محمد باباعمي
بقلم: د. محمد موسى باباعمي -
إنَّ الحمد لله وحده، نحمده، ونستعينه، ونستهديه... ونصلِّي ونسلِّم على المبعوث رحمة للعالَمين، من قال له ربُّ العزَّة: «وإنَّك لعلى خلق عظيم» )القلم: 4)، وخصَّه بالخطاب ثانية، فقال: «وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ، فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (الأنفال: 62).
ثمَّ أمر الله تعالى في محكم تنزيله المؤمنين مجتمعين، في كلِّ عصر ومصر، أن يلزموا التوحيد والوحدة، فقال لهم: «وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ، وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا، وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (آل عمران: 103).
غير أنَّ كثيرا من المسلمين – للأسف – اعتبروا الأمر في مثل هذه الآيات للندب لا للوجوب، وإنَّ بعضهم ليحرص على السنن والنوافل الحرص كلَّه، ويتحرَّز في أداء شعائره إلى حدِّ الوسواس، وهو في ذات الوقت يضرب بهذه الآيات عرض الحائط، ويخالفها سرا وجهرا، فيعمل على زرع الفرقة والشحناء، ويستجيب لنداء العداوة والبغضاء... هذا الذي أعيى المسلمين ولا يزال، ومزَّقهم أيَّ ممزَّق، وكأنَّ قول الله تعالى في سلفهم من أصحاب محمد عليه السلام: "أشدَّاء على الكفَّار رحماء بينهم" (الفتح 29)، يصدقُ في أعدائهم ولا يصدق في أغلبهم.
غير أنَّ الروح التي سرت في جسم الأعلام المؤسسين لجمعية العلماء المسلمين، هي روح التوحيد، بأشمل معانيها: من توحيد الخالق إلى توحيد المنهج، ومن توحيد الصفِّ إلى توحيد الإيقاع... فتميزوا بذلك عن كثير من معاصريهم، وكانوا بحقٍّ مجدِّدي هذا الزمان.
شعار هذه الروح وعنوانه، مقولة رئيس الجمعية العلاَّمة ابن باديس: «إنَّ ما جمعته يد الرحمن لا تفرِّقه يد الشيطان».
خبرةُ العلماء المؤسسين وحنكتهم كانت وليدة الإخلاص لله تعالى وحده، مرجعها في ذلك «نصوص الدين: من كتاب الله، وصحيح السنَّة، وإجماع السلف»، وللجمعية – كما يقول الشيخ البشير –: «آراءٌ محَّصتها التجربة، وأيدها المنطق؛ ومواقفُ لم تراع فيها إلاَّ المصلحةَ المحقَّقة أو الراجحة؛ ولم تبال في مواقفها بمن طار ولا بمن وقع، فالطائر قد تصدمه نواميس الخفَّة والثقل، فينقلب مضعضعا أو مكسورا، والواقع قد تزعجه الحوادث فيتحرَّك مختارا أو مقهورا» (البصائر، عدد2، س2، سنة 1947).
ولذا كان ردُّ فعل المستعمر متمثلا فيما كتب في جريدة "Echo de Paris" : «إنَّ الحركة التي تقوم بها جمعية العلماء المسلمين في الجزائر أكثرُ خطرا من جميع الحركات التي قامت حتى الآن».
ولقد مزجت الجمعية بذكاء بين مناطق الجزائر جنوبها وشمالها، شرقها وغربها؛ ثم وحَّدت بين الأجناس، فلا تَسمع عن فلان العربي، أو علاَّن البربري؛ وإنَّها صقلت – من بعد ذلك – بإبداع منقع النظير بين المذاهب، فلا فرق بين مالكي وإباضي، ولا حنفي ولا شافعي إلاَّ بالتقوى... فالصالحون عندهم هم المتقون من كلِّ جهة وعرق ومذهب، والطالحون هم الظالمون الفجَّار والفاسقون، وأعداء الإسلام والعربية والوطن.
فقد شارك في التأسيس الفحولُ من كلِّ الجهات والفئات والمذاهب، ومن جملة من شارك إلى جوار العلاَّمة الرئيس ابن باديس، والإبراهيمي، والتبسي... كلٌّ من الشيخ بيوض وأبي اليقظان والبكري... وغيرهم كثير.
