بقلم: ليلى محمد بلخير -

عندما أقرأ ما كتبه بن باديس رحمه الله أدرك أن الرجل لم يمت أبدا. إنه معنا، كلماته ليست من أنفاس كاتب عادي، كلماته القوية لها وقع محارب متمكن هصور، لم يحفل كما الكتاب بتخليد الحروف وتكديس الأوراق المختومة، كان نبضه متوتراوعاليا في همته، دائم اليقظة والفطنة، منهمكا كأي قائد معركة في السلاح والخطط، الحربية وآليات النزال، وأوقاتالمباغتة والإغارة.

لم يحفل بالكتابة والتسجيل، بل كان يحارب ويجاهد بالقلم والفكر، جعل الجزائر كلها بعده تدين له بالعرفان، وتكتب وتسجل فتوحاته في العلم والتربية والجهاد، حارب الدجل والعطالة، وكسر أيدي فرنسا وأرجلهاوأذنابها، فدحرها من خلال نشر الوعي بالدور الرسالي للمؤمن. حقق بذلك الأمل المنشود في رص الصفوف لمناهضةالعدو، والتمكن منه، وإخراجه بقوة الوعي بالحقيقة القرآنية التي لامست القلوب، وأعادت بناء العقل الجزائري الذيأنهكه التجريف الاستيطاني الفرنسي، المستهدف لهويته. أعاد له مؤهلات التفكير بقدرات عالية وعجيبة، عندما جعل منالقرآن الفتيل الذي يشعل الحماسة في ضرب كل أسباب الموت والدمار. جعل من تفسيره للقرآن في ربع قرن، ولكلالأعمار رجالا ونساء شريانا يضخ الدماء النقية في قلب كل الجزائر، فقام بعد موات للتغيير، ونفض الجهل والتواكل،ونبذ الخيبة المفروضة كقضاء وقدر.

لم يكتب ابن باديس من تفسيره إلا القليل. لكنه ساهم في رسم تاريخ جديد للجزائري المسلم، مما حفظ نماذج قليلة من تفسيره برهانا ربانيا على بسالة بن باديس في التوغل بمشروعه القرآني في القلوب، هو تفسير حركي واقعي، هو مشروع يقظة أمة، خمسة وعشرون سنة كاملة في مجالس التذكير من كلام البشير النذير، كانت ثمرتها الطيبة: بناء وعي الجزائري لذاته وقدراته ودوره الرسالي في الحياة، وواجبه تجاه أمته ووطنه. ينشد الحرية والكرامة، بل يهب روحه في سبيل هذا المبدأ القرآني، تجسد في الكلمة التي ألقاها في الاحتفال بختم القرآن، يقول: “فإننا والحمد لله نربي تلامذتنا على القرآن من أول يوم، ونوجه نفوسهم إلى القرآن في كل يوم وغايتنا التي ستتحقق أن يكون القرآن منهم رجالا كرجال سلفهم، وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تعلق هذه الأمة آمالها، وفي سبيل تكوينهم تلتقي جهودنا وجهودها”.  لم يكن يجلس منعزلا بنفسه، يكتب تفسيرا موثقا من بطون الكتب. إنما كان يجالس الجماهير، يخاطبهم مباشرة. يقدم تفسيرا يتفاعل معه الحاضرون، ويشاركون، طريقة فعالة وفاعلية، تقدم نموذجا لمشروع كبير عنوانه (القرآن للحياة)؛ ففي تفسيره للآية الكريمة {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}  الذاريات/50 يوضح الخط القرآني في بيان معنى الفرار إلى الله في نبذ العطالة والتواكل، بحجة الزهد في الدنيا، بل يفسرها بتشجيع السعي والعمل وفق السنن والقوانين الإلهية لتحقيق المقاصد الكبرى للإنسان بالإيمان والعمران، والفرار في الآية فرار من مفاسد الدنيا وأوزارها، وليس فرارا من الضرب في الأرض والسعي فيها بما ينفع الناس، ويحقق المصالح.

admin

المقالات الأخيرة

مالك بن نبي والزَّعامة الصَّنمية

بقلم: ناصر حمدادوش - يؤكد “مالك بن نبي” في كتابه “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”…

سنة واحدة قبل

في ذكرى وفاة الأستاذ سعد الله

بقلم: محمد الهادي الحسني - منذ عشر حِجَجٍ، وفي يوم 14-12- من سنة 2013 جاء…

سنة واحدة قبل

دعوة ابن باديس للثورة

بقلم: د. علي الصلابي- كانت نفسية ابن باديس وأشواقه الروحية تواقة إلى التضحية في سبيل…

سنتين قبل

الثورة في شعر ابن باديس ونثره

بقلم: د. علي الصلابي- استعمل عبد الحميد بن باديس في العديد من مواضيع شعره ونثره،…

سنتين قبل

الإشراف التربوي في مدارس جمعية العلماء المسلمين ج1

بقلم: د. توفيق جعمات- لم تكن مدارس جمعية العلماء المسلمين مجرد فصول تعليمية أو كتاتيب…

سنتين قبل

لمحة عن مسار الدكتور سعيد شيبان مع العلم والإيمان والنضال

بقلم: عبد الحميد عبدوس- تعرفت على الكاتب المفكر والطبيب المجاهد الدكتور السعيد شيبان في سنة…

سنتين قبل