ذكريات.. مع مؤرخ الأجيال: أبو القاسم سعد الله
بقلم: د.إبراهيم مياسي-
لا شك أنه من الصعب التحدث عن شخصية بارزة مثل شخصية الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله المتعددة الجوانب،فهو من المؤرخين الجزائريين الذين اكتسبت أعمالهم رصيدا طيبا في تاريخ الجزائر،وهو أيضا شخصية أدبية ثقافية فكرية نشيطة على الساحة القطرية والعربية،إذ إنه من الأقلام التي ظهرت في فترة مبكرة في الخمسينيات على صفحات مجلة الآداب البيروتية من أجل الدفاع،يومئذ عن الجزائر وقضيتها العادلة،ومازال يدافع عنها إلى اليوم.
ينتمي الأستاذ سعد الله إلى مدرسة المؤرخين الجزائريين الذين ينطلقون من الانتماءات الوطنية والعربية الإسلامية للشعب الجزائري ويرفضون المفاهيم التي درج عليها معظم الكتاب الفرنسيين أو بعض المتشبهين بهم من الجزائريين في نظرتهم إلى الجزائر شعبا وثقافتا وتاريخا؛ولهذا أسهم مساهمة فعالة في إرساء قواعد المدرسة التاريخية الجزائرية من خلال تدريسه ،وإشرافه على العديد من الرسائل الجامعية،وكذلك بكتاباته وأبحاثه وآراءه حول مختلف القضايا الوطنية،مما جعله يترك ملامح وبصمات واضحة على هذه المدرسة،وبذلك لقب بـ"مؤرخ الأجيال". كما هو الآن عضو فعال في مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
نشأته:
يقول الأستاذ سعد الله عن نفسه:" ولدت في البدوع بجوار مدينة قمار الغربية بوادي سوف،ولا يذكر أهله سوى أنه ولد في صيف شديد الحرارة،عام ترميم الجامع الكبير ومدرسته بقمار،أي عام 1930 أو 1931م،وكان أهله من أوائل الفلاحين الذين ابتدعوا البدوع ،فعمروها بغراسة النخيل لعذوبة مائها." ومما سمعناه عنه أيضا أن أبوه قد غرسه كغرس النخيل ،فكان غرسا طيبا،ولد مع ميلاد ثمار النخيل المتمثل في التمر اللذيذ ،غير أنهم يذكرون عند ميلاده كانوا لا يفترشون سوى الرمال ولا تظلهم غير سقائف من جريد النخيل.
دخل الطفل جامع البدوع عندما بلغ سن الخامسة،فأخذ ينهل من معين الدستور السماوي العذب بحفظ القرآن الكريم والمتون، ولاشك أنه سمع بزيارة الشيخ عبد الحميد بن باديس والوفد المرافق له من العلماء إلى وادي سوف ،وإلى مدينة قمار بالذات في الذهاب والإياب في شتاء 1937م،وما خلفته هذه الزيارة الميمونة من أثر طيب في نفوس الناس عامة ونفوس النشء خاصة،وما بثته من تعطش للعلم والحرية والوطنية،في ذلك الوقت الحالك.
وحينما اشتد ساعد الفتى فرح به أبوه ليساعده ،حيث كان في حاجة ماسة للوقوف بجانبه في أشغال الفلاحة والزراعة،غير أن الأقدار قد وجهته توجيها آخر،وأن طموح الولد كانت أكبر من ذلك، وهي مواصلة تعليمه ،لهذا ضحى الأب بابنه و سخي به للعلم وتركه يسافر إلى تونس ليتابع دراسته بجامع الزيتونة المعمور عام 1947م.
لقد تحمل "أبو القاسم" أعباء دراساته وهو في مقتبل العمر،وأعباء الإيواء والغذاء،فكان إذا تغذى في النهار لا يتعشى في الليل ،والعكس صحيح، غير أنه وأقرانه يتغذون من العلم،فالعلم قد ألهاهم عن كل زخرف الحياة،فكانوا يشعرون ويؤمنون بأن لهم رسالة عظمى على كاهلهم تنتظرهم وهي الدفاع عن مقومات وطنهم والحفاظ عليه من المسخ والفسخ،ولهذا قد تهون كل الصعاب أمام تحقيق هذا الهدف النبيل.
ومما يقال عن أبي القاسم سعد الله أنه كان حريصا على النجاح والتفوق على أقرانه،رغم أنه كاندائما في دراسته يريد إلا أن يركب الصعب.
وكانت مدينة تونس العريقة أول حاضرة حل بها فأدخلته عالم العواصم قواسم،بما فيهم من تناقضات،غير أن تونس علمته أصول الدين الإسلامي الحنيف،وروافد الأدب العربي الراقي،فاغترف من مناهل المعرفة واكترع من حياض العلم الصافي،حتى تحصل على شهادتي الأهلية والتحصيل أي ما يعادل اليوم تقريبا شهادتي التعليم المتوسط والثانوي أو(الباكلوريا).
رجع الأستاذ سعد الله إلى أرض الوطن، فعينته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في وظيفة معلم بالمدرسة العربية بالحراش في السنة الدراسية 1954/1955م،فاستأنس بزميله وابن منطقته الشيخ الأزهاري (حفظه الله)،غير أن فاجعته كانت كبيرة عندما اكتشف غربته في وطنه الذي اغتصبه الأجنبي وهذا باحتكاكه المباشر بالاستعمار الفرنسي حيث لامسه بوعي ثاقب،فجثم ذلك الكابوس على صدره، غير أن الأقدار – مرة أخرى – قد فتحت له باب آخر للعلم والمعرفة،فوجهته هذه المرة جمعية العلماء بمنحة دراسية إلى مصر،فالتحق بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة،وتخرج منها سنة 1959م بشهادة اللسانس في الأدب العربي والعلوم الإسلامية،وبعد عام حصل منها على سنة أولى ماجستير في النقد الأدبي، ولهذا بدأ يحضر في أطروحة الماجستير، حول "محمد العيد آل خليفة،رائد التجديد في الأدب الجزائري الحديث"،غير أنه لم يناقشها إلى اليوم،إلا أنه نشرها في كتاب هو الآن بين أيدينا.
إذن عاش سعد الله في القاهرة "أم الدنيا" مدة طويلة أثرت فيه لأنها كانت مركز إشعاع فكري وسياسي في ذلك العهد،جعلته يؤمن بالتاريخ الواحد والمصير المشترك للأمة العربية،كما عرفته بشرائح الأدب فاختلط بها وناقش ونشر واكتشف ذاته بين الذوات الأخرى،فنشر له في القاهرة سنة 1957م أول العنقود تحت عنوان " النصر للجزائر " مع مقدمة لأحمد توفيق المدني ،رئيس مكتب القاهرة لوفد جبهة التحرير ،عند "دار الفكر" ذات ميول يسارية ،باعتبار موضوع الثورة الجزائرية يهمها،فشجعت الشاب الجزائري الثائر مع الثوار بفكره وقلمه.
