بقلم: د. رشيد درغال-
المحور الأول: دور النضال الفكري الباديسي في نهضة الجزائر.
أولا: كلمة حق في حق الرجل:
خص الله تعالى وطننا الغالي الجزائر ورزقه برجل فذ ومتميز في ظروف جد عصيبة، مثله البعض بالنجم الذي سطع في ليالي الجزائر الحالكات، فبدد به مظاهر الجهل والظلمات، وصقل به وعي الشعب الجزائري وهيأه للتصدي للاستدمار الفرنسي الغاشم وتحرير الوطن من مفاسده وطغيانه، ولقد أرسى رحمة الله عليه، دعائم وأسس حركة إصلاحية واضحة المعالم، أصيلة المنهل، متينة البنيان، لقت صداها في أرجاء الأمة العربية والإسلامية قاطبة.
إنه الشيخ عبد الحميد بن باديس أشهر روافد الإصلاح ورواده في الجزائر على الإطلاق، الذي انطلق من فكرة: "الشعب الذي يقرأ لا يجوع ولا يستعبد أبدا" فانصب وركز على مجال غرس وتكريس البعدين العربي والإسلامي ومقاومة الاحتلال الفرنسي، بكل ما أوتي من قوة ووسائل، وإفشال كل مخططات الاستدمار الإجرامية التدميرية، إلى أن صعد الشيخ من موقفه ضد فرنسا إلى السحاب وأطلق كلمته التاريخية الشهيرة: "والله لو طلبت مني فرنسا أن أقول لا إله إلا الله ما قلتها".
إنه الرجل الذي يصف أمته الجزائرية بأنها ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا حتى لو أرادت. بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد...، في لغتها، وفي أخلاقها، وعنصرها وفي دينها، وفي تقاليدها، لا تريد أن تندمج، ولها وطن محدد هو الجزائر.
إننا نتدارس ونستعرض شخصية متعددة الجوانب، متنوعة المواهب، توفرت لها مؤهلات وإمكانات، من النادر- إن لم أقل من المستحيل على الأقل حاليا- أن تجتمع في شخصية واحدة.
فهو عالم ورع فقيه في أمور الدين، مفسر، تقي، مساير لمقتضيات العصر ومواكب لمتطلبات الحياة، معلم موهوب، عامل صبور، مربي مخلص، زعيم من زعماء الفكر البنائي الإصلاحي، مناضل شجاع، وطني حتى النخاع، سياسي محنك متبصر.. ثم هو كاتب ناجح مؤثر، خطيب فصيح بليغ متمكن، وصحفي لامع بارع.
لقد اتسمت أفكار وآراء وفلسفة الشيخ بالصدق والقصد في النوايا وبالجدية والإخلاص للحفاظ على الثوابت الوطنية واللغوية والمسلمات الدينية، التي اختزلت في الشعار التاريخي الشهير:"الإسلام ديننا، والعربية لغتنا والجزائر وطننا".
لقد حمل الرجل هم بلد بأكمله ووهب نفسه وكرَس حياته لخدمته بالغالي والنفيس، عاش بالإسلام للإسلام وللجزائر وفقط.، ليصدق بذلك فيه قول المجاهد العلامة الشيخ العربي التبسي (عند تأبينه) "لقد كان الشيخ في جهاده وأعماله هو الجزائر كلها، فلتجتهد الجزائر بعد رحيله أن تكون هي الشيخ عبد الحميد بن باديس."
ثانيا: مقاومة الغزو الثقافي الفرنسي بالتصدي الفكري والروح الوطنية
لقد تعرضت الجزائر تحت وطأة الاستعمار الفرنسي إلى تحد نسخ وطمس هويتها الوطنية والعربية والدينية، حيث اعتمد على محاولات فرنسة اللغة وتنصير الدين وتصنيف الجغرافيا الجزائرية كإقليم تابع لفرنسا، وهو ما يعرف تاريخيا بـ: (فرنسا الجنوبية).
كما صمم الاحتلال الفرنسي مخططات تغريبية رامية إلى الغزو الثقافي في الشق المتعلق بالتراث العربي والإسلامي للجزائر، وعلى الرغم من كل محاولاته المتنوعة والمتعددة الأساليب والأشكال لتحريفه وتشويهه، بقي مصاناً بقواعده وأصوله، بفضل عناية ورعاية المولى عز وجلَ، وجراء مقاومة وتصدي ونضال الرجال الذين وقفوا روافدا فكرية لا تنضب ودروعا جسدية لا تهاب المنية لمواجهة أي نائبة أو مصيبة تصيب وتحل بالوطن الغالي.
وفي ظل هذه المعطيات هيأ الحق سبحانه وتعالى رجالا يتكفلون بمهمة التصدي والمقاومة بكل الوسائل والأشكال لهذه المخططات العدوانية المدمرة. وكان الشيخ عبد الحميد بن باديس من أولئك الذين اصطفاهم الله تعالى لإبطالها وإفشالها في مهدها، والذي استهل رسالته النبيلة بالعمل على تحصين الشعب الجزائري بالتمسك بدينه الإسلامي والافتخار بعروبته والاعتزاز بجزائريته والتعلق بوطنه، كي لا تذوّب وتنصهر شخصيته وتتمزق هويته.
ولقد كان شعور الانتماء والانتساب إلى الجزائر هو مناط الرسالة ومحل الاهتمام لأن الوطن يشكل الحاضن الأول للإنسان، ففيه ولد ونشأ وترعرع، ومع أهله يحيا ويتعامل ويتعاون.
ولقد عبر الإمام ابن باديس عن وطنيته الجزائرية قائلاً: "أما الجزائر فهي وطني الخاص الذي تربطني بأهله روابط من الماضي والحاضر والمستقبل بوجه خاص، وتفرض علي تلك الروابط لأجله –كجزء منه- فروضاً خاصة، وأنا أشعر بأن كل مقوماتي الشخصية مستمدة منه مباشرة.