ثمَّ، إنَّ الجمعية وقفت وقفتها التاريخية في المقاطعة التي تسبَّب فيها بعض العملاء، بإيعاز من فرنسا، في الفترة ما جوان 1955- وأفريل 1956، ولقد أصدرت الجمعية بيانا أنهى المقاطعة، وردَّ المياه إلى مجاريها، فأخمد نار الفتنة... ولولاه لكانت مصيبةً على الوطن، وعلى الدين... لا يحدُّها حدٌّ، ولا يحصيها عدٌّ.
ومن آثار الروح التوحيدية التي سرت في علماء الجزائر، من خلال جمعية العلماء، ذلكم الموقف التاريخي الذي وقفه الشيخ بيوض من فرنسا، حين أرادت فصل الصحراء عن الشمال، ورمت إلى اقتطاع جزء من أرض الجزائر؛ لتجعل منه محميةً بترولية تابعة لفرنسا، يتحكَّم فيها اليهود، ويديرون دواليبها، شأنَ بعض الأراضي العربية اليوم. (ينظر موقعين اثنين في هذا الشأن: زلابية www.zlabia.com ، بالوقة: www.balouka.com).
وعن نفس الخط التوحيديِّ، يقول الدكتور محمد ناصر: «وتفويتا لمخطَّطات الاستعمار التي كانت ترمي إلى تفريق الشعب الجزائري، باستغلال نقاط الضعف كما أشرنا، وجَّه الشيخ بيوض جهودا عظيمة للتغلُّب على بعض الأفكار المتسرِّبة من عهود الفتن والصراعات المذهبية، واهتدى إلى خطَّة عملية أساسها التدريس في المسجد، وهدفها الطبقات المختلفة من عامَّة الناس؛ فإلى جانب تفسير كتاب الله العزيز الذي نهج فيه نهج محمد عبده، وهو الذي أعطى له حياته كلَّها، قام بشرح كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، الذي ابتدأه سنة 1350هـ / 1931م، واختتمه بعد أربعة عشر عاما، أي سنة 1364هـ / 1945م، في حفل مهيب» (الشيخ بيوض مصلحا وزعيما، ص20).
ولعلَّ هذه المبادرة، المتمثلة في شرح كتاب للحديث، ومصدر للفقه، من غير مذهب الشارح، كانت جديدةً كلَّ الجدَّة، لم يَسبق إليها أحد من علماء الإباضية في وادي ميزاب، في حدود ما اطلعنا عليه. وليس أدلَّ على أثر جمعية العلماء في هذا السبيل من تزامن تاريخ بداية الشرح مع سنة إنشاء الجمعية، أي سنة 1931م، ومن المؤكَّد أنَّ ذلك لم يكن اعتباطا ولا ضربة لازب.
روح التوحيد تسري من السلف إلى الخلف:
رغم الضعف والوهن الذي أصاب الجمعية ردحا من الزمان، وذلك بُعيد الاستقلال مباشرة، لأسباب سياسية واجتماعية، واقتصادية؛ غير أنَّ الخلف بقي على العهد في تعشق التوحيد والإيمان، والدفاع عن الأخوَّة في الدين والوطن، لا يثنيه عن هذا الموقف مخادع، ولا يستمليه مخاتل.
وإن كنتُ أنسى فلن أنسى ذلكم اليوم الذي هاتفني فيه أستاذي الدكتور عبد الرزاق قسوم، رئيسُ تحرير "البصائر" في سلسلتها الرابعة، فقال: «نحن عازمون بإذن الله تعالى على إحياء جريدة البصائر، ورجاؤنا أن يكون ضمن فريق التحرير أحدٌ الإخوة من الإباضية، فكلُّ رجائي أن تكون أنت صاحبَ هذا الفضل».
