حاوره: أ.د. مولود عويمر-
نبدأ هذا الحوار(1) بالسؤال عن سنوات الطفولة التي قضيتها في جبال الأوراس؟
– أنا من مواليد 1931م في قرية غوفي دائرة آريس ولاية باتنة. وقد ولدت في قرية في فترة استعمارية. وأول شيء بدأت به في حياتي في القرية دخلت كتاتيب القرآن فتعلمت القرآن وحفظته عن ظهر قلب ثم قمت بتدريسه أيضا لأبناء القرية وعشت هناك إلى بداية الخمسينات.
في قريتنا كانت جمعية العلماء هي الرائدة. لا أعرف شخصا من قريتي انخرط في تنظيم إلا تنظيم جمعية العلماء. فكانت مقدسة و أذكر أنه في يوم من الأيام وصلنا كتاب ” جغرافية القطر الجزائري” لأحمد توفيق المدني فكان بمثابة عرس كبير في القرية، ومن منا يستطيع أن يشتري هذا الكتاب الذي كان يومئذ يباع بفرنكين. اشتراه أحد زملائي الأثرياء وقرأناه معا وسررنا أيما سرور وتعرفنا لأول مرة على القطر الجزائري الشاسع من خلال هذا الكتاب.
افتتح معهد إبن باديس بقسنطينة في عام 1947م. ووصل إشعاعه إلى قريتنا عبر زملائنا الذين سبقونا ودرسوا في المعهد فاثروا في وقررت أن ألتحق به في عام 1950. فكانت فرصة كبيرة لي إذ خرجت من القرية وتعرفت على المدينة لأول مرة.
هل تتذكر الكتب الأولى التي اطلعت عليها في حياتك؟
– إنّ أبرز وأهم الكتب التي اطلعت عليها وأنا تلميذ بمعهد إبن باديس كانت بفضل أستاذنا أدام الله في عمره الشيخ عبد الرحمان شيبان الذي كان لنا قدوة بتعريفنا بكل ما يصدر في الوطن العربي من كتب ومجلات وصحف خاصة في مصر ويقرأ لنا في القسم فصولا من كتاب “وحي القلم” لمصطفى صادق الرافعي وكتاب “وحي الرسالة” لأحمد حسن الزيات.
وقرأت في تلك الفترة كل أعمال طه حسين التي وصلت إلى الجزائر. ولا بد أن أشير هنا إلى نقطة مهمة. وهي أن وضعنا المادي لا يسمح لنا باقتناء الكتب وكان أيضا من الصعب جدا الحصول على الكتب باللغة العربية في الجزائر نظرا للرقابة الاستعمارية السائدة يومئذ في الجزائر التي كانت ترزح تحت الاحتلال.
وهل قرأت في الفترة نفسها مؤلفات الأديب عباس محمود العقاد؟
– لا، لم أقرأ كتب عباس محمود العقاد والحقيقة أنني لم أكن يوما من الأيام معجبا بالعقاد وربما ذلك راجع لأسلوبه المعقد وأنا لا أميل إلى قراءة كتبه. بل كنت أحب كتب توفيق الحكيم خاصة التي تتحدث عن باريس مثل “عصفور من الشرق” و “زهرة العمر” و “سجن العمر”.
وماذا عن الصحف والمجلات العربية؟
– في ذلك الوقت، كانت تصلنا إلى قسنطينة عدة جرائد ومجلات مصرية ولكن أوضاعنا المادية لم تكن تسمح لنا باقتنائها، فكنا من حين لأخر نشترك في شراء مجلة “المصور” مثلا أو جريدة “آخر ساعة” نشتريها في اثنين أو ثلاثة ونقرؤها بتداول.
وكنا نتنافس على قراءة جريدة ّ البصائر” التي نستعيرها من زملائنا وأحيانا نشتري الأعداد القديمة بثمن زهيد ونعيد قراءتها مرات عديدة خاصة مقالات الشيخ محمد البشير الإبراهيمي التي كنا معجبين بأسلوبه السلس وسجعه الرائع وكانت تمثل لنا طلبة معهد ابن باديس بمثابة “إنجيل الثقافة العربية”.
وهذا يدفعنا للحديث عن الشخصيات التي أثرت فيك. أذكر مرة قلت لي بأنك تأثرت بالشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ رفاعة الطهطاوي.
– نعم هذا صحيح. ومن لم يتأثر بالشيخ إبن باديس؟ لقد قرأت كثيرا مما كتبه في مجلة “الشهاب” وجريدة “البصائر”. وتعرفت على الذين كانوا معه ودرست عليهم. كان يمثل لي مثالا في التضحية والإخلاص والنزاهة. وكان رحمه الله رجلا زاهدا في الدنيا وهب نفسه للعلم وللجزائر ومات دون أن يرى الجزائر مستقلة. واستحق أن يلقب برائد النهضة الجزائرية الحديثة.
