بقلم: العطري بن عزوز-
من معاني وأهداف التجديد في الفكر الإسلامي، الرجوع بالدِّين الإسلامي إلى سابق عهده نصا وفهما والتزاما وتبليغا ، من أجل تحقيق مراد الله تعالى ورسوله، وفق نموذج تطبيقي عرفته الأمة الإسلامية، وهو أنموذج الرعيل الأول من الصحابة بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه في قوله: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)(1)
وما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم حدث فعلا، حيث دخل الدين كثير من الاختلاف المذموم الذي فرق الأمة شيعا وأحزابا ومذاهب، وعلَق بالعقيدة الإسلامية كثير من البدع والخرافات والأساطير الوافدة من الهند واليونان والفرس والرومان، أثرت تأثيرا بالغا في صفاء ونقاء العقيدة الإسلامية، مما استدعى الأمر إعادة النظر والتجديد، في صياغة العقيدة من جديد، وفق المنهج الذي رسمه صاحب الرسالة، ونبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم بما يخدم أهداف العقيدة الإيمانية، ومقاصد القرآن ال كريم والسنة النبوية، والبعد العقدي له الدور الفعّال في صياغة الإنسان الحضاري، الذي يحل مشاكل أمته، ويقف عند مواطن الفساد، ويضع الحلول المناسبة، ويتحدى المصاعب.
فالأمة الإسلامية دائما في أمس الحاجة إلى مجددين ومصلحين، في كل زمان ومكان يجددون الدين والعقيدة، تجديدا يخص مواطن الانحراف والفساد والضلال، وإحياء منهج خاتم الأنبياء في الدعوة إلى الإيمان بالمفهوم القرآني، ووضع منهجية جديدة تساير العصر الحديث، دون المساس بالثوابت القطعية التي أقرها القرآن والسنة وإجماع الأمة.
ومما ثبت في الأثر أن الإيمان يبلى ويضعف في قلب المرء من أثر الشبهات والشهوات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم "إنَ اللهّ يبَعَثُ لهذَهِ الأُّمَة علَى رَأسِ كُلِ مَائةَ سَنةَ مَنْ يُجدَدَ لهاَ دِينَهاَ"(2)
وأمام هذه التحولات الخطيرة التي عرفتها الأمة الإسلامية، شَّمّر عددٌ من رجال الإصلاح عن سواعد الجدِّ والتجديد، وخاضوا معارك فكرية ضارية، كل حسب رؤيته ومرجعيته الخاصة به، والبيئة التي يعيش فيها، وطبيعة الفساد المؤثر في مجتمعه، إنها معارك الإصلاح والتجديد، وإنهاض الأمة بسواعد أبنائها وجهودهم المخلصة، ولعل أهم محور استقطب جهود مفكري الإصلاح في تلك المرحلة التاريخية كان محور إصلاح فهم العقيدة الإسلامية على اعتبار أنَّ هذا الإصلاح هو المدخل الضروري لإصلاح التفكير الإسلامي عموما . وعلى إثره تبدأ عمليات إصلاح الواقع في المجتمعات الإسلامية.
وما قام به المصلح والمجدد العلامة عبد الحميد بن باديس، من إصلاح وعطاء متجدد في ربوع الجزائر، يدخل في معنى الحديث السابق، حيث تعرضت الجزائر المسلمة لهجمة شرسة من قبل أكبر عدو للإسلام والمسلمين، قاد الحملات الصليبية في القديم والحديث، وكان هدفه طمس الهوية الجزائرية وسلخها من انتمائها العربي والإسلامي، وزرع الفتنة بين العرب والأمازيغ.
لمحة عن حياة ابن باديس وفكره:
يعتبر عبد الحميد بن باديس، من رواد النهضة العربية الإسلامية، ومن أبرز النجوم اللامعة في المغربي العربي، وبعض الباحثين الغربيين يجعله أقوى شخصية في العالم الإسلامي في الفترة التي ظهر فيها(3)، ولعل ذلك راجع لبراعته في التأثير في كامل المجتمع الجزائري.