ومن نشاط الأستاذ سعد الله في القاهرة أنه كان عضوا نشيطا في فرع القاهرة للاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين ،الذي كانت تشرف عليه جبهة التحرير الوطني، وقد مثل هذا الاتحاد في عدة مؤتمرات،منها المؤتمر التأسيسي الاتحاد العام للطلبة العرب واتحاد طلاب فلسطين بالقاهرة سنة 1958م.وكل هذا النشاط مدون في كتابه"مسار قلم " الذي صدر مؤخرا ،عن دار الغرب الإسلامي،بيروت، وهو عبارة عن يوميات طالب جزائري في القاهرة.
وفي سنة 1960م اشتد لهيب الثورة الجزائرية المباركة،وفجأة استدعته جبهة التحرير الوطني إلى تونس،وكان يعني هذا الاستدعاء في ذلك الوقت عند الطلبة هو أحد الأمرين:إما التجنيد في صفوف جيش التحرير الوطني ،والدخول إلى المعارك على أرض الوطن ،وإما الإعدام لخروجه عن الخط الثوري؛غير أن المفاجأة كانت سارة ،وهي الأمر بالسفر في بعثة دراسية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فالتحق بجامعة "منيسوته "التي حصل منها على الدكتوراه في التاريخ الأوروبي الحديث والعلوم السياسية سنة 1965م.
ومن نشاطه في أوساط الحياة الطلابية بأمريكا،تنظيم الأسابيع الإشهارية للثورة الجزائرية،ومما يلاحظه الأستاذ سعد الله في أوساط الطلبة الجزائريين التشرذم والتمزق في الأفكار نظرا لاختلاف مدارسهم وثقافتهم ومشاربهم،بخلاف الطلبة الآخرين،بحيث في إحدى الاحتفالات بالثورة الجزائرية،نظم طلاب الدول الشقيقة والصديقة أناشيد للاحتفاء بهذه المناسبة،وحينما جاء دور الطلبة الجزائريين لم يجدوا أنشودة واحدة تجمعهم وتوحدهم نظرا لمدارسهم الأولى المختلفة،فكانوا في موقف حرج،مندهشين أمام الملأ ،فأنقذهم أحد الطلبة الأذكياء(وهو محمد أبركان من مدينة الطاهير)،فصاح فيهم ينشد " زاد النبي وأفرحنا به،صلى الله عليه،يا عاشقين رسول الله ،صلى الله عليه" فاتبعوه ،وكانوا ينشدون والدموع تنهمر من أعينهم من شدة التأثر،بما فعله فيهم المستعمر البغيض.لقد اكتشف د.سعد الله في أمريكا الحقيقية ،والوجه الآخر للصورة الإنسانية والحياة والحضارة،وما حققه الإنسان الأمريكي من تقدم ورقي.
مارس د. أبو القاسم سعد الله التدريس بأمريكا لمدة سنتين بجامعة "ويسكنسن باوكلير" ثم التحق بجامعة الجزائر في خريف 1967م وبقي بها إلى أن أخرج إلى التقاعد في منتصف التسعينيات من القرن الماضي.
أسعفني الحظ أني درست على الأستاذ سعد الله في مرحلة الليسانس في جامعة الجزائر مع ثلة من الأساتذة الأفاضل منهم الدكتور مولاي بالحميسي ود.موسى لقبال ود.عبد الحميد حاجيات ود.المرحوم عطاء الله دهينة ود.نصر الدين سعيدوني ود.جمال قنان غيرهم،كما درست عليه أيضا في مرحلة الماجستير ،ثم جمعتني به الزمالة لسنوات عديدة بقسم التاريخ –جامعة الجزائر.
ذكريات الدراسة مع الأستاذ سعد الله:
درسنا على الأستاذ سعد الله في مرحلة الليسانس و مرحلة الماجيستير،بحوالي ستة وحدات ،ثلاثة في كل مرحلة .فوحدات الليسانس هي أوروبا المعاصرة ،والجزائر العثمانية ، والحركة الوطنية الجزائرية.
لقد اندهشنا بمقرر وحدة أوروبا المعاصرة في ذلك السداسي ،بحيث تمتعنا بتلك الدروس والتي استهوتنا مضامينها،والتي تتمثل في المدارس الفكرية الأوروبية في التاريخ المعاصر من المدرسة الرومانتقية الخيالية العاطفية إلى المدرسة الدادية والمدرسة السوريالية(أي فوق الواقعية)،وغيرها من المدارس الفكرية التي تبنتها الطبقة الشبابية المتمردة عن الواقع والمجتمع ،وهي تشبه إلى حد ما تصرفات بعض شباب أوروبا الرافض لواقعه في ذلك الوقت في الستينات وبداية السبعينات والمعروفة بـ" الهببي".
أما وحدة الجزائر العثمانية فقد أتعبتنا كثيرا ،ولم نفهم مقصود الأستاذ سعد الله، بحيث عمّ عند بعض الطلبة الاستياء والقلق والتذمر،لأن الأستاذ قد صعد في طريقته التعليمية والتربوية في إلقاء الدروس،والتي يجب على الطالب فيها أن يرى الأستاذ ويسمع ويفهم وبكتب الدرس في نفس الوقت،وأن يتابع بنفسه خارج الحصص بقية مقررات الوحدة بمطالعته بعض المصادر والمراجع وما كتب من مقالات حول الموضوعات المدروسة ،وإلا فإنه قد ضاع وانقطع عن مواصلة الدرس ؛ فكان يحدثنا تارة على الحكام العثماني في الجزائر ، ويصفهم بأقبح الأوصاف لجهلهم وعدم الاهتمام بالتعليم وإنشاء المؤسسات الثقافية والعلمية،وكان همهم الوحيد ينصب إلا على المسائل الاقتصادية والحربية فقط،وتارة أخرى يحدثنا عن علماء الجزائر وإنتاجهم الفكري الغزير والمهم.
لقد استولى على مقاليد الحكم في الجزائر في ذلك الوقت جهلة وطغاة وغرباء عن حاجات وأحاسيس المجتمعات الإسلامية التي يحكمونها،وعشش أثناءه الفكر الخرافي حتى كاد المجتمع كله يصبح زاوية صوفية تشيع فيها الحضرة والرقص العصبي والإيمان بالغيبيات والروحانيات.
