الأستاذ عبد الحميد مهري.. المربي القدوة

بقلم: لمباركية نوّار-

ما إن يأتي ذكر اسم المفكر الأستاذ عبد الحميد مهري على لسان، أو تسطع صورته في صفحة الذاكرة إلا ويقفز الجانب السياسي من حياته في طغيان عارم فارضا نفسه على المشهد برمته. فكثيرون لا يعرفون أنه واحد من المربين البارعين الذين خدموا التربية في كل المواقع التي شغلها خدمة الصانع المحترف والماهر. ومثلما قدم المثال في الحنكة والالتزام وشدة البأس والثبات في الدفاع عن قناعاته في الحقل السياسي، فإنه كان قدوة متوقدة ومثالا نادرا وبارزا ومنتصبا فيالميدان التربوي.

نشأ الأستاذ عبد الحميد مهري في أسرة لم تكف عن استنشاق ريح التربية في كل الأماكن التي حطت بها. وكان عبير التهذيب يملأ أرجاء مسكنهم. فوالده الشيخ عمّار بن أحمد العطوي المهري إمام ومرب، وكذلك كان أخوه وكفيله الشيخ
المولود. وعلى دربهما مشى مشية مرب متألق وفطن في فترات متقطعة من حياته، ولم تقابله عوارض تسد أمامه طريق اقتفاء وقع قدميهما.

بمجرد أن أتم حفظ القرآن الكريم واستظهاره، وأخذ كفل من المعارف اللغوية والدينية في مدرسة « التهذيب » التي أسسها أخوه الشيخ المولود مع المربي الشيخ عبد الرحمن بلعقون في مدينة « وادي الزناتي »، جلس معلما للصبيان في نفس المدرسة لعدة سنوات. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المدرسة الحرة لم تكن تتبع في نظام تسييرها وتنفيد برامجها الدراسية مدارس التربية والتعليم التي كانت تشرف عليها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين رغم علاقة الصداقة التي كانت تربط بين والده والشيخ عبد الحميد بن باديس. وهي العلاقة التي منحها والده بعدا مكسوا بالتقدير والإعجاب أوجز ديمومتها في إلصاق اسم رائد الإصلاح في الجزائر بواحد من أبنائه.

بعد اشتداد الخلاف بين إخوته المجاهدين الذين خرجوا من حرب عنيفة شعواء تركت أثرها السيء في كل مكان وفي شتى مجالات الحياة، واختلفت رؤاهم حول طرائق تسيير البلاد من بعد استرداد استقلالها المسلوب، انسل الأستاذ عبد الحميد مهري وانسحب في هدوء مبعدا نفسه عن التعصب للتكتلات، وتجنيبا لها من مناصرة فريق ضد فريق آخر. وارتأى، عن اقتناع ذاتي، أن يعود إلى أجواء أقسام التدريس. وارتضى أن يحمل محفظته، وأن يركب الحافلة مزاحما البسطاء من أبناء وطنه، وأن يسمع ضجيجهم ويرى شجاراتهم في الشوارع. والتحق بثانوية عمارة رشيد بالجزائر العاصمة أستاذا لمادة اللغة العربية وآدابها. ولم تكن مواكبته لهذا الاختيار عفوية، ولم ينجذب إليه كمخرج اضطراري جاءه بعد أن تقلصت وتعسرت أمامه السبل والحيل. وإنما أتاه عن دراية ويقين واطمئنان؛ لأنه يدرك أن التربية هي أرقى وسيلة لخدمة الوطن في الحال وفي المآل، ويعرف أن رفع التحديات ودفعها لا يتحقق إلا بتشييد مدرسة وطنية قوية يتجسد فيها مشروع مجتمع منسجم مع مقوماته ونابع وأصيل، ويقوى على الصمود.

