مالك بن نبي ودوره في الثورة الجزائرية
بقلم: رابح لونيسي -
لا يمكن لأي أكاديمي أن ينفي بأن مالك بن نبي من العقول الكبيرة التي أنجبها العالم الإسلامي المعاصر، ويمكن تشبيهه بأبن خلدون العصر، ولا يمكن الإنتقاص من قيمة أفكاره الكبرى، خاصة بغوصه في عمق مشكلة الإنسان المسلم اليوم الذي يجب تحويله إلى إنسان فعال وتحريره من الأفكار المميتة التي سيطرت عليه منذ دخوله عصور الانحطاط أو مايسميها ب"إنسان ما بعد الموحدين"، وكذلك فكرته القائلة بأن مشكلتنا هي حضارية وليست دينية، ولو أخذنا بجزء من طرحه يمكن أن يكون لبلداننا مسارات أخرى، لأنها دعوة منه للإستثمار في بناء الإنسان كما فعلت مثلا اليابان وألمانيا الذي يأخذهما دائما كنماذج، لكن السؤال المطروح والمحير لماذا لم نجد له أي دور في الثورة الجزائرية ؟.
أجاب بن نبي في العديد من كتاباته عن هذا السؤال بالقول أنه أنتقل إلى القاهرة وما فتأ يعرض نفسه على قيادات الثورة، لكنه وجد رفضا له لدرجة تحوله كرد فعل منه إلى خصم لدود لكل هذه القيادات، ولم ينج و لا أحد منها من إنتقاداته، وهو ما لا يجب أن يقع فيه مفكرا كبيرا مثله.
ولفهم أسباب ذلك علينا قراءة بن نبي جيدا، فهو لم يهتم بالقضية الجزائرية منذ بدايات كتاباته، وإن تطرق إليها ففي إطار أمثلة قريبة منه، لأنه يضعها في إطار ما يسميه "مشكلة حضارية" تخص الحضارة الإسلامية كلها.
وتعرض بن نبي لغضب شديد من بعض الوطنيين الإستقلاليين بعد طرحه فكرة القابلية للإستعمار التي أسيء فهمها، وأولت أنها إستسلام منه لهذا الإستعمار، وهي مأساة المثقفين الصادحين شعوبهم بالحقيقة، الذين عادة ما تؤول مقولاتهم سلبيا بالرغم أنهم لم يقصدوا ذلك إطلاقا، فبن نبي في الحقيقة نظر إلى عمق المسألة، وهي تحرير الإنسان من الداخل وإخراجه من السلبية وما يسميه ب"ذهان السهولة" وأخذ مصيره بيده بالفعل وليس بالمطالبة.
لكن نعتقد أن أسباب رفضه من القيادات أعمق من ذلك بكثير، فليس فقط لأنه مثقف سيحرص على إستقلاليته، مما يمس بالإنضباط الذي يعد شرطا أساسيا لنجاح أي ثورة، لكن السبب أنه غير حركي وعملي كالكثير من المثقفين التنظيريين، كما خشيت القيادة من سعيه للسيطرة عليها، فبن نبي طموحا جدا ليس للقيادة المباشرة، بل للتحول إلى المنظر والموجه، وكان مهووسا بوضع أفكاره موضع التنفيذ لدرجة أنه كان يقترب من أي سلطة تحقق له هذا الهدف، فمثلا لم يعد إلى الجزائر مباشرة بعد استرجاع الاستقلال، وفضل البقاء في ليبيا لعل نظام الملك السنوسي يعطي له فرصة لتنفيذ أفكاره، وبعد عودته إلى الجزائر في1963 تقرب من نظام بن بلة طمعا في هذا الهدف لدرجة تشويهه خصوم بن بلة شهداء وأحياء لإرضائه.
ويبدو أن قيادة الثورة تعرف نفسيته جيدا، فهذه القيادة كانت تسعى لجمع الأمة الجزائرية كلها لمواجهة الاستعمار -حسب طرح عبان- دون إثارة الاختلافات الأيديولوجية والطبقية والثقافية، أي تكوين"الكتلة التاريخية"-حسب تعبير الجابري اليوم-، لكن بن نبي أقل حركية وكثير التنظير، فخشيت القيادات من إثارته للمسائل الفكرية والأيديولوجية، مما يمكن أن يؤثر سلبا على تماسك الثورة ووحدتها.