اضطربت جوانحي، وارتجفت فرائسي، فما أنا بالرجل المناسب لهذا المنصب الخطير، ولقد كنتُ ولا أزال تلميذا في صفِّ أستاذي الدكتور قسوم وأترابه... فما الحيلة إذن؟
كانت الحيلة التي حاولت أن أتملَّص بها عن الورطة، طلبَ استشارة أبينا الروحي الشيخ عدون، علَّة يشفع فيَّ ويعفيني من هذه المهمَّة، لكنَّني ما إن سألته، وسألته رأيَه، حتى هبَّت في أوصاله روح الوحدة، التي امتزجت بدمه وعظمه، وتذكِّر العصور الذهبية لجمعية العلماء، فهو في – ولا شكَّ – من جيل الصحابة، ومن الرعيل الأول... فقال: «يصعب علينا أن نهدم سورا لنبني سورا، ولكنَّ السور العام أولى من السور الخاص، فتوكل على الله، وباشر مهامك، وليكن رائدك الإخلاص» (يقصد بالسور الخاص: وظيفتي في جمعية التراث، وفي معهد الحياة؛ وبالسور العام: جمعية العلماء) (انظر- باباعمي: الشيخ عدون قطب المخلصين، وإمام العاملين، نفسه).
فما إن هلَّ هلال صفر، 1421هـ، ماي 2000م؛ حتى كانت العدَّة قد أعدَّت، والمقالات قد كتبت وصفِّفت، فما بقي من الإدارة التي يترأَّسها الشيخ الإمام عبد الرحمن شيبان، إلاَّ أن تقدِّم العدد الأول على بركة الله للمطبعة، لكن لن يكون ذلك قبل وضع بصمة التوحيد والوحدة في أوَّل صفحة من الجريدة؛ فردَّد الشيخ – وهو ديوان الجمعية وإمامها اليوم – تحت عنوان "مسيرة البصائر"، ما كتبه المصلحُ المرحوم باعزيز بن عمر، حين قال: «مرحبا بجريدة جمعية العلماء المسلمين، التي نحن لها على العهد القديم وإن طال، مرحبا بالبصائر تزيل الغشاوة عن الأبصار، وتنير البصائر بنور العلم الصحيح، والدين القويم، وتنشر الفضيلة الإسلامية، فيتجدَّد التملِّي بها» (سلسلة 4، عدد 1، صفحة 1).
وهل في الوجود غشاوةٌ أفظعُ من غشاوة التقاتل في الدين، وهل العلم الصحيح إلاَّ مدعاةً للوحدة والتوحيد، وهل الدين القويم إلاَّ حبلَ الله المتين، وهل من فضيلة أبلغ من إقامة الدين، ونبذ الفرقة فيه، ألم يقل جلَّ من قائل: «شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا، وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» (الشورى: 13)، ألم يأمر ربُّ العزَّة رسوله الكريم بقوله: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ» (الأنعام: 159).
ويكتب الدكتور عبد الرزاق قسوم تحت عنون: "عهدٌ جديد"، ما يعبِّر به عن هذه الروح التوحيدية، فيقول: «فإلى شعبنا الجزائري النبيل، وإلى المجدِّدين فيه، من رجال الفكر والثقافة، وحُماة الحرف العربي، والمعتقد الإسلاميِّ، طُلابا ومدرّسين، رجالا ونساء، نضع بين أيديهم العددَ الأول من البصائر في عهدها الجديد، باسطين أكفَّ التعاون، فاتحين قلب المحبَّة والإخاء والبناء». (نفسه).
حقا لقد صدق أستاذنا، فما تزال قلوبهم الحانية المؤمنة تنبض دما طاهرا نقيا، يستبدل بالكريات البيضاء والحمراء كريات "المحبَّة" في الله، والإخاء فيه، والبناء طلبا لرضاه. وبهذه الروح العالية دبَّت الحياة في جسم آلاف الشباب، بل الملايين، من أبناء جزائر اليوم... ممن يئس من الخطابات المفرِّقة، ومجَّ الانتماءات المميتة، وهو الذي عايش عشرا من السنين تفوق في شؤمها أيامَ قوم عاد، التي قال عنها جلَّ من قائل: «سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ» (الحاقة: 7). عشرٌ من السنين لم تُبق ولم تذر، أكلت أخضر الجزائر ويابسها، شيبت عنوة ولداننا، واستخفَّت بأحلام شيابنا؛ ذلك أنَّ القاتل فيها والمقتول محسوبون من زمرة المسلمين، وهم أبناء الجزائر المجيدة، يأويهم دين واحد، ويجمعهم مصير واحد... لكنهم مع ذلك، افتقدوا روح التوحيد، التي كانت جمعية العلماء تغرسها فيهم، من خلال مدارسها، وجرائدها، ومحاضراتها، ولقاءاتها، ومواقفها... ولقد صدق أمير المؤمنين عمر يوم قال: «كيف يهتدي المستدلُّ المسترشد، إذا كان الدليل حائرا».
