثماره وعمت سمعة ابن باديس والجامع الأخضر أنحاء القطر الجزائري وتيقن بعض علماء الجزائر الذين كانوا مبعثرين منطوين على أنفسهم في جهات القطر أو مهاجرين في المشرق العربي تيقنوا من رسوخ الثورة التعليمية التي نادى بها ابن باديس وأنجز جزءا مهما من مشروعه بالفعل فاستجابوا لدعوته وأخذوا يلتحقون به يؤازرونه ويشدون عضده وكان في مقدمتهم صديقه الحميم و درعه المتين العبقري الشيخ البشير الإبراهيمي الذي قدم من المشرق سنة 1920 و أصبح من اللحظة الأولى على صلة دائمة بابن باديس و تعوان تام في الجهاد من أجل إيقاظ هذه الأمة و إنقاذها من ظلمات الجهل والفقر والاستعمار فاشتد ساعد ابن باديس بصديقه الحميم و راح يواصل عمله الدؤوب لا يولي على شيء وكان بالإضافة إلى عمله في التعليم ينشر بعض المقالات في الجرائد بإمضاءات مستعارة، ولكنه وبعد النتائج الباهرة التي تحققت أحس بأن حركته التعليمية و الإصلاحية أصبحت في حاجه إلى وسيلة تساعده على تعميم الفائدة وتوسيع دائرة التوعية ، فقرر إنشاء صحيفة تكون المرآة الصادقة للأعمال التي يمارسها الجامع الأخضر وفروعه ويضيف إلى الجهاد باللسان جهادا بالقلم. فأسس أول جريدة سماها “المنتقد” ونزل هذا العنوان كالصاعقة على رؤوس الدجالين و أئمة الخرافات و الأوهام إذ كان الشعار عند هذه الطوائف (اعتقد ولا تنتقد) يعني اغمض عينيك واتبعني ولا تسألني، فإذا بهذه الجريدة تأتي بقاعدة جديدة قلبت المفاهيم رأسا على عقب فأصبحت هكذا (انتقد قبل أن تعتقد) ثم زاد الإمام رحمه الله فوضع للجريدة شعارا هو أدهى و أمر إذ يقول (الحق قبل كل أحد والوطن قبل كل شيء) وهذا الشعار يوحي بأكثر من معنى لا تخدم في مجملها الاستعمار وأذنابه، فهو يعني أن الاستعمار باطل والاستقلال حق و الاستعباد باطل و الحرية حق . و العناية بالوطن تعني تحريره من استغلال الأجنبي له.
و كتب في العدد الأول المؤرخ ب:ذو القعدة 1343 الموافق لـ2 جويلية 1925م: “بسم الله ثم بسم الحق و الوطن ندخل عالم الصحافة العظيم شاعرين بعظمة المسؤولية التي نتحملها فيه، مستهلين كل صعب في سبيل الغاية التي نحن إليها ساعون و المبدأ الذي نحن له عاملون ، وها نحن نعرض على العموم مبادئنا التي عقدنا العزم على السير عليها لا مقصرين ولا متوانين راجين أن ندرك شيأ من الغاية التي نرمي إليها بعون الله ثم بجدنا وثباتنا وإخلاصنا و إعانة إخواننا الصادقين في خدمة الدين والوطن. وسنسلك في انتقادنا طريق الحقيقة المجردة في الصدق ، الإخلاص ، النزاهة والنظافة في الكلام وننشر كل انتقاد يكون على هذه الصفحات علينا أو على غيرنا ، على مبدأ الإنصاف الذي لا يتوصل إلى التفاهم و الحقائق إلا به."
هكذا كان رحمه الله يعلن عن المبادىء التي يضعها لأي عمل يريد انجازه لصالح دينه وأمته بكل شجاعة و بثقة بالله ثم بنفسه في صراحة و بكل وضوح يدرك مدى المسؤولية ويقدرها قدرها لايخاف في الحق لومة لائم و لا سلطة ظالم .
