بقلم: محمّد بومشرة -
يوم أردتُ أن أكتب عن هذا الرّجل المنسي من جهة، وغير معروف من جهة أخرى في كتب أعلام الجزائر أو على الأقل أعلام مدينة تلمسان كون الرّجل أحد أبنائها، أو أعلام مدينة شعبة اللّحم بعين تيموشنت كون الرّجل عاش بها أربعين سنة بعد الاستقلال.
فوجدت الرّجل قمّة من قمم الجزائر، تُكنُّ له عشيرته احتراما كبيرا ويتحدّثون عنه بافتخار، بعدما قمت بالبحث والتّحري عنه من أقربائه بدءا بإمام الحيّ الشّيخ بوعمامة بختي والسّيّد عبد القادر بولنوار أخ الشّيخ المجاهد وابنه الحكيم أمين وأختيه السّيدتين خيرة وفاطمة، ثمّ عشيرته بالقرية التّاريخية عين غرابة.
وهنا تذكّرت ذلك اللّقاء بين الشّيخين عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي بالمدينة المنوّرة عام 1913 واللّذين اتّفقا على كيفية طرد الاستدمار الفرنسي اللّعين من أرض الجزائر، بعد تكوين هذه الأمّة وتعليمها والإيمان بفكرة الاستقلال والتّضحية من أجلها ولو بعلم قليل. وبما أنّ الشّيخين شرعا في العمل بإخلاص وبنية صادقة نجحا في تخطيطهما المُحكم متأكّدين بأنّه من المحال أن يتحرّر بدنٌ يحمل عقلَ عبدٍ؛ ليبلغا هدفهما في ظرف قياسي.
مولده ونسبه ونشأته:
هو الشّيخ محمّد بن محمّد بن أحمد بن العربي بن بولنوار بن أحمد الشّريف المدعو بالسّي عبد الرّحيم، ولد يوم 15 أغسطس 1929، بقرية عين غرابة -أو عين الغرباء- ببني هذيل جنوب غرب مدينة تلمسان، وتبعد عنها بخمسة وعشرين كيلومتر؛ والتي كانت تُسمّى بالمنطقة الحمراء في الخريطة العسكرية الفرنسية لِمَا تكبّدته من خسائر مادية وبشرية، واستبسال أبناء المنطقة من المجاهدين والشّهداء. إنّه من عائلة ثورية ومن أصول شريفة تنحدر من سلالة سيدي أحمد الشّريف الذي يوجد ضريحه ببلدية عين غرابة وتُسمّى المطمر، وأمّه "يامنة بشيري" جدّه الأكبر سيدي مسعود المدعو الودغيري المدفون بجبل موطاس قرب مدينة مغنية التي تبعد عن تلمسان غربا بثلاثة وستّين كيلومتر؛ ينحدر من سلالة إدريس الأصغر ثمّ إدريس الأكبر وهما من أحفاد علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ابن عمّ المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وفاطمة الزّهراء رضي الله تعالى عنها بنت الرّسول عليه الصّلاة والسّلام.
مشواره التّعليمي:
في الرّابعة من عمره بدأ الشّيخ محمّد بولنوار الدّراسة بقريته التي وُلد بها، وعند بلوغه سنّ الثّامنة انتقل إلى قرية زهرة ببني سنوس المجاورة لبني هذيل وتتلمذ على شيوخها ولمّا رأوا فيه النّضج والفهم المبكّر والوعي نصحوا والده بأن يأخذه إلى منطقة أولاد سيدي الحاج قرب وادي الشّولي شرق تلمسان حيث أخواله ليتمّ حفظ القرآن الكريم. وبالفعل ختم حفظ القرآن الكريم في سنّ الثّالثة عشر من عمره.