أفنيت وقتا أبحث عن واحد من طلابه في ثانوية عمارة رشيد بالعاصمة ليحدثني عن أستاذه، ووجدت، أخيرا، من دلني على الأخ إبراهيم فشكار من مدينة الأغواط الذي سُرّ بي. وحينما استرجعت معه ذكرياته مع أستاذه الجليل تكلم معي بغبطةمفتتحا كلامه بما يلي: (يصدق في حق أستاذنا عبد الحميد مهري، رحمه الله، قول الحكيم ابن عطاء الله الإسكندري في إحدى حكمه: يسبق نور الحكماء أقوالهم، وحيثما وصل التنوير وصل التغيير). واستطرد قائلا: (لقد كنت أحد المحظوظين الذين تتلمذوا على يديه في ثانوية عمارة رشيد بابن عكنون في الموسم الدراسي 1963/ 1964م. وأذكر أننا كنا ننتظر مجيء حصصه وحضوره بيننا بشغف وولع واشتياق. وكانت كل كلمة تصدر منه ترسخ في أذهاننا كالأوشام. وكان يسقينا من رحيق روحه الزكية تربية خالصة كالشُّهد قبل أن يطعمنا ويشبع نهمنا العلمي من معينه الجاري والصافي. ومن زاده المعتق الذي لا تشوبه شائبة ارتشفنا أولى أبجديات حب الوطن). وأضاف معترفا: (كان هو السبب الذي جعل همتي تسمو في عشق رسالة التربية والتعليم، وتتعلق بها في رغبة لا تزعزع. وفي رحاب التربية الطاهرة قضيت جل سنوات عمري، وصرفت ساعاته). ومن شدة تعلق الأخ إبراهيم فشكار بأستاذه عبد الحميد مهري، فقد أحيا اسمه في أحد أنجاله الذي ولد سنة 1979م، ودعاه عبد الحميد مهري حتى تظل صورة أستاذه القدوة ماثله أمام مقلتيه. وبذلك يكون قد رمى بعلاقة الأبوة الروحية التي تجمع بين المربي ومتعلمه أبعد من مرامي بصره، وصعد بها مكانا شاهقا، وأبقاها نضرة ومزهوة في نفسه وفي محيطه الاجتماعي القريب.

في الفترات التي عاد فيها الأستاذ عبد الحميد مهري إلى ربوع السياسة عودة قوية في العقد الثامن من القرن العشرين الذي أدبر، لم يقطع صلته بالتربية، وإنما أوجد لها امتدادا في السياسة من خلال البيداغوجيا التي جعل منها قوارب لحمل أفكاره إلى أذهان غيره. فقد سأله أحدهم ذات مرة عن مدلول المفهوم المركب: « السلطة الفعلية » الذي ابتكره في مطلع التسعينيات القريبة الماضية، والذي أصبح شائعا ومتداولا. فأجابه بالقول: هب أنك وقفت في لحظة بسيارتك في مفترق طرق تزاحمت فيه السيارات، واختنقت الحركة حتى توقفت، وتصاعدت الصياحات والصخب والضوضاء والصفير بلا انقطاع. وفي غياب شرطي المرور، تطوعت ونزلت من سيارتك، ورحت توجه أصحاب هذه السيارات الواحد تلو الآخر حتى فككت الزحام، وانفتحت الطرقات، وتنفس المكان الصعداء، وذهب كل واحد في سبيله. وواصل يشرح له: إنك أديت فعلا ليس من مهامك، ولم ينتدبك إليه أحد. فأنت في هذه الحالة لعبت دور « سلطة فعلية » لفض اختناق شوّش نظام السير حتى أربكه. لقد بسط الأستاذ الأمر أمام من جاء يستفسره، واستطاع أن يستعين بمثال جاهز للوصول إلى جمع مواصفات مفهوم « السلطة الفعلية » المستغلق والذي عسر هضمه واستيعابه من طرف السائل، وهذا ما يفعله المربون الحاذقون في أقسامهم مع متعلميهم عندما يستنجدون بمعرفة جاهزة يتخذونها نموذجا لبناء معرفة أخرى جديدة.