ولد عبد الحميد بن باديس بتاريخ1889 ، بمدينة قسنطينة، التي كانت ذات شهرة علمية تعليمية تضاهي شهرة تونس والقاهرة.. وما ذكرت قسنطينة إلا وذكر مؤسس جمعية العلماء الجزائريين، الشيخ بن باديس، وأقرانه الذين قادوا كتائب الجهاد وتقدموا قوافل الشهداء، انتقل إلى تونس، ودرس بجامع الزيتونة حيث أخذ العلم عن علمائه ومن أبرزهم محمد الطاهر بن عاشور، ثم إلى الحجاز وعاد إلى الجزائر، تأثر ابن باديس بشيخه حمدان الونيسي الذي أوصاه بقوله: )اقرأ العلم للعلم لا للوظيفة( بدأ ابن باديس يرسم لنفسه خطة إصلاحية، بلورها من خلال زياراته لبعض البلدان وتأثره بعلماء عصره، ثم تفاعله مع المجتمع الجزائري ومتطلباته، والأحداث التي عاينها، حيث اهتدى إلى موطن الداء والدواء بقوله: (...رأينا كما يرى كل مبصر، ما نحن عليه معشر المسلمين من انحطاط في الخلق، وفساد في العقيدة، وجمود في الفكر، وقعود عن العمل، وانحلال في الوحدة، وتعاكس في الوجهة، وافتراق في السير، حتى خارت النفوس القوية وفترت العزائم المتقدة، وماتت الهمم الوثابة ودفنت الآمال في صدور الرجال، واستولى القنوط القاتل، والبأس المميت)(4) .
فعبد الحميد بن باديس مفسر للقرآن تفسيرا سلفيا براعي فيه مقتضيات العصر، معتمدا على بيان القرآن للقرآن، وبيان السنة له، وأصول اللغة، وتطور التاريخ، وهو محدث لا يستشهد إلا بالأحاديث الصحيحة المسندة للبخاري ومسلم والموطأ الذي اهتم به واعتبره منهجه في الاستدلال، وأسلوبه سهل يفهمه كل المخاطبين، يستولى على النفوس ويملك العقول، وهو مصلح ديني واجتماعي يحارب التقليد والبدع، ويدعو إلى النهضة والحضارة، ويغرس الأخلاق التي هي جوهر المدنية، وهو صحفي يقضي ليله في إعداد المقالات وقراءة الجرائد والمجلات العربية الجزائرية والأجنبية، ويعلق عليها، وهو مؤرخ يحلل الحضارة، وينقد مقدمة ابن خلدون، وهو صوفي زاهد لا كمتصوفة أهل زمانه، متأثرا بالغزالي، وابن العربي، ونجد ذلك في كتابه "العقائد الإسلامية" الذي لم يسلك فيه مسلك الفلاسفة ولا منهج المتكلمين، وإنما نهج طريق القرآن في الاستدلال، وأساليبه في الرد والحجاج، ذلك المنهج الذي يتلاءم مع الفطرة الإنسانية فتستجيب له وتطمئن إليه، ويرى أن الظواهر الاجتماعية تخضع لمبدأ الأسباب والمسببات(5).
معظم آثار ابن باديس نشرت في الصحافة، سواء في الصحف الوطنية أو بصحافته المستقلة، وأبرزها مجلة الشهاب وجريدة البصائر، التي كرس افتتاحيتها لنشر مختارات من دروسه التفسيرية والحديثية تحت عنوان "مجالس التذكير "وقد صدر له بعض الرسائل مثل "العقائد الإسلامية" و"مبادئ الأصول"، توفي رحمه الله 16 أبريل 1940.
منهجية الخطاب الباديسي في الدرس الإصلاحي:
كانت منهجية ابن باديس هي التركيز على الأفكار الصحيحة، ولو كانت قليلة والابتعاد عن المسائل الخلافية، كما ذكر الإبراهيمي بقوله: (كانت الطريقة التي اتفقنا عليها سنة 1913 في تربية النشء هي ألا نتوسع له في العلم، وإنما نربيه على فكرة صحيحة)، وينتقد ابن باديس مناهج التعليم التي كانت سائدة بقوله: (واقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية، مجردة بلا نظر، جافة بلا حكمة، وراء أسوار من الألفاظ المختصرة، تفني الأعمار قبل الوصول إليها)(6).