وفي هذا الجو ظهر شيخ الإسلام عبد الكريم بن الفكون،واسمه الكامل عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم بن قاسم بن يحي الفكون ولد في قسنطينة سنة 988 هـ/1580م ،فحمل لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وجاهد في سبيل الرجوع إلى الدين الصحيح،ونادى بالعلم والعمل وفهم الحياة فهما عقليا،وكشف أحوال المتاجرين باسم التصوف .
ألف مجموعة من الكتب والكتيبات التي يسميها تقاييد أو رسائل ،وموضوعاته متنوعة فيها الاجتماعي مثل منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية ،ومحدد السنان في نحور إخوان الدخان،وفيها اللغوي والنحوي مثل فتح اللطيف وشرح شواهد أبي يعلى،ومنها الأدبي مثل ديوانه وقصائده الأخرى ونحو ذلك.
ونذكر من العلماء أيضا، عبد الرزاق بن حمادوش الجزائري ورحلته المسماة:لسان المقال في النبأ عن النسب والحسب والحال،والتي قدمها وحققها وعلق عليها الدكتور أبو القاسم سعد الله،في كتاب صدر في الجزائر عن المكتبة الوطنية و بالاشتراك مع المؤسسة الوطنية للكتاب ،سنة 1983م 366 صفحة.وأصدر له أيضا كتاب أخر تحت عنوان:الطبيب الرحالة ابن حمادوش الجزائري حياته وأثاره،عن ديوان المطبوعات الجامعية ،1982م.
والظاهر أن أول من اكتشف ابن حمادوش هو الدكتور لوسيان ليكليرك الذي ترجم له كتابه " كشف الرموز" إلى الفرنسية(في باريس،1874.والكتاب غير كامل،وقد طبع "كشف الرموز" ناقصا بالعربية أيضا في عدة طبعات على يد ردوسي قدور ، أولهما بالجزائر سنة 1903م.وقد أشرف على هذه الطبعة السيد عبد الرزاق الأشرف.وامتازت مؤلفات ابن حمادوش بالطابع العلمي أكثر من الطابع الفقهي أو الأدبي الذي شاع لدى علماء عصره ونذكر منها:
تأليف في الأعشاب (لعله هو كشف الرموز المطبوع).
تأليف في علم الفلك.
تأليف في الاسطرلاب والربع المقنطر.
تأليف في القوس لرصد الشمس.
تأليف عن الرخامة الظلية بالحساب.
تأليف في علم البلوط(معرفة الطرق البحرية).
تأليف في صورة الكرة الأرضية.
الجواهر المكنون (في الطب).
بغية الأديب من علم التكعيب واسمه أيضا فتح المجيب في علم التكعيب.
تعديل المزاج بسبب قوانين العلاج.
تأليف في الطاعون.
تأليف في علم البونبة.
وقد كان لمصطلح " البونبة "الذي كان ينطقه الأستاذ بشكل دقيق ومضخم،وفيقول لنا أحيانا ضاحكا ومتندرا :" يعطيكم بونبة" ،وقد ترك كل ذلك في أنفسنا وقع طيب ، كنا نتندر به ونردده طيلة السنة،ومازال عالق في أذهاننا إلى اليوم.
أما العالم الأخر فهو المؤرخ الجزائري أبو راس الناصري،وأسمه الكامل: محمد بن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن أحمد الناصري الجليلي المعسكري المعروف بأبي راس الناصري ،وقد ولد في بيئة فقيرة وظل الفقر يطارده حتى قضى نحبه بعد عمر طويل .فقد ولد حوالي منتصف القرن الثاني عشر الهجري قرب جبل كرسوط بالغرب الجزائري.ثم توجه به والده إلى سهل متيجة ،وهناك فقد والدته وهو صغير.فعاد والده إلى حوز مجاجة واشتغل هناك بقراءة القرآن وتعليم الصبيان وتزوج عدة نساء حتى وافاه الأجل فدفن بمكان يعرف بأم الدروع.وبذلك فقد أبو راس والده وهو صغير.وقد كفله أخوه عبد القادر الذي توجه به إلى المغرب حيث حفظ أبو راس القرآن الكريم ويروي عن نفسه أنه كان وهو في حدود العاشرة حافي القدمين عاري الجسم إلا من أسمال بالية.ولكن أبا راس لم يلبث أن عاد إلى معسكر فالتقى هناك بالشيخ عبد القادر المشرفي الذي كانت شهرته العلمية واسعة، فتتلمذ عليه، وعندما شعر بشيء من الاستقلال العلمي خرج إلى جوار معسكر عند أخيه وتزوج واشتغل بالتدريس وتولى القضاء.وما لبث أن رجع إلى معسكر حيث مكث فيها ستا وثلاثين سنة وهو يمارس التدريس.
وبالإضافة إلى الشيخ عبد القادر المشرفي درس أبو راس في الجزائر على مشايخ كثيرين ،كما التقى وتذاكر مع عدد آخر منهم ، ومن هؤلاء محمد الصادق آفغول << شيخ الإسلام الحافظ الزاهد >> ، وأحمد بن نافلة ، ومحمد بن جعدون ، قاضي مدينة الجزائر ، والقاضي محمد بن عبد الرحمن التلمساني ، والمفتي أحمد بن عمار ، وعبد القادر بن السنوسي بن دحو الملقب بالحافظ ، والقاضي محمد بن مالك ، والحاج علي ابن الأمين مفتي مدينة الجزائر، والمفتي محمد بن الحفاف ، والحاج محمد بن الشاهد << عالم الجزائر وقـطب رحاها .. فقيها علامة حافظا بارعا نظارا مفتيا مدرسا محققا..>> ومحمد بن الفقون ،والحاج علي الونيسي الشهير بالحفظ والفقه والتدريس، ومشى مع أحمد العباسي الذي كان << واسع العلم فصيح القلم..أرق الناس طبعا>>،ولقي بتونس محمد بن المحجوب،وصالح الكواش وإبراهيم الرياحي ،وأحمد بيرم،ومن علماء مصر خاصة،يذكر الشيخ مرتضى الزبيدي،وعبد الله الشرقاوي،ومحمد الأمير ،وقد ذكر عددا آخر من علماء المشرق والمغرب منهم:عبد الرحمان التادلي، وعثمان الحنبلي ،وعبد الملك القلعي ،وعصمان الشامي.