تعرفت على الشيخ الطهطاوي عن طريق قراءتي لكتب توفيق الحكيم وطه حسين. وتأثري بالطهطاوي هو الذي دفعني فيما بعد للسفر إلى فرنسا والعيش طويلا في باريس. جاء رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا كإمام للبعثة المصرية، فقبل أن يتحول إلى تلميذ ويتعلم اللغة الفرنسية ثم يترجم بعد ذلك أبرز ما أنتجه الفكر الفرنسي. وأصبح يلقب الآن في المشرق العربي برائد التنوير. فعلا أنا معجب به لأنه كان أيضا صاحب تجربة فريدة ويا حبذا لو اقتدى به المسلمون الذين يأتون إلى الغرب. فكثير من الأئمة المبعوثين يقومون فقط بدورهم الوظيفي دون أن يستفيدوا من الغرب كما استفاد الطهطاوي أثناء وجوده بفرنسا. وقد قرأت مرات عديدة وبشغف كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”.
نبقى في مرحلة طلب العلم وفي معهد ابن باديس بالذات. هل يمكن أن تصف لنا الجو السائد في هذه المؤسسة التربوية؟
– معهد إبن باديس كان بالنسبة لنا بمثابة ملتقى جزائري. كل المناطق الجزائرية اجتمعت فيه وهذا الأمر لم يسبق لنا مثيلا له، فقد تعرفنا على أبناء الجزائر وأصبح لنا أصدقاء يراسلوننا من كل المناطق الجزائرية وأراسلهم وقامت بيننا علاقات وأواصر الأخوة والمحبة وكان يجمعنا شعار واحد هو التعلم ثم تعليم الشعب الجزائري خاصة في تلك الفترة الحاسمة والعصيبة من الاستعمار الفرنسي.
ومعهد إبن باديس كان منارة فكرية تشع على واد الرمل وسيدي راشد. واستعد باستمرار ذكرياتي عن هذه المؤسسة التربوية العظيمة وهي لا تفارقني أبدا رغم مرور أكثر من نصف قرن على ذلك.
ما هي أهم المواد التي تدرس بالمعهد؟
– للأسف الشديد كل المواد التي درسناها كانت فقط مواد تقليدية كالنحو، والصرف، والفقه وغيرها من المواد الشرعية ولم ندرس العلوم الحديثة، فالرياضيات التي تعلمناها كانت بسيطة جدا لا تتعدى الحساب ومبادئ الأولى للهندسة. وليس في المقرر تعليم اللغات الأجنبية. وتأسفنا لذلك كثيرا. وتساءلت أكثر من مرة لماذا أغفلت جمعية العلماء تدريس اللغات الأجنبية، والعلماء الجزائريون يعلمون حق العلم مدى أهمية اللغات في عصرنا الحاضر. وعندما أنهينا دراستنا في الجزائر والمشرق العربي وجدنا أنفسنا لا نعرف أية لغة أجنبية وكان ذلك نقصا كبيرا. و تعلمت الفرنسية بجهد شخصي في الستينات.
وعلاقاتك مع أساتذة المعهد؟
– كانت علاقاتي جيدة مع جميع أساتذتي لأنني لم كن تلميذا مشاغبا بالعكس كنت مجتهدا. أنا وافد من القرية وهمي الوحيد هو أن أتعلم. أحترم أساتذتي الذين يلقنوني العلم وأدين لهم بالفضل بدون استثناء وان كان كما ذكرت لك استفدت من البعض أكثر من غيرهم كالشيخ عبد الرحمان شيببان والشيخ عبد القادر الياجوري، الشيخ عبد المجيد حيرش، الشيخ أحمد بن ذياب والأستاذ أحمد رضا حوحو.
هل يمكن أن تحدث للقارئ باختصار عن كل واحد من هؤلاء الأساتذة؟
– الشيخ عبد الرحمان شيبان كان رجلا ذا اهتمامات ثقافية كثيرة ويهتم بالأدب العربي بصفة خاصة وإمكاناته المادية تسمح له باقتناء كل ما يصل إلى الجزائر من كتب أدبية وكان معجبا بأحمد حسن الزيات وأسلوبه الرائع ويقرأ لنا داخل القسم صفحات من كتابه “من وحي الرسالة”، ويدفعنا للاطلاع والمزيد من القراءة فتأثرت به كثيرا، ومازلت أكن له كامل الاحترام والتقدير و أتذكر توجيهاته الرائدة لطلبته.