وقد تميز خطابه بالبساطة والسهولة، ليكون أنفع وأسرع إلى الأذهان، وأبعد عن الملل والسآمة، وتناول خطاب بن باديس جوانب مختلفة، كالجانب الاعتقادي، والجانب التعبدي، والجانب الاجتماعي، والجانب التعليمي...مع شمولية في الخطاب لمختلف فئات المخاطبين رجالا ونساء ، صغارا وكبرا ، وهو خطاب عملي، حيث كان ابن باديس في الوقت الذي يقدم فيه الدروس التعليمية، يطبقها بيده ويدعو إلى التطبيق الميداني، وكان قدوته في ذلك النبي الذي يقول: (إن الله لم يبعثني معنتا ولا ومتعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا)(7).
فكان خطابه يحمل عدة خصائص في الوقت نفسه، يتميز بالانفتاح والتجديد ويجافي الجمود والانغلاق، ويحافظ على الهو ية العربية الإسلامية، وهذا ما جعل البشير الإبراهيمي يتأثر بشخصية ابن باديس حينما زاره بقسنطينة ورأى بعينه النتائج التي حصل عليها أبناء الشعب الجزائري في بضع سنوات من تعليم بن باديس، واعتقد من ذلك اليوم أن هذه الحركة العلمية المباركة لها مستقبل مؤثر في المجتمع الجزائري، وقد تأثر كل منهما بالحركة الإصلاحية في المشرق التي كانت تدعو إلى إصلاح عقلاني، يوفق بين الإسلام والعالم الحديث.
وخطاب بن باديس العقدي، كان واضحا جليا من تفسيره للقرآن الكريم، وكان يرى أن تدوين التفسير بالكتابة مشغلة عن العمل المقدم، لذلك آثر البدء بتفسيره درسا يخاطب من خلاله الجماهير، لكي يعجل بالتغيير والإصلاح، كمن يعجل بالدواء للمريض بمحاولة إحياء القلوب اليائسة والحائرة، وبعث فيهم روح الإيمان الصحيح المولد للطاقة الجهادية ضد المستعمر، وتطهير تلك العقيدة الإسلامية مما علق بها من الشرك والأوهام والأباطيل التي شوهتها، وجعلت الدين كما لو كان مضادا للعقل، ولهذا فقد حارب الطرقية المنحرفة، وأنشأ مجلة " المنتقد" فكانت نارا موقدة عليهم، ونورا يهتدى به.
وكان ابن باديس يدعو من خلال خطبه في المساجد والنوادي، ومقالاته التي ينشرها في الصحف والمجلات، إلى إصلاح العقائد الإسلامية، وشرح المصطلحات، وحل القضايا على نمط سلفي واضح، بصريح نص الكتاب والسنة الصحيحة، لا برأي الجبرية والقدرية وغير ذلك من الآراء الفلسفية.
ويعرفنا صاحبه في درب الإصلاح البشير الإبراهيمي، بمنهجه الإصلاحي، وخاصة في جانبه الاعتقادي بقوله: والإمام رضي الله عنه كان منذ طلبه للعلم بتونس قبل ذلك وهو في مقتبل الشباب ينكر بذوقه ما كان يبنى عليه مشايخه من تربية تلامذتهم على طريقة المتكلمين في العقائد الإسلامية، ويتمنى أن يخرج تلامذته على الطريقة القرآنية السلفية في العقائد يوم يصبح معلما، وقد بلغه الله أمنيته: فأخرج للأمة الجزائرية أجيالا على هذه الطريقة السلفية، قاموا بحمل الأمانة من بعده، ووراءهم اجيالا أخرى من العوام الذين سعدوا بحضور دروسه ومجالسه العلمية، وقد تربت هذه الأجيال على القرآن، فهجرت ضلال العقائد وبدع العبادات)(8).
