ياسمين بوالجدري -
حرّر العقول و أنار الضمائر، فسلّح بالعلم و الدين أجيالا من الشباب و الشابات الذين حاربوا المستعمر الفرنسي و أخرجوه من الجزائر بثورة اندلعت بعد 14 سنة من وفاته، هو رائد النهضة الإسلامية العلاّمة عبد الحميد بن باديس، الذي لا يزال كل شبر من مدينة قسنطينة شاهدا على مروره. و بمناسبة ذكرى يوم العلم المصادفة لتاريخ وفاة العلامة، تعد النصر بورتريه عن الرجل تنقل من خلاله جوانب أخرى عن ابن باديس المعلم و الإنسان و الابن، و ذلك على لسان شقيقه الأصغر عبد الحق.
بعيدا عمّا نقله المؤرخون عن الحياة العلمية للعلاّمة عبد الحميد بن باديس، قرّرت النصر الغوص أكثر في الجانب الإنساني للرجل من خلال التحدث إلى أفراد عائلته، فكان لنا موعد مع شقيقه الأصغر السيد عبد الحق، الذي وافق على استقبالنا في منزل العائلة الواقع في حي الطابية بالمدينة القديمة، و تحديدا في الممر الذي أطلق عليه اسم جده «المكي بن باديس»، و ذلك رغم أنه كان في أوجّ التحضيرات الخاصة بإحياء يوم العلم المصادف لذكرى وفاة العلامة.
في بيت العلاّمة
بهذا المنزل الذي دخلناه عبر البوابة رقم 3 ذات اللونين الأخضر و الذهبي، قضى عبد الحميد بن باديس فترة مهمة من حياته و اتخّذ من إحدى غرفه معتكفا للنهل من العلم، و أحيانا للخلود إلى النوم لساعات قليلة جدا كان يخصصها لجسمه النحيل، و هو الذي قال في بيان أصدره سنة 1936 معتذرا عن قبول منصب المؤتمر الإسلامي الجزائري «أعلن لهؤلاء الإخوة و للأمة الجزائرية كلها أنني لست لنفسي و إنما أنا للأمة أعلّم أبناءها و أجاهد في سبيل دينها و لغتها».
المنزل لا يختلف عن السكنات التي تُعرف بها المدينة القديمة بقسنطينة و المتوارثة من العهد العثماني، فهو عبارة عن «دار عرب» بها «وسط الدار» الذي يتمثل في ساحة تتوسط المكان في شكل مربع، تُحاط به غرف موزعة بطريقة متناغمة على الطابقين الأرضي و الأول، و تصل إلى شرفاتها أعمدة لولبية و جدران لا تزال عليها تلك الزخارف ذات الألوان الناعمة و المتّسقة، فيما حافظ سكان المنزل على البلاط القديم الذي يميل لونه إلى القرمزي.
عبد الحق بن باديس رحّب بنا و رافقنا بخطى متثاقلة إلى غرفته المتواضعة، التي تستقبلك مع دخولها بصورة العلامة عبد الحميد بن باديس المُعلقة على الجدار و أسفلها بيانو قديم مُحاط بأغراض للزينة تأخذك معها إلى زمن الأصالة و العراقة، حتى الأفرشة و الأغراض لم تُستبدل بأثاث عصري و كانت منسجمة مع الديكور، و كأن الزمن لم يمضِ في ذلك المكان الذي تشتم فيه عبق كل ما هو عتيق داخل ما يشبه متحفا مُصغّرا.. قادنا الفضول لمحاولة الإطلاع على ما تبقى من الأغراض الشخصية لعبد الحميد بن باديس، لكن شقيقه الأصغر أخبرنا أن مفاتيح الغرفة التي توجد فيها تلك الأغراض، مع ابنته فوزية التي كانت مسافرة في بنغلاديش.. شعرنا بالخيبة و طرحنا على أنفسنا سؤالا لم نجد من يمكنه أن يجيبنا عنه: «ألا يستحق رائد النهضة بالجزائر أن يُبنى له متحف ينقل ذاكرته للأجيال؟».