وفي سنة 1943 قام والده المحبّ للعلم والعلماء ليوجّه ابنه إلى مدينة مغنية، ليتحصّل على علوم الفقه والتّفسير عند شيخ بالمنطقة (لم يُذكر اسمه) وكان من علمائها وهو من أقارب الرّئيس السّابق أحمد بن بلّه رحمة الله تعالى عليهم جميعا. فوجد هذا الشّيخ العالم في الشّاب محمّد بولنوار الكفاءة التي تُمكِّنه من الذّهاب بعيدا في طلب علوم الدّين والفقه والقدرة على مواجهة المعركة مستقبلا.
وفي سنة 1946 نصح الشّيوخ والده بتوجيه ابنه إلى جامعة القرويّين بالمملكة المغربية الشّقيقة ليكمل دراسته، ماكثا هناك أربع سنوات يدرس فيها علوم الشّريعة على يد علمائها وشيوخها من أبرزهم الشّيخ الحلوي والشّيخ الهادي التّازي والشّيخ الفاطمي.
وفي سنة 1947 قام برحلة إلى جمهورية تونس الحبيبة ليدرس بجامع الزّيتونة مدّة حولين، إلى سنة 1950 حيث تحصّل على شهادة التّحصيل أو التّطويع في العلوم بما تعادل شهادة البكالوريا حاليا.
نضاله:
عاد الشّيخ إلى أرض الوطن بعدما قامت الإدارة الفرنسية بطرد جميع الجزائريّين المتواجدين بتونس وبالخصوص الطّلبة الذين يزاولون دروسهم بجامع الزّيتونة، وكان الشّيخ محمّد بولنوار من بينهم، وكانت الإدارة الفرنسية ترى في هؤلاء الطّلبة الخطر المحدق بالاستدمار الفرنسي.
أحبّ الشّيخ المجاهد بولنوار الشّيخ العلّامة البشير الإبراهيمي وكان معجبًّا به وكان يقرأ الكثير من المقالات التي كانت تُنشر له بجريدة البصائر إبّان الثّورة التّحريرية، ومازال يحتفظ ببعض أعداد جريدة البصائر، وقد استمع للشّيخ البشير الإبراهيمي ذات مرّة وهو يقول للحاضرين: "كونوا متبوعين ولا تكونوا تابعين.."
وباعتباره من أبناء ورجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريّين قام الشّيخ بمزاولة التّعليم بمدرسة جمعية العلماء بالمحمّدية بولاية معسكر وذلك سنة 1950، تحت إدارة الشّيخ الأخضر بن الغويني من ولاية الجلفة رحمه الله تعالى وكان دورها محاربة الجهل والأمّية والخرافات والشّعوذة والمعتقدات الدّينية الفاسدة والباطلة التي ساعد على انتشارها الاستدمار الفرنسي وتعليم التّاريخ الصّحيح للجزائر والتّاريخ الإسلامي بصفة عامّة، إلى سنة 1956 وهي السّنة التي تمّ غلق جميع المدارس التّابعة لجمعية العلماء على المستوى الوطني من قبل الاستدمار الفرنسي، بل قامت الإدارة الفرنسية بملاحقة شيوخها ومعلّميها، حتّى يتسنّى لهم القضاء على الهوية الجزائرية ويخلو لهم الجو الخبيث لمواصلة ما جاؤوا من أجله. ومن وقتها صار الشّيخ محمّد بولنوار مراقبا من قبل السّلطات الفرنسية، لأنّها كانت ترى فيه الرّجل العالم بدينه والسّياسيَّ.
التحاقه بالثّورة وجهاده:
في أواخر سنة 1956 كان له لقاء بالمجاهد والرّئيس الرّاحل هوّاري بومدين في بيت أخت الشّيخ محمّد بولنوار ومجموعة من المجاهدين بالمنطقة والشّهيد الملازم الأوّل حسيني حسين زوج أخته المسمّاة خيرة، ولمّا رأى فيه النّباهة والفطنة وقدرته على تقديم دفع هام للثّورة كونه شاب مثقّف خاطبه هوّاري بومدين رحمهم الله تعالى أجمعين بأنّ الثّورة بحاجة ماسّة لجميع أبنائها.
