شهادة نادرة من أحد تلاميذ الشيخ الإبراهيمي.. شهادة الشيخ سليماني الهاشمي المدعو التونسي بن محمّد بن الطاهر بن عبد الله بن بلقاسم
جمعَها: البشير بوكثير
هذا الشيخ الجليل من البقيّة الصّالحة التي عاصرت ملك البيان والتبيان "محمّد البشير الإبراهيمي" رحمه الله، وعاشت معه أروع الفترات، وأجمل اللحظات في الاقتباس من علمه الثّر، والاغترافِ من فصاحته التي أعيتْ قُسّا وفضحت الدّر.
وقد كان لملك البيان دور كبير في تسجيله في معهد عبد الحميد ابن باديس في الموسم الدراسي (1950-1951م)، حيث اعتذرت له إدارة المعهد على لسان المكلّف بتسجيل الطلبة آنذاك الشيخ "أحمد رضا حوحو" -رحمه الله- لاعتبارات تجاوز السنّ القانونية للتمدرس، غير أنّ رغبته الجامحة وشغفه بطلب العلم جعلاه يطرق باب مدير المعهد الشيخ الشهيد العربي التبسي -رحمه الله-، حيث وجد الشيخ البشير الإبراهيمي برفقته، فما كان منه إلاّ أن ارتمى في حضنه، مُبديا رغبته الشديدة في مواصلة تعليمه، وهو الشاب القادم من إحدى قرى قسنطينة وفي صدره يختزن بعض المتون إلى جانب حفظه للقرآن الكريم.
وبعاطفة المربّي الفذّ، والمعلّم المشفق-كما َيروي الشيخ سليماني الهاشمي -أخرج الشيخ الإبراهيمي قلم رصاص لا يتجاوز الإبهامَ وورقة صغيرة كتب فيها بعض الكلمات وقال لي: اذهب بها إلى الأستاذ رضا حوحو، ثمّ التفت إلى الشيخ العربي التبسي وقال له: اسمح له بالتّسجيل والإقامة. وبذلك تحقّقت الأمنية التي كانت بعيدة المنال.
ثمّ اسمعوا له وهو يصف ذلك اللقاء النادر بين ملك البيان الشيخ محمّد البشير الإبراهيمي والفنّان يوسف وهبي حين زار الجزائر رفقة الفرقة القومية المصرية التي نزلت بمركز جمعية العلماء المسلمين الجزائريين يوم الأربعاء 14 فيفري 1950م، واستقبلهم شيوخها وشعراؤها وأدباؤها ومُعلّموها استقبالا حارا لتوطيد عُرى الأخوّة بين المشرق والمغرب، هذه الأواصر الثقافية واللغوية والروحية التي حاول الاستدمار قطعها حتّى يُظهِر للمشارقة وأنّ الجزائر فرنسية وستبقى فرنسيّة للأبد، لكن مكوث هذه الفرقة في الجزائر لعدّة أيام، وإقامة مهرجانات مسرحية في عدّة مدن جزائرية، واحتكاك أعضائها بالمجتمع الجزائري، ومحاضرات الشيخ البشير الإبراهيمي كلّها عوامل جعلت المدير الفنّي للفرقة "زكي طليمات" يقول مخاطبا الشيخ الإبراهيمي: "إني سعيد إذ أجد نفسي بجوار هذا الأستاذ العظيم، وإني لأعتبره حقا رئيس الجزائر ومُحيي نهضتها العلمية، وإنّي أتمنى لو تتاح لي الفرص فأترك أعمالي كلها وألازمه ملازمة التلميذ لأستفيد من علومه وآدابه، وأوصيكم أن تكونوا جميعا أعوانه المخلصين وأنصاره الأمناء."
أما يوسف وهبي فقد عبّر بدوره عن تقديره وإعجابه بالأعمال الجليلة التي تقدّمها جمعية العلماء ، مُوضّحا أنّ رسالة المدرسة والمسرح واحدة وهي بثّ الوعي بين النّاس، ونشر الثقافة الأصيلة التي تحفظ للأمّة هويتها وموروثها .
بعد هذه التوطئة التي لابدّ منها، نترك هذا الشيخ الجليل سي سليماني الهاشمي - يسرد لنا هذا الموقف الخالد من وحيِ هذه الزيارة: "كنتُ صغيرا لا أكاد أفهم من معاني اللغة سوى النزر اليسير ، فما بالك وأنتَ في حضرة ملك البيان بشموخه وعبقريته الفذّة وفصاحته النّادرة، وهو يلقي محاضرته أمام الضيف المصري الفنّان "يوسف وهبي"، وقد اكتظت القاعة بالحاضرين، كان الشيخ لحظَتَها بحرا زاخرا هدّارا ، يتحدّث بصوت جهوريّ فصيح بليغ، يرتجل الكلام ارتجالا، فلا يتلعثم ولا يتوقّف، وكأنّ كلامَه دُرر منقوشة في ذهنه يُخرجها صائغيّ حاذق، فتتسمّر الأنظار إليه، كان الشيخ الإبراهيمي يتوكّأ على عصاه، وأمامه شمعة مضيئة، لأنّ المنظّمين أطفأوا الأنوار، خوفا من الاستعمار، وقد أصبتُ بالانبهار، فلم أعدْ أدرِ أيّهما يضيء الآخر ؟ ".