ثنائية الرد الإسلامي على التحدي الحضاري: سيد قطب ومالك بن نبي
بقلم: صالح عوض -
إن تهيبا كبيرا يجتاحني وأنا أقترب من الحديث عن علمين من إعلام نهضة الفكر العربي الإسلامي المعاصر سيد قطب ومالك بن نبي.. وأدرك بداية صعوبة التناول وحساسيته، ولكن هذا كله يدفعني إلى المغامرة القيمة لعلّ الله يفتح علينا بما يفسر لنا الخطوة الأولى في نهضة الأمة.
هناك إشكاليات تواجه عملية المقاربة التي نقصدها من مقالنا هذا يكمن أولها خلف أفهام المثقفين المسلمين المتنوعة وكيفية استيعابها لأطروحة سيد قطب وأطروحة مالك بن نبي، ولأن بلداننا في حالة من التخلف والعجز والهزيمة يصبح للشخصية والتقديس سلطانا كبيرا على التقييم والرؤية، لاسيما عندما تتوقف عملية التفكير وصناعة الأفكار أو تغتال روح النهضة بمسلمات ومقدسات وهمية فتنطلق العبارات والشروح المبجلة نحو هذا أو المجحفة نحو ذاك يدفعها مناخ تفريقي غير محمود بعد أن غابت عنا عقلية التركيب المبدع.
في الحديث تحت هذا العنوان يصبح من الضروري أن نتأمل المجتمعين الخاصين بكلا المفكرين..المجتمع المصري والمجتمع الجزائري ..وذلك لندرك نقاط التحدي المباشر في كل من المجتمعين لأن كلا من المفكرين تعامل في أول أبجدياته منطلقا من وضعه الخاص زمانا ومكانا..وكانت أدوات عملية التفكير الخاصة ومفردات اللغة به ذات صلة بأزمة واقعه وبطبيعة صراع مجتمعه .. وهما مع ذلك أبديا اهتماما بالغا بقضايا الأمة والمشكلات التي تعترض نهوضها وقدما تفسيرا لما يجري في العالم وانهمكا في التصدي للعدوان الاستعماري الغربي متعدد الأشكال الذي ارتكب جرائمه في الوطن العربي والعالم الإسلامي بل وفي العالم.. وصحيح أن سيد قطب كتب مقالات عديدة عن الثورة الجزائرية رصد من خلالها سير الثورة وجرائم فرنسا وكتب عن فلسطين وعن تونس ومن جهته تناول مالك بن نبي حركات النهضة الإسلامية السلفية والوهابية والاخوانية ..بمعنى من المعاني لم يفترق الرجلان في معالجتهما لوجهي التحدي افتراقا بائنا، بل تداخلا ولكن كل من موقعه ومن هنا أخذ كل منهما مكانته الخاصة والمتميزة في وعي طلائع الأمة ونضالها من أجل استعادة هويتها واستقلال منهجها وتحررها من الهيمنة الاستعمارية وأجهزتها الفكرية والإعلامية.
بلا شك نحن نقف أمام نموذجين مختلفين لكنهما متكاملين يتجهان إلى هدف واحد ..فكيف نتناول الرجلين في هذا الحيز الذي لا يكفي لمجرد الإشارة؟
واجه سيد قطب مجتمعا مصريا مستقلا (ظاهريا) يتربع الأزهر في القلب منه وله شيوخه وعلماؤه ومدارسه وجامعاته المنتشرة وله حكومة وبرلمان وغير مهدد في وجوده وهويته وإن كانت كل هذه المعطيات عليها تساؤلات في مدى تعبيرها عن الأصالة أو الطموح للنهضة ..في حين واجه مالك بن نبي مجتمعا محطما مستعمرا استعمارا استثنائيا استهدف لغته ودينه وأرضه وتقاليده وشبكة علاقاته الاجتماعية..استعمار استيطاني عنصري يحارب الشعب في كل مقوماته واحتمالات نهوضه..لهذا كان الأول لا يشعر بقيمة المفردات الموجودة في مصر بقدر ما يشعر الثاني بقيمة حرمان الجزائر منها ..لم يكتف الأول بمستوى فعالية الإسلام واللغة العربية في المجتمع المصري في حين كان الثاني يعتبر أن ذلك هدفا كبيرا فيما لو تحقق..هذه نقطة انطلاق نفسية مهمة يفترق عندها الرجلان .. فإن كان الأول معني بتصفية التصور الإسلامي من دخولات مشوهة فذهب إلى تنقية التصور الإسلامي فإن الثاني كان معنيا باستنهاض الوجود الإسلامي المستهدف من الاستعمار فكان جهده في معظمه منصبا على كشف مؤامرة المستعمر والقابلية للاستعمار.
