الفهم الأخلاقي والثقافي للأزمة عند أحمد طالب الإبراهيمي
بقلم: د. أحمد عطار-
بعد سبات طويل عاشه العالم العربي، خاصة في الفترة التي وقع فيها تحت سيطرة القوى الاستعمارية، بدا يبحث عن نموذج اجتماعي، سياسي واقتصادي للخروج من حالة التخلف. "وأصبح اليوم يصارع بين تيارين إيديولوجيين مختلفين : الإسلام و الغرب. ولذلك ، يعتقد البعض أن المسالة المطروحة على نخبة هذا العالم العربي هي مسالة التكيف : تجديد قيم السلف للسير على خطى التطور الغربي"(1).
لقد حاول مفكرون مختلفون، بمرجعيات متنوعة، إيجاد الحل النموذجي لازمة تخلف العالم العربي. وقد كُتِبَتْ العديد من الأبحاث حول أطروحات الخروج من هذه الأزمة. ويمكن تقسيم مجمل تلك الأطروحات إلى: أطروحات تراثية ، أطروحات حداثية، و أطروحات اعتدالية. غير أن ما يميز كل هذه الأطروحات، رغم اختلافها الظاهر، هو أنها تتعامل مع الأزمة ،و من ثم حلها المقترح، كما لو انه معطى خارجي: التراثيون يتصورون أن الحل يكمن في القيم الناضجة و المغمورة في تاريخ الأمة. وهكذا يصبح التراث عند هؤلاء لا تاريخي برغم انه صنع تاريخي محض. مثل هذا الفهم يعطى التراث امتيازا لانهائيا كي يهيمن بنفس الطريقة التي يهيمن فيها المطلق على الأوضاع الإنسانية . أما الحداثيون فيتصورون أن الحل يكمن في القيم الناضجة و الموجودة في المدنية الغربية، وهؤلاء، بدورهم، يجعلون القيم الغربية التي أفرزَتْ في سياق تاريخي خاص، يجعلونها لا تاريخية، ويحاولون تجسيدها بصفتها نموذجا متعاليا. و يقف المعتدلون بين الجبهتين ولكن بنفس العقلية. أي أنهم يجمعون بين التراث و الحداثة بطريقة انتقائية تبعا للحاجات الملحة. إِذًا،الكل ينطلق من مسلمة مفادها أن الحل موجود-هناك. و إجمالا يمكن القول " أن نصوص عصر النهضة ( العربية) تضمنت كثيرا من الممارسة الإيديولوجية ، وقليلا من النظر النقدي..."(2)
عندما نركز انتباهنا ، انطلاقا من مما قيل سابقا، نرى أن معيار التمييز بين الأطروحات الثلاثة هو، في الواقع، النظرة إلى التراث أو الحداثة، وليس التموقع في الماضي أو الحاضر. فعندما نتكلم عن شخصيات مثل محمد عزيز لحبابي ورونيه حبشي او احمد طالب الإبراهيمي، بالرغم من انه غير منتسب للخط الفكري الذي ينتسب اليه هذين المفكرين، فإننا سنلمس وجود بعدي التراث والحداثة معا، ولكنهم يتميزون بفهم خاص لهذين البعدين. فهم لا ينطلقون من المسلمة السالفة الذكر، بل من مسلمة وجودية مفادها أن الحل يوجد-هنا. و المقصود بذلك أن الحل يبدأ من داخل الإنسان لا من خارجه. ومنه تصبح القيم، تراثية أو حداثية، مخزونا في وجود الإنسان، يجسدها – أو يشخصنها- في تاريخه و وضعياته الوجودية " لا يمكن للحركة الإصلاحية أن تفصل الإنسان عن محيطه أو عن تاريخه. و محمد عزيز لحبابي يقدم لنا نظاما يتموضع في ميدان الواقع الملموس " (3)