الشيخ عبد القادر الياجوري جمع بين العلم والنكتة والطرائف. يبدأ درسه بإطلاق بعض النكت ثم يشرع في درسه ولهذا يأتي درسه جيدا ومستوعبا من جميع الطلبة. وهو خفيف الروح وضعيف الجسد لكنه شعلة من العلم والوطنية، والتحق باكرا بثورة التحرير وأظهر مواقف وطنية رائعة. مات في السنوات الأخيرة في مدينة وهران.
الأستاذ أحمد رضا حوحو فتح لنا بابا على الحياة العصرية من خلال المسرح والقراءات الأدبية، و أحمد بن ذياب عالم كبير في اللغة، فهو لا يخطئ أبدا في النحو وكان من الصعب أن نقرأ نصا أمامه دون أن يكشف لنا خطا في النحو. أما عبد المجيد حيرش فهو عالم كبير في الفقه واللغة. وقد أصبح أول مدير للثانوية الجزائرية بعد الاستقلال.
ما هي أبرز الأحداث التي عشتها في قسنطينة خلال دراستك بمعهد إبن باديس؟
– أول حادث عشته وأنا في قسنطينة هو اندلاع ثورة التحرير وكنت طالبا في ذلك الوقت. تلقينا الحدث باهتمام كبير واستبشرنا به وكنا نرى النور يقترب إلينا. والحدث الثاني هو استشهاد أحمد رضا حوحو وهو أستاذي الذي أعتز به وقد استفدت كثيرا من علمه وآرائه النيرة بصفته زار الغرب واطلع على حضارته ويتقن اللغة الفرنسية وهو رجل مسرح والنقد الأدبي. وكنت معجبا به أشد الإعجاب. وفوجئنا به ونحن تلاميذ معهد إبن باديس أنه يختطف هو ومجموعة من أعيان مدينة قسنطينة وانقطعت أخباره مدة ثم بلغنا أنه اغتيل من طرف منظمة اليد الحمراء. وتأسفنا كثيرا لما لحق بمعهد إبن باديس من فقدان من أمثال هذه الشخصية العظيمة التي خلفت وراءها عدة كتب وأشهرها “غادة أم القرى” و”حمار الحكيم”.
هل صادفتك وأنت طالب بالمعهد صعوبات أثرت على دراستك خاصة وأنت تنحدر من أسرة فقيرة؟
– كان وضعي المادي سيئ للغاية ولم يكن أحد يتكفل بمصاريفي. ووالدتي فقيرة ليس بوسعها أن تقدم لي أية مساعدة مالية. فقررت أن أذهب إلى فرنسا. وفعلا سافرت واشتغلت وجمعت أموالا ثم عدت إلى معهد بن باديس لأواصل دراستي في عام 1954م. وكنت أتردد في العطلة الصيفية على فرنسا التي أعجبتني كثيرا، وفي أواخر سنة 1956م، توجهت منها إلى تونس ودرست سنتين في الزيتونة ولكن هذه الدراسة ما كنت معجبا بها. وكانت أمنيتي الوحيدة آنذاك أن أزور الشرق العربي خاصة القاهرة التي يصلنا إعلامها بقوة ونتابع بشغف كبير حصة “صوت العرب” التي تبثها الإذاعة المصرية. وكانت أمنية كل المعربين الجزائريين أن يلتحقوا بمصر وكانت القاهرة تعتبر بالنسبة لنا الطلبة الجزائريين “مكة الثقافة العربية” ولا تزال كذلك.
كيف تمكنت من الوصول إلى القاهرة؟
– حياتي كلها سلسلة من المغامرات. خرجت من تونس إلى ليبيا برا وبقيت شهرا فيها وكان هدفي بالطبع هو دخول إلى مصر بأية طريقة وأنا لا أملك لا جواز سفر ولا أي ترخيص. وقيل لي من المستحيل الدخول إلى مصر دون رخصة مرور التي كان يقدمها مكتب جبهة التحرير الوطني بليبيا. فاتصلت بممثلي جبهة التحرير أعطوا لي رخصة مرور للعودة إلى تونس. وبهذه الوثيقة التي تشير فقط إلى العودة إلى الحدود دون توضيح أية حدود بالضبط، ودخلت مصر بعد سفر طويل مملوء بالمغامرات في الصحراء الليبية والمصرية. وقد وصلت إلى العاصمة المصرية القاهرة في يوم 23 سبتمبر 1958م، أي 4 أيام من تشكيل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.
اتصلت بمقر الحكومة الجزائرية المؤقتة واستقبلت فيه من طرف أحمد توفيق المدني، وزير التربية آنذاك. وطلبت منه مساعدتي على الالتحاق بدمشق حيث ابن قريتي الشيخ محمد الغسيري ممثل جبهة التحرير الوطني في سوريا. والحقيقة أن أحمد توفيق المدني لم يساعدني بشيء وقال لي بما أنك تعرف هذا الشخص أكثر مني فتوكل على الله وسافر فستجد الحل عنده. وفعلا سافرت إلى دمشق بعد فترة قصيرة.