فأرى من الواجب أن تكون خدماتي أول ما تتصل بشيء تتصل به مباشرة، وكما أنني كلما أردت أن أعمل عملاً وجدتني في حاجة إليه: إلى رجاله، وإلى ماله وإلى حاله، وإلى آلامه، وإلى آماله، كذلك أجدني إذا عملت قد خدمت بعملي ناحية أو أكثر مما كنت في حاجة إليه.
هكذا هذا الاتصال المباشر أجده بيني وبين وطني الخاص في كل حال وفي جميع الأعمال، وأحسب أن كل ابن وطن يعمل لوطنه لا بد أن يجد نفسه مع وطنه الخاص في مثل هذه المباشرة . وهذا الاتصال(1).
لقد أدى العلامة عبد الحميد بن باديس دورا بارزا وكبيرا في إعادة بناء الإنسان الجزائري وصقل شخصيته القائمة على بعدي العروبة والإسلام، لأنه أدرك وآمن بأن بناء الإنسان وتأهيله أصعب ولكنه أجدى للأمة من تأليف الكتب وأن غرس الأفكار البناءة في صدر الإنسان وترسيخها بذهنه، إيقاد لشمعة تنير الدجى للسالكين، وتأكد أنه من المستحيلات ومن ضروب الخيال أن يقاوم ويحارب الجزائريون فرنسا، وهم مستلبون حضاريا وثقافيا، لذا اهتدى بفكره النير إلى ضرورة تكوين الأرضية وبناء الأساس الذي لا يتزعزع، فعكف على إقامة المعاهد التعليمية والمدارس القرآنية والعربية التي ألغتها فرنسا وحاربتها من باب تجفيف المنابع.
كما نجح الشيخ في إنشاء تيار واسع وعريض في الساحة الجزائرية يتخذ من هويته الثقافية عنوانا له، واستطاع أن ينسف مقولة الاستعمار الفرنسي الذين كان يعتبر الجزائريين فرنسيين، حيث وجه نداء للشعب الجزائري، من خلال جريدة الشهاب لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، يحذره من خداع فرنسا وإخلافها لوعودها ومماطلتها في تنفيذ بعض المطالب المستعجلة لأفراد المجتمع الجزائري، بقوله:"أيها الشعب الجزائري: أيها الشعب المسلم، أيها الشعب العربي الأبي حذار من الذين يمنونك ويخدعونك، حذار من الذين ينومونك ويخدعونك، حذار من الذين يأتونك بوحي من غير نفسك وضميرك، ومن غير تاريخك وقوميتك، ومن غير دينك وملتك وأبطال دينك وملتك، استوح الإسلام ثم أستوح تاريخك. وقلبك واعتمد على الله ثم على نفسك... وسلام الله عليك" (2)
إلى أن صعد الشيخ موقفه ضد فرنسا فأطلق قولته المشهورة: "والله لو طلبت مني فرنسا أن أقول لا إله إلا الّله لما قلتها". وهي دلالة أو تأكيد يقيني صارخ على شدة كرهه وبغضه واستيائه من فرنسا وعدم ثقته بها.
كما وفق الشيخ بحنكته في نسف كل المنطلقات الفكرية والإيديولوجية التي قامت عليها الحركة الاستعمارية الفرنسية، التي كانت تؤكد أن الجزائريين لا يشكلون أمة ولا دولة، إلا أن فكر الشيخ دحض زيف هذا الإدعاء، وأكد أن الأمة الجزائرية موجودة وأن طرفي معادلة شخصيتها هما:العروبة والإسلام، ورفع شعارها الذي تبنته الثورة الجزائرية في وقت لاحق: الإسلام ديني والعربية لغتي والجزائر وطني.
المحور الثاني: العمل الدعوي والتربوي الإصلاحي الباديسي: الأهداف والوسائل
أولا: العمل الدعوي التربوي الإصلاحي الباديسي:
لف العلامة عبد الحميد بن باديس عمله وأحاطه بالنية والإخلاص وتوجه بتخطيط وعزم، لاستهلال مسيرة بعث نهضة علمية جديدة متميزة، ترتكز على أسس الهدي القرآني والسنة النبوية الشريفة، وتنهج أسلوب التفكير السليم والهادف. فانتصب يعطي دروس العلم والوعظ والإرشاد بالجوامع والمساجد، عائداً بالشعب الجزائري المحروم إلى أصالته وفطرته التي عمل الاستدمار على طمسها وتغييبها، لقد عاد بالأمة إلى هدي القرآن وروافده المتدفقة وضيائه المشرق.. فواظب منذ عودته من تونس (جامع الزيتونة) على إعطاء الدروس في تفسير القرآن بالجامع الأخضر- قسنطينة- فاستمع إليه الكثير من الناس، وشدهم حديثه العذب ونظره الثاقب ورأيه السديد وفكره المتقد، فأعجبوا بأسلوبه وأحبوه والتفوا حوله.
وحين لمس تأييد الناس لمنهجه استقرت في ذهنه فكرة اتخاذ هذا المسجد مدرسة لتكوين القادة وإعداد النخبة القادرة على حمل راية ومشعل الإصلاح والأخذ بيد الأمة إلى الطريق القويم المنير، حيث كان الشيخ يبدأ دروسه بعد صلاة الفجر ويقضي نهاره معلما النشء، علوم الدين واللغة العربية إلى ما بعد صلاة العشاء، ثم يختم يومه بإعطاء دروس التفسير ليلا للكبار، حاثا وداعيا إياهم إلى ضرورة الالتزام بتعاليم الدين الحنيف وإلزامية العودة دائما إلى جادة الصواب.