ويذكر لنا تلميذه المخلص محمد الصالح رمضان منهجه الإصلاحي في خطابه العقدي بقوله: )فخير طريقة في تعليم العقائد في التوحيد هي طريقة الشارع الحكيم المبنية على مراعاة الفطر الإنسانية السليمة، البعيدة عن الأوضاع والتقنينات البشرية التي تعَب الأوائل في وضعها وأتعبوا الناس في فهمها، وعلى هذا سار الإمام ابن باديس الذي وضع العقائد على أسس من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة، ولو تفرغ بن باديس للتأليف لجاءنا منه الشيء الكثير...(9)
ويلاحظ المستشرق الفرنسي ماسينيون على الاتجاه الفكري في المغرب الإسلامي أنه مصطبغ بالصبغة العملية وأن الناحية العقيدية محتفظة بصلابتها الموروثة عن صدر الإسلام(10) أسس النهضة والحضارة عند ابن باديس يرى ابن باديس أن المنطلق الأساسي للتقدم والنهضة والحضارة هو الجانب العقدي، ويفهم ذلك جليا من خلال تفسيره لقوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» الأعراف: 96
فالإيمان والتقوى هما العلاج الوحيد لنا من حالتنا لأننا إذا التزمنا بهما نكون قد اقلعنا عن أسباب العذاب، ولا ننهض بهذا العلاج العظيم إلا إذا قمنا متعاونين أفرادا وجماعات، فجعل كل واحد ذلك نصب عينيه، وبدأ به في نفسه، ثم فيمن يليه من عشيرته وقومه، ثم جميع أهل ملته، ولنبدأ من الإيمان بتطهير عقائدنا من الشرك، وأخلاقنا من الفساد، وأعمالنا من المخالفات، ولنستشعر اخوة الإيمان التي تجعلنا كجسد واحد ولنشرع في ذلك غير محتقرين لأنفسنا ولا قانطين من رحمة ربنا، وليكن دليلنا في ذلك وإمامنا كتاب ربنا، وسنة نبينا، وسيرة صالح سلفنا، ففي ذلك كله ما يعرفنا بالحق، ويبصرنا بالعلم، ويفقهنا في الدين، ويهدينا إلى الآخذ بأسباب القوة والعز والسيادة العادلة في الدنيا، ونيل السعادة ال كبرى في الأخرى، وليس هذا عن العاملين ببعيد، وما هو على الله بعزيز(11).
فقد بين من خلال تفسيره للآية السابقة أن تطور المجتمع والوصول به إلى مستوى الحضارة الإنسانية يمر عبر مراحل وأسس يجب أن تتحقق وهي:
- تحقيق ثنائية الإيمان والتقوى، وذلك لتجنب أسباب الانهيار الاقتصادي والتخلف الحضاري، والتي سماها بـ" العذاب".
- التعاون الشامل أفرادا وجماعات أثناء تحقيق عملية الإصلاح، والتي تبدأ بالفرد وتنتهي بالجماعة لقوله تعالى: »إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ« الرعد: 11.
- تطهير العقيدة من كل ما علق بها من الشركيات للأخذ بأسباب الفوز في الدارين.
- التحلي بالأخلاق الفاضلة، والشعور بالمسؤولية واتقان العمل.
-1 تحقيق معاني الأخوة الإسلامية لقوله تعالى: »إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ« الحجرات: 10
2 - التفاؤل وعدم اليأس والقنوط بتأخر النتائج، قال تعالى: »يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ« يوسف: 87
- المرجعية الأساسية في كل أمر القرآن الكريم والسنة الشريفة.
فالإصلاح الشامل عند ابن باديس يبدأ بتصحيح العقيدة وتقو ية الإيمان والصدق مع الله تعالى، واستحضار رقابته في كل زمان ومكان، لإيمانه بأن هذا البعد الروحي هو حجر الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه بقية هياكل البناء الحضاري للأمة، وذلك لما لهذا الجانب من أهمية بالغة -ايجابا وسلبا- على قدرات الأمة المعنو ية والمادية، وانعكاسات ذلك على مختلف مناحي حياتها في هذه الدار وفي الدار الآخرة، وهذا التصور الذي آمن به هو الذي جسده واقعا في حياته الاصلاحية، من خلال ما قام به من مجهودات وأعمال وما صدر عنه من مواقف، وسجلها في ميدانه الدعوي، وغيره من ميادين جهاده ونضالات مشروعه منذ المراحل الأولى التي شهدت بوادر الحوار والمناظرة بينه وبين بعض المبتدعين في الدين، وعلى امتداد أكثر من ربع قرن من الزمن.