لماذا لم تفكر في الدراسة في مصر والبقاء في القاهرة التي غامرت في سبيلها؟
– لم أدرس في القاهرة ورأيت أن الوضع في جامعة الأزهر لا يلائمني والثانويان المصرية لا تقبلني لأني كنت كبير السن. بقيت في القاهرة حوالي 3 أشهر وتعرفت خلالها على الطلبة الجزائريين الذين قدموا لي مساعدات مادية وخاصة طالب من قريتي استضافني في منزله خلال كل هذه المدة وهو الآن مهندس زراعي. وارتبطت بعلاقات حميمة مع الطلبة الجزائريين وأزورهم كثيرا في بيوتهم ونلتقي في مركز اتحاد الطلبة الجزائريين وكان هذا المقر -الذي يقع في 6 شارع بنك مصر قصر النيل- بمثابة خلية سياسية نتحدث فيها عن القضية الجزائرية ومستقبل ثورة التحرير. وكان
ما هي أهم النشاطات التي كان يقوم بها الفرع المصري لاتحاد الطلبة الجزائريين؟
– فرع اتحاد الطلبة الجزائريين بالقاهرة كان نشيطا جدا، ينظم عدة محاضرات ويصدر نشرية إخبارية وثقافية، يساعد الطلبة الجزائريين الوافدين من مختلف البلدان العربية والأوروبية خاصة الذين يأتون بوسائلهم الشخصية. حقيقة بذل إخواننا الذين سبقونا مجهودات جبارة في سبيل استيعاب مجموعة من الطلبة وتوجيههم توجيها علميا ووطنيا سليما.
هل تتذكر بعض الأسماء؟
– طبعا. أذكر رئيس اتحاد الطلبة كعسيس البشير رحمه الله، والمرحوم عبود عليواش ومحمد بلعيد الذي أصبح فيما بعد سفير الجزائر في كوريا والنمسا وسوريا. أتيحت لي الفرصة بعد الاستقلال أن ألتقي مع مجموعة من هؤلاء الطلبة فتعارفنا أكثر وعملنا معا خاصة في جريدة الشعب الوطنية سنة 1964م.
كيف وجدت الحياة الثقافية في مصر؟
– والله تشاءمت كثيرا لما دخلت إلى القاهرة. كنت أتصورها وأنا قادم من أوروبا شبيهة بباريس في نظافتها خاصة وأنا في الليلة الأولى نزلت بمنطقة الأزهر، منطقة بائسة وفقيرة، لا تبشر بالخير في الحقيقة. لكن بعد أيام، تعرفت على القاهرة الواسعة وأحيائها المختلفة فكانت حقا مدينة تزخر بالحركة الثقافية.
هل حضرت بعض النشاطات الثقافية وجالست الصالونات الأدبية والفكرية التي تشتهر بها العاصمة المصرية؟
– حضرت الندوات التي تنظمها جمعية الشبان المسلمين(2) واستمعت إلى عدة محاضرات الشيخ أحمد الشرباصي رحمه الله. ولم تسمح لي الفرصة لأحضر ندوة المفكر الجزائري مالك بن نبي فإقامتي بمصر كانت قصيرة. ولكنني التقيت به صحبة صديقي الدكتور عمار الطالبي.
نعم، ومن القاهرة ذهبت إلى دمشق.
– درست في دمشق ثلاث سنوات وفي سنة الباكالوريا ذهبت إلى القدس، لأنني أميل إلى البرنامج المصري الذي هو أخف. و بما أني كبير السن بالمقارنة مع زملائي، فكان البرنامج السوري صعبا علي وخاصة في مادة الرياضيات التي لم أدرسها كثيرا من قبل. وفي القدس تحصلت على الشهادة في الفرع الأدبي.
كيف كان الجو الدراسي والحياة العامة في دمشق؟
– الحقيقة أن سوريا البلد العربي الوحيد الذي لا يشعر فيه العربي بالغربة. فالسوريون متفتحون على العرب ويحبون العروبة. ويمكن القول وبدون مبالغة أن سوريا هو البلد العربي الوحيد الذي استطاع فيه الجزائريون أن يحتلوا مناصب سياسية وعلمية هامة كأسعد الدرقاوي وزير التعليم والبحث العلمي، واللواء عبد الرحمان خليفاوي رئيس الحكومة وهو من بني يني من منطقة القبائل، والشيخ طاهر الجزائري الذي يدرس في البرامج التعليمية السورية، والعالم اللغوي الكبير الشيخ محمد المبارك. وقد قال لي يوما المستشرق الفرنسي الكبير جاك بيرك: “يا ليتكم أنتم العرب لكم كثيرون من أمثال الشيخ المبارك”.