وفي 1957 انطلقت مسيرته الجهادية فالتحق بصفوف المجاهدين الأحرار وعمره ثمانية وعشرون عاما، كما أدّى دوره التّوعوي الدّيني، وبعدها تمّ تعيينه قاضيا عسكريا مع حمله السّلاح إبّان الثّورة التّحريرية منذ سنة 1957 إلى يوم الاستقلال بالمنطقة الخامسة، الولاية الخامسة في صفوف جيش التّحرير الوطني إلى جانب زميله الرّائد فرّاج وحمري أحمد المدعو عبد الهادي رحمة الله تعالى عليهم.
وما يُذكر عن الشّيخ بولنوار أنّه لم يقض يوما بحكم الإعدام في حقّ شخص مشتبه فيه، لعدم توفّر الأدلّة الشّرعية القطعية، لأنّه كان يخشى الله من ظلم العباد، ولعلّه كان يطبّق القاعدة الشّرعية: لأنْ يُخطئ القاضى في الحكم على المتّهم بالبراءة، خير له من أن يُخطئ بالحكم عليه بالإعدام.
وممّا شهد بذلك أهل قريته عن كرامات الشّيخ أنّه يوم حُصر هو ورفقاؤه من المجاهدين سنة 1957 من شهر رمضان في غار بتغزّة بني هذيل من قِبل الجيش الفرنسي، واتّفق المجاهدون على الفرار من المخبإ إمّا نجاة وإمّا شهادة ولا يُمسكون للاستنطاق والتّعذيب حتّى الموت والبوح بأسرار الثّورة، فخرجوا يجرون متفرّقين، وقال شهود عيان أنّ الشّيخ لمّا خرج يجري بسرعة البرق وهو شاب مع رفاقه تاركين خلفهم الغبار يتبعهم رصاص الرّشاشات والبنادق بدون انقطاع، وكان تارة يقع أرضا وتارة ينهض..استشهد السّيّد كرّوم قويدر وهو من قرية سيدي علي بلحاج عند خروجه من الغار، وكان هذا الأخير كاتبا للنّقيب الشّهيد أحمد حمري المعروف بعبد الهادي.
وللعلم فإنّ الشّهيد كرّوم قويدر ابن أخت المجاهد عبد القادر شيخاوي أحد رجالات جمعية العلماء الجزائريّين بسبدو ورئيس الجمعية الدّينية والثّقافية والعلمية لدار الحديث بتلمسان رحمة الله عليهم أجمعين.
وممّا شجّعهم على ذلك زغاريد الأمّ يامنة بشيري ومن معها من نسوة القرية التي كانت تتناغم مع الرّصاص وتلاوته لآيات من القرآن الكريم، إلى أن اعتلى جريا جبلا آمنا يبعد عن الغار الذي فرّوا منه ببعض الكيلومترات، ثمّ نزل قرب الوادي حيث حُجب عن كلّ الأنظار وتوقّف الرّصاص، جلس ليستريح ويستمع إلى أنفاسه ويتأكّد من نبضات قلبه متسائلا أهو على قيد الحياة !!؟ فرأى جلّابيته التي كان يلبسها عليها ثقوب كثيرة خرقها الرّصاص؛ ومازال يحتفظ بها أبناؤه إلى اليوم.
فخلعها ليتأكّد من نفسه إن سلم جسمه من الرّصاص، فلم يجد أثرا للجروح أو على الأقلّ قطرة دم. هذه الحادثة لم يذكرها لأحد خوفا من الرّياء والعُجب، إلاّ في أواخر أيّام حياته ليرويها لابن أخيه عبد القادر الحكيم أمين بمستشفى مدينة عين تموشنت، والتي يسمّيها هذا الأخير ببردة الإيمان.
كان دور الشّيخ المجاهد فعّالا في تحضير المجاهدين نفسيا للمقاومة وللجهاد ضدّ العدو الفرنسي موجّها إليهم نصائح منها أنّ جزاء الشّهادة في سبيل الله ثمّ الوطن الجنّة ونعيمها مستشهدا بقوله تعالى: "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلَ احْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ." سورة آل عمران 169-170.