أهمية الخطاب العقدي في حياة ابن باديس الإصلاحية:
والخطاب العقدي يرسخ العقيدة الإسلامية في النفوس، ويعتبر الإيمان هو المحرك الفاعل في تكوين الذات وبلورة الشخصية التي تنطلق لتحقيق أهداف العملية التربوية والتعلمية برمتها، ويتحول المسلم إلى عنصر إيجابي في مجتمعه، ينهض في بناء حضارة أمته.
وما يميز الخطاب العقدي عن غيره، كونه خطاب يعتمد على الحجة والبرهان والأدلة النقلية والعقلية، فهو يجمع بين المعرفة العقلية والمعرفة الوجدانية، كما أنه يزيل التعارض بين الوحي والعقل.
ولذا كان بن باديس يعتبر أن إصلاح فهم العقيدة، هو جوهر كل أنواع الإصلاح، إنه إصلاح فهم المسلمين لعقيدتهم، وربط هذا الفهم بالواقع، من أجل دعوتهم ودفعهم إلى تغييره، وإصلاحه من كافة الوجوه، ومن خلال تفسيره لآيات القرآن ينهج الأسلوب العلمي في استنباط الدروس العقدية.
ومن هنا نستطيع أن نقول: إن هاجس ابن باديس في دراسته قضايا ومسائل العقيدة والتوحيد كان هاجسا إصلاحيًّاّ تغييريًّا، ولم يكن هاجسا معرفيًّاّ محضا ، مثل معظم علماء الكلام، وأهم ما تميز به خطاب ابن باديس في إصلاحه العقدي:
-1 يستفتح خطاباته بالحمد والشكر لله تعالى على نعمة العقيدة الإسلامية والقرآن الكريم، والصلاة والسلام على النبي صاحب الرسالة وأكرم الرسل، يقول في خطبة افتتاح دروس التفسير: (الحمد لله الدي جمل الإنسان بالبيان، وجمل البيان بالقرآن.. وأ شكره هدانا واجتبانا، فرضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن اماما.. وأصلي وأسلم على محمد أشرف خلقه)(12).
-2 لم يلجأ في خطاباته أو كتاباته إلى حشد المصطلحات الكلامية المعروفة في مصنفات علم الكلام، بل اكتفى بالقليل والضروري منها، عونا منه للطالب والقارئ على الوصول إلى معاني كتابه بسهولة، وهذا ما جعل الناس يلتفون من حوله ويقرؤون مقالاته وكتاباته لما لها من فائدة عا مة، ون لاحظ في أسلوبه الاهتمام بالدرجة الأولى بإصلاح فهم الم سلمين لعقيدتهم أكثر من اعتنائه بالقضايا والمسائل العقدية الشائكة والخلافية، بصورة وأسلوب علمي عملي عميق يمن.
3- انتهج ابن باديس منهج السلف في تناول مسائل العقيدة أي المنهج القائم على التسليم بظاهر النصوص الثابتة المتعلقة بالعقيدة، وما يستند للعقل في فهم العقائد وتثبيتها في النفوس من خلال النظر في ال كون، كما يقرر تلميذه المخلص محمد الصالح رمضان في تقديمه لرسالة "العقائد الإسلامية " بقوله: ( ..طبعت العقائد الإسلامية بطريقة سلفية لا لبس فيها ولا غموض، مستمدة كلها من الكتاب والسنة لا غير بخلاف كتب التوحيد والعقائد التي تشعب فيها البحث والنظر واتخذ ألوانا من الفكر الفلسفي المستمد من الثقافات الأجنبية والديانات المختلفة، هذا فضلا عن كتب العقائد للطوائف والفرق الدينية كالشيعة والخوارج والمرجئة.. وأما هذه العقائد قهي مستمدة من كلام الله والثابت الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط لا من كلام فلان أو رأي فلان، وهي الطريقة المثلى في هداية الناس إلى معاني الإسلام والإيمان والإحسان وعقائد الإيمان بالله وملاكته وكتبه ورسله واليوم الأخر والقضاء والقدر)(13).