ويبدو أن قيادات الثورة كانت ترى أن بن نبي لن يقدم لها شيئا إيجابيا بحكم إعتقادها بغلبة الخطاب الديني عليه نوعا ما حتى ولو أخذ طابعا حديثا، فأغلب هذه القيادات ذو ميولات يسارية، ومنهم حتى بن بلة الذي آخذ عبان بعد إدخاله العلماء في الثورة في1956 بمقولة شهيرة يعرفها الداني والقاصي منتقدا خطوة عبان قائلا "لم يبق له إلا إدخال هؤلاء المعممين-أي العلماء- إلى الثورة"، وكانت ترى أنه لو تحدث مثقفا كبيرا وشهيرا كبن نبي عن الثورة بشكل رسمي فبإمكانه القضاء على فكرة أساسية تستند عليها وهي "أنها ثورة وطنية وليست دينية" مما سيقلب الغرب والشرق الشيوعي ضدها، لأن هذه القيادة تعتقد أن بن نبي بخطابه الديني سيضر بتدويل القضية الجزائرية وبأنه لم يفهم إستراتيجية الثورة، فهي بقدر ما توظف الدين في الداخل كمحرك للجماهير إلا أنها توجه خطابا آخر إلى العالم بأقلام ولسان يساريين ومثقفين تقدميون، وهو ما لا يتماشى مع بن نبي الذي سيحصر في نظرها الثورة بخطابه داخل فضاءنا الحضاري الإسلامي الذي هو معنا أصلا، لكنه فضاء ليس بيده مفاتيح السياسة الدولية، ولعلل هذه القيادة كانت تجهل نوعا ما خطاب بن نبي الحضاري والإنساني، لأن بن نبي في نظرنا لم يحصر خطابه في مجال ديني بل كان خطابا إنسانيا.
لكن هناك سبب آخر جوهري يتمثل في وقوعه تحت تأثير النظام المصري، وهو ما تخشاه الثورة، ولم يكن تقربه من الأجهزة المصرية إلا بدافع إيجاد مكانة لتنفيذ أفكاره، إلا أنه بدل تحقيق هدفه أصبح ضحية لتلاعبات ومناورات المخابرات المصرية دون وعي منه، وهو الذي يعتقد بأنه أشد العارفين بالحروب الخفية، كما وظفه عبد الناصر لضرب الإخوان المسلمين لدرجة أنه يقول أنه معجب برجل في تحريكه للإنسان إشارة منه إلى البنا لكن دون ذكر اسمه ولا اسم الجماعة في كتابه"وجهة العالم الإسلامي" كي لا يغضب عبد الناصر الذي أقام دعاية لبن نبي لتحييد الإخوان المسلمين.
لكن الكثير لا يعلم أن بن نبي يظهر كأنه جاهل تماما بمسار الثورة الجزائرية، وهذا لا يحسب عليه، لأنه ليس عيبا إن غابت أشياء عن أي مثقف مثله، ويبرز هذا الجهل بجلاء في منشوره "شهادة لشعب المليون شهيد" الذي وزع أثناء أزمة صيف1962، وكأنه يبرء ذاته مما سيقع للجزائر مستقبلا، إلا أن كل ما ذكره تبدو أنها تسريبات غير مباشرة من المخابرات المصرية مستغلة شهرته كمفكر يمكن أن يعطي مصداقية لما يقوله، وذلك خدمة لطرف ضد آخر أثناء الصراع حول السلطة في1962، وهذه المناورات المخابراتية المصرية وسعيها للسيطرة على الثورة أصبحت تفضح يوما بعد يوم، خاصة من فتحي الديب الذي وصفه المجاهد عبد الرحمن بروان المقرب من بوصوف في مذكراته ب"أنه من أشد الأعداء لكل ما هو جزائري" )ص ص258-261(، أما عند حديث بن نبي عن مؤتمر طرابلس1962 يلاحظ تهجمه على الجميع إلا الأطراف المدعومة من مصر عبد الناصر، ويبدو مالك بن نبي أنه غير راض إن لم نقل معاد للقيادة الثلاثية كريم بلقاسم وعبان رمضان وعمر أو عمران ثم انضمام العربي بن مهيدي إليها، والتي أفرزتها الثورة في 1955، وحضرت لمؤتمر الصومام، وأنقذت الثورة بإعادة تنظيمها وهيكلتها بعد ما غاب التنسيق بين المناطق وانفصال بعضها عن بعض بفعل الحصار الاستعماري من قبل، ويبدو أن بن نبي دخل في لعبة لم يفهم خيوطها، والمتمثلة في وقوف المخابرات المصرية وراء مناورات بن بلة-محساس لمواجهة مؤتمر الصومام وأرضيتها إلا لأنها أصرت على إستقلالية الجزائر وثورتها، وقالت أنها لن تكون تابعة لا للقاهرة ولا واشنطن ولا باريس ولا موسكو، والأمر الأغرب تحميله هذه القيادة الرباعية مسؤولية عدم اتخاذ إجراءات لمنع بناء خطي شال وموريس، فالخطين شرع في بنائهما في نهاية 1957، وقد كانت قيادة أخرى وجديدة أنبثقت عن مؤتمر القاهرة 1957 الذي أنقلب على القيادة المنبثقة عن الصومام بضغط مصري، وأكبر مغالطة من بن نبي قوله بفقدان الثورة وهجها الذي كان حسبه بين 1954و1955 بعد مؤتمر الصومام ، فأي مهتم بتاريخ الثورة يعلم أن هذه المرحلة من أصعب مراحلها بحكم أنها الانطلاقة، وأن هذا الوهج بشهادة الجميع كان بين 1956 و1958.
البروفسور رابح لونيسي - جامعة وهران-