وعندما قرأ الرجلان التاريخ الإسلامي كان كل منهما يحاول تفسير ما يجري حواليه .. ووضع الرجلان أقدامهما على نفس الأرض وبنفس الروح، نظرا إلى أحداث التاريخ الإسلامي، وأشارا بوضوح إلى عناصر الخلل التي حدثت ووصفاها كل بمصطلحاته الخاصة..وأدرك الرجلان أن الوحي صافيا من تراكمات التأويلات والتفسيرات هو الذي يمكن أن ينهض بالأمة..فاشتغل الأول بالإشارة إلى أهمية إعادة الاعتبار للقرآن وإزاحة الأدران عنه في حياة الأمة وجعل الثاني أول جهده أن كتب كتابا عن الظاهرة القرآنية مجليا قيمة الوحي في حياة الإنسان والأمة.
لم يكن سيد قطب مهتما فقط بالشرط الذاتي عندما كتب خصائص التصور الإسلامي ومعالم في الطريق وظلال القرآن بل اتجه للحديث في أكثر من مرة للحديث عن الشرط الموضوعي للنهضة، وكذلك فإن مالك بن نبي لم ينشغل فقط بالشرط الموضوعي عندما تكلم عن الفكرة الأفروآسيوية وعن شروط النهضة وعالم الاقتصاد والصناعة بل كان يؤكد أنه بدون الشرط الذاتي الصافي فلن تحدث نهضة وتحرر.
إلا أن هناك إشكالية حقيقية وقع فيها قراء المفكرين من الشباب الإسلامي نتج عنها توجهات فكرية وعملية متباعدة بل ومتطرفة.. ولعل الافتراق الأساسي قد توّلد من توصيف المجتمعين، حيث حصل الاختلاف بين المفكرين..لقد استخدم سيد قطب المصطلحات الشرعية في توصيفه، حيث اعتبر أن المجتمع جاهلي حتى لو كان معظم أهله من المسلمين، لأن جملة القوانين والقيم التي تحكمه تشريعات جاهلية فيما كانت توصيفات مالك بن نبي تتجه إلى تعريفات تفيد أنه مجتمع متخلف مرتبك فوضوي .. لم يتوقف الأمر عند هذا الافتراق ..لقد كان كلا من الرجلين ذا جذب مغناطيسي مذهل بالنسبة للشباب ..ولكن محدودية معارف الشباب اللغوية والثقافية والفلسفية جعلتهم ينحرفون عن فكر الأول ورؤية الثاني..فلقد انحرف كثير من الشباب الذين تفاعلوا مع فكر سيد قطب من كون المجتمع جاهلي إلى اعتبار الأفراد جاهليين ثم اعتبر بعضهم أن المجتمع كافر وتطور الأمر أن اعتبروا الأفراد كفار..أما كثير من الشباب الذين تفاعلوا مع أفكار مالك بن نبي فلم يتوقفوا عند توصيف الأستاذ مالك بل اتجهوا إلى الميوعة الفكرية والتحلل من اللغة الشرعية والمصطلح المتميز وانتهى بهم المطاف إلى الذوبان في المجتمعات بلا رسالة ولا مهمة.
لقد عبرت ثنائية سيد قطب مالك بن نبي عن تكامل الطرح الإسلامي مشرقا ومغربا..تمثل التكامل من زاوية أخرى حيث الاستعمار الواضح الصريح والاستعمار المتخفي وراء ثقافته وخططه..إنه تكامل الشرط الذاتي بالشرط الموضوعي فكانت ثنائية تصفية العقيدة وتجديد الإسلام مع تحديد جبهات التصادم وامتلاك أدوات التحليل وفهم الآخر.
كانت مرحلة عظيمة ناضل فيها الفكر الإسلامي للتصدي للهجوم المعرفي والمفاهيمي الاستعماري كما ناضل من أجل استئناف الحياة الإسلامية في إطار منظومة فكرية وثقافية صافية.. ونحن إذ ننظر إلى عشرات السنين بعد وفاتهما نرى كم هي مجذبة صحراؤنا العربية..ألم يحن الوقت إلى توّلد فكر جديد فكر ما بعد سيد قطب ومالك بن نبي؟؟ إن هذا هو الوفاء الأكبر للمفكرين العظام.