و بدأ دور القلم و كان له ما كان مما أقلق الاستعمار، فلئن تغافل عن ابن باديس سبع سنوات وهو في الجامع الأخضر يطهر القلوب و يهذب النفوس ويزيح غشاوة الجهل و الغفلة عن الأبصار والعقول ويعد الكتائب تلو الكتائب، ولكنه حين أنشأ صحافة أحست فرنسا بالخطر يهددها مما يسعى إليه هذا الرجل . فصرير الأقلام أشد إزعاجا للعدو من قعقعة السلاح و حبر الدواة عند الله مثل دم الشهيد . و قد انزعجت فرنسا فعلا و قررت تعطيل جريدة المنتقد بعد صدور 18 عددا فقط . و لكن ابن باديس لم تخر له عزيمة و لم يقف إزاء العدو مكتوف اليدين ، بل أعلن إنشاء جريدة أخرى سماها الشهاب وسيكون لهذا الإسم وقعه الأشد على فرنسا و أذنابها، وكان رحمه الله قد قال كلاما كثيرا حين أوقفت فرنسا المنتقد من ذلك قوله :
“ وقف المنتقد فها هو أخوه الشهاب شهاب في سماء الحرية و الأخوة و المساواة ، أصول شيدها الإسلام و مات في سبيلها الأحرار ، شهاب تنجلي بنوره ظلمات الجهل و الخرافات و الأوهام عن شمس الدين و المدنية المشرقة و ينير سبيل الحق و الهداية لإعادة الإصلاح و الرشاد . شهاب رصد على الدين الصحيح من أن تلمسه أيدي دجاجلة السوء و أنصار البدعة بأذى ، شهاب ثاقب يقذف به كل شيطان رجيم و أفاك أثيم و دجال مارق و فتان منافق “.
و المقال طويل نشر في العدد الأول من الشهاب بتاريخ 12-11-1925 واستمر شهاب ابن باديس يقذف شياطين الاستعمار و صنائعه و ينير بنوره طريق الهداية لمن استيقظ من نومه واستفاق من غفلته .
و ظلت هذه المرحلة الثانية التي تمتد من 1920 إلى 1931 تسير على نفس النمط من التعليم المسجدي الذي عرفه رحمه الله بقوله : “كان النبي صلى الله عليه و سلم يعلم أصحابه يبين للناس ما نزل إليهم يفقههم في الدين فما بُين القرآن و ما فقه في الدين فهو من التعليم الإسلامي و هو من التعليم المسجدي "
و اقتداء بهذه السنة النبوية و على هديها سار ابن باديس في الجامع الأخضر و كانت دروسه تشتمل على التفسير للكتاب الحكيم و تجويده و على الحديث الشريف و شرحه و على الفقه في المختصر وغيره ، و على العقائد الإسلامية و على الآداب و الأخلاق و على اللغة العربية بفنونها.
و كان من نصائحه و إرشاداته لتلامذته عند نهاية دراستهم و عودتهم إلى أهلهم ما يلي: “أشعروا أنكم جنودا لله في نشر العلم و الهداية ، سلاحكم الكتاب و السنة و هدي السلف الصالح من قبل عنكم فهو أخوكم و من أبى فلا تعدوه عدوا بل هو أخ في الإسلام على كل حال لا تكونوا كذوي فكرة يريدون تنفيذها . كونوا دعاة للخير يحبون لغيرهم ما يحبون لأنفسهم ، لا تر منكم الأمة في أقوالكم وأفعالكم. لا ير منكم حكام بلدانكم إلى السيرة النظيفة. اقتصروا على نشر الهداية، من تعرض لأشخاصكم فسامحوه و من تعرض لنشر العلم و الهداية فبالحق قاوموه ….احذروا التعصب الجنسي الممقوت فإنه علامة من علامات الهمجية و الانحطاط”.
هذا هو أسلوب التربية عند ابن باديس يعطي تلامذته في فقرة أو فقرتين أصولا في التربية تغنيهم عن المطولات من كتب التربية العصرية و فلسفاتها المعقدة . لذلك كان أبناء الجامع الأخضر يمتازون عقائد و أخلاقا و سلوكا و ذكاء أيضا عن أبناء سائر المعاهد الإسلامية التي أشرت إليها في أول هذا الحديث
و هو رحمه الله المعلم و المربي حيثما و جد في المسجد ، المدرسة ، النادي ، السوق و في الصحافة بأقواله و أفعاله و أحواله بلسانه و بقلمه في صحافته التي بدأها بصحيفة المنتقد و انتقد فيها كل ما يجب أن ينتقد و بصحيفته الشهاب و قذف كل شيطان رجيم من أي جنس و من أي مذهب .