لقد كان أبو راس الناصري،معاصرا للجبرتي، فكلاهما عاش في النصف الثاني من القرن الثامن عشر والربع الأول من التاسع عشر الميلادي.وقد مات أبو راس الناصري سنة 1823م عن عمر يناهز التسعين سنة،بينما مات الجبرتي سنة 1825م وقد تجاوز السبعين سنة.ومن جهة أخرى سمى الجبرتي كتابه " عجائب الآثار في التراجم والأخبار "وأطلق أبو راس الناصري على كتابه اسم " عجائب الأسفار ولطائف الأخبار" . وكتب الجبرتي كتابا آخر هو "مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس " بينما كتب معاصره أبو راس كتابا بعنوان " أقوال التأسيس عما وقع وسيقع مع الفرنسيس ".وكلا المؤرخين تتلمذ على الشيخ مرتضى الزبيدي وأرخ لوفاته، والتقى ودرس أبو ناصر في مصر على عدد من العلماء كانوا موضوع عناية الجبرتي .ومع ذلك فإننا لا نجد اسم أبي راس في كتاب الجبرتي ،ولا اسم هذا في كتاب أبي راس. فهل التقى المؤرخان شخصيا وتعارفا؟ هذا ما لا يمكن الجزم فيه.
عاش أبو راس فترة قلقة شبيهة بالفترة التي عاشها معاصره الجبرتي.فقد حضر فتح وهران الثاني واستعادة هذه المدينة من الاحتلال الإسباني .وكان لهذا الحادث أثر كبير في نفسه فألف فيه كتابه " عجائب الأسفار " ، ولم تلبث الجزائر أن شهدت ثورة الطريقة الدرقاوية على الحكم العثماني ،وكانت هذه الحادثة سببا في أزمة اقتصادية حلت بالبلاد ولا سيما المنطقة التي كان فيها أبو راس . وقد خص هذه الثورة بتأليف هو" درء الشقاوة في حروب درقاوة ".وتجول في المغرب وتونس ،وكان كلاهما غير مستقر سياسيا،فتأثر بذلك.وقد خص المغرب بعدة تأليف أيضا .وحج مرتين ،وشهد في المشرق حدثين بارزين ،الأول أنه دخل مصر قبل الحملة الفرنسية في الحجة الأولى ودخلها بعد هذه الحملة في الحجة الثانية،والتقى بعلمائها ورأى آثار الحملة ، ولعله قد تأثر بها ،ولعل كتابه " أقوال التأسيس " مستوحى من هذه التجارب .أما الحادث الثاني فهو الحركة الوهابية التي روي عنها أشياء في رحلاته وتناظر مع بعض مؤيديها وعرض بهم.
والشخصية السياسية التي أخذت بلب أبي راس الناصري هو محمد الكبير، باي مدينة معسكر ثم مدينة وهران بعد فتحها.فقد أنعم هذا الباي عليه ،وخصه أبو راس من جهته بالشعر والدعاء والتأليف .وكان ضياع الأندلس جرحا في قلب أبي راس إلى أن استعاد الجزائريون وهران من الإسبان فاعتبر أبو راس ذلك فتحا مبينا،وتمنى أن تستمر موجة الفتح حتى استعادة الأندلس.
ورغم شكوى أبي راس من تدهور العلم في عصره ،فان كتاب هذه الفترة يذكرون شواهد كثيرة على تقدم المعارف وعناية السلف بها،ولاسيما الباي محمد الكبير.فقد شكا أبو راس من ضعف الحياة العلمية على عهده بقوله:" إني في زمن عطلت فيه مشاهد العلم ومعاهده وسدت مصادره وموارده،وقلبت دياره ومراسمه ، وعفت أطلاله ومعالمه، لا سيما فن التاريخ والأدب ،وأخبار الأوائل والنسب ،وقد طرحت في زوايا الهجران ، ونسجت عليها عناكب النسيان ، وأشرفت شمسها على الأفول،واستوطن فحولها زوايا الخمول،يتلهفون عن اندراس العلم والفضائل ،ويتأسفون من انعكاس أحوال الأذكياء والأفاضل..".
ولأبي راس كتب كثيرة في التاريخ وغيره بعضها موجود وبعضها مفقود، فقد كتب في التفسير والأسانيد والمذاهب والتوحيد والتصوف والنحو والبيان والمنطق واللغة والأدب،وله قصائد في أغراض شتى أهمها التاريخ والمدح.وهذه قائمة ببعض أعماله التاريخية:
زهرة الشماريخ في علم التاريخ.
در السحابة فيمن دخل المغرب من الصحابة.
الوسائل إلى معرفة القبائل.
الحلل السندسية في شأن وهران والجزيرة الأندلسية..وهو أصلا قصيدة تاريخية.
ما رواه الواعون في أخبار الطاعون.
حلتي ونحلتي في تعداد رحلتي .
فتح الاله ومنته في التحدث بفضل ربي ونعمته.
ذيل القرطاس في ملوك بني وطاس.
الزمردة الوردية في ملوك السعدية.
مروج الذهب في نبذة من النسب ومن إلى الشرف انتمى وذهب.
الخبر المعلوم في كل من اخترع نوعا من أنواع العلوم.
الغرض (أو الخبر) المعرب عن الأمر المغرب عما وقع بالأندلس وثغور المغرب – وهو الشرح الثاني للحلل السندسية - .
روضة السلوان المؤلفة بمرسى تيطوان،وهو الشرح الأول للحلل السندسية.
العز المتين في ذكر ملوك بني مرين.
وغيرها من الكتب ، البعض منه مطول والبعض الأخر مقصر.
ثم كان الشيخ ابن العنابي ضيف حلقات الدرس ،وهو المفتي الجزائري ،رائد التجديد الإسلامي،واسمه الكامل هو محمد بن محمود بن حسين الجزائري وشهرته العنابي أو ابن العنابي.وكان على مذهب الحنفية .وأسرته قديمة في تاريخ الجزائر.عاش ابن العنابي عمرا حافلا بالإنتاج العلمي والاضطراب السياسي. فقد ولد 1189هـ/1775م.وتوفي في الاسكندرية سنة 1267هـ/1851م.
يعتبر ابن العنابي من أوائل علماء المسلمين الذين طرحوا قضية التجديد في النظم الإسلامية أوائل القرن التاسع عشر الميلادي.وهو لذلك من أوائلهم أيضا الذين طرقوا باب الاجتهاد الذي ظل مقفلا عدة قرون نتيجة التأخر العقلي الذي كان عليه العالم الإسلامي.كما عالج أيضا قضايا العصر في كتابه وفي فتاويه التي كان يصدرها طبقا لمصالح المسلمين، وفي إجازاته التي كان يمنحها لطلابه والعلماء الذين يطلبونها منه.
وقد عالج ابن العنابي قضية جمود عقلية علماء المسلمين أمام تقدم العقل الأوروبي،وتخلف الجيش الإسلامي أمام زحف الجيوش الأوروبية.ومن آثاره كتايه "السعي المحمود في نظام الجنود" ،والفتاوي ،وأجوبته على آداب مجلس قراءة القرآن،وغيرها من التأليف.