أولى الملاحظات التي تجدر الإشارة إليها عند تعاملنا الفكري مع شخصية أحمد طالب الإبراهيمي هي أننا لن نتساءل عن تصوراته الشخصانية ومدى تناسبها مع سياقها الثقافي على غرار ما يمكن القيام به في حالة رونيه حبشي و محمد عزيز الحبابي. فإذا كان هؤلاء قد عُرفُوا، وبشكل جلي، بانتسابهم لخط الشخصانية ، فان احمد طالب الإبراهيمي لا يمكن إلحاقه بهذا الخط بنفس السهولة السابقة مع المُفَكِّرَيْنِ الاخَرَيْن ، رغم اعترافه بتأثره الكبير بشخصية و فكر مونييه أكثر من غيره " إن مونييه هو المفكر الغربي الذي تأثرت به أكثر من غيره في شبابي... فقد وجدت في كتابات مونيه تعبيرا عن أفكاري في أصفى و أجلى صورها "(4)
يعرض أحمد طالب الإبراهيمي في مذكراته المعنونة "بمذكرات جزائري " تجربة حياته التي كانت بمثابة التربة المغذية لروحه و فكره. فقد ولد سنة 1932 م بمدينة سطيف شرق الجزائر في بيت شخصية اسلامية اصلاحية ، والده الشيخ البشير الابراهيمي، و هكذا فان حضور البعد الديني في فكر و شخصية الابراهيمي الابن تعود الى محيطه العائلي بالدرجة الاولى، وقد نما هذا البعد في طفولته التي قضاها في مدينة تلمسان بسبب عمل والده كمشرف على نشاط جمعية العلماء المسلمين في الغرب الجزائري . غير ان تعمق هذا البعد في شخصية الابراهيمي متزامن مع اكتشافه لثقافة الاخر المستعمر لبلاده ، من هنا كان حرصه على حماية كل عناصر الهوية الجزائرية وابرزها العنصر الديني. و لم يكن هذا النضج وتكامل شخصيته بدون هدف تسعى اليه، بل سنجد هذه الشخصية تتحرك بكل امكاناتها في ساحة النضال منذ ان التحق الابراهيمي بجامعة الجزائرسنة 1942 كطالب في الطب ، هناك انخرط في جمعية الطلبة المسلمين لشمال افريقيا وشارك في جميع نشاطاتها التعبوية و الاحتجاجية. وبالجامعة اتضحت في ذهن الابراهيمي أهداف التعليم الاستعماري المتمثلة في فصل النخبة عن ثقافتها الأصلية وإشباعها بثقافة دخيلة تنهل منها حتى تصبح أداة للهيمنة الاستعمارية. و استمر في نضاله عند التحاقه بكلية الطب بفرنسا حيث ناضل في اطارالاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين ثم في اطار فدرالية فرنسا لجبهة التحرير الوطني. وفي جزائر الاستقلال مارس الابراهيمي ادوارا سياسية مثل استشارته لرئاسة الجمهورية مرتين الاولى ما بين 1965 و 1970، و الثانية ما بين 1977 و 1982. كما تقلد منصب وزير الاعلام والثقافة ما بين 1970 و 1977، و منصب وزير الشؤون الخارجية ما بين 1982 و 1988.
من أجل اكتشاف علاقة احمد طالب الإبراهيمي بالتصور الشخصاني ، من الأفضل أن نعرف الروح العام الذي يغلب على كتاباته. و ذلك على الرغم من أن كتاباته ليست أكاديمية بالمعنى المعروف. يعرض معجم كتب حرب الجزائر le dictionnaire des livres de la guerre d algérie كتابات احمد طالب الإبراهيمي في الجزء الخاص بالرسائل، مما يذكرنا بالمرحلة الأولى لفلسفة مونيه: " إن معظم نصوص مونيه كُتِبَتْ للنشر في مجلة esprit... وقد ظهرت في هذه المجلة تبعا للأسئلة الطارئة التي تطرحها الصيرورة التاريخية و أفعال التزام الإنسان بالموازاة مع هذه الصيرورة "(5). وقيمة الكتابة بهذا الشكل أنها تكشف عن التحام المفكر بالحدث التاريخي و منحه دور القيادة الذي تحدث عنه مونيه "الحدث التاريخي هو قائدنا الداخلي ". جاء عرض المعجم المذكور لكتابات احمد طالب الإبراهيمي على الشكل التالي :
- رسائل السجن. فيها يشعر الكاتب برغبة في محاورة الذات و الآخرين ، و فيها يبوح لأصدقائه الفرنسيين و الجزائريين بأمله في حرية قريبة.