وماذا عن الطلبة الجزائريين في دمشق؟
*كان حوالي 120 شاب جزائري موزعون على الثانويان السورية وجامعة دمشق. أذكر منهم حنفي بن عيسى، محمد مهري، أحمد درار، أحمد غزالي، قدوري الهاشمي وعبد الرزاق بوحارة. والتقيت خلال هذه الفترة بالشيخ محمد الغسيري ممثل جبهة التحرير ونائبه أحمد معاش. وفي دمشق تعرفت أيضا على المناضل التونسي الكبير يوسف الرويسي، ممثل مكتب تحرير المغرب العربي بسوريا، وكان يقدم مساعدات وخدمات كثيرة للطلبة الجزائريين.
نعود إلى السنة الدراسية التي قضيتها في القدس.
– في القدس، كنت أدرس في الثانوية الإبراهيمية. وكنت حريصا على أن أصلي كل يوم الجمعة في المسجد الأقصى. ولا أنسى أبدا فضل إخواننا الفلسطينيين في الضفة الغربية الذين آوونا نحن الطلبة الجزائريين وأسكنونا في أحسن المساكن مجانا وكانت الدراسة أيضا مجانا وقدموا لنا المنح رغم أن ظروفهم الاقتصادية كانت سيئة جدا، فالأردن لم يكن بلدا بتروليا وهو نفسه يتحصل على مساعدات من البلدان الأخرى ومع ذلك لم يبخل علينا نحن الجزائريين تقديرا لثورة نوفمبر وتقديرا لشهداء الجزائر.
ومازلت أذكر أن مرة خرجت مع الطلبة الجزائريين الأربعة الذين كانوا يدرسون معي، فمررنا قرب محل التصوير فلما سمع صاحبه حديثنا خرج وقال لنا أن لهجتنا غريبة عليه. وسألنا من نكون؟ فقلنا: نحن طلبة جزائريون. ففرح كثيرا، وقال: 5 طلبة جزائريون في القدس. والله لن أترككم حتى آخذ لكم صورة. وبعد أسبوع مررنا بنفس المكان فوجدنا الصورة مكبرة وموضوعة على الواجهة تبركا.
كانت لنا أيضا علاقات جيدة مع الأستاذ عبد الرحمان بن العقون ممثل الحكومة الجزائرية المؤقتة في عمان. وهو من أفضل ما عرفت من الرجال كان عظيما ووطنيا مخلصا وبيته في عمان هو ملجأ كل الجزائريين، وكانت زوجته تخدمنا وتكرمنا وتعتبر كل الطلبة الجزائريين أبناءها. رحمه الله ورحم زوجته.
بعد دراستك رجعت إلى الجزائر.
– نعم عدت إلى الجزائر ثم أرسلتني الحكومة الجزائرية المؤقتة إلى بغداد لأدرس الحقوق لمدة سنة واحدة. لم يكن جو بغداد ليساعدني وما كانت بغداد في ذلك الوقت مدينة تغري أي إنسان.
كان العراقيون يقدمون منحا كبيرة للطلبة الجزائريين ولكنني سئمت من الجو العام وخاصة أنا شاهدت الغرب. فلم أكمل العام الدراسي إلا بشق الأنفس وما أن ظهرت النتائج حتى غادرت الشرق العربي نهائيا لأغدو أستاذا في معهد عبد الحميد بن باديس في عام 1963م -1964م.
كيف كانت علاقاتك مع تلاميذك؟
– لا أنسى علاقاتي الطيبة مع تلاميذي. كانوا معجبين بطريقة تدريسي رغم أن هناك مجموعة من الأساتذة المخلصين ولكن التلاميذ كانوا يرتاحون أكثر لدروسي خاصة وأنا درست في الشرق العربي وزرت الغرب ومتفتح على الثقافة العربية الحديثة. وكنت أحدثهم عن الأدب العربي الحديث وشخصيات أدبية معاصرة وأكلمهم عن رحلاتي في فرنسا وألمانيا. وهذا ما لم يكن يستطع أن يقوم به الأساتذة الآخرون لظروفهم الخاصة طبعا، فهؤلاء لم يغادروا الجزائر فكانت دراساتهم تقليدية.
ومتى انتقلت إلى مجال الصحافة؟
– درست سنة واحدة بالمعهد ثم التحقت بجريدة الشعب بعد أن نجحت في مسابقة للصحافيين. وكنت قبل ذلك أحب الصحافة وأقرأها كثيرا. انضممت إلى أسرة الشعب وذلك في جويلية 1964م. وقصتي مع جريدة الشعب طويلة. كنت أعمل فيها ثم أستقيل منها ثم أعود إليها وكلما ضاقت بي السبل رجعت إلى جريدة الشعب وأصبحت في نهاية الأمر متقاعدا منها عام 1993م.