لم يكن- رحمه الله- يعرف الراحة، قصد تغيير وإعادة بناء الإنسان الجزائري عامة والناشئة خاصة، ولم يقتصر عمله على مستوى "قسنطينة" فقط، بل كان ينتقل عبر محافظات القطر، يلقي دروس الوعظ والإرشاد في المساجد والمحاضرات والندوات في النوادي، ويجمع حوله الرجال الذين يتوسم فيهم القدرة على المشاركة معه في النهضة. (3)
ثم انتقل العلامة بن باديس بالعمل الإصلاحي الجهادي من مجال المدرسة والمسجد إلى ميدان العمل الصحفي، إدراكا منه لأهمية وسائل الإعلام والاتصال ودورها في إيصال المعلومة والخبر، والاتصال بالقاعدة الشعبية العريضة بمختلف شرائحها ومساهمتها الفعالة في نشر الأفكار والمبادئ.
وكان منهجه الصحفي مسنودا إلى الشعار الشهير:"الحق فوق كل واحد والوطن قبل كل شيء".
والمبادئ التي يقوم عليها هي: المبدأ السياسي، المبدأ التهذيبي والمبدأ الانتقادي.
ويمكن تمثيل العمل الصحفي بمثابة النواة الأساسية للثورة الفكرية التي أحدثتها الصحف والات في الأوساط المثقفة خاصة وجمهور الشعب الجزائري عامة. (4) وكانت من إحدى الأسباب التي مهدت لتأسيس جمعية العلماء المسلمين لاحقا.
فكان ذلك إيذانا وإعلانا عن الانطلاق الحقيقي للمشروع النهضوي الكبير الذي صممه وخطط له الشيخ بن باديس، لتكوين وإعداد جيل قادر على تخليص نفسه من غياهب الجهل، وتحرير بلاده من ظلم وطغيان وقيد المستدمر، وذلك من خلال إرساء أسس التربية والتعليم ونشر الوعي وثقافة الانتماء إلى الوطن.
ثانيا: أهداف الإصلاح ووسائله في الفكر الباديسي:
يقول العلامة ابن باديس: "إن الذي نوجه إليه الاهتمام الأعظم في تربية أنفسنا وتربية غيرنا هو تصحيح وتقويم الأخلاق". (5)
يمكن اعتبار هذا القول التاريخي النواة أو المحور الذي تدور حوله جهود الإصلاح كلها، لتكوين أجيال مستنيرة.. مؤمنة.. قوية وقادرة على النهوض بالوطن وتخليصه من كل صور التخلف والركود وتحريره من براثن الاستدمار.
ويمكن حصر أهداف الإصلاح في:
- التربية السليمة والقويمة: بفعل تصحيح العقائد وتقويم الأخلاق.
- تأهيل الإنسان الجزائري وتنمية قدراته العقلية والاجتماعية والأخلاقية.
- العمل على نشر العلم والمعرفة وتثقيف الناس وإيقاظ وعيهم، وتحرريهم من أشكال الضعف والوهن واليأس، وإعادة زرع الأمل في نفوسهم.
- إعادة بعث اللغة العربية التي أوشكت على فقدان مقومات صيانتها وتعليمها وترقيتها والسعي إلى جعلها وسيلة لبناء الشخصية الوطنية.
من خلال التمعن في هذه الأهداف نلمس أنها ركزت على ثلاث جوانب أو محاور أساسية وفي غاية الأهمية، وهي:
أ: الجانب الثقافي والتربوي (اللغة العربية والتعليم).
ب: الجانب العقائدي (الدين).
ج: الجانب السياسي (الوطن والوطنية).
هذه المحاور التي تجمعت في قوله:"الأمة التي لا تحترم مقوماتها من جنسها ولغتها ودينها وتاريخها لا تعد أمة بين الأمم، ولا ينظر إليها إلا بعين الاحتقار". (6)
وترجمت إلى الشعار الشهير لجمعية العلماء المسلمين "الجزائر وطننا والإسلام ديننا والعربية لغتنا".
ولتحقيق هذه الأهداف استعمل الشيخ بن باديس عدة وسائل، تمثلت في مؤسسات المسجد والمدرسة والصحافة، إضافة إلى النوادي التي كانت منبرا لمحاضراته وندواته.
المحور الثالث: دور النخب الوطنية في تجديد المشروع النهضوي التنموي:
أولا: انشغال النهضة ومفهومها:
أ/ انشغال النهضة: ألا يشكل انشغال النهضة في مطلع الألفية الثالثة، سؤالا يتسرب إلى أذهان ودواخل النخب العربية والإسلامية في مختلف التخصصات والعلوم..؟ ألا يعد أحد الهموم والشواغل والمتطلبات الاستعجالية للمجتمعات العربية في ظل الأوضاع الراهنة..؟؟
أما آن الأوان أن يفكر جميعنا- كل من موضعه- فيما يمكن أن نقدمه لهذه الأمة..؟
إن الأمر يتعلق بتطوير البلاد الإسلامية ومحاولة اللحاق بركب التطور والتقدم وتضييق الفجوة العلمية والاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية مع الدول المتقدمة.
إن إثارة سؤال النهضة سيتشكل عند النخب الفكرية والسياسية في اتجاهات متباينة لتصور التدابير وتصميم الحلول، التي يجب أن يتبناها المجتمع للفكاك من ربقة التخلف والتبعية والتداعي المتعدد الأبعاد والمجالات (المادي والثقافي..) الذي تعيشه البلدان العربية.
وقبل التفكير في تصور وبناء المنهج النهضوي وتحديد واختيار مسار الحل للألفية الثالثة علينا التمعن مليا في التجارب التاريخية السابقة (في أواخر القرن التاسع عشر) لتحديد واختيار مسار الحل، لأن اختلافا قد حدث بين ثلاثة اتجاهات وآراء: اتجاه يرى في الدين عائقا مانعا للتقدم، وثان يراه دفعا ودافعا للتقدم، وثالث اختار حياد الرأي بإمكانية إحداث التقدم بالدين أو بدونه.