وكتبَ الإمام العلامة الشيخ عدون "تحية للبصائر"، يعبِّر فيها عن الفرحة العارمة التي غمرته بإحيائها، وعن الأمل المعقود عليها وعلى الساهرين في بعثها، فقال: «كان لهذه المؤسسات – أي جمعيات الإصلاح في الشمال والجنوب – الفضلُ الأكبر في إيقاظ الأمة الجزائرية وتحسيسها وتوعيتها للقيام بواجبها الديني، الذي يشمل جوانب الحياة الكريمة كلِّها من غير استثناء، فهبَّت بمقتضى هذا الشعور العارم ومن ورائها الشعب الكريم إلى انتزاع الحياة الكريمة من شِدقيْ غول الاستعمار الغاشم...» إلى أن يقول: «ولئن خلَت من قلم مديرها الوفي ومحرِّرها الأبي الإمامِ البشير الإبراهيمي، الذي كان يرصِّع صدرها بقلمه البالغِ الأوجِ في البلاغة والبيان، والقمَّةِ في الدعوة والإرشاد، والسموِّ في التفكير والتنوير؛ فلن تخلوَ بإذن الله تعالى من أقلام باعثيها الأوفياء من أبنائه البررة، ومريديه الطيبين، وناهجي نهجه القويم، في الإيمان بالله؛ ذلك الإيمان الذي دعاهم إلى بعث هذا المنار وإصداره في هذا الوقت العصيب؛ كان الله لهم وليا ونصيرا» (البصائر: عدد 1، ص1، 12).
ولقد أبلت الجريدة البلاء الحسن فيما توالى من الأعداد، فنشرت مقالات وبحوثا، تنتظم جميعها في صفِّ التوحيد والوحدة، ولا تحيد عنها قيد أنملة، فهي – وإن كان بعضها دون المستوى المطلوب أسلوبا وفكرا – غير أنَّها لم تظلم من حقِّ الأخوَّة في الله شيئا، ولم تزغ عن الخطِّ المقدَّس يوما... وما شهدنا إلاَّ بما علمنا، والله على ما نقول وكيل.
ومن أبرز الأقلام التي هزَّت أركان الجريدة، وشدَّت القرَّاء إليها ردحا من الزمن، ما كتبه سليل البشير الإبراهمي، ووارثُ أدبه - كما كان يلقِّبه بعض المشايخ : أستاذُنا محمَّد الهادي الحسني، فقد كان رمز الوحدة ومثال الإخاء، كتب مقالات ناريةً تُغيظ الكفار، وتشفِ صدور قوم مؤمنين...من بينها نذكر:
*كملة في غير موضعها، تصحيحا لمفهوم الأخوَّة، وفيها يردُّ على رئيس مجلس الأمَّة، وينقد استعماله لكلمة "الأخ" في حقِّ الرئيس الفرنسي، فيقول: «إنَّ كلمة الأخوَّة تحمل شحنة كبيرة من المعاني والمشاعر النبيلة، كالحبِّ، والتضامن، والتناصر، والآمال، والآلام، والاحترام... ولذلك اختارها شعبنا العربي المسلم ليطلقها على الصفوة من أبنائه الذين نفروا ليجاهدوا في سبيل الله والوطن ضدَّ الفرنسيين» (من وحي البصائر، ص37).