وكان ابن العنابي حاضرا وقت سقوط مدينة الجزائر في أيدي الفرنسيين ،وكان من مستشاري الداي حسين،وحينما انهزم الجيش الجزائر بقيادة إبراهيم باشا(صهر الداي)،كلف الداي حسين ابن العنابي بقيادة الجيش ،فرد عليه قائلا:"..أنا رجل قلم ولست رجل سيف..فقد انتهى كل شيء ،و حسم الأمر.".في الأخير طلبت منه السلطات العسكرية الفرنسية أن يتعاون معها فرفض ،وخرج من البلاد إلى المشرق العربي حتى وفاته(رحمه الله).
كما درسنا في هذه الوحدة علماء آخرين منهم ابن سحنون الراشدي،وكتابه الثغر الجماني في ابتسام الثغر الوهراني،وغيرهم لا يسع المقام لذكرهم جميعا.
تلكم هي بعض ملامح برنامج الوحدة ،وقد دخلنا إلى الامتحان بذهنية مشوشة، وأفكار غير مركزة ،و معلومات مبعثرة،لأننا لم نفهم ما هو المقصود ولا المطلوب منا حتى نذاكره،وقد جاء السؤال كالتالي: قيل :" تميزت الثقافة العربية في الجزائر العثمانية بالضحالة " – ناقش هذا القول؟ . وفي لحظة هذا السؤال فهت كل ما كان يقصده الأستاذ من نطف المعلومات التي قدمها لنا ،وما هي غاية السؤال،فكان الجواب ببساطة أن مقولة غير صحيحة ،لأن الثقافة العربية في الجزائر العثمانية(1518 –1830) قد عرفت ازدهارا كبيرا لم تشهده البلاد من قبل،حيث ما تعرفنا عليه من العلماء ومن إنتاجهم الفكري الغزير إلا دليل قاطع على تطور الحياة الفكرية والثقافية التي ساهم فيها الشعب الجزائري من تلقاء نفسه وبفعل التكافل الاجتماعي من خلال الأوقاف الذي يصرف على العلم والتعليم دون أن يعتمد على الدوائر الرسمية في البلاد.
وما درسناه في هذه الوحدة من نماذج ،ما هو إلا غيض من فيض، لأن ما نجهله عن العلماء والأدباء والفقهاء وعن مخطوطاتهم التي مازلت جاثمة إلى حد الآن في الرفوف ،هو الكثير الكثير،وخلاصة القول هو تكذيب الدوائر الاستعمارية التي روجت ،وما زالت تروج إلى اليوم ،في أوساط الأجيال الصاعدة أن الجزائر قد بلغت في القرون الماضية أسفل درجات الجهالة والهمجية إذا لم يكن بالبلد أي تعليم منظم ولا حياة فكرية ،فلا عالم بينهم ولا كاتب أديب ولا شاعر .فالأمة الجزائرية مؤلفة كلها من أميين يجهلون القراءة والكتابة،وقالوا أن اللغة العربية قد ماتت منذ زمن بعيد ودفنت مع اللغات الميتة الأخرى ،وهذا من أجل تبرير عدوانها ودعم مطامعها الاستبدادية موهمة الرأي العام أن من واجب الأمم الراقية أن تنقذ سكان الجزائر من آفة جهل شامل وتأخر فاحش عن ركب الأمم المتمدنة وذلك باسم الحق والإنسانية.
ذلك هو الجواب ،بخلاف بعض الطلبة الذين انساقوا وراء الأفكار الرائجة أن الاحتلال الفرنسي قد حررنا من الأتراك ومن الجهل ،ويعمل على نشر الثقافة والعلم الحديث لذلك تحصلوا على علامات مسقطة،بينما تحصل في هذا الامتحان علامة عالية كل من فهم أهداف الدرس.
أما الوحدة الثالثة فهي الحركة الوطنية الجزائرية،التي تخصص فيها الأستاذ ،ولذلك فكان يحاضر لنا من ذاكرته مباشرة دون أن يفتح محفظته الكبيرة وتبقى جاثمة على المكتب، ذلك أن ما بقي عالق في ذهني إلى حد الآن، هي حركة الأمير خالد ،بحيث تأثرت وأعجبت بهذه الشخصية،مما جعلني أبحث عن جوانبها المختلفة ،وأكتب عنها المقالات ،منها مقالة في جريدة اليوم،في 10 و11 أفريل سنة 2000م،العدد 363-364. تحت عنوان " أبو الحركة الوطنية الحقيقي" ،وقد أثرت في نفسي خلاصة الأستاذ في آخر المحاضرة عن الأمير خالد ،حيث قال: " فبعد حياة عامرة بالنشاط والحيوية وبعد خيبة الأمل في سنة 1926 ، أسدل الستار عن الحياة السياسية للأمير ولم برفع إلا بحدث وفاته سنة 1936م".
أما في مرحلة ما بعد التدرج ،فقد اندمجنا في نظام الماجستير الجديد بعدما كنا في النظام القديم وهو تحضير شهادة الدكتوراه الحلقة الثالثة،بعد الحصول على دبلوم الدراسات المعمقة،فالتقينا إذن بالدكتور سعد الله في ثلاثة وحدات هي:تاريخ الجزائر،وحدة المنهجية،وحدة الشرق الأقصى (الهند).
ففي وحدة تاريخ الجزائر،درسنا الأستاذ الاتجاهات الفكرية والثقافية للحركة الوطنية،وهذا الموضوع هو في الحقيقة محاضرة ألقاها الدكتور أبو القاسم سعد الله أثناء انعقاد المؤتمر الأول لكتابة تاريخ الثورة،الذي انعقد في أكتوبر،1981م،بقصر الأمم بالجزائر العاصمة ،وقد نشرتها الصحف والدوريات، منها:جريدة "الشعب"،بتاريخ أول نوفمبر 1981،ومنها مجلة(أول نوفمبر) عدد1928،وقد ترجمتها جريدة (المجاهد) اليومية في حلقات ،أولها بتاريخ 10 نوفمبر1981.وأخيرا نشرت ضمن كتاب الأستاذ سعد الله،أفكار جامحة،الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب،1988.
إن موضوع الاتجاهات الفكرية والثقافية يكاد يكون غير مطروق.ذلك أن الحركة الوطنية الجزائرية كانت بالدرجة الأولى حركة سياسية تقوم على مقاومة المستعمر بالسلاح أولا،خصوصا خلال القرن التاسع عشر،ثم لجأت إلى العمل السياسي المنظم في شكل أحزاب وهيئات.
ومن الجدير بالذكر أن المستعمر قد أحل مؤسساته الثقافية محل المؤسسات الوطنية، فبالإضافة إلى المدرسة الفرنسية المحضة ،هناك الكنيسة وإمكانياتها،واللغة الفرنسية وأجهزتها،ووسائل الأعلام،ولا سيما الصحافة ثم الإذاعة.وقد أدخل المستعمر أيضا المسرح والسينما والنوادي ونحوها.