ونستطيع أن نلمس اليوم أن المشهد الفكري الحديث في البلاد العربية بكل ما يحويه من تباين واختلاف وصراع بين تيارات تمتد من أقصى التشدد الإسلامي إلى أقصى التطرف العلماني، فهي تتفق وتقر بأن مجتمعاتنا في أوضاع سيئة للغاية، وأن هذه التيارات تسعى بالتفكير إلى إحداث التغيير، للنهوض بهذه المجتمعات، كل حسب تصوره وفكره.
مع التذكير أن ثمة تباين واسع واختلاف جذري في تحديد معيار هذه الأوضاع المزرية والسيئة وأسبابها وسبل الانفلات منها... من تيار علماني يرى في (التدين) أحد أهم أسباب التخلف، وإسلامي يرى في (التغريب) أهم أسباب التخلف. (7)
ب/مفهوم النهضة: تعني النهضة بمفهوم بسيط: التجدد والانبعاث بعد تأخر وتعطل وركود وناهض مناهضة: قاوم. والنهضة هي: عملية تغيير حضاري شامل يتناول كافة أبنية المجتمع وأدواره ويشمل الجوانب المادية والإنسانية فيه، يترتب على ذلك أن أي نظرية في التنمية الاقتصادية أو السياسية مثلا لابد أن تنبثق عنه، وترتبط بنظرية عامة في تطور المحتمع، وأن تأخذ في اعتبارها مختلف جوانب المجتمع المقصودة في التنمية. لذلك لابد من الأخذ بمنهج ينظر إلى الظاهرة التنموية في تكاملها ويسمح بالنظرة الشاملة للبناء الاجتماعي ككل. (8)
كما يشمل مفهوم النهضة في مجتمع ما عدة محاور تنطلق من المعطيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لإحداث تغيير جذري في هذا الواقع من ضمن رؤية إستراتيجية للمستقبل وكيفية بلوغه وإدارة عملية التغيير.
استنادا إلى ذلك، فإن للواقع المعيش والقائم تأثيراً بالغاً على مواصفات حركة النهضة التي تختلف مستلزماتها بالتالي من مجتمع لآخر ومن زمن لآخر. (9)
مما يجعل من محاولة السعي إلى استيراد البرامج التنموية الغربية والجري وراء استنساخها وتطبيقها بصورة آلية وميكانيكية على المجتمعات العربية، رهانا خاسرا، وأسلوبا فاشلا، أكدته التجارب الواقعية وأثبته ودونه التاريخ في سجلاته. ذلك أن التطبيق الارتجالي لهذه التجارب أو النماذج، دون فهم راسخ وقراءة فاحصة وشاخصة للواقع سيؤدي حتما إلى تعميق التخلف وتأصيل التبعية.
وعليه فإن أول درس في موضوع النهضة يبدأ بتشخيص الداء ومعرفة وتشريح أسبابه، ثم بتحرير وصفة العلاج الناجح المفضي إلى الشفاء، الذي يعد عنصرا مهما في عملية النهوض، والانطلاق في مسيرة النهضة الشاملة، التي أعاقتها رياح التعطيل والتأجيل والتهاون والتكاسل والتخاذل.
ثانيا: أهمية الفكر الإنساني في النهضة:
يقول ديكارت فى بداية عصر النهضة أنا أفكر إذن أنا موجود... ومن زاوية معاكسة... أنا أفكر...إذا أنا موجود..لا يمكن أن لا أكون موجودا وأنا أفكر. قوله أنا أفكر ... طيب... كيف يكون التفكير دليل على وجودي؟ إلا إذا كان الوجود يسبق الوعي. قالها عندما شك في كل شيء، ولم يجد سوى الفكر ليثبت فيه وبه، وجوده.
ويقول "بيطاي" في هذا العصر أنا لا أريد أن اعرف، أنا أريد أن أعيش. وتلكم هي المفارقة العجيبة...
لقد ميز الحق سبحانه وتعالى الإنسان بالعقل، وجعل عنده القدرة على التفكير فكان العقل هو مناط التكليف الشرعي وبفقدانه يسقط التكليف. ولقد ورد في القرآن الكريم كثير من الآيات التي تحض الإنسان على التفكير وإعمال العقل.
قال الله تعالى: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا »(10)، وقال: « أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ »(11)، والمستوحى من هذه الآيات القرآنية أن طلب الله من الإنسان التوصل بالتفكير إلى عقيدة التوحيد لينبئه عن أهمية الفكر في الإسلام.
الفكر هو الأمانة التي فضل الإنسان أن يحملها على عاتقه، وهي التي يستمد الإنسان منها تعريفه، بكونه كائنا مفكرا يمتاز ويتميز بالفكر عن سائر المخلوقات والكائنات الأخرى، فالإنسان هو البشر المفكر كما يعرف لدى علماء البيولوجيا.
فالفكر إذن هو السبيل الأوحد الذي يجعل الإنسان أكثر وعياً لما يحيطه، وبه يكون المرء أعمق إدراكاً لأبعاد وجوده وعلاقته بالكون، لأن الإنسان يطل من خلال أبراج فكره على عوالم جديدة، فتتسم رؤيته بالشمولية التي تجعله أكثر وعياً بالحقائق، وأكثر قدرة على معرفة ما كان يجهله فيما سبق.