و لما تأكد من تعطش الأمة إلى تعلم لغتها و دينها بعد أن ذاقت لذة العلم مما وصل إليها عن طريق الجامع الأخضر بواسطة الطلبة المتخرجين و المنتشرين عبر أنحاء الوطن أخذ وتوسع في دائرة التعليم فأنشأ أول مدرسة عربية لتعليم الأطفال الذين بلغوا سن التعليم سنة 1926 م و أسند إدارتها إلى أحد طلابه الأوائل بعد تخرجه من جامع الزيتونة الشيخ مبارك الميلي ، و أثرت هذه المبادرة التي أنجزت في قسنطينة فحذا حذوها جماعة من المصلحين في أنحاء الوطن فأنشئوا مدارس على غرار ما تم في قسنطينة و كان من بين تلك المدارس مدرسة الشبيبة الإسلامية بالعاصمة سنة 1927م و تأسست جمعية باسم جمعية التربية و التعليم الإسلامية برئاسة ابن باديس ثم إنشاء مدرسة التربية و التعليم الإسلامية للبنين و البنات بقسنطينة سنة 1930م و هي أم المدارس الحرة في الجزائر و من حقها أن تكون إلى جانب الجامع الأخضر معلما تاريخيا . مع الأسف قد طمست كما طمست معالم أخرى و في مقدمتها معهد ابن باديس الذي كان وليد الجامع الأخضر و الذي تجاوزت سمعته حدود البلاد . و كما أهين الجامع الأخضر و تنوسي كل ما قدمه لا لأبناء قسنطينة و حدها و لكن للأمة الجزائرية قاطبة فطمسه جريمة و نسيانه و تجاهله لؤم و عار على أبناء قسنطينة بالدرجة الأولى ثم على الشعب الجزائري عامة و على دولته المستقلة خاصة .
و الآن و باختصار أشد نكون قد انتهينا من المرحلتين الأولى و الثانية اللتين واصل فيهما ابن باديس نضاله و جهاده ليل نهار في سبيل إحياء العروبة و الإسلام في الجزائر و استطاع بعون الله أن يمهد الطريق و يضع الأسس و يجمع الشمل و يوحد الكلمة و يرص الصفوف و يحقق الأمل البعيد الذي تم التخطيط له بينه و بين رفيقه و هو تأسيس جمعية علمية دينية إسلامية في الجزائر ، وأسست بالفعل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين . وكان اللقاء بنادي الترقي حيث اجتمع نحو سبعين عالما و قرروا إنشاء هذه الجمعية بهذا الإسم و أجمعوا على انتخاب ابن باديس رئيسا لها في غيبته عن الجلسة التي تم التأسيس و الترئيس فيها يوم 5 ماي 1931م و بدأت المرحلة الثالثة
وخطب الرئيس بعد التأسيس خطابا مطولا ختمه بقوله : “ و يجب أن تعتقدوا أن هذه الجمعية ليست جمعية فرد و لا جمعية حزب و لا جمعية مذاهب و لا جمعية طريقة و إنما هي جمعية الأمة الجزائرية كلها تسموا على جميع النظريات و الخلافات وأنها أسست للأمة و من الأمة و بالأمة فتعمل للأمة و تستمد قوتها من الأمة و تبقى ببقاء الأمة”.
وبعد تأسيس الجمعية اتسعت دائرة العمل وكثر بحمد الله العاملون كبار العلماء الموزعين في العواصم ، ففي الجزائر الشيخ الطيب العقبي، و في تلمسان الشيخ البشير الإبراهيمي، وفي تبسة الشيخ العربي التبسي ، و في الأغواط الشيخ المبارك الميلي ، و في قسنطينة الشيخ ابن باديس ، و لم تبخل الأمة بمالها و فلذات أكبادها فكان التنافس على أشده في تأسيس المدارس و المساجد و أحس الاستعمار بالخطر الحقيقي الذي يهدده عن طريق جمعية العلماء و ثورة ابن باديس التي ظلت تنمو على مر السنين فأخذت الاصطدامات و ردود الفعل و التحديات العنيفة … وابن باديس لم يترك عمله في الجامع الأخضر بالإضافة إلى إشرافه على تسيير الجمعية و متابعة أعمالها و رجال الجمعية كل في موقعه يناضل بنفس الروح يعمل على نشر مبادئ الجمعية بكل أمانة و إخلاص معترفين بما لابن باديس من فضل على هذه الأمة .
يقول الإبراهيمي : “تذاكرنا يوما في إقامة حفلة تكريم رفيقنا الأستاذ ابن باديس تنويها ببعض حقه على العلم و شكرا لأعماله الجليلة و أثآره الحميدة في التعليم بهذا الوطن و اعترافا بكونه واضع أسس النهضة و إنصافا لكونه اسبقنا إلى التعليم و أشدنا اضطلاعا به و أكثرنا إنتاجا و تخريجا فيه . وفاتحنا أخانا بهذه الفكرة فكان الجواب (دعوا هذا حتى نختم دروس التفسير) و بيننا يومئذ و بين الختم سنوات" .