فقد سمع ابنُ أخيه الحكيم أمين عمَّه يقول للمجاهدين إنّ شهيد الوطن الذي فاضت روحه إلى بارئها بالرّصاص أو التّعذيب جزاؤه الجنّة ولكن ليس بمنزلة شهداء بدر الذين قُتلوا بالسّيف.
بعد الاستقلال:
وفي التّاسع عشرة مارس 1962 وهو يوم النّصر من أجل الاتفاق مع العدو الفرنسي على إيقاف إطلاق النّار تحضيرا للاستقلال، فكانت فرحته كبيرة بهذه المناسبة العظيمة بالمقابل كان حزينا على فراق الإخوة في ميادين الشّرف من أجل هذا اليوم العظيم.
وبعد الاستقلال في الخامس جويلية 1962 أقام الشّيخ المجاهد بولنوار في قرية شعبة اللّحم بولاية عين تموشنت مدّة أربعين سنة، وعُيّن قاضيا عسكريا بولاية عين تموشنت ليكون أوّل قاض جزائري بالولاية خلفا للقاضي الفرنسي للمدينة نفسها حتّى سنة 1963.
وبمناسبة اعتلائه هذا المنصب خاطب المسؤولين الذين كانوا يعملون في الإدارة الفرنسية بأنّ هذا اليوم يوم جديد في الجزائر الحرّة المستقلّة، في حكم جبهة التّحرير الوطني وهي المسؤول الوحيد والأوحد على رعاية الشّعب الجزائري البطل.
ويُحكى عن الشّيخ المجاهد بولنوار عن وقفة جليلة من رجل ليس بالغريبة عن شيمه الإيمانية وأفعاله الإنسانية حين تمكّن المجاهدون بعد أيّام قليلة من القبض على ضابط فرنسي بمدينة عين تموشنت، جاؤوا به إلى الشّيخ المجاهد لينظر بما سيحكم عليه وهو في حالة يُرثى لها من الضّرب انتقاما لأنفسهم؛ فما كان قرار الشّيخ المجاهد وجوابه الرّاقي بتعاليم ديننا الحنيف من تسامح وعفو عند المقدرة، فقال للحاضرين: (لقد وضعت الحرب أوزارها، وهذا الرّجل ضابط فرنسي علينا أن نحترمه ونعيد له كرامته، لأنّنا لسنا في حرب وقد استرجعت الجزائر سيادتها ولا يجوز أن نؤذيه.)
فتعجّب ذلك الضّابط الفرنسي من قرار وحكم الشّيخ المجاهد، فقال الضّابط الفرنسي وقد دمعت عيناه: (الآن فهمت لماذا تمكّن الجزائريّون من نيل استقلالهم برجال أمثال هذا الرّجل المثالي.) وهذه الوقفة التّاريخية يرويها لي أخوه عبد القادر، وهي من خصاله التي نجهل منها الكثير.
نشاطه بعد الاستقلال:
شغل منصب المنسّق باتّحادية جبهة التّحرير الوطني بولاية عين تموشنت، وعضوا مسؤولا سنة 1963؛ حيث في هذه الفترة لم يتوقّف عن دوره الدّعوي بمساجد الولاية الموسومة بالبساطة والوسطية والاعتدال.
وحدّثني ابنُ أخيه الحكيم أمين عن صديق الشّيخ المجاهد بولنوار السّيّد "ظريف" أنّ سكّان بعض مناطق ولاية عين تموشنت كانت تأخذهم الدّهشة عند سماع الأذان لعدم تفقّههم في الدّين، مشيرا إلى أنّ الشّيخ المجاهد بولنوار هو أوّل من ساهم في نشر تعاليم الإسلام بضواحي المدينة لكون سكّان الولاية كانت حياتهم تنقصها الكثير من تعاليم ديننا الحنيف، لما تركه الاستدمار اللّعين من آثار سلبية في ثقافتهم.