وبالفكر يرتقي الإنسان من مرحلة الجهل والظلام إلى مرحلة الاهتداء والمعرفة... وتمّثل الأفكار البناءة لدى كل إنسان الثروة الحقيقة التي يتمكن بها من تيسير حركته نحو تحقيق أهدافه المنشودة، وخدمة مجتمعه(12)
كما أن الجسم مركبة يقودها الفكر، ولا يوجد عمل إلا وراءه فكر، وأن الإنسان لا . يمكنه أن ينال أي تقدم في ميادين الحياة، ما لم يبدأ بترقية مستواه الفكري قبل ذلك(13) ويقول الفلاسفة في العصور الوسطى في مخاض الحديث عن ماهية الله أن الله فكرا خالصا لا يشوبه مادة، وأن الروح التي حباها الله للإنسان من ذاته، كانت من نور الفكر، والفكر هو المسئول عن صنع الحضارة الإنسانية بكل ما فيها من تكنولوجية وتقنية ووسائل تنمق الحياة وتجعلها أفضل وأحلى وأرقى، ولا تزال الحضارة مستمرة بضياء الفكر وما يحدثه من تجليات، كالعلوم المعاصرة والفنون والآداب، تصب في نهاية المطاف لإشباع غايات الإنسان وتحقيق . راحته ورفاهته (14)
إن لب العقيدة الإسلامية يتمثل في تكليف الإنسان بعمارة الأرض، وهى العبادة المأمور بها أو المطلوبة من الإنسان على وجه الخصوص، لأنه مؤهل لها بميزة الفكر الذي يتميز به عن الملائكة. إن إعمار أو عمارة (تنمية) الكون بالسعي والضرب في الأرض والعمل الصالح هو بناء الحضارة التي يصنعها ويصيغها الفكر إن التفكر والتدبر كما هو معروف لدى الجميع، عبادة مفروضة على المؤمنين لما للتفكر من دور حيوي وجوهري في صنع الحضارة والحياة.
ثالثا: كيف تخدم النخب الوطنية الجزائر؟ وما السبيل للخروج من حالة الوهن والتخلف الاقتصادي؟
أ/ النخب أو النخبة: في عالم يشهد تكنولوجيا عالية وتطور علمي غير مسبوق، حيث تتسارع التقنيات لاكتساح حياتنا والهيمنة عليها، في عصر النمطية والتسارعية والتقنية يبقى دائما دور الإنسان ضروريا وحيويا، ولكن أي إنسان؟ إنسان يتمتع بمميزات وخصائص روحية معرفية ومادية تمكنه من التحكم في مختلف المجالات والسيطرة على حاضره ومستقبله متصلا بماضيه، هذا الإنسان الذي يتأثر ويؤثر، يتفاعل ويغير أو يسعى إلى التغيير، هو ما يطلق عليه النخبة.
والنخبة بطبيعة الحال أقلية في االمجتمع متميزة بجملة من السمات والخصائص والقدرات، تؤهلها. أن تكون صفوة المجتمع، التي يفترض فيها قيادة الأمة وفق ثقافة وهوية ومبدأ وغاية محددة(15) إن الوطني الغيور على وطنه هو من يضحي ويقوم بواجب تحرير الوطن من كل هيمنة أو تبعية أجنبية، وإخراجه من الجهل والفقر والتخلف، ومن كل ما يحول دون تقدمه ونهوضه.
إن من يخدم الجزائر بنية وإخلاص ويعمل من أجل تطورها ورفعتها واستقرارها، إنما يخدم بذلك الدين والحق، ومن سلك هذا المسار بفكره وعلمه وعمله، عد من أخلص الأتقياء وأوفى الأوفياء وأصدق الوطنيين، لأنه سخر أجهاده وإمكاناته ومؤهلاته العلمية والفكرية في خدمة أمته ورخائها، وبذلك يكون قد أتم تلك الرسالة النبيلة التي بدأها شيخنا الكبير بن باديس في ظروف جد عصيبة، وفي انعدام أبسط وأدنى الشروط مثل الافتقاد إلى الوسائل المادية والهياكل والمخابر البحثية..والإنترنت.. وغيرها.
وعلى النقيض من ذلك نصادف فئة قليلة من المتنكرين لهذا الوطن الغالي وخاصة من يوصف منهم بالنخب، أو ما يعرف بالنخب المدمرة...؛ فلو تساءلنا عن حالة وأوضاع الجزائر.. عن أسباب التخلف والنكسة وخيبة الأمل والتبعية وتدهور الاقتصاد وتفشي المشكلات الاجتماعية...؛ فالجواب دون تردد إنها: النخبة المدمرة... النخبة التي تعد سفير وضمير الأمة، من ساسة ومثقفين وإعلاميين واقتصاديين هي أساس البلاء والشقاء، فما الذي أنجبته طليعة اليوم ونخبة اليأس والعقم والوهن والتخاذل؟
إن النخبة البناءة التي ينبغي أن تكون قاطرة النهضة والإصلاح، وطليعة التنوير والانفتاح، والعقل الرشيد القادر على تشخيص الداء ووصف الدواء، دخلت في عطلة الامتناع عن العطاء والجنوح إلى مظاهر الكسل والتهاون ومنه إلى غرفة الإنعاش... نخبة بلا ضمير، تعتبر بلا شك حملا ثقيلا على موازنة الدولة دون إنتاج.. دون إضافة.. دون رصيد في غالبية المجالات، عدا الرصيد البنكي الخاص والمكاسب الشخصية.
هذه النخبة (المدمرة) التي استسلمت لترواتها وانتشرت وانقسمت في الصعيد تجمع الريع وتتسابق الكراسي والمناصب، وتصادر مستقبل الأجيال، عوض السعي إلى النهوض بالأمة بالبناء وبالإصدارات الفكرية والإسهام في الفكر العالمي والاندماج في مؤسسات أو برامج الإصلاح السياسي والتطوير الاقتصادي وإحقاق العدالة الاجتماعية.
ب/ ما السبيل للخروج من حالة الوهن والتخلف؟
التخلف ظاهرة عارضة، وليست داءا مزمنا ولا حكما أبديا، ولا قدرا محتوما وإنهاؤها واستئصالها مسؤولية يقع كاهلها على كل أفراد المجتمع، إذا ما تشدقوا وتطلعوا بصدق وعزم إلى تحقيق النهضة، حينها لن يكون الأمر مستحيلا، وهذا يتطلب ابتداء نظرة ثاقبة وقراءة فاحصة لمفردات ومكونات الواقع الاجتماعي للبلد، لتشخيص الأمراض والعاهات التي أعاقته عن الخروج من أزماته الراهنة ومنه اختيار وتبني المنهج وتصميم الحلول.