أما التعليم الإيديولوجي الوطني فإنه يتمثل بشكل واضح في إنشاء المدارس الحرة التي شرع فيها أولا بعض الأفراد المحسنين مثل مدرسة الشبيبة ومدرسة الفلاح ،ثم تبنتها الهيئات الوطنية مثل جمعية العلماء منذ إنشائها وحزب الشعب في عهده الأخير. وكانت هذه المدارس الحرة تقوم على كواهل معلمين تأثروا على العموم بالإصلاح الإسلامي،أو متأثرة بتيار الفكر القومي الذي أخذ في الظهور بالمشرق.وهكذا لم تحن سنة 1930م حتى كانت هناك إيديولوجية ثقافة جديدة في الجزائر،إيديولوجية يدعمها الإصلاح والوطنية من جهة والتأثر بالحركة العربية الإسلامية من جهة أخرى،وكان ذلك فاتحة عهد جديد من التعويض الثقافي الذي افتقده الجزائريون طيلة قرن.فقد استرد الجزائريون الثقة بأنفسهم ، واكتشفوا كنوز ماضيهم ،وارتبطوا بإخوانهم في المشرق والمغرب بناء على أن المعركة الثقافية واحدة.ولاشك أن الأمير خالد ،وتأسيس نادي الترقي بالعاصمة، والتقاء قادة حزب الشعب بشكيب أرسلان،كان له أثر على تشكيل الإيديولوجية الثقافية الجديدة للجزائر.
إن تتبع الاتجاهات التي ظهرت في الجزائر ،مع التركيز على فترة العشرة سنوات السابقة للثورة، وتصنف كالآتي:
1) –اتجاهات دينية . 2) – اتجاهات سياسية. 3) – اتجاهات ثقافية.
الاتجاهات الدينية
يعتبر الإسلام العقيدة الأولى في الجزائر منذ أربعة عشر قرنا.وهو المفهوم الروحي الذي استحوذ على مشاعر الفرد الجزائري فحدد شخصيته ونمط عيشه وسلوكه.ويمكن تصنيف الاتجاه الديني إلى أ)-اتجاه تقليدي. ب) – اتجاه معتدل . ج) –اتجاه إصلاحي.مع شرح كل اتجاه.
الاتجاهات السياسية
يعتبر الأمير خالد بحق فاتحة عهد في الاتجاهات السياسية الوطنية ،فجرأته السياسية وقلمه وهندامه وثقافته وبرنامجه ، كلها جديدة على الحركة الوطنية. وكان نفيه من طرف المستعمرين قد جعل منه شهيد الوطنية.وسرعان ما أصبح رمزا للثوريين والمعتدلين على السواء،بل أن الشيوعيين قد تعاطفوا معه بعض الوقت. ومنذ العشرينات سارت الاتجاهات السياسية على النحو التالي:1)-الاتجاه الثوري .2)-الاتجاه المعتدل. 3)-الاتجاه العالمي. 4)-الاتجاه العربي الإسلامي.
الاتجاهات الثقافية
كان مضمون الإنتاج الجزائري – بتعابيره المختلفة – وطنيا في أغلبه .وإنتاج مضاد للاستعمار في الجملة. ويمتاز بالنضالية والواقعية.وقلما التجأ إلى المثالية الحالمة.
وهكذا لم تأت ثورة نوفمبر طفرة واحدة،بل جاءت تتويجا لكل التيارات التي ذكرت.إنها حصيلة تجارب النجاح والفشل لكل الشعب الجزائري.
ورغم ما بذلناه من مجهودات لدراسة هذه الوحدة ،وما دار بيننا من نقاش ساخن أثناء الدروس ،فإننا لم نوفق في الإجابة حسب نقطة الأستاذ الضعيفة، فكان السؤال يدور حول ما إذا كان للحركة الوطنية الجزائرية إيديولوجية معينة،وكنت أعتقد –وما زلت – أنني كتبت أحسن مقالة طيلة حياتي الدراسية،وقد شرحت فيها بالدليل إيديولوجية الحركة الوطنية، وللأسف فقد تحصلت على أسوء نقطة تعرضت لها طيلة مسيرتي التعليمية،لأن الأستاذ يعتقد أن الحركة الوطنية تفتقر من الإيديولوجية تماما .
أما الوحدة الثانية فهي :-منهجية التاريخ – وكانت الحصص مناصفة بين الأستاذ سعد الله والأستاذ مولاي بالجميسي ،وتعرفنا على تجارب كل واحد منهما حول جمع الأصول ونقدها لإثبات الحقائق التاريخية وتنظيمها وإنشاء الصيغة التاريخية وغير ذلك،واستفدنا كثيرا منهما،جزاءهم الله عنا كل خير.
وأخيرا وحدة الشرق الأقصى ودرسنا فيها الحركة الوطنية بالهند مطلع القرن العشرين،ثم تأسيس حزب المؤتمر ،كما درسنا معظم التيارات الفكرية والسياسية بالهند ،وكلفنا الأستاذ بتقديم تقارير ودراسات وبحوث حول مذكرات وكتب الزعماء وحول الأحداث الكبرى ،وحول مسيرة غاندي السلمية،وغيرها من الموضوعات فكانت دراسة مفيدة وشيقة رغم المجهودات التي كنا نقوم بها.
تلك هي إذن الوحدات التي درسناه على الأستاذ أبي القاسم سعد الله ،ما زال صداها وتأثيرها قائم في وجداننا إلى حد هذه الساعة، لأن الأستاذ كان يتميز بغزارة العلم و بالنشاط والحيوية الدائبة،وأظن أنه كان في غزّ عطائه، وفي ذروة أستاذيته.
ذكريات الزمالة مع الأستاذ سعد الله:
ما فتئ الأستاذ سعد الله يردد لنا، خلال الدراسة ،وخاصة في مرحلة بعد التدرج، أنه لا يقبل صداقة أو زمالة أحد منا،لا يركب معه في السيارة ولا يجالسه في النادي أو أي مكان عمومي آخر،ويجب أن تكون المعاملة بيننا بحساب،إلى أن فتح الله علينا وأصبحنا زملاء - بكل تواضع – وأصبحت العلاقة بيننا تتسم بالاحترام والتقدير وبالود - من الطالب لأستاذه.