وبشهادة مقرّبيه ممّن عاصروه أنّ المسجد الذي يلقي فيه الجمعة كان يمتلئ، والكلّ يجلس يستمع خطبه كأنّ على رؤوسهم الطّير.
وفي سنة 1973 تحصّل الشّيخ المجاهد على شهادة ليسانس في العلوم الإنسانية والأدب العربي بجامعة. وهران.
وكان يقوم بالدّليل والبرهان من الكتاب والسُّنّة بمحاربة البدع المنتشرة والخرافات التي تركها الاستدمار الفرنسي اللّعين، فكانت دروسه ومحاضراته لا تتوقف إن في المساجد وإن في المزارع وجميع قرى الولاية ملبّيا دعوات الأئمّة ليلقي عليهم ندوات دينية ومشاركا في المحاضرات؛ حتّى صار محبوبا ومحترما عند جميع من استمعوا دروسه، ولسعة علمه بالدّين وجدوا عنده الأجوبة لكلّ الأسئلة في علوم الفقه والسّيرة النّبوية العطرة على صاحبها أزكى التّحيّات وأطيب التّسليم، كما تقرّبوا منه أكثر فأكثر حين تعرّفوا عليه ووجدوه بحرا لا ساحل له؛ أمّا عن خصاله الحميدة وتواضعه فحدّث ولا حرج.
وفي عام 1965 وجد الشّيخ المجاهد نفسه غير قادر على تحمّل مسؤولية القضاء والعمل السّياسي لميوله إلى العمل التّربوي والتّعليمي بمساعدة الشّيخين مصباح حويذق والأخضر الغويني. فتحوّل إلى التّعليم المتوسّط بإكمالية -ماكس مارشان- ليمتهن تدريس مادّة اللّغة العربية ببلدية شعبة اللّحم بعين تموشنت إلى سنة 1987؛ وهي السّنة التي أُحيل على التقاعد فيها، ليتفرّغ لقراءة الجرائد والمجلاّت ومطالعة أُمّات الكتب والمجلّدات التي كانت تملأ مكتبته؛ لأنّه كان يرى فيها خيرَ جليس ومؤنس له، والتي تصفّحها كلّها كما قال للذي سأله يوما عنها، وكان يقول لمن حوله من الأقارب: (إنّ الكتاب بالنّسبة لي رفيقٌ، فلو لا الكتاب لمتّ.)
ويوم تبنّت الجزائر سياسة تعدّد الأحزاب بكلّ الإيديولوجيات والأطياف السّياسية ومارست الدّيمقراطية الحقّة، وظهرت فيها حرية التّعبير، كان الشّيخ المجاهد محمّد بولنوار على مبادئ جمعية العلماء المسلمين الجزائريّين ووفيا لجبهة التّحرير الوطني قلبا وقالبا، ويوم سئل عن فكر وتصوّر التّيارات الإسلامية بالجزائر في تلك الفترة، كانت قناعته أنّ الإسلام لا يُحصر في حزب.
تمّ تكريمه بوسام جبهة التّحرير الوطني لكونه مجاهدا وفيّا وعضوا سياسيّا فعّالا، عمل من أجل وحدة الجزائر لم يبدّل فيها أفكاره ولم يغيّر. قال الله تعالى :"مِنَ الْمُومِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَّنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا." الأحزاب: 23-24.
وفاته:
وفي آخر أيّامه مرض الشّيخ المجاهد مرضا أفقده وعيه وأُدخل مستشفى أحمد مدّغري بمدينة عين تموشنت، وكان أبناؤه وابن أخيه الحكيم أمين ممّن لازموه عن قرب فترة مرضه. وأخبرني هذا الأخير: أنّهم كانوا حول الشّيخ المجاهد وبينما هو فاقد للوعي استيقظ فجأة وهو يكرّر: رأيت الجنّة...! رأيت الجنّة...! رأيت الجنّة! فسأله ابنه الأكبر: ماذا رأيت؟ ماذا فيها يا أبي؟ قال الشّيخ المجاهد: فيها خيرٌ كثير... فيها خير كثير! وبعدها استلقى على فراشه ولم ينطق بكلمة واحدة حتّى فاضت روحه إلى بارئها يوم 20 جوان 2009، ليُوارى التّراب بمسقط رأسه ببلدية عين غرابة بتلمسان.