4- مفهوم التوحيد عند بن باديس، يستلزم تحقيق توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فتوحيد الربوبية هو العلم بأن لا خالق غيره ولا مدبر للكون ولا متصرف فيه سواه، وتوحيد الألوهية وهو العلم بأنه تعالى هو المستحق للعبادة وحده دون سواه، والقصد والتوجه والقيام بالعبادات كلها إليه(14)، وبهما تصلح الأعمال، يقول في تفسير قوله تعالى: » لَّا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا «الإسراء: 22.
5- (التوحيد هو أساس الدين كله، وهو الأصل الذي لا تكون النجاة ولا تتقبل الأعمال إلا به، وما أرسل الله رسولا إلا داعيا إليه ومذكرا بحججه.. فنهى الله الخلق كلهم عن أن يعتقدوا معه شريكا في ألوهيته فيعبدوه معه، ليعتقدوا أنه الاله وحده فيعبدوه وحده، وإن اعتقدوا معه شريكا وعبدوه معه فإن عبادتهم تكون باطلة وعمل هم يكون مردود عليهم..( (15) وابن باديس لم ينظر إلى مفهوم التوحيد كمفهوم مجرّد، ولم يشغل نفسه بالإشكالات المتعلقة بهذا المفهوم، مثل مشكلة تأويل الأسماء والصفات التي انشغل بها معظم علماء الكلام، بل تقصّى آثار هذا المفهوم في حياة الإنسان، وركز جهوده حول تتبع الآثار الفكرية والاجتماعية لهذا المفهوم.
-6 وأما مفهوم الإيمان عنده فهو: )عقد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالجوارح الظاهرة والباطنة، وكل واحد من الثلاثة يسمى إيمانا باعتبار، ويسمى إسلاما باعتبار آخر، فعقد القلب يسمى إيمانا لأنه تصديق، ويسمى إسلاما لأن عقد القلب على الشيء إذعان وخضوع له، ونطق اللسان بالشهادتين يسمى إيمانا لأنه دليل على التصديق، ويسمى إسلاما لأنه دليل على الخضوع والانقياد) (16).
فالإيمان عند بن باديس يتداخل مع مفهوم الإسلام ولا يمكن الفصل بينهما، مستدلا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: )هل تدْرُونَ مَا الِإيماَنُ بِاللَّهِّ عَزَّ وَجَلَّ ؟ " قاَلوُا: اللَّهّ وَرَسُولهُ أَعْلمَ. قاَلَ: )شهَادَةُ أَنْ لا إلهَ إلا اللَّهّ،ُ وَأنَّ محُمَّدا رَسُولُ اللَّهِ، وَإقاَمُ الصَّلاةِ، وَإيتاَء الزَّكَّاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأنْ تعُطِيَ الْخمُسُ مِنْ الْمغَنَم ") (17).
7- أدرك ابن باديس ان أعمال الجوارح لا تستقيم إلا باستقامة القلب، لذلك اهتم بإصلاح العقائد مما علق بها من ادران الشرك ومظاهره، ومثل هذا الانحراف كان منتشرا في ربوع الجزائر، وبتشجيع من المستعمر، حيث انتشرت الطرقية المنحرفة وشيدت القباب، وبنيت عليها المساجد مظهرين فيها أنواعا من الشركيات، مثل تقديم القرابين، والاستغاثة بأصحاب القبور ممن يعتقدون فيهم الصلاح، والطواف والتمسح بها، وأكثر من ذلك انتشار أفكار عقدية خطيرة مثل ما سمي بعقيدة الحلول بفعل المروجين لها من أتباع الطرقية في الجزائر، حيث قال ابن باديس: ]... فليتقدم إلينا الحلوليون وشيخهم ومن لف لفهم، وكثر سوادهم في اليوم الموعود والمكان المعين لهم، وليبادروا بإعلان ذلك في جريتهم إن كانوا صادقين، فإن لم يفعلوا، وأحسب أن لن يفعلوا، فقد حقت عليهم كلمة العذاب،
وكانوا من الظالمين، والحمد لله رب العالمين [ (18) . فابن باديس يستنكر الاعتقاد بوحدة الوجود والاعتقاد بالحلول، لتناقضهما مع عقيدة التوحيد.