إن فترة الزمالة ،فترة طويلة لأكثر من عشرين سنة خلت تعرفت فيها على جوانب عديدة عن الأستاذ وعن قرب ،ولا يمكن ذكرها جميعا وسأكتفي بحادثتين فقط،الأولى كان الأستاذ سعد الله يدرس تاريخ الجزائر للسنة الرابعة بمدرج مالك بن نبي ،ملحقة بوزريعة –جامعة الجزائر- وكان الطلبة في إضراب ،وليس للأستاذ علم بذلك،فدخل المدرج كالعادة ليدرس ،وكان عدد كبير من الطلبة تريد أن تدرس،ولا تريد تفويت الفرصة،غير أن أحد الطلبة من منظمي الإضراب منع الأستاذ من التدريس ،بل وتهجم عليه بكل عنف ووحشية ،ولما سمعت هيئة التدريس بذلك غضبت غضبا شديدا مع الإدارة،وقررت معاقبة الطالب عن طريق مجلس التأديب،غير أن الأستاذ سعد الله عارض بشدة هذا الإجراء ، وقال :" كيف لي أن أعاقب أحد من طلبتي أخطأ في حقي وأنا بصفتي أستاذ ،فلا يمكن ذلك أبدا ؟ فإني أغفر له ذنبه مهما كان."،وكان ذلك قمة التسامح، وذروة الأخلاق النبيلة، وقدوة للأساتذة الآخرين.
أما الموقف الثاني فهو في إحدى المرات،كنت أتجاذب أطراف الأحاديث مع الأستاذ أمام مدرج - أ – بملحقة بوزريعة، بعدما فرغ من تدريس السنة الرابعة،وكنت سأدخل من بعده،فإذا بشخص مجهول - ويظهر عليه الاحترام - تقدم منا وسلم ،وسأل الأستاذ سعد الله قائلا:" هذه سيارتك يا أستاذ ؟" - وهي سيارة قديمة نوع ما – فأجابه الأستاذ بنعم،فقال له الرجل ، أنت يا أستاذ تستحق من الدولة أن تأتيك بطائرة خاصة تنقلك من هنا إلى منزلك ،فأجابه الأستاذ لا أحتاج إلى ذلك،وإنما أحتاج إلى سكن لائق ? فتعجبت من هذا الجواب التواضع.وقد أنعم الله عليه الآن ومؤخرا فقط بسكن لائق ،متعه الله به أمين.
وفي سياق الحديث عن السيارة ،نال الأستاذ سعد الله جائزة قيمة وبالعملة الصعبة منحت له على مساهمته في حركة التأليف في الثقافة العربية الإسلامية،وحينما سمعت بالخبر تبادر إلى ذهني أنه سيشتري بها سيارة فخمة جديدة،غير أنه قد تبرع بها وعلمت عن طريق الصحافة،أنه منحها في حفل تقديم الجائزة الذي أقيم في مدرج جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة،فكتب يقول:
"بسم الله الرحمان الرحيم –
مدح الله سبحانه في القرآن الكريم القلم والكتاب،ورفع من شأن التعلم والعلم والعلماء درجات… وكان ابن باديس قد بدأ مسيرة النهضة بالكتاب والعلم ،ولئن لم يسعفه الحظ بتأسيس مكتبة عمومية موردا لطلابه ومواطنيه…وفي ضوء ذلك ،ومادامت هذه الجامعة الإسلامية تحمل اسم بطل المقاومة الوطنية (الأمير عبد القادر) وتقع في مدينة رائد النهضة الوطنية(ابن باديس) ،ومادامت الجائزة قد منحت إلي على مساهمتي في حركة التأليف في الثقافة العربية الإسلامية،ومادام والدي – رحمه الله – قد فرغني للعلم في وقت كان أشد ما يكون حاجة إلى خدماتي أمور المعاش وقد تحمل من أجل ذلك فوق طاقته.
فإنه يسرني أن أعلن بأنني قد تبرعت بالجائزة الممنوحة إلي إلى مكتبة جامعة الأمير عبد القادر لتشتري بها الكتب الضرورية لتنميتها وجعلها موردا علميا يتناسب مع عظمة مشروع الجامعة ورسالتها ويرقى إلى عظمة الأمير عبد القادر وابن باديس ،وأرجو أن يطلق اسم (الإنتفاضة الفلسطينية) على الجناح المخصص للكتب المشتراء من نقود الجائزة. وفق الله الجميع. أبوالقاسم سعد الله.
قسنطينة في 14 شوال1411هـ/29أبريل1991م.
وهكذا كان سعد الله من الذين قال فيهم الله سبحانه وتعالى:" يؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة".
تتبعنا إنتاج سعد الله في سنوات المخاض العسير –أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات منها :
عذرا يا عراق.
عذرا يا عراق.إذا تركناك تواجه الدمار الشامل ،ولم نسق إليك النّجائب والركائب،لتدفع عنك غائلة الأعداء، كما يقتضي واجب العروبة والإسلام،وكما تتطلبه روابط الأخوة وأواصر التاريخ.
وقد جمع معظم تلك المقالات بين دفتي كتاب سماه " هموم حضارية " عن دار الأمة،1993.
ومن المقالات الهامة أيضا نذكر منها: قراءة في كتاب( المحاكم الإسلامية والسلطة الاستعمارية في الجزائر) للبروفيسور " آلان كريستلو " نشره الدكتور أبو القاسم سعد الله في الملحق الثقافي لجريدة"الشعب"،الخميس 25 ذو القعدة 1409 هـ/29 جوان 1989م، العدد 7981. استهله بـ " لو اقتصر احتكار الفرنسيين لتاريخ الجزائر على الفترة الاستعمارية لكان لاحتكارهم مبرر،مؤقتا على الأقل، ولكن إذا أصبح احتكارهم عاما لكل تاريخ الجزائر ،من قديمه إلى معاصره ،فذلك أمر يثير الدهشة وينذر بالخطر.فقد أصبح اسم (قزال) علما على تاريخ الجزائر القديم (بل المغرب العربي كله)،وأصبح (غوتييه ) علما على تاريخها الوسيط،واسم (غرامون) علما على تاريخها العثماني،واسم (أجرون ) علما على تاريخها المعاصر ،بل أن اسم ( جوليان ) أصبح ملتصقا بتاريخ الجزائر في جميع العصور لأنه كتب عن الجزائر(وشمال إفريقيا) في مختلف العصور.ولكن هل هذا الاحتكار ( أو الاحتواء بالمعنى السياسي) ظاهرة طبيعة ؟ ألا يبرهن على استمرار المدرسة الاستعمارية في السيطرة على الدراسات التاريخية عندنا ؟ وما معنى الاستقلال السياسي إذا كان تاريخنا ما يزال "مستعمر"؟ لقد نادى بعض الجزائريين منذ فترة بضرورة تصفية التاريخ من الاستعمار ،ولكن ذلك النداء بقي حتى الآن بدون رد فعل إيجابي…… وليس غريبا إذن أن يلجأ المؤرخون غير الفرنسيين إلى الاعتماد على المراجع الفرنسية عن الجزائر لأنهم يجدون الساحة فارغة من المراجع الجزائرية. تذكرت هذا عندما قرأت كتاب البروفيسور " ألان كيستلو " عن تاريخ الجزائر الاجتماعي والديني خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين……".