و جاء اليوم العظيم الذي لم يسبق للجزائر أن عرفت مثله عبر تاريخها الطويل ، إنه يوم الاحتفال بختم ابن باديس لتفسير القران في الجامع الأخضر في مدة خمس و عشرين سنة متوالية بدون انقطاع . فقد تم ذلك أعني الاحتفال العظيم بهذا اليوم العظيم و الحدث العظيم يوم الأحد الثالث عشر من شهر ربيع الأول سنة 1357 هـ الموافق لـ12 جوان 1938م . و نقتصر على لقطات مما كتب الشيخ البشير الإبراهيمي في وصف هذا الحفل العظيم ؛ قال رحمه الله :
“اجتمعت يوم السبت وفود الغرب بوفود الشرق في مدرسة التربية و التعليم التي أعدت مكاتبها و طبقاتها و قاعاتها لهم أحسن إعداد و بعد أداء صلاة العشاء انصرفوا إلى موائد المضيفين على تقسيم عجيب و مزج غريب يرجع الفضل فيه إلى لجنة الاحتفال .
وقد تبارى كرام القسنطينين في إكرام الوافدين و هزتهم الأريحة هزة بعد العهد بمثلها و تجلت الضيافة الباذخة في أحلى صورها يزينها نظام دقيق …"
و ما كادت تشرق شمس يوم الأحد حتى اكتظ الجامع الأخضر بالوفود فلم يبقى فيه متنفس و شمل الخشوع تلك الصفوف المتراصة حتى لا حركة و لا ضوضاء و تجلى جلال كلام الله في بيت الله و صعد الأستاذ المفسر منبر الدرس فخشعت العيون و خفقت الأنفاس و استهل بتلاوة المعوذتين و شرع في تفسيرهما بما هو معهود منه . و استغرق الدرس ما يقرب من ساعتين و ختم الدرس بأدعية قرآنية و ابتهالات مأثورة ثم طلب من الحاضرين أن يسألوا الرحمة و المغفرة لأخيهم حسين باي مؤسس الجامع الأخضر فانطلقت الألسنة بالدعاء و الترحم و المغفرة و افترقوا على مثل ما اجتمعوا عليه بقلوب خاشعة و نفوس متراحمة و السنة رطبة بشكر الله على ما وفق من خير و أعان ."
و في يوم الإثنين الموالي ليوم التفسير أقيمت بكلية الشعب حفلة رائعة لتكريم الأستاذ المفسر و الاعتراف بما له من الأيادي البيضاء و الآثار الجليلة في العلم و الدين و اللغة العربية ، و كانت هذه الحفلة باسم تلامذة الأستاذ على اختلاف جهاتهم ، و لم يأذن رئيس الاحتفال الشيخ البشير الإبراهيمي إلا لعدد محدود من الخطباء و الشعراء لكثرتهم و محدودية الزمن الذي منح لهم في كلية الشعب .
و كان أول خطيب الشيخ ناصر الدين ناصر و هو من الرعيل الأول الذين تتلمذوا على يد الشيخ عبد الحميد ابن باديس أثناء الحرب العالمية فمثل قدماء التلاميذ خير تمثيل و صور ذلك العهد أحسن تصوير .
و تتابع على المنصة تلامذة حسب طبقاتهم و كان من بينهم السيد محمد العابد الجلالي الذي ختم خطابه بقوله : “ أن واجب عبد الحميد بن باديس يقضي برفع تمثال له في كل مدينة من مدن القطر ، و إذا كان هذا متعذرا لظروف قاهرة فلا أقل من أن يتخذ رسمه من أنفس و أجمل ما تحلى به صدور البيوت “.