تكريمه:
وبدعوة من عشيرة الشّيخ المجاهد محمّد بولنوار سعت مديرية المجاهدين بتلمسان بمساعدة السّلطات المحلّية لتلبّي طلبها متمثّلة في تكريم الشّيخ المجاهد بعد مماته بتسمية مسجد المنطقة الجديد باسمه.
ختاما:
هكذا هي حياة العلماء الجزائريّين العاملين لا يتوقّفون من أجل تحرير العقول وتنويرها فمن السّلاح إلى القلم، ومنهم منَ المحبرة إلى المقبرة. رحمهم الله تعالى جميعا وأسكنهم فسيح جنّاته مع الشّهداء وحسن أولائك رفيقا.
شهادات ممّن عرفوه (بتصرّف):
الشّيخ بوعمامة بختي إمام القرية.
لمّا عيّنتُ بالمسجد الرّئيس لبلدية عين غرابة أواخر عام 2000 وجدت أهل البلدة يتحدّثون عن شيخ فاضل يصفونه بالنّوّارة وهو الشّيخ محمّد بولنوار؛ التقيت به في دار المجاهد لكحل محمّد، الذي كان يدعوه كلّما زار المنطقة. رأيت فيه الهيبة ووقار العلماء ونور التّقوى والصّلاح، فتعلّقت به وأحببته وتعلّق بي خاصّة لمّا علِم أنّني ابن ولاية الجلفة، وخرّيج معهد الأئمّة بسيدي عقبة ولاية بسكرة. وكنت أستفيد من مجالسته حول بعض المسائل الفقهية والنّصائح الثّمينة.
أكرمني الله تعالى بالصّلاة عليه بمسجد القرية حيث عبّقت رائحة المسك المسجد المنبعثة منه قرابة الأسبوع. رحمك الله يا شيخنا وأسكنك فسيح الجنّات.
السّيّد زيادي محمّد صديقه بشعبة اللّحم:
كان رحمة الله تعالى عليه مجاهدا وعالما وفقيها ومعلّما، صاحب أخلاق حميدة منها الحياء وقليل الكلام كثير العمل، كان غيور على دين الله ومحارمه، وكانت تظهر هذه الغيرة عليه؛ حتّى أحبّه النّاس جميعا.
السّيّد بوخانة محمّد صديقه بشعبة اللّحم:
يقول عنه بعض الشّهود في أواخر الثّورة التّحريرية المباركة كان يخطب المجاهدين في المكان المسمّى حوش الحاج مصطفى بشعبة اللّحم يحثُّ المجاهدين على الصّبر، وكان يقول الطّريق أمامنا لازال صعبا وشاقا، وكان يحثُّهم على جمع الكلمة وتوحيد الصّفّ.
السّيّد محمّد قدّور رحّال صديقه بشعبة اللّحم:
كان في دروسه بالمسجد بعد الاستقلال شديد المحاربة للبدع والخرافات، حتّى لقّبوه بالباديسي، ويا ليتهم علموا معنى كلمة الباديسي وهو الانتساب إلى فكر الشّيخ العلاّمة عبد الحميد بن باديس رحمة الله عليه.
إمام المسجد العتيق أبو بكر بن العربي بشعبة اللّحم:
تعلّمت منه الكثير واستفدت من توجيهاته، كما احتككت به لأنال من تجربته كمجاهد إبّان الثّورة التّحريرية، وكشيخ عالم زاهد. كان يحبّ المطالعة إن سألوه أجاب ولا يتكلّم حتّى يُعطوه الكلمة. ولتواضعه كان إذا دخل المسجد من يوم الجمعة وأنا ألقي الدّرس يصلّي ركعتي تحيّة المسجد خلف آخر سارية، ثمّ يجلس ليستمع الدّرس وتبقى تلك السّارية بيني وبينه، حتى تنتهي صلاة الجمعة.