نبغ في الزيتونة فدرس عاما عوض أربعة
السيد عبد الحق فضّل أن يبدأ حديثه بسرد حياة عبد الحميد بن باديس المُعلّم أو «سيدي حامد» مثلما ناداه تلاميذه، ففي الوقت الذي كانت فيه العربية ممنوعة، و كان مصير حافظي القرآن و المتعلمين منحصرا بين الزوايا أو الهجرة أو التوظيف، قرّر والده محمد بن مصطفى، توجيهه منذ الصغر إلى اللغة العربية بالدراسة عند الشيخ المداسي و هو من أشهر معلمي القرآن آنذاك، حيث حفظ كتاب الله عندما أتمّ 13 سنة، و أمّ التراويح في الجامع الكبير لثلاث سنوات متتالية و عمره لم يتجاوز 16 سنة، بعدها قدمه الوالد للشيخ حمدان لونيسي لتعلم اللغة العربية.
و قد شاءت الأقدار أن يوافق الأب على اقتراح تقدّم به الشيخ حمدان لونيسي بسفر عبد الحميد لتونس لإتمام دراسته، و هو ما حدث بالفعل، حيث سافر إلى جامع الزيتونة الذي كان يُسمى وقتها «الجامع الأعظم»، و تحصل هناك على «شهادة الأهلية»، و الحقيقة، يضيف عبد الحق بن باديس، هي أن العلامة و بعد خضوعه إلى امتحان، سُجّل مباشرة في منتصف السنة الثالثة في جانفي من سنة 1910، لما لاحظه عليه علماء الزيتونة من نبوغ أهلّه إلى تجاوز عامين و نصف و الحصول على «شهادة التطويع» بعد سنة و نصف فقط من الدراسة عوض 4 سنوات، حيث أطلعنا السيد عبد الحق على مجلد صغير يحتوي على الشهادات التي كتبها علماء الزيتونة عن ابن باديس، و التي تضمنت إشادة بنبوغه و تمكنه.
بعد ذلك، ظلّ ابن باديس في تونس لسنة أخرى من أجل التمرّن، فاستزاد من العلم و اطلع على التقدم الفكري الذي كان حاصلا هناك مقارنة بالجزائر، ثم عاد لقسنطينة و سافر مجددا، لكن إلى المدينة المنورة، أين التقى بعدد من العلماء و المشايخ و من بينهم معلمه حمدان لونيسي، الذي عرض عليه البقاء في المدينة المنورة، غير أن ابن باديس فضّل العودة من أجل خدمة بلاده و انتشالها من الجهل، لكن ليس قبل السفر إلى عدد من دول المشرق للنهل أكثر من العلوم.
عند العودة و هو لا يزال في سن الخامسة و العشرين، كان ابن باديس قد قرّر أن يبدأ رحلة أخرى، ستكون هذه المرة رحلة لتنوير العقول و محاربة الجهل و نشر العلم، حيث شرع في أكتوبر 1914، في التدريس بالجامع الأخضر بقسنطينة، بمساعدة والده الذي حصل على تسريح على أساس إنشاء مدرسة للفرنسية و العربية و الحرف حتى لا يثير الانتباه، فأسس مدرسة التربية و التعليم التي تمنح شهادة الأهلية بعد 4 سنوات، و قد كان التعليم موزعا أيضا على مسجدي سيدي قموش و سيدي بومعزة الواقعين بالمدينة القديمة.
قصة التلميذ الكسلان و لحاف تونس!