خاتمة
الحقيقة أننا مهما كتبنا عن العلامة ابن باديس رحمه الله فإننا لا نوفيه حقه، باعتباره أحد أعلام العصر الحديث بما أوتي من علم وإيمان وأخلاق عالية وحب لدينه ووطنه، فقد كان منهجه الإصلاحي وخطابه العقدي مستمد من القرآن والسنة، وكان له صدى في أوساط المجتمع الجزائري، وساهم مساهمة فعالة في إخراج المستعمر، بمداد العلماء ودماء الشهداء.
والسؤال الذي يطرح نفسه ماذا فعل أحفاد ابن باديس من بعده؟ هل استمروا في حمل مشعل العلم والإيمان لنقل الجزائر من التخلف والحرمان إلى المجد والحضارة والتقدم؟ هل المعاهد والجامعات قامت بالدور الريادي لتطوير المجتمع، ونخص الجامعات الإسلامية بوجه خاص؟ هل استمرت على منهجية بن باديس، أو قامت بتطويرها بمراعاة التطورات العلمية والاجتماعية والاقتصادية الحالية ؟.
الواقع يشير إلى أننا تخلينا عن هذا الدور الذي كرس ابن باديس حياته من أجله، وأمسى تحصيل العلم مطلوب للوظيفة لا للعلم، ولو اطلعنا على المقررات الدراسية، وخاصة مقررات العقيدة نجد انها أكثر صعوبة من مقررات الرياضيات، والفيزياء، وال كيمياء، وأمست العقيدة في حس ال كثيرين تعني التعقيد، بسبب مصطلحاتها الفلسفية، ولم تعد العقيدة تبعث في كثير من الأحيان على الاطمئنان القلبي، والاستقرار الفكري، والتفاعلُ السُّلوكي، بل على الشك والتردُّد الذي عاناه كثير من الفلاسفة والمتكلمِّين قديما، وسجلوا اعترافاتهم بذلك، فمادة العقيدة عبارة عن جدل ونقاش لا يكاد ينتهي، وافتراضات لا يكاد يتصوَّرها عقل، ثم أجوبة واعتراضات، وأجوبة تلك الاعتراضات، واعتراضات تلك الأجوبة وأجوبتها، وهكذا إلى ما لا نهاية.
إذن فنحن بحاجة ماسة إلى تغيير لغة الخطاب العقدي في عصرنا، والاقتداء بمنهج ابن باديس في الإصلاح التربوي والتعليمي، في مدارسنا ومعاهدنا، وما المنهج الباديسي إلا نسخة استمدها من منهج القرآن والسنة، ولذا أثبت نجاحه في واقع الناس، واستطاع بن باديس أن يؤثر في المجتمع الجزائري، وأن يخرج على يديه نخبة من الطلبة ساهموا في نشر العلم والمعرفة في الجزائر، ويمكن أن نعمل على تطويره وتهذيبه بما يتوافق مع التطورات الحديثة في جميع المجالات.
نتائج البحث وتوصيات:
1- ابن باديس جعل العقيدة هي المحور الأساسي في خطابه الإصلاحي الدعوي، من حيث المضمون ومن حيث ال شكل، فقام بصياغة ا لدرس العقدي صياغة على ضوء الكتاب والسنة، ودعا إلى تصحيح اعتقاد الناس الذي دخله كثير من التحريف.
2- الاعتماد على منهج بن باديس في الإصلاح العقدي، والذي استمده من القرآن والسنة، باعتماد لغة القرآن وأسلوبه ومنهجيته في تأسيس الإيمان وفي مخاطبة العقل والوجدان على حد سواء.
3- ربط العقيدة بالواقع، وإعادة صياغة العقيدة لتقوم بدورها في تربية الأمة، وزرع محبة الله -ومحبة لقائه، والشوق لما أعده لأهل طاعته في جنات النعيم، وزرع الخوف منه تعالى ومن عقابه، فقد خلت كتب العقيدة من التعرض لهذه القضايا إلا في سياق مجادلة المنكرين للبعث والرد على شبهاتهم.
4- ربط قضايا السلوك بالمعتقد، على أنها أثر من آثار الإيمان الصحيح، وقد تكون من لوازمه قال تعالى: » أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)« إبراهيم: 24-25
5- بصياغة الخطاب العقدي من جديد، نستطيع أن نقدم البديل لعجز المذاهب الإنسانية عن استيعاب الحياة البشرية، وتلبية حاجاتها على اختلاف ألوانها وتحولاتها، والتأكيد على حاجة البشرية سابقا ولاحقا إلى الوحي الإلهي.