ج/ ما هي أهم آليات النهوض التنموي في الجزائر؟
لاشك أن التحدي الكبير الذي يواجه الجزائر اليوم كأنموذج للدول العربية والنامية، هو الخروج من حالة الوهن الذي أصابها والفكاك من ربقة التخلف الذي أحاط بها، ومحاولة اللحاق بركب العالم المتقدم.
إلا أن هذا الهدف يبقى ضربا من ضروب الخيال وهدفا صعب المنال ما لم يعتمد على أفكار النخب، في وضع وتبني مشروع تنموي نهضوي شامل كامل ومتكامل، مدعم ومؤيد برؤية متبصرة لأهداف ومرامي هذه النهضة المنشودة. ذلك أن النهضة تقتضي ابتداء توافر إستراتيجية ثقافية شاملة، تتضافر في صنعها أطراف عديدة وأبعاد متعددة، لبلوغ وتحقيق التنمية الشاملة.
إن النهضة مشروع تنموي يعكس واقع المجتمع ورؤيته لطبيعة اليوم والغد لذلك ينبغي أن تكرس كل الاهتمامات وتشحذ كل الهمم وتحشد كل الطاقات، لتهيئة الأرضية والأجواء وتوفير الظروف المواتية لقيام نهضة تنموية متوازنة وشاملة لجميع مناح الحياة، نهضة وطنية ذاتية مراعية للثوابت وللمتغيرات، وتستغل بعقلانية وأمثلية ما تحوزه من إمكانات ومقومات، وأن تكون قادرة على إثبات الذات في المعركة العالمية المدججة بتحديات العولمة، التي تسعى جاهدة وبكل الوسائل والسبل، قصد التمكين لمشروع عالمي أو كوني، وإخضاع البشرية تحت لوائه ورايته.
ومن هنا بات الرهان على دعم الطاقات الوطنية بمختلف تخصصاتها وبث روح الفاعلية والإيجابية فيها وشحنها وتقويتها والتركيز عليها أكثر من ضروري لتكون جدار الصد والتصدي لإفرازات الزمن المعولم.
وعليه ينبغي علينا كنخب (جامعيين أكاديميين) أن نعيد بعث الأمل المفقود في نفوس شبابنا عامة وطلابنا خاصة، ونرمم جدارن الثقة في إمكاناتهم وتحسسهم بدورهم الطلائعي والريادي وأهمية مساهمتهم في بناء وتصميم وتنفيذ المشروعات التنموية وبذلك نتجه بخطى واثقة نحو التخلص التدريجي من ظاهرة السلبية واللامبالاة التي تخيم على الأذهان وتسيطر على العقول.
أما عن أهم آليات ومرتكزات النهوض التنموي في الجزائر فهي:
-1إصلاح التعليم وإعادة بناء الإنسان: يمثل التعليم القاعدة الأساسية والإطار الذي يسهم في تطوير قدرات المجتمع العقلية والفكرية، ويهيئ الإنسان للنهوض بأعباء التنمية، والاستخدام العقلاني والأمثل للموارد المتاحة في تنفيذ البرامج والمخططات التنموية، "وعلى هذا فإن مشروع التعليم والتثقيف الاجتماعي، هو صميم العمليات الإنتاجية، لأنها تتجه نحو بناء . الإنسان الذي يعد المورد الذي لا ينضب والرأسمال الحقيقي لأي مجتمع" (16)
إن الهدف الرئيس من مساعي وبرامج التنمية هو الإنسان، فهو محور التنمية ومقصدها، وعليه فإن التعليم والتدريب من الوسائل الفعالة، التي لا غنى عنها لتحقيق أهداف التنمية، ويكون الإنسان قادرا على استيعاب إنجازاتها (17)
إن مسيرة النهوض التنموي تحتاج إلى إنسان واع متعلم، ذو قدرات ومعارف، لأن المؤهلات والقدرات العلمية والمهارات التقنية والتكنولوجية أصبحت هي الرهان الذي يحكم التنافس المحتدم بين الدول على مستوى المعمورة، لأن المعرفة باتت تشكل السمة الأبرز للعصر الكوني الراهن، وهي هويته الأساسية ولا يمكن تصوره بمعزل عنها، وذلك لما لها من علاقة عضوية بالتنمية الإنسانية. (18)
-2وعي النخبة وإدراكها بالهدف الحقيقي للنهوض التنموي: إن النهضة سيرورة شاملة ومنظومة متكاملة متداخلة العوامل ومتعددة الأبعاد ولذلك فهي تحتاج إلى فهم وإدراك عميقين لأبعادها وأهدافها ومنطلقاتها، حتى يتم تصميم الخطط وتحديد المعالم استنادا إلى تصور واضح في الأذهان، خاصة على مستوى الساسة والفاعلين في السلطة والقائمين على تخطيط شؤونها، الذين يهيئون أرضية مشروع النهضة، ويروجون لأهمية المشاركة الشعبية في صنعها وتحقيقها.
غير أن تحقيق النهضة يبقى صعب المنال ما لم ترتكز وتستند إلى بنية تحتية اقتصادية وبشرية ومعرفية تحتضن فكر النهضة وترسخه بالفعل لا بالقول، وتثبت بنيان النهضة من خلال تأسيس وإدارة وقيادة مؤسسات اقتصادية وتربوية وتنموية واجتماعية راسخة يكون لها أثر كبير في حياة المجتمع، وفي المساهمة بإحداث التغيير المنشود والتنمية المستدامة المأمولة(19)
إن المجتمع لا يمكنه تحقيق التطور والنمو في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، دون إعداد وتهيئة للإطارات البشرية الكفأة والمؤهلة، والاعتماد عليها في تنفيذ ومتابعة ومراقبة الدورة الإنتاجية في الوطن.