و ُعرف عن الشاب عبد الحميد أنه كان ينبض بالنشاط و لا يكاد يتوقف عن العمل طيلة النهار، إذ و باستثناء الخميس و الجمعة، كان يتنقل يوميا من إحدى العمارات التي يقطنها أسفل ثانوية حيحي المكي، إلى الجامع الأخضر، ليبدأ تقديم الدرس الأول مباشرة بعد صلاة الصبح و يستمر في التعليم إلى غاية العشاء، يقول للنصر شقيقه عبد الحق، الذي تتلمذ على يد العلامة لثلاث سنوات متتالية منذ أن كان عمره 17 سنة، و هي مدة كان يُعامل فيها مثل باقي الطلبة و لم يلق خلالها أي تمييز لأنه أخ المُدّرس، حتى أنه و في إحدى المرات، يستذكر السيد عبد الحق، فضّل عبد الحميد بن باديس نصح أخيه، عن طريق الشيخ أحمد بوشمال، بمطالعة كتاب «كليلة و دمنة»، ثم كتاب من جزئين اسمه «حياة محمد» و مؤلّف يحمل عنوان «كمال أتاتورك»، فانتقل به، بذكاء، من قصص الحيوان إلى السيرة النبوية ثم السياسة.
و خلال السنوات الخمس و العشرين التي قضاها بين تفسير كتاب الله و التدريس بهمّة عالية، كان ابن باديس كثيرا ما يستغل يومي الخميس و الجمعة اللذين يُفترض أنهما مخصصان للراحة، للسفر إلى الولايات الأخرى و القرى من أجل الوعظ و فتح المدارس، أو للتنقل إلى مقر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالجزائر العاصمة، و يقول شقيقه عبد الحق إن ابن باديس كان يذهب مساء الخميس و مباشرة بعد أداء صلاة العشاء بالجامع الأخضر، إلى محطة القطار بحي باب القنطرة مترجّلا، و يسافر من هناك إلى العاصمة التي يصلها صباحا، حيث يلتقي بالشيخ البشير الإبراهيمي و غيره من العلماء و يتابع شؤون الجمعية، ليستقل في مساء الجمعة القطار مجددا و يصل صباحا إلى ولاية قسنطينة لكي يستأنف الدروس.
و من الذكريات التي ظلّت عالقة في ذهن عبد الحق خلال فترة التتلمذ على يدي شقيقه، أنه و في إحدى المرات، انتبه العلامة عندما بدأ إلقاء الدرس الصباحي الأول، إلى تغيب أحد الطلبة ثم حضوره في الدرس الموالي، و بعد انتهاء الدرس استفسر منه عن سبب تخلّفه، ليجيب التلميذ بأنه لم يستيقظ باكرا، فقال له ابن باديس إنه عندما درس في تونس، كان يستعمل لحافا إذا غطى كتفه تتعرّى رجلاه، و إذا غطا رجليه تتعرى كتفه، فقط لكي لا يستغرق في النوم و ينهض باكرا، ثم خاطبه بلهجة الأب المُحبّ «إذا استمررت على هذا الحال أنصحك بمساعدة والدك في الفلاحة»، و منذ ذلك اليوم استوعب التلميذ الدرس جيدا و زادت همتّه، بل صار أول الحاضرين.
تدريس الفتيات في سوريا.. حُلُم دفنته الحرب!
وفي مجتمع محافظ أراده المستعمر الفرنسي أن يظّل غارقا في الجهل و البدع، تحدى عبد الحميد بن باديس الذهنيات السائدة وقتها و قرّر أن يُقحم المرأة الجزائرية في الحياة العامة من خلال التعليم، فشرع في تدريس الفتيات مجانا بمدرسة التربية و التعليم، حيث قال شقيقه عبد الحق إنه كان يحرص على ترك الباب مفتوحا أثناء تدريسهن و بحضور عمر بن شعلال الذي كان مراقبا بالمدرسة، و قد بدأ إقبال العائلات على تسجيل بناتهم بشكل تدريجي، إلى أن أصبح عددهن كبيرا يضاهي عدد الطلبة الذكور، حتى أن الدراسة في السنة الرابعة كانت مختلطة بين الذكور و الإناث، حيث كنّ يجلسن في المقدمة و الذكور في الخلف، و قد أكمل العديد منهن حياتهن بنجاح و أصبحن مديرات و تقلدن عدة مناصب، و من بينهن زهور ونيسي، أول وزيرة في تاريخ الجزائر المستقلة.
