السياسة ليست من أولويات فكر ابن باديس
بقلم: عماد بن عبد السلام -
يعتبر الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس رائد النهضة الفكرية والعلمية بالجزائر بلا منازعة وبموافقة المخالف والموالف، فهو رجل محنك سياسيا وفقيه دينيا وبما أنه بهذه المكانة العليَّة والمرتبة العلمية والحقيقة الفكرية فكثر المنتسبين إلى فكره وطريقته ومنهجه والغرابة في ذلك من الكثير الذي جعل همه الوحيد السياسة وفقط، ويدعي أن فكره مستوحى من عند ابن باديس فارتأيت أن أنبه من باب الفائدة، بعد أن ذكرنا سياسته مع المستدمر الفرنسي كانت في خمسة محاور، وهي: إظهار الموالاة ثم الاحتجاج ثم المعارضة ثم نكران فرنسا ثم التخطيط للثورة، أن نذكر أولوية فكره وهي الدعوة إلى الله عز وجل، والرجوع بالمسلمين إلى دينهم الحنيف، وهي أكبر اهتماماته لاعتقاده أن المجتمع إذا انقاد لدين ربه وأزال الجهل عن نفسه نال الفرج بكل استحقاق.
قال رحمه الله مبينا أنه رجل دين: ((إن نهضة الأمة تكون اجتماعية، وتكون سياسية، وتكون دينية، ولا تطمعوا أيها السادة: أن تسمعوا مني كلمة في النهضة الاجتماعية أو النهضة السياسية، فإني رجل من حظي ولا أقول من سوأة أو من حسنه، فإن الأمور بعواقبها، وأنا عاقبته لا أعرف عليها الآن. من حظي هذا أنني ما عرفت باكولتيه ولا ايكولا بوليتينيا ولا سان سيرا وإنما أنا رجل طالب قرآن)). الآثار 5/378 وقال أيضا: (( وقد رأينا -ونحن خدمة أمة مسلمة- أن نسعى لتهذيبها من طريق الإسلام، ولم نشك قط أن الإسلام ليس هو ما تمثله بسيرة مجموعها وأفرادها، وأن الإسلام إنما هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه سلفها من أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية على لسان الصادق المصدوق، فصمدنا ندعوا الأمة الرجوع إلى هذه الأصول وطرح كل ما يخالفها من قول وعمل واعتقاد)). الآثار 5/168
كما بين أن أول وجهتة الدينية هي تطهير الاعتقاد من الشرك، قال (( لا يكون الإصلاح إلا بالانتقاد، قد كانت منا انتقادات سياسية واجتماعية وأدبية ودينية وكانت وجهتنا الأولى في النقد الديني هي الاعتقادات، ولقد كان همنا الأول تطهير عقيدة التوحيد من أوضار الشرك القولي والفعلي والإعتقادي، فإن التوحيد هو أساس السلوك، ولذلك ابتدئ “بإياك نعبد” قبل “أهدنا” في فاتحة القرآن العظيم، هنا اصطدمنا بزعماء الطرق وشيوخ الزوايا الاصطدام المعروف لأنه إذا خلص التوحيد وتوجه الناس إلى ربهم الذي خلقهم وتركوهم واعتقدوا فيهم أنهم مخلوقون مثلهم لا يضرون ولا ينفعون إلى غير ذلك مما ينتجه التوحيد الصحيح من تحرير العقول والأرواح والقلوب والأبدان)). الآثار5/170
استجلاب الحقوق الاجتماعية أو الدينية أيهما أولى
قال، (( وبعد، فإنّنا اخترنا الخطّة الدّينيّة على غيرها عن علم وبصيرة وتمسّكا بما هو مناسب لفطرتنا وتربيتنا من النّصح والإرشاد وبثّ الخير والثّبات على وجه واحد والسّير في خطّ مُستقيم، وما كنّا لنجد هذا كلّه إلاّ فيما تفرّغنا له من خدمة العلم والدّين، وفي خدمتهما أعظم خدمة وأنفعها للإنسانية العامة، ولو أردنا أن ندخل الميدان السّياسي لدخلناه جهرًا ولضربنا فيه المثل بما عُرف عنّا من ثباتنا وتضحياتنا ولعدنا بالأمّة كلّها للمُطالبة بحقوقها، ولكان أسهل شيء علينا أن نسير بها إلى ما نرسمه لها وأن تبلغ من نفوسنا إلى أقصى غايات التّأثير عليها، فإنّ ممّا نعلمه ولا يخفى على غيرنا، أنّ القائد الذي يقول للأمّة (إنّك مظلومة في حقوقك وإنّني أريد إيصالك إليها) يجد منها ما لا يجد من يقول لها (إنّك ضالّة عن أصول دينك وإنّني أريد هدايتك)، فذلك تُلبّية كلّها يُقاومه مُعظمها أو شطرها وهذا كلّه نعلمه ولكنّنا اخترنا ما اخترنا لما ذكرنا وبيّنّا وإنّنا فيما اخترناه-بإذن الله- لماضون وعليه مُتوكّلون))، الآثار 3/280
موقف جمعية العلماء من جميع الأحزاب
قال، (( أما موقف الجمعية مع الأحزاب فأعيد فيه نص ما قلته السنة الماضية”، إن الإسلام عقد اجتماعي عام فيه ما يحتاج إليه الإنسان في جميع نواحي الحياة لسعادته، ورقيه، وقد دلت تجارب الحياة كثيرا من علماء الأمم المتمدنة على أن لا نجاة للعالم مما هو فيه إلا بإصلاح عام على مبادئ الإسلام، فالمسلم الفقيه في الإسلام غني به عن كل مذهب من مذاهب الحياة، فليس للجمعية إذا من نسبة إلا إلى الإسلام، وبالإسلام وحده تبقى سائرة في طريق سعادة الجزائر، والبلوغ بها إن شاء الله- إلى أرقى درجات الكمال… وأزيد اليوم: إن الجمعية لا توالي حزبا من الأحزاب ولا تعادي حزبا من الأحزاب، وإنما تنصر الحق والعدل والخير من أي ناحية كان، وتقاوم الباطل والظلم والشر من أي جهة أي محتفظة في ذلك بشخصيتها ومبادئها ومحترسة في جميع مواقفها مقدرة للظروف والأحوال بمقاديرها))، الآثار 3/525
من هنا يظهر لي – والله أعلم وحسب تقديري الشخصي- أن مسيرة ابن باديس رحمه كانت بين ممارسة الدعوة بـ80% وممارسة السياسة بـ 20% لقناعته الراسخة بأن بعد المسلمين عن دينهم هو أكبر خطأ لهم وأكبر ضرر عليهم، فلم يترك السياسة حتى لا يروج للفكر العلماني، ولم يترك الدعوة حتى لا يكون سياسي وفقط، بل كان عالما فقيها ومحنكا سياسيا، أدرى بما يدور حوله وما يراد بأمته، وما هي السبل الصحيحة للنهوض بها.
مع أن انتساب بعض الأحزاب الإسلامية أو المحافظة اليوم، إلى ابن باديس، فهو انتساب ناقص، بحيث جعلوا من السياسة أولى الأولويات وأهملوا الجانب الديني بقلة أو بكثرة بعكس إمامنا الذي جعل من تطهير العقائد من أول مبادئه.