*الإمام إبراهيم بيوض، ودوره في الحركة الوطنية الحضارية؛ وهي محاضرة ألقاها الأديبُ الهادي، في الملتقى الأول لفكر الإمام إبراهيم بيوض، الذي عقد في القرارة أيام 13-14 أفريل 2000م. ومما ورد فيها أنَّ علماءنا – وفي مقدِّمهم رواد جمعية العلماء – استطاعوا بتوفيق من الله تعالى أن يُفشلوا المخطَّط الفرنسي الصليبيَّ. ذلك أنهم كانوا من زمرة مَن «فقهوا دينهم، وقبضوا قبضة من أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في الدفاع عن الحقِّ، والاستمساك بالصدق، فبلَّغوا ما حملوا من أمانة العلم، ووقفوا إلى جانب شعبهم، يثبِّتونه بالقول الثابت، ويربطون على قلبه، ويرابطون على ثغره، وكانوا له معقِّباتٍ يحفظونه من أمر الله، ويصونون خصائصه أن تزول، ويثبِّتون مميزاته أن تحول، ويُعدونه ليوم الفصل، الذي كانوا يرونه قريبا ويراه غيرهم بعيدا» (نفسه، ص87).
*وفي مقال تحت عنوان: إغاظة الشيطان في بريان، يقول الحسني: «تآمر عليَّ فضيلة الشيخ عدون وبطانته الخيِّرة، فطلب مني إلقاء كلمةٍ، فقلت – بعد أن تمنَّعت وأنا راغب –: لقد بلغ الغضبُ – اليوم – من الشيطان مبلغا عظيما، فقد ارتفع ضغطه، وزاد سكَّره، وضاق صدرُه، حتى سمعنا له شهيقا وزفيرا... وذكرتُ ما قاله أحد إخواننا الزواويين، وهو أنَّ الله عزَّ وجلَّ لن يطلب منا – عندما تأتي الساعة – لا شهادةَ الجنسية، ولا شهادةَ الميلاد، ولكنه سيطلب منا شهادة السوابق الفعلية. وزدتُ – يواصل الحسني –: إنه سبحانه لن يسألنا إن كنا مالكيين، أو إباضيين، أو لا مذهبيين، ولكنه سيسألنا إن كنَّا حقا مسلمين». وأردف الشيخ الحسني مخاطبا الجمهور بأسلوبه الظريف المعتاد: «قصصتُ عليهم طرفة، وهي أنني مازحتُ – يوما – أخي الدكتور محمد ناصر الميزابي، فقلتُ له: إن صحَّ الحديث المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل بافتراق أمته إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلاَّ واحدة... فلا تطمعوا – أنتم الإباضيين – أن تكونوا الفرقة الناجية، ولكن المشكلة هي أنني أحبُّ أن نكون معا في الجنة – إن شاء الله – فإذا كنتم أنتم الفرقةَ الناجية، فمعنى ذلك أنني سأساق إلى جهنم، وإذا كنا نحن الفرقة الناجية فستساق إليها.
فتبسم أخي محمد ناصر من قولي، وقال: إنَّ الفرقة الناجية – إن شاء الله – هم الطيبون من كلِّ مذهب... وأُشهِد الله أنَّ أخي محمد ناصر، قد أزاح بكلمته تلك جبلا كان ينقُض ظهري، ويكبُت على صدري... فتأثر الجميع لتلك الطرفة، وضحكوا حتى مال بعضهم على بعض» (نفسه، ص424).
جمعية العلماء تكرَّم الشيخ عدون
في لفتة طيبة، وإيمان بالوحدة راسخ، كرَّمت جمعيةُ العلماء فضيلةَ الإمامَ الشيخ عدون، وإن كان ممن ينكر البهرجة، ويمقتُ الظهور،فهو الذي: «يأبى تواضعُه إلاّ التنكرَ للذات، ونسبةَ الفضل لغيره، واستصغارَ ما بذل، واعتبارَ جهاده طيلة قرن من الزمان مجرَّد قطرة في محيط جهود العاملين، ونكرةٍ في قاموس أعلام الإسلام السامقين» (باجو مصطفى: عندما تغيب شمس العلماء، ص19).
فقد قبل الشيخ عدُّون هذا التكريم على مضض، معتبرا في ذلك مقصدَ الوحدة، ورمز الأخوَّة الإسلامية، مقدِّما للجيل اللاحق من أبناء الجزائر دليلا آخر على وجوب الحبِّ في الله والبغض في الله.