ابن باديس أراد لمشروعه أن لا يتوقف عند حدود قسنطينة، فتطلّع إلى ابتعاث الفتيات الدارسات في السنة الرابعة إلى سوريا، حيث وضع الخطوة الأولى بتوجيه رسالة في هذا الشأن إلى عادلة بيهم الجزائري، حفيدة الأمير عبد القادر التي كانت حينها رئيسة جمعية «دوحة الأدب» بدمشق، و لُقبّت بـ «أميرة الرائدات العربيات»، لما كان لها من دور مهم في إشراك المرأة في الحياة العامة و النضال ضد الاستعمار، ابن باديس بعث أيضا برسالة إلى شيخ الأزهر لتدريس الطلبة هناك، لكنها مشاريع لم يُكتب لها أن ترى النور بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939 ثم وفاته في 16 أفريل من سنة 1940، ليُتمّ الشيخ مبارك الميلي ما تبقى من أشهر خلال السنة الدراسية، ثم يتكفّل العربي التبسي بإكمال المشوار الذي بدأه العلامة في مدرسة التربية و التعليم.
رفض منصب «شيخ الإسلام» و حرّم الزواج بالفرنسيات
و لأن العلامة عبد الحميد بن باديس كان واعيا بضرورة انتشال الجزائريين من الضلالات و البدع التي كادت أن تنحرف بهم عن الإسلام الصحيح، قرّر دخول معترك الصحافة و بدأ من جريدة المنتقد التي أسّسها سنة 1925 و كان شعارها «الحق فوق كل أحد و الوطن قبل كل شيء»، و عنها قال لنا شقيقه عبد الحق أن 18 عددا فقط من هذه الجريدة صدر، حيث تم توقيفها عن الطبع عندما نشر فيها ابن باديس مقالا انتقد فيه الطُرُقية، مضيفا أن اختيار تسمية “المنتقِد” جاء لأن الزوايا كانت تعمل حينها بشعار “اعتقد و لا تنتقد”، فرد عليهم ابن باديس قائلا “انتقد قبل أن تعتقد”، لأنه كان يرفض كل ما يراه خاطئا و يُعبر عن ذلك دون خوف.ابن باديس أسّس مطبعة النجاح، ثم في 16 أفريل 1925 “المطبعة الجزائرية”، التي تقرّر تغيير اسمها إلى “المطبعة الجزائرية الإسلامية” لكي لا يتشابه مع مطبعة أخرى موجودة بالعاصمة، حيث طُبعت فيها الشهاب و البصائر و مجلات و جرائد أخرى، و في هذا الشأن أوضح السيد عبد الحق أن البلدية أخطأت بوضع لافتة تحمل عبارة “المطبعة الإسلامية الجزائرية” بهذا المعلم التاريخي، الذي لا يزال يشهد وضعا كارثيا سبق و أن تطرقت إليه النصر، و نجم عن توقف الترميمات منذ قرابة 3 سنوات.
يضيف السيد عبد الحق أن العلامة الذي أسس فيما بعد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931، حرّم التجنس بالجنسية الفرنسية آنذاك، فقد رأى في ذلك تخلّ عن الدين و الهوية، كما حرّم الزواج بالفرنسيات و عدّه خضوعا للقوانين الفرنسية يمسّ أيضا الأبناء و يُبعد صاحبه عن الإسلام، و قد أصرّ ابن باديس على مواقفه التي كانت تنبذ كل ما يأتي من المستعمر، حتى أنه رفض عروضا قدّمها له الفرنسيون بأن يصبح “شيخ الإسلام” و مدير مدرسة.