- من اللاستعمارdécolonisation ( و ليست هذه التسمية اعتباطية ، ولكنها ترتبط برؤية ثقافية معينة) إلى الثورة الثقافية. يجمع الإبراهيمي في هذا الكتاب نصوصه المكتوبة أو المنطوقة بين 1962 و1972 . احمد طالب الإبراهيمي يذكر الجزائريين بان الاستقلال لم ينه حالة المواجهة مع المستعمر، فإذا كانت حرب الاستقلال قد سمحت بامتلاك الواقع الجزائري من قبل من كانوا مُمْتَلكين ، فذلك لا يعني ، بالنسبة للكاتب، أن نتوقف عن المعركة. و تكشف عناوين فصول هذا الكتاب عن اهتمامات احمد طالب الإبراهيمي : التجذر و الأصالة ، الثقافة و الشخصيات الجزائرية، من اجل نهضة العالم العربي(6).
و الأمر الآخر الذي تنبغي ملاحظته هو استئثار رونيه حبشي بالجزء الأكبر من مساحة التواصل مع احمد طالب الإبراهيمي في كتابه رسائل السجن ، فهو يحظى بثمانية رسائل. و ربما كان ذلك هو السبب الذي جعل حبشي هو من يضع تمهيد طبعة هذا الكتاب. و سنرى أن الإبراهيمي يشارك روني حبشي في أكثر النقاط النقدية. بل و يرى فيه مونيه العرب :
" احدث مقال جون لاكروا حول فيلسوف مصري " روني حبشي " أصداء عميقة في نفسي
منها الأمل في مونيه عربي يقدم لنا خدمات لا تُقَدَّرُ بثمن ، ففي فرنسا تعترف النخبة المسيحية المناضلة لمونيه بالجميل في الجزء الأكبر من وجودها "(7). ما يخول لنا القول بالاقتراب الشديد والعلاقة الوثيقة بين رؤى احمد طالب الإبراهيمي و التصور الشخصاني هو اختياره الفكري الذي أجاب به على سؤال النهضة، فلقد تعامل مع أزمة العالم العربي و الإسلامي بنفس الطريقة التي تعاملت بها الحركة الشخصانية مع أزمة الثلاثينات في ارويا ، أي أن الإبراهيمي لا يقف عند المستوى المادي الظاهر لهذه الأزمة،ولكنه يفسرها بأنها أزمة حضارية ، روحية و أخلاقية. إلا انه ، و على غرار مونيه، لا يعود إلى هذا العمق إلا لكي ينطلق بقوة في الراهن. من هنا كانت مسالة التعالي ، بمعنى العودة إلى إعادة بناء العلاقة مع الله و العلاقة مع الجذور الثقافية، و مسالة المعاصرة ، كانتا من العناوين البارزة في فكر الإبراهيمي ، الأمر الذي جعل حبشي يصف مشروع الإبراهيمي بقوله : " يريد احمد طالب الإبراهيمي تفعيل كل عناصر الثقافة الجزائرية ، دون أن يغفل وضع العلاقة مع الله المتعالي في أساس البنية الجديدة ، يفعل ذلك انطلاقا من تراث جزائري خالص يرى انه إذا كان الله يجعل من كل ملكية ملكا خاصا له فلأجل أن تكون هذه الملكية في خدمة الكل"(8).