-3 تعزيز القيم والاتجاهات التنموية: إن النهوض بالمجتمع مسئولية يتقاسمها جميع الفاعلين في المجتمع، والبداية تكون بغرس القيم والتوجهات المنشودة في أذهان النشء والطلاب، من خلال المناهج التربوية والمقررات والتخصصات الجامعية، وعلى الأخص حب العمل واحترامه، وتقدير قيمة الوقت وتقديسه، لضمان تلازم العلم والعمل وارتباط التكوين بأهداف وتطلعات البلد (متطلبات سوق العمل في ظل اقتصاد السوق).
كما لا يجب أن يغفل قطاع الإعلام- بمختلف آلياته ووسائله- عن دوره الضروري والمؤثر في تعزيز وترسيخ هذه القيم الإيجابية وتنمية الاتجاهات النهضوية، من خلال نشر ثقافة الوعي النهضوي والتنموي، وتحسيس المواطنين بالمتغيرات والمستجدات العالمية المتسارعة وبالتحديات والأخطار المحدقة بالمجتمع.
د/ دور النخب في المجتمع: ينبغي على النخب المثقفة والواعية والجادة والمتعلقة بالوطنية والمتبوئة لمراكز إستراتيجية وحساسة أن تؤدي دورا فاعلا في المجتمع ورسم خارطة طريقه عبر المساهمة في بناء المشهد الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي.
وباعتبار النخب ضمير المجتمع الحي واليقظ، فإنها تتصدر الواجهة ويلتصق دورها في نشر الوعي بالرهانات والتحديات، التي تعترض هذا المجتمع ووضع التصورات لمواجهتها والمساهمة الفعالة في الرقي بهذا المجتمع ثقافيا وفكريا واقتصاديا وسياسيا.
وعليه فإن أي مجتمع بلا نخبة هو مجتمع جاهل، تائه ومتخلف حضاريا وفكريا ولا يمكن له أبدا وإطلاقا أن يتطور أو أن ينهض أو أن يكون منتجا ومبدعا لحضارة إنسانية عميقة تصمد وتعمر طويلا.
فالحضارة لا يبنيها الساسة لوحدهم بل يشيدها العلماء والمثقفون والأساتذة والأدباء والاقتصاديون والصحفيون وغيرهم... من خلال الإبداع الفكري والتفوق العلمي الذي يساهم في تشكيل ملامح هذا المجتمع داخليا وخارجيا.
ومن دون توفر كل الظروف الملائمة لعمل هذه النخب من حرية وديمقراطية وإمكانيات واستقرار اجتماعي وسياسي، فإنها تصبح عاجزة عن القيام بالدور المنوط بها.
إنه لا يمكن تصور مجتمع دون نخب تقوده وتأخذ بيده إلى بر الأمان على مستوى كافة الأصعدة، ولا يمكن إقصاؤها أو تهميشها وتغييب دورها في المشهد الحياتي للأمة ومصيرها، لأن تقييم ثقلها لا يقارن بوزن باقي شرائح المجتمع.
وعليه ينبغي أن تعامل النخب معاملة راقية وان تحظى بعناية خاصة وأن تعطى كل الامتيازات، والأولويات في اتخاذ القرارات والخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ويتعين على النخب أو الصفوة أن تكون في مستوى تطلعات الجماهير وفي خدمة الصالح العام والتقيد بالقيم والمبادئ الأصيلة للمجتمع والمحافظة على وحدتها والعمل الجاد والدؤوب على اكتساب سلوكيات وتطورات وتصرفات مسنودة إلى أفكار وقناعات إيجابية للنهوض بالأمة، وأن تكون دائما في مسيرة البحث العلمي المتواصل لبناء أفكار مستقبلية وإثراء الرصيد المعرفي والفكري حتى يمكن تحقيق المعادلة التاريخية (الناتج الحضاري) لمالك بن نبي: إنسان +تراب + زمن= نهضة.
ولعل خير ما نختم به هذه المداخلة قول ابن باديس:"أتمنى لإخواننا في كل ناحية أن يشتغلوا بما يهم وينفع، ويعلي ويرفع، ويعرضوا عن سفاسف الأمور، وبسائط المسائل؛ فدينهم دين العلم والمدنية، لا دين الجمود والهمجية وعصرهم عصر جد وفصل، لا عصر لعب وهزل، والمتخلف عن القافلة هو- بلا شك- عرضة للأتعاب وطعمة للذئاب".
الخاتمة:
إن عظمة الأمم تقاس بمدى ما حققته نخبها من إنجازات ملموسة على أرض الواقع وليس بالخطابات وبالشعارات وأدبيات التنظير المختلفة.
وتعد الجزائر بحق متفردة في هذا الشأن بين نظيراتها من الدول الحديثة، فقد قيض الله سبحانه وتعالى لها رجالا أكفاء مخلصين من أبنائها، أَنجز على أيديهم ما نلمسه ونعيشه وننعم به من استقرار ورخاء وسكينة وأمان ونهضة تنموية - وإن كانت متعثرة نوعا ما- في مناحي حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والفكرية.إلا أن مساعي التغيير الاجتماعي والنهوض بالأمة يحتاج راهنا إلى إعادة البوصلة إلى الدعوات التنموية والثقافية الصادقة والهادفة إلى إحداث النقلة المأمولة والارتقاء المنشود.
إن للجزائر قدرة بشرية شبانية هائلة وإطارات وباحثين وعلماء وإمكانات مادية وموارد اقتصادية ضخمة، تمثل رصيدا مهما وثقيلا لبناء النهضة والتقدم ولكن تم تعريض تلك القدرات للتجريف، إما لفشل الدولة في تبني سياسات تدمج عنصر الشباب داخل منظومة التنمية، أو بوجود سياسات صماء..عقيمة، عملت على تآكل الكفاءات والإبداع وترهل منظومة البحث العلمي، وهجرة العقول، مما أحدث نزيفا متواصلا لموارد حيوية تضعف من فرص النهضة والتنمية.