و ما ساعد العلامة على الثبات عند مواقفه، يُردف محدثنا، هو أن والده كان قائما على جميع مصاريفه و لم يكن بذلك في حاجة إلى وظيفة، و في أحد أعداد جريدة الشهاب كتب ابن باديس كلمة عن أبيه محمد بن مصطفى قال فيها “أولا والدي الذي قاتني و حماني”، فهو الذي استطاع تدريس اللغة العربية بالجامع الأخضر رغم أنها كانت ممنوعة، و كل ذلك بفضل والده.
من محاولة قتل فاشلة إلى مصالحة تغلّبت على الخلافات
السيد عبد الحق بن باديس عاد بنا إلى محاولة الاغتيال التي تعرّض لها شقيقه العلامة سنة 1926 ردا على مقال انتقد فيه زاوية بن عليوة في مستغانم، ففي تلك الليلة المشؤومة و بينما كان ابن باديس عائدا من الجامع الأخضر إلى منزله، باغته شاب ترصّده متخفيا قرب أحد السلالم المتفرعة عن شارع العربي بن مهيدي، حيث ضربه على رأسه بسلاح يطلق عليه “سدر الدجاج” و يشبه السيف، ثم حاول إدخاله بالقوة إلى نفق قريب و ذبحه بسكين “البوسعادي”، لكن عبد الحميد بن باديس قاومه بشجاعة و بدأ يدفع الُمعتدي باتجاه الدرج و يصرخ، ليهرع السكان إلى نجدته و يمسكوا بالشاب، غير أن العلامة منعهم من إيذائه رغم أنه أراد قتله، و عن هذا الموقف الإنساني النبيل، ذكر السيد عبد الحق أن الطيب العقبي كتب قصيدة نشرت في جريدة الشهاب قال فيها:
كادوا به يسطون لو مكنتهم *** من قتله لسطوا به لولاكا
لله موقفك العجيب بنهيهم *** عن قتل من للقتل قد وافاكا
علّمتهم كيف التحمل للأذى *** فتعلموا درسا على بلواكا
يوم المحاكمة، قال ابن باديس إنه سامح الشاب، لكنه دعا إلى معرفة من سلّحه و دفعه إلى هذا الفعل الشنيع، قبل أن يُحكم عليه بالسجن لخمس سنوات و تُبيّن التحقيقات، حسب شقيقه عبد الحق، أن شيخه بزاوية بن عليوة هو من أعطاه “البوسعادي”، و طٌلب منه أن يذهب في اليوم الأول إلى الجامع الأخضر، ثم يقترب قدر المستطاع ليعرف من هو ابن باديس، و عند خروجه يتتبعه و يعرف مساره، لكي يذبحه في اليوم الموالي و يكون ذلك له بمثابة “التبرّك بذبح دجاجة”، فجاء ذلك الشاب متحمسا و اشترى تذكرة للذهاب، و أخرى للعودة إلى مستغانم عبر العاصمة وُجدت بحوزته.
ويضيف السيد عبد الحق، أن العلاّمة و عندما تيّقن أن مدة سجن ذلك الشاب انقضت، سافر إلى زاوية ابن حلّوش في مستغانم أين استُقبل من طرف شيخها أحسن استقبال، كما ألقيت هناك دروس بمناسبة قدومه، كان من بين الذين حضروها “سيدي بن عليوة” شيخ الطريقة العليوية، الذي أمر ذات يوم بقتله، و قد استغل ابن باديس هذه المناسبة لإلقاء محاضرة دعا فيها أهل العلم إلى التعاون فيما بينهم، و قال إن “الخلاف عند العقلاء مقبول”. و ذكر ابن باديس لاحقا في إحدى مقالاته، أنه لمس “أدبا” من الشيخ بن عليوة و لم يتطرق كلاهما إلى الخلافات السابقة، حتى أنه وّجه إليه دعوة لزيارة زاويته بحضور الطلبة الذين كان بينهم من حاول قتله، و هو موقف يُجسد معنى العفو و المصالحة، يقول السيد عبد الحق بن باديس.