اشتغلت أيضا في صحيفة “المجاهد الأسبوعي” ووكالة الأنباء الجزائرية وعدة صحف أخرى. ولكنني دائما مرتبط بجريدة الشعب إما متفرغا أو متعاونا، فهي لا تفارقني وتبقى بالنسبة لي المدرسة الأولى في الإعلام والصحافة، بها عرفت الناس، وبها عرفني الناس.
هل كنت متأثرا بصحافي جزائري أو عربي؟
– كنت معجبا كثيرا بأحمد توفيق المدني وباعزير عمر رحمهما الله. هذان الصحافيان اللذان يكتبان في جريدة “البصائر” في مختلف القضايا العربية والدولية بحكم معرفتهما للغة الفرنسية. بعد ذهابي إلى المشرق العربي تأثرت بأحمد بهاد الدين ومحمد حسنين هيكل من مصر، وسليم اللوزي من لبنان.
والحقيقة لا نستطيع أن نقول أن هناك صحافيين جزائريين يحتذى بهم مقارنة بالصحافيين الموجودين في الشرق العربي وهذا لأسباب تاريخية. فللشرقيين تقاليدهم ولهم ظروف خاصة سمحت لهم أن يكونوا صحافيين كبار. وفي جريدة الشعب ما كنا نستطيع أن نسيّر الجريدة لولا إخواننا المصريين الذين ساعدونا كثيرا خاصة في فن الطباعة والإخراج والتصميم. وقدمت مؤسسة الأهرام مجانا دروسا تكوينية للصحافيين الجزائريين.
وفي الثقافة العربية، نبقى دائما تلاميذ لإخواننا المشارقة وهذا لا يعني أنه ليس عندنا مفكرون وكتاب كبار ولكن للشرق العربي السبق والفضل الكبير علينا ونحن لا ننكر هذا.
هل تتذكر أول مقال كتبته؟
– أول مقالة كتبتها كان في دمشق في المجلة الحائطية. ولكن أول مقال صحفي كتبته كان في قسنطينة عام 1964م وكنت آنذاك أستاذا في معهد إبن باديس وذلك في مجلة “العروبة” التي أسسها مدير مطبعة البعث السيد عبد الحميد عياط، وكان المقال حول الأديب عباس محمود العقاد(3)
بأي قسم بدأت في جريدة الشعب؟
– في تلك الفترة لم تكن لجريدة الشعب أقسام معينة. كنا نعمل عملا جماعيا ولكن بعد سنوات أتيت إلى فرنسا واخترت التخصص في القارة الأوروبية، فقمت بترجمة الأخبار والتعليق عليها ثم توجهت إلى عالم الهجرة، والإسلام في فرنسا. فنشرت في هذه المواضيع مقالات كثيرة وأصدرت فيها كتبا أذكر “الإسلام في أوروبا الغربية”، و”الصراع حول قيادة الإسلام في فرنسا”، و”الشباب الجزائري في المهجر والبحث عن الهوية الثقافية”.
لماذا اخترت باريس بالضبط؟
– زرت عشرات من العواصم العربية والأوروبية كالقاهرة وبيروت ودمشق وروما وبروكسيل وأمستردام ولكن مدينة واحدة أخذت بقلبي وهي باريس التي تلخص بالنسبة لي العالم كله في الثقافة والفكر والفنون والعمران والجمال…وكذلك راجع إلى تأثير رفاعة الطهطاوي كما ذكرت لك من قبل.
ونرجع الآن إلى عملك الصحفي واهتماماتك الجديدة المتعلقة بالهجرة.
– قصتي مع جريدة الشعب طويلة كما قلت لك وتجربة فريدة إلا أن المسؤولين الذين تعاقبوا على إدارة هذه الجريدة اليومية لم يقدروا كثيرا المجهودات التي قمت بها. ويعلم الله أنني استطعت بجهودي الشخصية أن أجعل من هذه الجريدة أول صحيفة جزائرية تصلها مقالات من أوروبا على شكل قراءات نقدية لأحدث الإصدارات من كتب ومجلات وتحقيقات شاملة عن أهم المراكز الثقافية والإسلامية في الغرب وتغطية للنشاطات المختلفة للجاليات العربية في فرنسا، وحوارات مع مثقفين ومفكرين عرب وغربيين(4).