خالف المربي عبد الحميد مهري معلمي اليوم في بناء علاقته مع طلابه، وخلصها من قبح الحسابات المادية، ولم يرم بها في شراك المصالح الزائفة والزائلة، وإنما جعلها في دوام واتصال حتى بعد أن كبروا وغزا الشيب رؤوسهم، وظل يتابع أخبارهم في المسرات والمضرات، ويأسوا لأحوالهم ويتألم لآلامهم التي يتحسسها من بعيد. ومن جانبهم، لم يتوقفوا بالتردد عليه، وزيارته والسؤال عنه في كل مناسبة. ولما إسودت الأيام في وجه أحد طلبته، وكشرت له أنيابها الصفر وأظهرت له مخالبها المدببة والمعكوفة ظلما وقهرا، وقف بجانبه في اللحظة المرجوة نصيرا له ومدافعا عنه بالحجة والبيان، وكتب رسالة أشبه ما تكون بعريضة مرافعة متينة السبك ومتماسكة البراهين شرح فيها حاله، وتضمنت هذه الرسالة المنقذة في جزء منها ما يلي: (… ويربطني بالدكتور صلاح الدين سيدهم رباط خاص يفرض عليّ واجب الاهتمام بقضيته. فقد كان صلاح الدين سيدهم تلميذي بثانوية عمارة رشيد في السنوات الأولى للاستقلال. وأذكر تماما وجهه البرئ وجديته ورباطة جأشه وهو يافع. وكان هو وزملاؤه في الثانوية، يملأهم الفخر باستقلال الجزائر، وبالجيل الذي افتك هذا الاستقلال. وكانوا يتحرقون شوقا لبلوغ السن التي تمكنهم من مواصلة مسيرة جيلنا في بناء الجزائر المستقلة، وتؤهلهم لاستلام المشعل الذي كنا نطلب منهم الاستعداد لحمله بعدنا.

وقد كان في إمكان الدكتور صلاح الدين سيدهم أن يختار طريق الدعة والسكينة، ويتبوأ في المجتمع المكانة التي تضمن له الرفاهية والعيش الرغيد. ولكنه هو وكثير من أبناء جيله فضلوا الالتزام بالقضايا العامة، وسلكوا لذلك طرقا مختلفة، ومتعارضة في بعض الأحيان، كانوا فيها ضحايا للأزمة الهوجاء التي لم نستطع نحن، آباؤهم، دفعها ولا إيجاد حل لها). وعلمت من أحدهم أن هذه الرسالة لما أتم من كتبت من أجله قراءتها، وهو مقيم في محبسه وحيدا يعاقر همه ويلازم حزنه بعيدا عن نسيم الحرية، اغرورقت عيناه ورشح منهما دمع غزير.

حافظ الأستاذ عبد الحميد على مناويله البيداغوجية الراقية في كتاباته السياسية كذلك، وأظهر لها الولاء، ولم يتجرد منها أو يناصبها العداء. وجعل منها مقبلات ومشهيات لفتح شهية كل واحد من قرائه، ولحمله على قراءة كتاباته ببصر مفتوح وعقل مهيأ حتى يتحقق الهدف الذي ينشده. ومثلما كان يهيء طلابه في بداية كل درس من دروسه، فإنه لا يتوانى في ترغيب قرائه وشدهم إليه من خلال بدايات يضع فيها بذورا تعبر عن عقدة موضوعه، ويخرجها في أسلوب يستقطب الأنظار. ففي مقال عنوانه: « قراءة في بيان أول نوفمبر »، كتب ما يلي: (من الطبيعي أن تحظى ثورة أول نوفمبر 1954 باهتمام المؤرخين، وتلهم الكتاب والسياسيين جميعا. لكن الخطاب السياسي الذي يتضمنه إنتاجهم، وما يسمى « أدبيات الثورة » بصفة عامة، لم يعد قادرا على نقل الشحنة العاطفية والسياسية لأبناء الجيل الحاضرعلى غرار ما عرفه آباؤهم وأجدادهم. ولا يجدون فيه ما يغذي طموحهم لمواصلة الطريق الذي رسمه روّاد الثورة. وهو ما عبر عنه بعضهم بعبارة مختصرة، لكنها بالغة الدلالة: إننا نستلم هذا المشعل وهو منطفئ).

عندما نطرب بعنوان مقال تذكاري عن المربي الراحل عبد الحميد مهري كتبه الأستاذ معن بشور الذي يسكن بيروت، وهو من هو؟، ووشحه بعنوان: « إلى أستاذي الذي علمني الصبر »، فإننا نندهش ونستغرب موقف من لم ينظر من أبناء وطننا إلى هذا المربي الكبير بعين الإكبار والإجلال والاعتراف، وتجرأ على قول تضمن إنكارا ونفيا بأن يكون معلما له ولآخر ذكره بالاسم

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.