الحاج عليلي علي رفيقه المدعو بلّيفة يُقارب مائة عام، كان يحدّثني ويتأسّف على تلك الأيّام الجميلة رفقة الشّيخ المجاهد:
كنت أزوره ببيته في قرية شعبة اللّحم رغم المسافة والسّنّ بيننا، فنتبادل الحديث فيغيّر أفكاري للأحسن بقوّة الحجّة. آخر زيارة لي عنده يوم سمعت بشدّة مرضه وعند وصولي إلى بيته كان على متن سيّارة الإسعاف لينقل إلى مستشفى مدينة عين تموشنت، ففتحت عليه باب السّيّارة وقبّلت قدمه وأنا غارق في دموعي؛ وبعد أيّام وصلني خبر وفاته رحمة الله عليه.
المجاهد بن سلامة أحمد رفيقه بعين النّحّالة:
تعرّفت عليه أيّام الثّورة سنة 1957 وكان ذات يوم بعين نحّالة دائرة عين تالوت بتلمسان يخطب المجاهدين بغضب شديد يوم اقترحت فرنسا على أن يكون للجزائريّين استقلالٌ داخليٌ، فقال لنا إنّنا نريد استقلالا تاما وهو يضرب الطّاولة بيده. ولا أنسى المجاهد حين كان يحثّنا على أداء الصّلاة والمحافظة عليها، وكان يقول لنا من لم يصلّ ليس بمسلم، بل كان يراقبنا عليها حتّى أنّه مرّة طلب من أحدنا: قل أقسم بالله بأنّي أصلّي! افترقنا في السّنة نفسها إلى أن التقيت به سنة 1990 بالمسجد من يوم الجمعة وهو يتلو سورة الكهف.
السّيّد عبد القادر أخوه المدعو السّي لحبيب:
كان هذا الشّيخ والمجاهد في الوقت نفسه من جمعية العلماء المسلمين الجزائريّين منذ ظهورها بقريتنا، ويوم قامت الثّورة التّحريرية كان من السّبّاقين لتلبية ندائها. كان محبوبا بين عشيرته، يزور أهله ولا يقطع صلة الرّحم بل كان يقدّم لهم يد المساعدة، وكان إذا اشترى لوازم البيت يخفيها عن أنظار العامّة.
السّيّدة خيرة أخته:
كنت أحترم أخي المجاهد والعالم وأناديه بسيدي. وقدّمت ما أملك من ذهب لوالدي من أجل أن يتمّ أخونا محمّد دراسته بالمغرب.
السّيّدة فاطمة أخته:
أشهد أنّ أخي محمّدا كان محبوبا بين النّاس لتواضعه وعطفه على الكبير والصّغير، كان يشتاق لزيارة أهله بقرية عين غرابة ليرتاح بها ويسترجع ماضيه في هذه القرية؛ وكان الشّيخ الأخضر بن الغويني يزوره بعد الاستقلال.
السّيّد المجاهد امْحمّد مزياني ابن خالته وزوج أخته يفوق مائة عام، لمّا زرته كان يرتكز على عصًا ويمشي بين الحقول:
فتح الله على الشّيخ محمّد بالعلم المنير وأكمل دراسته حتّى صار شيخا يلقي الدّروس ويرشد ويوجّه ويردّ على الأسئلة. كما خدم الثّورة التّحريرية من قلبه بالمنطقة مع رفاقه. وبعد التّقاعد كنّا نلتقي هنا أو في مقرّ سكناه.
السّيّد المجاهد البشير عمراوي وابن الشّهيد نجيب وصهره:
هو المجاهد البطل والعالم بحقّ، أدّى ما عليه وارتحل إلى ربّه تاركا وراءه مكتبة، وكتب مذكّراته بيده عن كلّ لحظة مرّت به.