وقد أعلن الشيخ عبد الرحمن شيبان بكرمه، أنَّ «الشيخ عدون هو الرئيس الشرفي لجمعية العلماء المسلمين، واعتبره من قادة النهضة الإصلاحية أمثال الشيوخ محمد عبده، ورشيد رضا، والإبراهيمي، وبيوض... وغيرهم، عليهم جميعا رحمة الله ورضوانه».
ففي هذه المناسبة كتب الدكتور عبد الرزاق قسوم مقالا بديعا، استفتحه بنفَس إيمانيٍّ فائق، وبأدب عربي رائق، فقال: «عندما تُشرق شمسُ الحياة من جنوب وطننا، حاملة في أشعَّتها ضِياء القرآن، وصَفاء العلم، وإخاء الإصلاح، فتدِبُّ في أوصال أبناء الجزائر مبدِّدة في أجسامهم كلَّ صيِّب من الاستعمار، فيه ظلم الاحتلال، وظلمات الجهل، وظلامية النعرة الطائفية أو المذهبية، ساحقةً وباء فقْدِ المناعة الوطنية، وثاني أكسيد الغزو الثقافي...» (البصائر: عدد 197؛ الاثنين 3-10 جمادى الأول 1425هـ / 21- 28 جوان 2004م، ص06).
وللشعر حضور في مسيرة الوحدة والتوحيد
في ذات المناسبة، التي كرِّم فيها فضيلة الشيخ عدون، ألقى الشاعر محمد ناصر قصيدة، هزَّت أفئدة الحضور، وذكَّرتهم بعهود الأدب الذهبية، وبصولات الإبراهيمي، والورتلاني، ومحمد العيد، ومفدي زكرياء... وغيرهم من الفحول الأقحاح... فقام الشيخ شيبان وخاطب الجمهور قائلا: «إنَّ جزاء الدكتور محمد ناصر لتهنئته بهذه القصيدة الرائعة، هي أن يقبَّل رأسُه من قبل جميع الحاضرين في هذه القاعة... فاستحسن الحاضرون هذه التحية الكريمة والإشارة البليغة».
ولا شكَّ أنَّ القصيدة كانت رائعة في شكلها وفنِّها، وفي بلاغتها وبيانها، لكنها – ولا ريب – تستمدُّ جلالها من محتواها، ومن نفحاتها القرآنية، وروحها التوحيدية... فمما جاء فيها:
أبتاه مهما حلَّقتُ بالشعر، فدون سماك آفاق عَلية
مهما تسامى الشعر لن يرقى إليك معلِّمي، فلأنت أشرف أفضلية
إلى أن يقول:
علَّمتنا ألاَّ نرى غير السماء تديُّنا، وتسامِيا فوق الدنية
وتطلُّعا للعلم ليس بمنتهٍ، ما لم يشوِّه من أصالتنا الغنية
لقَّنتنا قيم الصلاة، فحوَّلت منا النفوسَ مآذنا شعَّت سنية
عوَّدْتنا فَرض الجماعة، فانصهرنا في الجماعة، لا ندين بطائفية
وتوحَّدت خطواتُنا نحو الغدِ البسام، نمضي في طريق سندسية
الدين أرضعنا، فآخى بيننا، والدين للأفكار رابطة قوية
ثم ينهي الدكتور الشاعر قصيدته بلمسة من الأدب الرفيع، والخلق الوديع:
أبتاه مهما حلَّقتْ بالشعر أخيلتي، فدون سماك آفاقٌ علية
أهديتُ شعري باقة لك يا أبي، هلاَّ قبلتَ مع اعتذاري الهدية
حسبي شفيعا أنني من روضك الفينان أقطف لك باقة شاعرية.
جمعية العلماء تشارك في تأسيس دور القرآن
اقتفاء لآثار مشايخنا وعلمائنا، اجتهدنا – رفقة ثلة من الشباب – في تأسيس العديد من دور القرآن الكريم، بالجزائر العاصمة، ولقد أردناها بعون الله تعالى معقلا للتوحيد، وقلعة للوحدة...