ولم يكن لي يوما من الأيام مكتب إعلامي خاص أو مرتب بالعملة الصعبة كما هو حال كل المراسلين للجرائد العربية والأجنبية. فكنت أشتري الكتب من مالي الخاص وأسافر على حسابي الشخصي. وكنت أعتبر ذلك دائما نضالا وجهادا في سبيل الحرف العربي، ومساهمة في تطوير جريدة الشعب حتى تكون مدرسة إشعاع للثقافة العربية في بلادنا، وتشبه الصحف الكبرى شكلا وضمونا وتأثيرا.
كيف كنت تشتغل إذا لم تكن لديك كل هذه الوسائل الضرورية لكل مراسل صحفي في العالم؟
– والله طريقة عملي في الصحافة طريقة غريبة حتى إخواننا المشارقة يتعجبون. عندما يسألونني ويقولون لي: أنت تعمل مراسلا لجريدة الشعب؟ أقول نعم. فيقولون: أين مكتبك؟ أعطينا رقم الفاكس. وأنا لا أملك شيئا من هذا القبيل. كنت أشتغل كمتطوع. أسلحتي الوحيدة هي القلم، والأوراق وحقيبتي والمكتبات العمومية. كنت أكتب بالقلم ولم أملك في حياتي آلة الكتابة ولا آلة التصوير ولا جهاز التسجيل. فكنت أعمل بالوسائل التقليدية ومع ذلك ولله الحمد استطعت أن أسجل خطوات وأنشر مقالات وأجمع جزءا منها وأصدرها في كتب، وأن تعتمد وتترجم بعضها في بعض المجلات وهذا بفضل الله سبحانه وتعالى وبفضل الإرادة التي كنا متمسكين بها وصامدين بفضلها.
وبفضل التحدي أيضا.
*لولا التحدي ما استطعت أن أعيش شهرا في باريس لأني كما ذكرت مرة في حصة أعدتها التلفزة الجزائرية لست موجودا في باريس عن طريق مؤسسة حكومية جزائرية، فأنا جئت إلى باريس بوسائلي الشخصية و لم أتلقى دعما من أية جهة كانت. ولله الحمد. فالتحدي أؤمن به كثيرا وقد أخذت هذا المبدأ من المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي وفيلسوفنا الراحل مالك بن نبي.
كيف أصبحت إذا مراسلا لجريدة الشعب؟
*في آخر سنة 1966م أتيت إلى باريس بموافقة رئيس التحرير الأستاذ الزبير سيف الإسلام والذي وجهني نحو الودادية الجزائرية التي اشتغلت فيها كمعلم للعربية لأبناء الجزائريين المغتربين وفي نفس الوقت أراسل جريدة الشعب تطوعا إلى أن تم ترسيمي فيها سنة 1979م كصحافي متفرغ ولكن بقيّ مرتبي في الجزائر أتقاضاه بالعملة المحلية.
ونشرت في الجريدة المئات من المقالات والمقابلات والتحقيقات وعروض للكتب. وكنت لمدة 4 سنوات أتولى تحرير صفحة “منبر الهجرة”. وكتبت أيضا في صحف ومجلات جزائرية وعربية أخرى.
هل تصلك أصداء عن كتاباتك وردود من القراء؟
– والله الحمد لله، أصداء كثيرة تشيد بنا وأخرى تنقدنا بطبيعة الحال. وأنا أعتبر كل من تعرض لكتاباتي -بمدح أو قدح- نصرا لي وأقول في قرارة نفسي إن عملي وصل وحقق هدفه المنشود وهذا دليل على أن الناس يهتمون ويقرءون ووجدت أساتذة و باحثين فاستدلوا بكتبي. كالدكتور أحمد بن نعمان والدكتور عمار بوحوش وغيرهما…
خاصة الدراسات التي اهتمت بالوجود العربي في المهجر والنضال السياسي الجزائري في فرنسا.
– نعم التقيت بطلبة جزائريين وعرب أعدوا رسائل جامعية قالوا لي أنهم استفادوا كثيرا من كتبي وهناك باحث سعودي جاء من الولايات المتحدة الأمريكية إلى الجزائر للحوار معي والإطلاع على كتابي “الشباب الجزائري في المهجر والبحث عن الهوية الثقافية” الذي قرأ عنه في بعض الجرائد العربية الكبرى. وقال لي إنه استفاد منه في إثراء رسالته الجامعية.
ما هي الدوافع التي كانت وراء تخصصك في الشأن العربي والإسلامي في الغرب؟
– عندما جئت إلى فرنسا احتكت بعالم الهجرة. وجدت المهاجرين يعانون غربتين: غربة وطنية وغربة هوية وهي أصعب من الأولى. فأنا عشت غربة الوطن ولم أعش غربة الهوية. وتساءلت كثيرا لماذا لا نهتم بهذه الشريحة من المجتمع الجزائري. وهكذا بدأت اهتم بقضايا الهجرة والمهاجرين من نواحي مختلفة اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا.