كباقي المفكرين العرب ،لا ينفصل موقف احمد طالب الإبراهيمي من الغرب عن مناقشته لجميع المسائل الأخرى : فالإبراهيمي قبل أن يموضع نفسه مع أو ضد الغرب يفضل تحديد هذا الغرب : " لا ينبغي أن نتجاهل أن علاقتنا بالغرب في القرن التاسع عشر لم تكن علاقة حضارة بحضارة ، ولكن اتخذت شكل الهيمنة و السيطرة (المبررة دون جدوى بأسطورة مهام التحضر) و وجدت ترجمتها في محو شخصيتنا ، و ظهور نموذج اجتماعي أساسه المال و احتقار الإنسان "(9). كان ذلك ردا على موقف حبشي القائل أن العرب لا ينبغي لهم أن يُعَرِّفُوا أنفسهم كأعداء للغرب . و هو، في الواقع ، ردا على جميع المثقفين الذين اختاروا استلهام النموذج الغربي بدون قيد أو شرط. إن الوجود المتميز والمستقل للثقافة العربية هو أول الشروط التي تحدد علاقتنا بالغرب : " كي يتحقق التركيب بين ثقافتين ، من الضروري أولا، أن توجد هاتين الثقافتين و أن تتجابها كندين"(10).
لقد شكلت مسالة الأصالة جوهر المشروع الذي رغب الإبراهيمي في تحقيقه ، بل إن العودة للأصول هي النقطة الثابتة في أي نوع من الصراع : ضد الاستعمار أو ضد التخلف. و على أساسها ينبني النموذج الذي حرك السلف و سيحرك الخلف. و في خطبة له بنادي الطلبة بالجزائر العاصمة في شهر سبتمبر ستة 1965 يختصر هذا النموذج في ثلاث قضايا : - أن تكون ذاتك être soi même ، أو مسالة الارتباط بالجذور، وتعني بعبارة مختصرة تماهي الإنسان الجزائري مع ثقافته الوطنية. وهو يلح على مفهوم العودة إلى الأصول لا لشيء سوى لان بناء المستقبل يمر عبر إعادة اكتشاف قيمنا الثقافية الأصيلة، و هنا نصل إلى أكثر المحطات إثارة للجدل في تاريخ احمد طالب الإبراهيمي: مشروع تعريب التعليم : "إعادة اكتشاف أسلافنا تمر بالضرورة عبر معرفة اللغة الوطنية. من واجب كل واحد منا أن يقوم بجهد كي يتعرب ، و ذلك إذا كنا نريد أن يصبح هذا الخيار الأساسي للتربية الوطنية –التعريب- واقعا"(11). يبدو أن مشروع التعريب، بالنسبة للإبراهيمي، ليس مطلبا تحدده مقتضيات مؤقتة، ولكنه عنصر من بنية متكاملة عنوانها العودة للأصول. وفي تعليق على هذا المشروع ، يعتبره حبشي نتيجة منطقية للتحليل الذي قام به الإبراهيمي لعوامل طمس الثقافة الجزائرية : " بالموازاة مع تحليله لعوامل طمس الثقافة الجزائرية تبدى للإبراهيمي الطريق الذي ينبغي سلوكه بمجرد نيل الاستقلال . التعريب لا ينفصل عن الجزارة (أو التماهي مع الثقافة المحلية) و يجب أن نسعى إلى تحقيقه بحركة حازمة و متطورة في نفس الوقت"...(12). إن إشارة حبشي إلى الجزارة التي تسير جنبا إلى جنب مع التعريب قد ترفع عن الإبراهيمي تهمة اختزال مجموع المخزون اللساني إلى لغة واحدة ، فهو في سبيل إعادة اكتشاف الثقافة الوطنية يدعو الطلبة و المثقفين إلى أن يُخْرجُوا الموسيقى و الفلكلور و الأدب الجزائري للنور، مما يعني فتح المجال لمختلف اللغات و الأشكال التعبيرية.