ففي يوم الخميس 07 ذو القعدة 1426هـ / 08 ديمسبر 2005م؛ افتتحت بحمد الله دار للقرآن، فكان لها الشرف أن يساهم في اختيار الاسم ثلة من العلماء، وهم: الدكتور قسوم، والشيخ الحسني، والشيخ شريفي بلحاج، والدكتور محمد ناصر، والدكتور محمد شريفي.
وفي كلمة الافتتاح حاولنا أن ننبه إلى جملة من الحواجز، تعيق نهضة الأمَّة، لعلَّ أعقدها "حاجزُ الحمية"، المتمثل في الإحساس المفرط بالمذهبية، والعرقية، والجهوية...
وقد ذكرنا يومها أنه «قد آن الأوان أن نكون صُرحاء مع الذات، صُرحاء في حقِّ ديننا وقرآننا، ونعلنها - كما أعلنها بعض العلماء المخلصين من أساتذتنا الحاضرين -: إنَّ الفساد ليس له مذهب، ولا منطقة، ولا عرق، ولا لون... إنَّ المفسد اليوم يصول ويجول بلا حدود؛ أمَّا المصلحُ فقد بنى بينه وبين المصلح الآخر أسوارا من الأوهام... نقول ولا نبالي: إنَّ الإباضي المصلحَ أخ للمالكي المصلح، وللشافعي المصلح، وللشيعي المصلح... وهم جميعا أعداءٌ للمفسدين، مهما كانت انتماءاتهم وأيديولوجياتهم.
من هذا المنطلق، نبشِّر الحاضرين أنَّ دار القرآن الكريم، اختارت لها اسما من أعلام الفكر المعاصر، إنـَّه أحد أعلامنا الأفذاذ، الذين دافعوا عن الأخوَّة الإسلامية عقيدة وفكرا، سياسة وفقها...»
فولدت في هذا الجو التوحيدي الوحدوي دار "مالك بن نبي" للقرآن الكريم، وقد خرَّجت بحمد الله مستظهرين للقرآن، أصغرهم سنا حفظ كتاب الله هو ابن إحدى عشر سنة. وخرَّجت مجازين في رواية ورش، ولا تزال تؤتي أكلها بحمد الله تعالى.
وفي يوم الأربعاء 17 محرم 1428هـ / 31 جانفي 2007م، التقى بالدار البيضاء، ثلة من علمائنا الأجلاء، من بينهم الدكتور قسوم، والشيخ الحسني، والأستاذ مشنان... فشهدوا ميلاد دار القرآن، المسماة بـ" دار البشير الإبراهيمي".
وجوابا على سؤال دقيق هو: لماذا اخترت البشير، فسميتم بهم هذه الدار؟
فكان الجواب في كلمة الافتتاح: «إنَّ الذي دفعنا إلى اصطفاء هذا العلَم الكريم، تلكم الروح الوحدوية التي لا تعرف الحدود، فلقد كتب سنة (1947م) في جريدة (البصائر) بمناسبة (عيد الأضحى)، قائلاً في ختام مقالته:
"أما والله لو ملكتُ النطقَ، يا عيدُ، لأقسمتُ بما عظّم الله من حُرماتك، وبما كانت تقسم به العرب من الدماء المُراقة في أيامك ومناسكك، ولقلتُ لهذه الجموع المهيضة الهضيمة من أتباع محمد، يا قومُ: ما أخلفَ العيد، وما أُخلِفت من ربكم المواعيد. ولكنكم أخلَفتم، وأسلفتم الشرّ، فجُزيتم بما أسلفتم.. فلو أنكم آمنتم بالله حقّ الإيمان، وعملتم الصالحات التي جاء بها القرآن، ومنها جمع الكلمة، وإعداد القوّة، ومحو التنازع من بينكم، لأنجز الله لكم وعده، وجعلكم خلائف الأرض، ولكنكم تنازعتم ففشلتم وذهبت ريحكم، وما ظلَمَكم الله، ولكن ظلمتم أنفسكم. أيها المسلمون: عيدكم مبارك إذا أردتم، سعيد إذا استعددتم، لا تظنُّوا أنَّ الدعاء وحده يردّ الاعتداء، إنَّ مادة (دعا يدعو) لا تَنسَخ مادة (عدا يعدو) وإنما ينسَخها (أعدَّ يُعدُّ) و(استعدَّ يستعدُّ) فأعدّوا واستعدُّوا تزدهرْ أعيادُكم، وتظهرْ أمجادُكم"...