كما خصصت مقالات وكتابا لدور المهاجرين الجزائريين في تدعيم الحركة الوطنية الجزائرية ومساندة الثورة التحريرية. فلم يبخل الوطنيون في المهجر بشيء من أجل تحرير وبناء الجزائر. ولله الحمد تحررت الجزائر بدعم كبير منهم. وهذه الحقيقة التاريخية تحدثت عنها في مناسبات عديدة ووضحتها في كتابي ” الطبقة العاملة الجزائرية في المهجر وثورة نوفمبر 1954م “.
ما هي أهم الشخصيات التي تعرفت عليها في باريس؟
– تعرفت في باريس التي عشت فيها ربع قرن على كثير من العلماء والأدباء و الشعراء والصحافيين والسياسيين من العرب والغربيين أذكر بالسرعة: الدكتور أنور عبد الملك، محمود درويش، أنيس منصور، محمد ديب، جاك بيرك، أندريه ميكال، جون ديجون…وغيرهم.
وأريد أن أقف هنا عند الفيلسوف الراحل عبد الرحمان بدوي. تعرفت عليه في بداية الثمانينات كشخص. أما أعماله، فقد درستها من قبل. هو رجل موسوعي يتقن عشر لغات كما ذكر لي. ترجم الفكر الغربي إلى العربية خاصة الفلسفة الألمانية. وما تعرفت عليه إلا أن أصبحت من المعجبين به رغم أن بدوي رجل صعب المراس وصعب المعاشرة ولكنه يكفيه فخرا ما قدمه للثقافة العربية والفلسفة والفكر العربي المعاصر من مجهود، فقد وهب نفسه للعلم ولم يتزوج. ولما سألته لماذا لم تتزوج؟ فقال إنه لو تزوج ما تمكن من تأليف كل كتبه المعروفة. لقد تزوج بالعلم والثقافة وبقي يبحث وينقب ويكتب إلى أن لقي ربه، فرحمه الله.
وتأسفت أنه عندما مات لم تتحدث عنه الصحافة الجزائرية ولم يكتب عنه حتى المختصون في الفلسفة، فتأثرت بذلك فكتبت عنه 3 مقالات على مذكراته وسيرته الذاتية وأعماله الفكرية، ونشرتها في جريدة “صوت الأحرار” تقديرا لهذا الشخص العظيم. وقررت إن شاء الله وإن طال الله في العمر، أن أكتب كل ذكرياتي مع عبد الرحمان بدوي وقراءة أعماله.
ما هي مشاريعك القادمة؟
– مشاريعي كثيرة ولكن العمر قصير كما يقال. فأنا الآن بصدد إعداد دراسة عن الفرنكفونية مشرقا ومغربا وآثارها السلبية على مجتمعات المغرب العربي وخاصة الجزائر.
كما أنني بصدد الانتهاء من كتاب حول “الثورة الجزائرية في مؤلفات الكتاب الفرنسيين”. في نفس الوقت أجمع وثائق ومعلومات لإصدار كتاب عن “ذكرياتي الباريسية” وتأثير هذه المدينة على العديد من الكتاب العرب بدءا برفاعة الطهطاوي ومرورا بأحمد شوقي وطه حسين وسهيل إدريس ومالك بن نبي.
الهوامش:
(1) نشرت هذا الحوار مع الأستاذ سعدي بزيان في مجلة النور الصادرة في لندن.
(2) عن هذه الجمعية، أنظر مقالي: جمعية الشبان المسلمبن وكفاح المغرب العربي. البصائر، العدد 524، 29 نوفمبر-05 ديسمبر 2010.
(3) ونشر هذا المقال أيضا في مجلة القبس، العدد 3، مارس 1966.
(4) جمع الأستاذ هذه الحوارات ونشرها في كتاب بعنوان “أحاديث ممتعة”.
بقلم: ناصر حمدادوش - يؤكد “مالك بن نبي” في كتابه “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”…
بقلم: محمد الهادي الحسني - منذ عشر حِجَجٍ، وفي يوم 14-12- من سنة 2013 جاء…
بقلم: د. علي الصلابي- كانت نفسية ابن باديس وأشواقه الروحية تواقة إلى التضحية في سبيل…
بقلم: د. علي الصلابي- استعمل عبد الحميد بن باديس في العديد من مواضيع شعره ونثره،…
بقلم: د. توفيق جعمات- لم تكن مدارس جمعية العلماء المسلمين مجرد فصول تعليمية أو كتاتيب…
بقلم: عبد الحميد عبدوس- تعرفت على الكاتب المفكر والطبيب المجاهد الدكتور السعيد شيبان في سنة…