سيارة الوالد للتنزّه في جبل الوحش و المنصورة
و معروف أن العديد ممّن قادوا الثورة التحريرية ضد المستعمر، كانوا يوما ما تلاميذ عبد الحميد بن باديس، و قد نُقل عنه، حسب شقيقه عبد الحق، أنه كان ينتظر إعلان إيطاليا الحرب على فرنسا من أجل الثورة ضدها، لكن شاء القدر أن يفارق الحياة قبل إعلان إيطاليا عن تحالفها مع دول المحور بقيادة ألمانيا.
رغم ذلك، قال ابن باديس ذات يوم “الشعب الذي لا يمكنه أن يصنع إبرة، كيف له أن يثور”، لذلك فلم يكن ينظم الشعر كثيرا، و أول بيتين كتبهما كانا أثناء المرات القليلة التي كان يقوم فيها بالتنزه مع شقيقه عبد الحق في سيارة والدهما بمنطقتي جبل الوحش و المنصورة، حيث طلب بسرعة من أخيه أن يأخذ ورقة و يدوّن:
كم عالم يسكن بيتا بالكراء *** وجاهل يملك دورا و قرى
لما قرأت قوله سبحانه *** نحن قسمنا بينهم زال المِرا
ويضيف السيد عبد الحق أن العلاّمة ابن باديس لم ينظم الشعر منذ ذلك الوقت لانهماكه في تفسير القرآن، لكن عندما بدأت دعوات الاندماج كتب قصيدته الشهيرة “شعب الجزائر مسلم و إلى العروبة ينتسب”، و بعدها قصيدة “اشهدي يا سماء و اكتبن يا وجود”، و قد كانت فيها دعوة صريحة إلى الثورة ضد المستعمر، قبل أن يترك للجزائريين وصية تظهر في إحدى صوره، قال فيها:
سينحل جثماني إلى الترب أصله *** و تلتحق الورقا بعالمها الأسمى
و ذي صورتي تبقى دليلا عليها *** فإن شئت فهم الكُنه فاستنطق الرسما
و عن صدق إحساس تأمّل فإن *** في ملامح المرء ما يكسب العلما
و سامح أخاك إن ظفرت بنقصه *** و سل رحمة تُرحم و لا تكتسب إثما
لم يعترض على اقتناء شقيقه لبيانو
و قد نبذ عبد الحميد بن باديس محاولات التفرقة بين الجزائريين، فقال في الأمازيغ “ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان” و بأن “أبوهم الإسلام و أمّهم العربية”، كما ذكر شقيقه عبد الحق بأنه و زيادة على حبّه للكشافة، أيّد العلاّمة الفن و الرياضة، فكان يشجع طلبته على الذهاب في أيام الراحة للعب في المنصورة و السباحة في مسبح سيدي مسيد، كما شجّع الشباب الفني الذين كانوا يعزفون الموسيقى باستعمال العود و الكمان، حتى أن أحد أعضاء الفرقة هو من لحّن أنشودة “شعب الجزائر مسلم و إلى العروبة ينتسب”. ويضيف محدثنا أنه لم يسمع شقيقه الأكبر عبد الحميد يتكّلم يوما باللغة الفرنسية، لكنه كان منفتحا غير متعصب، حتى أنه، أي عبد الحق، يملك بيانو من وقت العلامة، مثلما أكده للنصر، مضيفا أنه شجّع أيضا الرياضة و اقترح تسمية الفريق الرياضي “مولودية قسنطينة” بهذا الاسم، حيث اشتقه من ذكرى المولد النبوي الشريف.
على فراش الموت..