هاجس الأصالة عند احمد طالب الإبراهيمي يدفعه إلى جعل المؤسسات الاجتماعية خلايا تحفظ بقاء النسيج الثقافي الوطني ، حيث يؤكد أمام الطلبة الجامعيين بمناسبة الدخول الجامعي سنة 1966 بقاعة ابن خلدون على قيمة العودة للأصول و يقول : " لنتذكر أسطورة antée ، لم يكن قويا إلا و هو مشدود للأرض . و في كل مرة يضيع من رجليه ارتباطها بالأرض ، يصبح عرضة للسقوط و الجروح. الأمر نفسه ينطبق على حالتنا : الأرض التي ينبغي الارتباط بها هي شعبنا بثرواته الأخلاقية "(13).
والقضية الثانية في النموذج هي أن تكون انطلاقا من الارتباط بالشعب être de son peuple ومضمون هذه القضية هو أن يترجم المثقف طموحات شعبه كي تحوز أفكاره و أفعاله النجاعة المثمرة. و ارتباط المثقف بشعبه هو وجه آخر من أوجه الأصالة : " في جامعة الجزائر شعرت بخطر داخلي : اكتشفت أن الطلبة الجزائريين ذوي التكوين الفرنسي فقط ، يميلون إلى تضييع ذاكرة أصولهم و الانفصال شيئا فشيئا عن الشعب الذي كان سببا في وجودهم (تعيس هذا النخبوي الذي يعاني الغربة وسط شعبه"(14)
أما القضية الثالثة فهي أن تكون ابن الراهن être de son temps ، أو مسالة المعاصرة، وهي تعني ببساطة الفهم الصحيح للجانب التقني في الحضارة المعاصرة من اجل استعابه للخروج من التأخر و السير في طريق التقدم المادي. و لكنه ينبهنا أن السعي لامتلاك التقنية في وجود حالة الانفصال عن الأصول الثقافية لا يساهم في حل مسالة التخلف إلا بشكل ظاهري : " ... أنا متأكد أن شبابنا لا يمكنه استيعاب اكبر المكتسبات الغربية و تحمل مسؤولية نقلها إلى عالمنا دون أن ينطلق من نواة أصيلة ترسل جذورها إلى حيث تراثنا الثقافي "(15). و عموما فان النموذج الذي حرك السلف و يحرك اليوم الخلف، يقتضي وجوده أن يرتبط الشباب الجزائري بجذوره العربية الإسلامية في الوقت نفسه الذي يسعى فيه إلى استيعاب التقنيات الحديثة بطريقة حكيمة و عقلانية. الواقع أن الفهم الدينامي للإسلام هو اتجاه لازم الإبراهيمي منذ وقت مبكر، و الأكيد أن أصل هذا الاتجاه يكمن في الحركة الإصلاحية لجمعية العلماء المسلمين أين ترعرع الشاب احمد طالب، من هنا فإننا نجده يتبنى نفس الفلسفة عندما أصبح يتقلد مسؤوليات في الحركة الوطنية أو في جزائر الاستقلال "البعض ينزع للانطواء على الذات و هو أمر خطير لأنه مفض إلى اليأس و إلى الانغلاق في البرج العاجي ... إن الإسلام هو دين و دنيا معا ، و على المسلم أن يمقت الجمود "(16). و يوضح الإبراهيمي هذا النموذج بشكل أوضح في إجابته على السؤال الذي شكل عنوانا لكلمته أمام الطلبة في جامعة الجزائر، قاعة ابن خلدون ، نوفمبر سنة 1965 ، بمناسبة الدخول الجامعي : أي نمط إنساني نريد تكوينه؟ : " نحن نعتقد أن جهود رجال الثقافة يجب أن تتضافر بهدف تطور شعبنا و ذلك بالنضال من اجل كرامته و أصالته ، كي يضل وفيا لتقاليده ، لأننا لا نستطيع فهم الآخر و استيعاب الحضارة التقنية إذا لم نكن تجسيدا لوجودنا الذاتي "(17). و إضافة إلى الأهداف الروحية و المادية التي تتحقق عند تبنينا للنموذج المذكور ، فان وجودنا الأصيل و الدفاع عن هويتنا العميقة و الحقيقية هو الشرط الأول لمباشرة الحوار مع الآخر و تحديد اتجاهاتنا بخصوص المشاريع الدولية الكبرى. و هنا يجب أن ننوه إلى أننا نصبح مساهمين و فاعلين ايجابيين في المشاريع التي تُرْفَعُ باسم البحر الأبيض المتوسط فقط بتميزنا الثقافي ، وقد عبر عن ذلك روني حبشي بطريقة غير مباشرة في قوله :" في إحيائه لحضور الإله ، لا يتغافل الإبراهيمي عن حقيقة أن الإسلام الجزائري هو أيضا متوسطي، وبالتالي، إسلام منفتح على ماضي القرن السادس بقدر انفتاحه على حاضر القرن العشرين" (18).يجب أن يكون حضورنا في بحيرة المتوسط ثقافيا خالصا، والفهم الذي يقدمه حبشي نفسه لمعنى هذه البحيرة يقتضي مثل هذا الحضور، فهو يعتبرها حدثا ثقافيا تسنده الجغرافيا ولا تحتويه. و هكذا ، فان شعوب هذه البحيرة هي أشبه بالجداول المختلفة الأحجام و المنابع والتي تصب جميعها في المتوسط. وإذا كانت السياسة تحاول ، في الغالب تغيير هذه القاعدة و إحلال قاعدة الصراع و تصنيف شعوب بحيرة المتوسط إلى موجود و غير موجود ، فان التراث الروحي لهذه الشعوب يدحض هذا الزعم: " ... ما يوحد الضفتين أقوى من تاريخ الصراع و الهيمنة ، وقيم العدوان و العنف و الحرب ، إنها النزعة الإنسية أو الإنسانية كما هو شائع في استعمال هذا المصطلح ..." (19). لقد كان احمد طالب الإبراهيمي لسان حال المجتمع الجزائري في إدراكه للفرق بين أن تُسَلِّمَ شعوب المتوسط مصير بحيرتهم إلى عالم الثقافة أو تسلمه إلى عالم السياسة. إن الخيار السياسي لا يشكل سوى جزءا يسيرا من كيان الأمة الثقافي ، و رغبتنا في توحيد المتوسط سياسيا قد يُسْقِطُنَا في نوع من التعسف الثقافي. ذلك أن السياسة غالبا ما كانت عائقا حقيقيا أمام مشروع الانتماء إلى الفضاء الواحد.
و لم يخف الإبراهيمي تخوفه من النية المبيتة في مشروع الاتحاد من اجل المتوسط ، فقد يكون عودة إلى الحالة الاستعمارية بأوجه جديدة ، أو يكون تبريرا لفرض واقع معين على الأمة : " في سنة 1965 ، إذا لم أكن مخطئا في التاريخ، تأسست مجلة دراسات متوسطية.و كان خوفي أن اكتشف أهدافا غير معلنة لدى مؤسسيها : يبدو لي أن وراء السعي لوحدة متوسطية ، محاولة لتبرير وجود الكيان الإسرائيلي"(20).
هل يمكن للثقافة أن تحقق ما عجزت عن تحقيقه السياسة؟ ربما كانت الإجابة في ثنايا الفقرات السابقة، و لكننا نقول ، لمزيد من الدقة و التوضيح ، أن الثقافة تملك القدرة على التقريب بين شعوب المتوسط عبر معادلة التبادل و التعاون الثقافي coopération culturelle و قد عبر رونيه حبشي عن ذلك بقوله : العودة إلى المتوسط، هي اكتساب امتنا الحق في أن تستعيد من الغرب كل ما منحته إياه في العصر الوسيط . و التعاون لا يعني المشاركة السلبية التي تجعلنا مجرد اسم في قائمة الحاضرين ، انه نشاط قائم على أساس أن تَعْرفَ و أن تُعْرَفَ . على الآخرين أن يتمكنوا من معرفة ثقافاتنا ، و بدون ذلك لن نحقق التعاون لأنه تبادل في حقيقة الأمر. و هنا يبرز مطلب الأصالة و التميز كشرط للمشاركة الايجابية في مشروع التعاون الثقافي بين شعوب المتوسط : " لو كنت عربيا من الشرق الأوسط لانضممت بدون تحفظ إلى وجهة نظرك بشان المتوسط ، ولكنني من الجزائر ، حيث الثقافة العربية تعيش سباتا منذ أكثر من قرن ".