الحقيقة أن هذا التعانق بين العقيدة والواقع، الذي جاء به ابن باديس، إنما هو عودة أصيلة للمقصود الرئيس من هذه العقيدة أصلا كما جاء في القرآن ال كريم الذي قرر أن المقصد من إنزال هذا الدين، الذي تشكل العقيدة المحور والأساس فيه، هو تغيير حياة الناس وإصلاح أحوالهم وشؤونهم في الدنيا والدار الآخرة على حد سواء، قال تعالى: «إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا» الإسراء: 9
هذا ونسأل الله التوفيق والسداد في القول والعمل، وصلى الله على نبينا محمّد وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
هوامش:
1- رواه أبو داود والترمذي، عن العرباض بن سارية، وقال حديث حسن صحيح، التبريزي، مشكاة المصابيح، تح: الألباني، المكتب الإسلامي 1985 ، ط: 3، مج: 1، ص58.
2- أخرجه أبو داود، التبريزي، مشكاة المصابيح، المرجع السابق، ج: 1، رقم الحديث 241 ، ص 82
3- أحمد محمود الجزار، الإمام المجدد ابن باديس، منشأة المعارف الأسكندرية 1999 ، ط 1، ص8
4- عمار الطالبي، آثار ابن باديس، الشركة الجزائرية، الجزائر 1991 ، ط: 1، مج: 2، ج: 1، ص 24
5- عمار الطالبي، آثار ابن باديس، السابق، ج: 1، ص91-93
6- محمد بن محفوظ الشنقيطي، جواهر الدرر .. دار ابن حزم، بيروت 2005 ، ط: 1، ص: 16
7- ابن القيم، زاد المعاد في هدي خير العباد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ج: 1، ط: 25 ، ص: 96
8- ابن باديس، العقائد الإسلامية، دار الفتح، الشارقة 1995 ، ط: 1، ص: 15
9- ابن باديس، العقائد الإسلامية، السابق، ص: 10
10- عمار طالبي، آثار ابن باديس، الشركة الجزائرية 1997 ، مج: 1، ص61
11- ابن باديس، تفسير ابن باديس، جمع وترتيب: توفيق محمد شاهين، محمد الصالح رمضان، دار الكتب العلمية، بيروت. 2003 ، ط: 2، ص 126
12- ابن باديس، مجالس التذكير..، مج: 1، ص 48
13- ابن باديس، العقائد الإسلامية ..، ص 13
14- ابن باديس، العقائد الإسلامية ..، ص66
15- ابن باديس، مجالس التذكير..، دار البعث، الجزائر 1982 ، ط: 1، ص95
16- ابن باديس، العقائد الإسلامية،، ص43-44
17- رواه البخاري ومسلم، ابن باديس، العقائد الإسلامية، وقال: لم يذكر الحج لأنه لما يفرض إذ ذاك، ص 42
18- كلمة كتبها، يشكر فيها الشيخ الطيب العقبي على مقاله في جريدة الشهاب، ردا على الطرقية.
العطري بن عزوز: جامعة الجلفة
المصدر: مجلة العلوم الإسلامية والحضارة، ع2، ماي 2016.
بقلم: ناصر حمدادوش - يؤكد “مالك بن نبي” في كتابه “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”…
بقلم: محمد الهادي الحسني - منذ عشر حِجَجٍ، وفي يوم 14-12- من سنة 2013 جاء…
بقلم: د. علي الصلابي- كانت نفسية ابن باديس وأشواقه الروحية تواقة إلى التضحية في سبيل…
بقلم: د. علي الصلابي- استعمل عبد الحميد بن باديس في العديد من مواضيع شعره ونثره،…
بقلم: د. توفيق جعمات- لم تكن مدارس جمعية العلماء المسلمين مجرد فصول تعليمية أو كتاتيب…
بقلم: عبد الحميد عبدوس- تعرفت على الكاتب المفكر والطبيب المجاهد الدكتور السعيد شيبان في سنة…