أما الشعراء فكان أولهم الشيخ الوقور سيدي الحاج أحمد البوعوني ألقاها عنه بالنيابة احد الحاضرين و قد تم ختم قصيدته بهذين البيتين :
و ان الشعر ممن عاش قرنا ... لكالهذيان في الطفل الصغير
و لو عاد الشباب إلى يوما ... لقمت فيه مقامات الفرزدق أو جرير
وكانت القصيدة الخامسة للأستاذ محمد العيد ، شاعر الجزائر شاعر الشمال الإفريقي بلا منازع ، و القصيدة طويلة و رائعة نقتطف منها هذه المختارات و كلها مختارات قال رحمه الله :
بمثلك تعتز البلاد و تفتخر ... و تزهو بالعلم المنير و تزخر
طبعت على العلم النفوس نواشئا ... بمخبر صدق لا يدانيه مخبر
و درسك في التفسير شهى من الجنى ... و أبهى من الروض النضير و أبهر
ختمت كتاب الله ختمة دارس ... بصير له حل العويص ميسر
حكيت جمال الدين في نظراته ... كان جمال الدين فيك مصور
و أشبهت في علم الشريعة عبده ... فهل كنته أم عبده فيك ينشر
قسنطينة اهتزت بان وفودها ... على الخير فيها و الهدى تتجمهر
أقام لنا عبد الحميد أدلة ... على علمها الجم الذي ليس يحصر
لقد ناهز الخمسين في العمر دائبا ... على الجد لا يشكو و لا يتضجر
قضى ربع قرن ينشر العلم صابرا ... على عقبات ما عليهن يصبر
و شعر محمد العيد لا يمل سماعه لما فيه من روح الحب و الإخلاص و الصدق فرحمه الله
و نمر إلى كلمة الأستاذ المحتفل به و التي شكر بها الوفود الحاضرة و وزع التكريم و التمجيد التي تجلت عنها الحفلة على الأصول التي كونته فكانت كلمته درسا في التواضع و عرفان الجميل قال رحمه الله :“أيها الإخوان أنتم ضيوف القرآن و هذا اليوم يوم القرآن و ما أنا إلا خادم القرآن فاجتماعكم على تنامي الديار و تباعد الأقطار هو في نفسه تنويه بفضل القرآن و دعوة جهيرة إلى القرآن ، في وقت نحن أحوج ما نكون إلى دعوة المسلمين إلى قرآنهم . فهل علمتم أنكم باحتفالك هذا قمتم بواجبات أهونها ما سميتموه احتفالا بشخصي ...
إلى أن يقول : “و كل ما لي من فضل في هذا فهو أنني كنت السبب ، أيها الإخوان أنا رجل أشعر بكل ما له أثر في حياتي و بكل ماله يد في تكويني، وأن الإنصاف الذي هو خير ما ربي عليه امرؤ نفسه ، ليدعوني أن أذكر في هذا الموقف التاريخي العظيم بالتمجيد والتكريم كل العناصر التي كان لها الأثر في تكويني“ . و راح رحمه الله يعد تلك العناصر عنصرا عنصرا فبدأ بوالده ثم بمشايخه وخص منهم بالذكر اثنين هما : الشيخ أحمد لونيسي القسنطيني نزيل المدينة المنورة، والشيخ محمد النخلي المدرس بجامع الزيتونة ثم لإخوانه علماء الجزائر الذين آزروه في العمل منذ فجر النهضة ، ثم لهذه الأمة الكريمة المعوانة على الخير التي لم تبخل بمالها و فلذات أكبادها ، ثم الفضل أولا و آخرا لله و لكتابه الذي هدانا لفهمه و التفقه في أسراره و التأدب بآدابه .
و بعد مضي ثلاث أيام خوالد انتهى ذلكم الاحتفال الفريد من نوعه ؛ تبارى الخطباء والشعراء في وصفه بما استحق ، و تبارى فيه كرام أهل قسنطينة في الحفاوة بالوفود بشكل لم يعرف له مثيل قبله و لا بعده ، و غادرت وفود القرآن قسنطينة تحمل أجمل الذكريات وأحلاها لأبناء قسنطينة وللرجل العظيم الذي شرف الأمة الجزائرية كلها ، وشرف الإسلام بتنقيته مما علق به من خرافات وأوهام ، وأظهره للأمة الإسلامية في صورته الجميلة النيرة كما جاء به القرآن و بينه صاحب الرسالة الأمين ونقله إلينا بأمانة أصحابه الأولين و التابعين لهم بإحسان ، ثم أولئك العدول من العلماء الأتقياء أمثال شيخنا و إمامنا عبد الحميد ابن باديس ؛ أولئك الذين قال فيهم صلى الله عليه و سلم “ يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين و انتحال المبطلين و تأويل الجاهلين "
سادتي الأفاضل أبناءنا و بناتنا الأعزاء في المدارس و الجامعات طلابا و أساتذة أنتم معقد أمال الجزائر و مناط عزها ورافعوا راية الذود عن حاضرها وحاملوا رسالة العز و الشرف الموروث عن ماضيها لتنقلوه بأمانة و إخلاص إلى مستقبلها . إن أجيال المستقبل في انتظاركم فكونوا حير خلف لخير سلف؛ حياكم الله و أحي بكم إسلام الجزائر و عروبتها .