الاقتراب من الهواجس التي ميزت تجربة احمد طالب الإبراهيمي ، المسؤول و المثقف، على غرار ما حاولنا القيام به في هذه الأوراق ، تمكننا من العثور على رؤية فكرية شاملة تذكرنا بالرؤية التي شكلت خلفية المشروع السياسي الذي نادى به les non- conformistes او مجموعة الشباب المثقف الفرنسي في ثلاثينات القرن الماضي. و اركان هذه الرؤية تظهر في تعريفه للثقافة : " للثقافة في مستواها الأرفع ثلاثة أوجه هي : تنمية الفكر و ترقية الحس النقدي ، تكوين الحس الجمالي و إرهاف الذوق ، و الاستمساك بالقيم و غرس الحس الأخلاقي " 2. و هكذا فان العنوان الأبرز للمشروع الاجتماعي الذي يدعو إليه احمد طالب الإبراهيمي هو التغيير الشامل الذي لا يلغي أي بعد من أبعاد الكائن الإنساني.
الهوامش:
Ahmed taleb ibrahimi : lettres de prison. Sned.1966. p.87 -
- Ahmed taleb ibrahimi. De la décolonisation à la révolution culturelle . sned. 1972. p26.
jean conilh :Emmanuel mounier.puf.1966.p.19. –
- benjamin stora :le dictionnaire des livres de la guerre d algérie.
Harmattan.1996.
Chelhod.revue de l histoire des religions.tome 149 n 1.1956 . Joseph-
-احمد طالب الإبراهيمي. مذكرات جزائري( الجزء الأول). دار القصبة.2007
- كمال عبد اللطيف. قراءات في الفلسفة العربية المعاصرة. دار الطليعة. بيروت.1994
-الدكتور :صايم عبد الحكيم النزعة الإنسية في الشخصانيات المعاصرة. ملخص.
(1) Chelhod.revue de l histoire des religions.tome 149 n 1.1956.p.116- . Joseph
(2) كمال عبد اللطيف. قراءات في الفلسفة العربية المعاصرة. دار الطليعة. بيروت.1994 . ص. 44.
(3) Ibid.p.117.-
(4) أحمد طالب الإبراهيمي. مذكرات جزائري( الجزء الأول). دار القصبة.2007.ص90
(5) jean conilh :Emmanuel mounier.puf.1966.p.19. -
(6) benjamin stora :le dictionnaire des livres de la guerre d algérie harmattan.1996.p.321
(7) Ahmed taleb ibrahimi : lettres de prison. Sned.1966. p.87 -
(8) ibid.p.8 ( préface).
(9) ibid.p.101-
(10) ibid.p.101
(11) Ahmed taleb ibrahimi. De la décolonisation à la révolution culturelle . sned. 1972. p26
(12) Ahmed taleb ibrahimi : lettres de prison.sned.1966.p.7
(13) Ahmed taleb ibrahimi. De la décolonisation à la révolution culturelle . sned. 1972.p
(14) Ahmed taleb ibrahimi : lettres de prison.sned.1966.p.94 ( préface).
(15) bid.p.102.
(16) احمد طالب الإبراهيمي. مذكرات جزائري( الجزء الأول). دار القصبة.2007. ص228
(17) Ahmed taleb ibrahimi. De la décolonisation à la révolution culturelle . sned. .1972.p.73
(18) Ahmed taleb ibrahimi : lettres de prison.sned.1966.p.8 ( préface).
(19) الدكتور :صايم عبد الحكيم النزعة الإنسية في الشخصانيات المعاصرة. ملخص.ص.1.
(20) Ahmed taleb ibrahimi : lettres de prison.sned.1966.p 107. préface.-
د.أحمد عطار: شعبة الفلسفة / قسم العلوم الإنسانية / جامعة تلمسان.