المجاهد جيلالي درقال -1941- ابن المنطقة:
إنّ المجاهد الشّيخ محمّد بولنوار رجل مثقّف ومتخلّق، ضابط برتبة ملازم أوّل في جيش التّحرير الوطني إبّان الثّورة التحريرية المباركة.
الحكيم أمين بولنوار ابن أخيه عبد القادر:
أعتبر عمّي الشّيخ محمّد بولنوار أبا روحيا ومثالا عاليا وقدوة مؤثّرة، لم تغيّره الأيّام أينما ارتحل؛ تجلّت فيه أخلاق سامية اتفق عليها الجميع ممّن عرفوه إن بقرية عين غرابة وإن بقرية شعبة اللّحم من رفاق السّلاح أو رفاق طلب العلم أو رفاق الدّعوة إلى الله تعالى لنشر الإسلام الصّحيح المنبثقة من أنوار جمعية العلماء المسلمين الجزائريّين.
الأستاذ محمّد بومشرة كاتب هذه السّطور:
أمّا أنا فتمّنيت أن ألقاه لكثرة ما سمعت عنه، لأرافقه وأتحدّث معه؛ والذي أرقَّني وأدمع عينيّ كلّما حدّثني أهله وعشيرته عنه، وقد اتّفقوا على أنّه مجاهد وعالم متخلّق. وحين أكتب هذه السّطور عن يوم فراره من الرّصاص تحت زغاريد الأمّهات وأهل القرية يشاهدون اللّقطة على المباشر يفصلهم نهر، وينجو بأعجوبة أظنّ أنّها كرامة فتأكّد لي أنّ الشّيخ المجاهد ربّاني.
المراجع:
أخوه عبد القادر المدعو السّي لحبيب، من مواليد 12 نوفنبر 1936.
صهره السّيّد المجاهد وابن الشّهيد نجيب البشير عمراوي.
ابن أخ الشّيخ المجاهد الحكيم أمين -طبيب أخصّائي في أمراض المعدّة والأمعاء، ورئيس مصلحة بمستشفى "أحمد مدّغري"- بمدينة عين تموشنت.
أختاه خيرة وفاطمة.
الشّيخ بختي بوعمامة (من ولاية الجلفة) إمام مسجد خالد بن الوليد بعين غرابة تلمسان، ثمّ عُيّن إماما بمسجد الشّيخ المجاهد محمّد بولنوار بالقرية نفسها.
شهادات مكتوبة ومسموعة من رفقائه وأصدقائه الذين عرفوه قبل وبعد الاستقلال.
قرص مضغوط سمعي بصري سجّله أحد أقربائه يتحدّث فيها الشّيخ المجاهد عن تاريخ المنطقة، ودور جمعية العلماء المسلمين الجزائريّين وتأثّره بها.
نُسخٌ طبق الأصل لشهادات تحصّل عليها في حياته.
بقلم: ناصر حمدادوش - يؤكد “مالك بن نبي” في كتابه “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”…
بقلم: محمد الهادي الحسني - منذ عشر حِجَجٍ، وفي يوم 14-12- من سنة 2013 جاء…
بقلم: د. علي الصلابي- كانت نفسية ابن باديس وأشواقه الروحية تواقة إلى التضحية في سبيل…
بقلم: د. علي الصلابي- استعمل عبد الحميد بن باديس في العديد من مواضيع شعره ونثره،…
بقلم: د. توفيق جعمات- لم تكن مدارس جمعية العلماء المسلمين مجرد فصول تعليمية أو كتاتيب…
بقلم: عبد الحميد عبدوس- تعرفت على الكاتب المفكر والطبيب المجاهد الدكتور السعيد شيبان في سنة…
التعليقات
مدرسة ابني سمية على اسم المجاهد محمد بولنواربمغنية. هل يمن الحصول على صورة له من فضلكم؟