السيد عبد الحق بن باديس نفى الإدعاءات التي تقول بأن العلامة توفي بسبب السرطان وكذلك الرواية التي روّجتها ألمانيا عبر الإذاعة، بأن فرنسا قتلته، و الحقيقة، مثلما يضيف، أن سبب وفاته هو التعب و الإرهاق، إذ لم يكن يتوقف عن العمل من الفجر إلى الليل، فقد لزم الفراش ليومين أو ثلاثة قبل أن يفارق الحياة يوم 16 أفريل 1940.. في تلك الليلة، يستذكر شقيقه و دموعه تنهمر بحرقة، كان بجنب العلامة الوالد و الأخ الأكبر المولود و الدكتور بن جلول و بروفيسور فرنسي استُدعي من العاصمة، و قبل ذلك كان عبد الحق ينام قربه لكي يجلب له ما يريد، لكن في اليوم الثالث و عند الساعة الثانية، خرج الأب و الطبيب و أعلما العائلة بالخبر الذي نزل عليهم كالصاعقة. جنازة عبد الحميد بن باديس كانت مهيبة، و لم ينتظر آلاف سكان قسنطينة الحصول على ترخيص بالتنقل من الفرنسيين، لحضورها، حيث تم تصويرها من إحدى نوافذ المجلس الإداري المُطل على “البولفار” عند خروج الجثمان من القصبة، ثم قرب البريد المركزي و حي “سان جان” و بعدها قرب المقبرة التي لم تكن حينها محاطة بسور، لذلك تظهر الصور حشدا كبيرا من الجزائريين امتد من “سان جان” إلى غاية المقبرة، أين ألقى تأبينيته الشيخان العربي التبسي و مبارك الميلي، اللذين كانا مُقرّبين من العلامة كثيرا، فيما تغيّب رفيقه البشير الإبراهيمي لتواجده في المنفى، و هو الذي وضع ابن باديس في منزلة الصحابة، يضيف شقيقه، عندما قال إن الأيام التي قضاها بالضبط في تفسير القرآن الكريم، تُعادل 23 سنة، و هي المدة التي نزل فيها القرآن على الرسول محمد عليه الصلاة و السلام.
عبد الحق بن باديس قال إن “يوم العلم” الذي تحتفي به الجزائر كل عام منذ عهد الرئيس الراحل هواري بومدين و طالب الإبراهيمي، جاء في ذكرى وفاة العلامة و ليس ميلاده، لكي يُحتفل بالرجل و ما تركه من أثر و ليس بمولود جديد لم يكن قد قدّم شيئا للعالم، مُنتقدا الطريقة التي كانت تُحيى بها هذه الذكرى وسط ما أسماه “التطبال و الشطيح”، لكنه استدرك قائلا بأن الاحتفالات أصبحت حاليا “في المستوى”، و عن تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية التي كان انطلاقها و ختامها الرسميان في ذكرى يوم العلم، أكد محدثنا أن مؤسسة عبد الحميد بن باديس لم تُشرك أو تُستدعى فيها، و بأنها تحوّلت إلى مناسبة للغناء و “الطبطيب”، على حد قوله.
بعد قرابة ساعة و نصف من الحديث، قرّرنا ترك السيد عبد الحق الذي يفوق عمره اليوم 90 سنة، لأخذ قسط من الراحة وسط كل تلك الذكريات، و ودّعناه على أمل لقاء ثانٍ قد يكشف فيه أسرارا أخرى عن رائد النهضة الجزائرية.
بقلم: ناصر حمدادوش - يؤكد “مالك بن نبي” في كتابه “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”…
بقلم: محمد الهادي الحسني - منذ عشر حِجَجٍ، وفي يوم 14-12- من سنة 2013 جاء…
بقلم: د. علي الصلابي- كانت نفسية ابن باديس وأشواقه الروحية تواقة إلى التضحية في سبيل…
بقلم: د. علي الصلابي- استعمل عبد الحميد بن باديس في العديد من مواضيع شعره ونثره،…
بقلم: د. توفيق جعمات- لم تكن مدارس جمعية العلماء المسلمين مجرد فصول تعليمية أو كتاتيب…
بقلم: عبد الحميد عبدوس- تعرفت على الكاتب المفكر والطبيب المجاهد الدكتور السعيد شيبان في سنة…