ثم قال – لا فضَّ فوه حيًّا وميِّتا – في الخامس من (جوان 1955م) من إذاعة (صوت العرب) بالقاهرة مخاطباً العيد: «كأنك يا عيد تقول لنا – لو أحسنا الإصغاء –: لا أملك لكم نفعاً ولا ضَراً، ولا خيراً ولا شراً، ولا أسوق إليكم نحساً ولا سعدا، ولا برقاً ولا رعداً، فأصلحوا أنفسكم واتقوا ربّكم، واعملوا صالحاً، واجمَعوا كلمتكم، وصحّحوا عقائدكم وعزائمكم، وتحابوا في الله، وتآخوا على الحقِّ، وتعاونوا على البر والتقوى.. ولا تقاطعوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا تنازعوا فتفشلوا، وتذهب ريحكم".
أقول: لهذه الكلمات التي لو حُفرت على صخور سلسلة الأطلس الصحراوي، وإن شاء البعض منكم اقترح الأطلس التلي [إشارة إلى حوار جنوب جنوب مع الدكتور قسوم]، ثم وُزنت تلكم الجبال، فحوِّلت إلى ذهب إبريز، لما رضيتُ لها بديلا، ولما استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير...
كلماتٌ، لو صدقت نوايا الحكام في وطني، لحفروها في ذهن الأجيال، ولنحتوها في جبين التاريخ لِيختال... لكن ما العمل، وفينا سمَّاعون لغيرنا، ومصلُّون إلى غير قبلتنا، وعابدون لغير ربنا، ومخلصون لما دونَ وطننا؟
أخيرا وليس آخرا
لو حاولت جمع الأمثلة وحشد الأدلة على المواقف التوحيدية التي ميزت مسيرة علمائنا الأجلاء قديما وحديثا، لاستغرقت من الوقت أضعاف ما يسمح به المقام، لكني أوجه الباحثين والدارسين إلى ترصيع جبين التاريخ بهذه الخلال والخصال، التي نباهي بها الزمن، ونعدها مفخرة لجزائر اليوم... فلولاكم – أيها العلماء – لكانت جزائرنا أسوأ من العراق ولبنان، ولَما شهدت لحظة من الهدوء والهناء، فرغم كل شيء، ورغم عوادي الزمن... إلاَّ أنَّ الأمل معقود فيكم، فأعيدوا لجزائر الفخر كرامتها، ووحدوا شمل أبنائها وفلذات أكبادها، وداوموا على العهد دام ودكم، وجزاكم الله عن الإسلام خير جزاء.
والسلام، مع تحياتي لمنظمي هذا الملتقى الكريم، أهالي خنشلة الغراء...
ألقيت هذه المحاضرة، في إطار ملتقى جمعية العلماء المسلمين -شعبة خنشلة- والذي عقد بومي 23-24 أفريل 2008، وبحضور العديد منعلماء الجزائر، من مختلف المناطق والجامعات،
بقلم: ناصر حمدادوش - يؤكد “مالك بن نبي” في كتابه “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”…
بقلم: محمد الهادي الحسني - منذ عشر حِجَجٍ، وفي يوم 14-12- من سنة 2013 جاء…
بقلم: د. علي الصلابي- كانت نفسية ابن باديس وأشواقه الروحية تواقة إلى التضحية في سبيل…
بقلم: د. علي الصلابي- استعمل عبد الحميد بن باديس في العديد من مواضيع شعره ونثره،…
بقلم: د. توفيق جعمات- لم تكن مدارس جمعية العلماء المسلمين مجرد فصول تعليمية أو كتاتيب…
بقلم: عبد الحميد عبدوس- تعرفت على الكاتب المفكر والطبيب المجاهد الدكتور السعيد شيبان في سنة…