وأظن أن الساحة بدأت تمتلئ بإنتاج الدكتور سعد الله وتلامذته وخلانه وزملائه من الأستاذة من مختلف الجامعات الجزائرية، وبفضل المحاولات لتأسيس المدرسة التاريخية الجزائرية،التي تسعى لكتابة تاريخ الجزائر كتابة موضوعية علمية لإبراز الحقائق التاريخية المنزه عن كل تزييف أو تحريف .
المقالة الهامة الآخرى التي نشرها في جريدة"الشعب" ليوم الثلاثاء29 جمادي الأول 1408هـ الموافق لـ:19/01/1988م العدد7538.تحت عنوان " الخوف من التاريخ "، وهي عبارة عن محاضرة نشرت الجريدة نصها الكامل، نورد منها المقتطفات التالية: " في هذه الليلة المباركة التي تحملنا إلى أعتاب أول نوفمبر الخالد،اسمحوا لي أن أقول لكم بأني جئتكم خائفا من التاريخ ،مفكرا في حكمه القاسي الذي لا يرحم وَجِلا من المصير الذي ينتظرني معه إذا لم أقم بواجبي نحوه،فهل أنتم مثلي خائفون من التاريخ ؟ يا لسعادتكم وشقائي إذا كنتم غير خائفين ؟ ……
في كل ركن من أركان الماضي أسمع صوتا يتوعدني أنت مثقف ولكنك لم تقم بواجب المثقفين ،وأنت مؤرخ وقد قصرت في أداء رسالة التاريخ،ثم يزداد ذلك الصوت غلظة وتهديدا وهو يعلن : ومن أجل إخلالك بواجب المثقف وتقصيرك نحو رسالة التاريخ:حكمت عليك بالإعدام البطيء .. إلا أن تكفر عن ذنبك ما دام في أجلك فسحة؟. فيا لسعادتكم وشقائي إذا كنتم غير خائفين من الإعدام البطيء..؟.
رحماك أيها الصوت المتوعد المخيف ؟ إني سأحاول ،سأحاول مادام في الأجل فسحة ؟…
إن الإحساس بالتاريخ فطرة يفطر عليها الله بعض الشعوب والأفراد،وبذلك لا يرتكبون أي شيء قد يدينهم ذات يوم ولو بعد قرن،ولكن البعض يتبلد فيه ذلك الإحساس فلا يعود يحس إلا مصلحته الآنية،يعميه الحقد أو الرغبة،ويموت فيه الضمير ،فيعيش الحاضر فقط وينسى الماضي والمستقبل….
أولئك قوم "نسوا الله فأنساهم أنفسهم" أولئك قوم مات فيهم الحس التاريخي ،فلم يفكروا في وطن ولا دين ولا نسل…… .
إننا ننسى كثيرا،ومن شقاء المؤرخ أن ذاكرته حية دائما… أنها مأساة المؤرخ أن يرث تركة خطايا الأجداد الذين فقدوا ذاكرتهم أو مزقوا أوراقهم ورموا بها في النار في لحظة غضب أو أهملوا تدوين حياتهم فلم يعرف عنها الأحفاد سوى صورة رسم أعدائهم ؟
والغريب أننا عندما نأتي لنفكر عن خطايا الأجداد يتصدى لنا الناس طالبين منا أن ندفن الماضي لأنه لا يشرفهم ،أو يريدون منا أن لا نقول إلا مدحا في جانب وذما في جانب آخر، أو يخطئوننا دون علم بمناهج التاريخ والبحث ، أو حتى يهددوننا بالويل والثبور،كأن وقائع البلاد ملك شخصي لهم ،وكأن مؤسسات الوطن وقف شرعي عليهم ومحرم على غيرهم.
أريتم أن الرسالة المؤرخ في بلادنا أكثر تعقيدا مما يظن الظانون ؟
ومن المقالات التي لها أثر نذكر بعضها:-عن فوضى اللغات -صيف في سوف-مع الشعب الليبي-"الحاج ديكارت " الجزائري.. والعباءة الدولية؟؟ وغيرها كثيرة ورائعة.
البيئة التي أثرت في كتابات الأستاذ سعد الله:
لقد كانت البيئة التي خرج منها بيئة عربية إسلامية محافظة جدا.وهي أقرب إلى البداوة منها إلى الحضارة.وفيها كل ما في البداوة من خير وشر.ولكنها من الناحية الطبيعية جافة إلى درجة القسوة،واسعة كالمحيط ، ومع ذلك تجد الإنسان أمامها مستسلما إلى درجة القدرية ، يحس بضعفه حتى لا يكاد يفقد ذاته. ولا يكاد يجد مهربا من رتابة رمال الصحراء ولفح شمسها إلا في ظل نخلة وارفة،أو خرير ساقية ، أو صوت حيوان أليف، أو نظرة في النجوم السابحة.يضاف إلى ذلك الشباب الجامح والغريزة الطافحة.
كتب الأستاذ سعد الله إحدى المرات ،في جريدة(الجمهورية)بتاريخ 9يونيو1986م، يقول :"إن ظروف الكتابة في الوسط الذي نعيش فيه لا يعترف بقيمة الكتابة،ولا يقدر المكتوب ولا الكاتب .ولذلك تجدنا نكتب بالأسنان والأظافر والأصابع المقطوعة والكراسيع المبتورة ،وإننا نسير رغم أنف تيار المعاكس. وليس لنا مكان نختلي فيه إلا المقابر،ولا منضدة نكتب عليها إلا الجماجم،ولا وسيلة تتشبث بها غير القنوط ،فمن يظن أننا نكتب ما نكتب على مناضد الرخام ،وأرائك الحرير فهو غر أو مغرور.إننا نمارس فن الكتابة كما يمارس (سيزيف) جر صخرته،كما عاش المتصوفون لحظة تعذيب النفس والبدن في سبيل الخلاص…..".
تلكم هي الإطلالة الوجيزة عن أستاذنا سعد الله شيخ المؤرخين الجزائريين،و مهما كتبنا فإننا لا يمكن أن نوفيه حقه ،لأنه شخصية مرموقة ومتعددة الجوانب،ومهما قدمت له من انتقادات ،فيكفيه فخرا ما قدمه للجزائر الحبيبة من إنتاج فكري وتاريخي رائعين،ذلك أن موسعته الهائلة : تاريخ الجزائر الثقافي – تسعة مجلدات – تشفع له كل زلته إن وجدت، أطال الله عمر أستاذنا،وحفظه الله ورعاه،وأبقاه ذخرا للبلاد والعباد.
الشراقة - 09 إبريل 2007م