ومن هنا تبدو أهمية توظيف القيم المادية والمعنوية لتعزيز الدور الإيجابي للنخبة في نهضة الوطن، وإحداث عدد من المتغيرات والفرص لتنامي تأثيرهم وأدائهم بتفاعل وايجابية لصناعة مستقبل الجزائر.
النتائج: توصل البحث إلى النتائج التالية:
-1 إن الإنسان أفضل مخلوقات الله تعالى على الإطلاق، وكان فضل النخب في عقلها.لذا يجب أن يكون التفكير أساس حياة كل عالم وباحث وأكاديمي وسياسي... بأن يكون مفكرا عاقلا.
-2 بإمكان النخب أن تنهض بما لديها من فكر مستنير عن الوجود، وتؤثر في رقي ورفاهة مجتمعاتها وفق ما تمتلكه من مفاهيم عن الأمور وتصور للأحداث وقراءة للمستجدات.
-3 إن المجتمع بلا نخبة هو مجتمع جاهل، تائه ومتخلف حضاريا وفكريا ولا يمكن له أبدا وإطلاقا أن يتطور أو أن ينهض أو أن يكون منتجا ومبدعا لحضارة إنسانية عميقة تصمد وتعمر طويلا.
كما تبين من خلال دراسة مشروع النهضة الباديسي، أنه حقق جملة من الأهداف منها:
-1 المساهمة في إخراج الجزائر من وهدة التخلف الحضاري والجمود الفكري.
-2 المحافظة على مقومات الشخصية الإسلامية والوطنية للشعب الجزائري من خطر المخططات الفرنسية التي سعت إلى تذويبها وطمسها وتغريبها وإفراغها من محتواها.
-3 تهيئة الشعب الجزائري لاسترجاع سيادته الوطنية السليبة كاملة وغير منقوصة.
-4 العمل على إحياء الأمة الجزائرية وإعادة بعثها إلى الوجود، لتحيا حياة حرة وكريمة.
الهوامش:
1 -عمار طالبي، الإمام عبد الحميد ابن باديس: حياته وآثاره، ج 3، الشركة الجزائرية، الجزائر: ط3، 1997 ص 236
2-عمار طالبي، (تحقيق) عبد الحميد بن باديس، مبادئ الأصول، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر:ج3، 1980، ص 406
3 - محمد خير الدين، مذكرات الشيخ محمد خير الدين، مطبعة دحلب، الجزائر: ج3، 1985، ص 103
4 -عبد الرشيد زروقة، جهاد ابن باديس ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر (1913-1940)، ط 1، دار الشهاب، بيروت: 1999 .ص 114 – 4
5- محمد طهاري، الحركة الإصلاحية في الفكر الإسلامي المعاصر، دار الأمة، ط 1،1999 .ص: 21
6- عبد القادر فضيل، محمد الصالح رمضان، إمام الجزائر، دار الأمة، د.ت، د.ط،ص: 56
7- نواف القديمي، مسارات الإسلاميين نحو النهضة www.islamtoday.net/files/Nahdah
8- علي الدين هلالي، الفكر الاجتماعي وقضية التنمية، مجلة الدوحة، العدد 114 ،وزارة الإعلام، دولة قطر، جوان 1985 ، ص: 27
9- ميلاد سبعلي، آليات النهضة في زمن العولمة.
http://www.ssnp.info/thenews/daily/makalat/milad%sebaaly/Milad- /.ht
10- سورة عبس، الآيتان 24-27
-11 سورة ق، الآية: 6
-12أحمد حمدي حسن حافظ، أهمية الفكر للإنسان www.islamonline.com
-13علاء الحسون، تنمیة الوعي ، دار الغدیر للطباعة والنشر، سوریا: 2003 .ص:. 98
-14المرجع السابق، ص:. 99
15- بيزيد يوسف، دور النخبة في ظل التحديات الراهنة www.baizid.youcef.fr.gd
-16محمد محفوظ، العولمة الحديثة والوحدة الوطنية، مجلة الكلمة، س 3، ع 13 ، منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث، بيروت: 1996 .ص: 64
-17عبد الحميد أحمد رشوان، التربية واتمع، المكتب العربي الحديث، الإسكندرية: القاهرة: 2002 .ص: 60
-18عبد اللطيف الحمد، المعرفة كضرورة للتنمية، مجلة العربي، ع 545 ، وزارة الإعلام، الكويت، أفريل 2004 ص:. 100
-19ميلاد سبغلي، مرجع سابق، ص:26
د. رشيد درغال: أستاذ محاضر في التاريخ الحديث والمعاصر- شعبة التاريخ- جامعة الحاج لخضر- باتنة. –
المصدر: عصور الجديد العدد10 صيف (جويلية) 1434 هـ- 2013 م
بقلم: ناصر حمدادوش - يؤكد “مالك بن نبي” في كتابه “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”…
بقلم: محمد الهادي الحسني - منذ عشر حِجَجٍ، وفي يوم 14-12- من سنة 2013 جاء…
بقلم: د. علي الصلابي- كانت نفسية ابن باديس وأشواقه الروحية تواقة إلى التضحية في سبيل…
بقلم: د. علي الصلابي- استعمل عبد الحميد بن باديس في العديد من مواضيع شعره ونثره،…
بقلم: د. توفيق جعمات- لم تكن مدارس جمعية العلماء المسلمين مجرد فصول تعليمية أو كتاتيب…
بقلم: عبد الحميد عبدوس- تعرفت على الكاتب المفكر والطبيب المجاهد الدكتور السعيد شيبان في سنة…