بقلم: صفوت منصور -

الحديث عن جمعية العلماء المسلمين بالجزائر لا ينفك كطلقا عن الحديث عن مؤسسها عبد الحميد بن باديس والحديث عن كليهما يرتبط بالاحتلال الفرنسي للجزائر الذي كان قد مضي عليه قرابة مائة عام .

ومن هنا أري من المفيد أن نلخص بإيجاز فنتحدث عن السياسة الاستعمارية الفرنسية بالجزائر لندرك الأبعاد الهائلة الجمعية العلماء وجهود الشيخ عبد الحميد بن باديس التي أتت بأطيب الثمرات وهي تجابه بالسياسة التي رسمتها على نحو ما سنفضل بإذن الله – ما أراده الفرنسيون للجزائر من فرنسة وامتلاك .

نعم لقد كانت الجزائر أول قطر عربي , احتله الفرنسيون خاصة وتعرض للاحتلال الأوروبي عامة , وكان ذلك عام 1830 م وطال الاحتلال البغيض إلى عام 1382هـ/ 1962 م, حين وقع الطرفان ما يعرف باسم معاهدة إيفيان التي حصل بها الجزائريون على استقلالهم بعد ثورة عارمة اشتعلت سنة  1954م وهي التي أجبرت المحتل الغاصب على توقيع والانسحاب من الأراضي الجزائرية والتي كانت جمعية العلماء المسلمين التي أسسها الشيخ عبد الحميد بن باديس في أواخر حياته المباركة سنة 1928م والتي استمر يجاهد من أجل إيجاد نخبة متميزة من العلماء الإيجابيين حتى وفاته سنة 1359 هـ / 1940 م هي الزاد القوي الذي تربي عليه المجاهدون سنة 1374هـ /  1954م.

ونعود فنقول, إن فرنسا اتبعت في حكمها للجزائر منذ عام 1349هـ /  1830 م سياسة رهيبة تعتبر بحق نموذجا لسياسة الاحتلال البشع حيث ارتكزت دعائمها على الأسس التالية :

1- دمج الجزائر في فرنسا دمجا كاملا, وتحويلها إلى أرض فرنسية .

2- تحويل الجزائر في لغتها وثقافتها وهويتها إلى الفرنسية وهو ما يعرف باسم الفرنسية أى فرنسة الجزائر .

3- عدم النهوض بمستوي الشعب الجزائري وفرض سياسة التخلف عليه .

4- التفرقة العنصرية بين الشعب الجزائري من عرب وبربر و إشعال الفتن بينهم .

5- إتباع سياسة الاقتصاد المغلق لحساب الاقتصاد الفرنسي من حيث استثمار كافة الموارد والثروات الطبيعية والأراضي وموارد الرزق بيد فرنسا .

6- ضرب أى حركة وطنية بالقوة وقمع الثورات بمنتهي الوحشية ومن ذلك ما رواه المؤرخون من أن ( قبيلة جزائرية فرت مرة من ظلم وقسوة الفرنسيين إلى كهوف الجبال فما كان من الجيش الفرنسي إلا أن ملأ الكهوف أولا بالدخان ثم سد مداخلها ببناء الجدران عليها ) !!!

ويتميز شعب الجزائر بروح المقاومة الجهادية لذلك ورغم الاضطهاد اللعين م المحتل الغاصب إلا أن المقاومة بدأت منذ وطئت أقدام الفرنسيين أرض الجزائر الذين اتخذوا من قصة المروحة الشهيرة ذريعة لاحتلال وغزوها عسكريا , غذ ادعت أن الداعي حاكم الجزائر قد أهان قنصل فرنسا سنة  1827م حين طالبه بدفع ثمن الحبوب والخيول والجلود والقروض المادية التي مضي على المماطلة في دفع ثمنها خمس وثلاثون سنة وزعمت أن الداي رمي القنصل بمروحة كانت في يده , فردت على هذه الإهانة المزعومة بتحريك الأسطول الفرنسي وفرض الحصار على الشواطئ الجزائرية ثم قامت بضرب مدينة الجزائر، وإنزال الجنود لحصارها من البر والبحر حتى اضطر الداي رغم المقاومة الباسلة إلى التسليم في 5 يوليو سنة 1830م .

ومع ذلك القهر المسلح لشعب الجزائر فقد قاد المقاومة المسلحة منذ أول يوم الأمير عبد القادر الجزائري ولمدة سبعة عشر عاما حتى اضطر إلى التسليم وقبول النفي الاختياري فاختار دمشق وظل بها حتى مات سنة 1883 م ولم تنقطع سلسلة المقاومة ومجاهدة العدو الغاصب وتوالت الثورات التي قادها نساء ورجال برزوا في تاريخ الجزائر الجهادي مثل الشهيدة المجاهدة لالا فاطمة سنة 1856م ومحمد المعتراني سنة 1290هـ /  1871م وثورة أولاد سيدي الشيخ سنة 1300هـ /  1881م ثم فترت إلى حين وحتى قبيل الحرب العالمية الأول وفي أعقابها استأنف الجهاد عدد من المثقفين والضباط وأسسوا اللجان الوطنية لتنظيم الجهاد وشكلوا وفدا لعرض القضية على مؤتمر الصلح بباريس وتأسست جمعة (نجمة شمال إفريقيا) سنة 1345هـ / 1926م بزعامة مصالي الحاج , التي نادت بحق الجزائريين في تمل أراضهم ووجود برلمان يمثلهم واستخدام اللغة العربية في مناهج التعليم والدوائر الحكومية لكن قوة البطش المحتلة عملت على حل هذه الجمعية .

وهنا نصل إلى جمعية علماء المسلمين التي أنشأها الشيخ عبد الحميد بن باديس سنة 1347هـ/  1928 م التي حافظت على هوية الجزائر الإسلامية ولغتها العربية وهي موضوع تفصيلنا ومن ثم فلنا معها وقفة ومع مؤسسها وقفات لنستلهم الدرس المستفاد ونقدمه كهدف تربوي يفيدفي بعث روح الجهاد بين الأجيال .

ولنبدأ في تحديد أهداف هذه الجمعية فنري الآتي :

1- بعث الروح الإسلامية وحمل لواء الجهاد ضد المحتلين الفرنسين .

2- توحيد جهود المسلمين في المغرب العربي تحت راية الإسلام لمقاومة المحتلين الفرنسين في الجزائر وتونس والإيطاليين في ليبيا والأسبان في المغرب .

3- نشر الوعي الديني والثقافي والسياسي بإنشاء المدارس الخاصة والاهتمام بتعليم اللغة العربي وإصدار الصحف وعقد الندوات وإلقاء المحاضرات.

4- تحريض الجزائريين على رفض الجنسية الفرنسية التي كانت تهدف فرنسا من ورائها إلى عزلهم عن أصول دينهم وثقافتهم .

5- وإذا أردنا أن نعرف المزيد عن جمعية علماء المسلمين بالجزائر ومنهاجها في مقاومة المحتل الغاصب, فلابد أن نقرأ سيرة مؤسسها بشئ من التأمل – ذلكم الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي ولد في قسطنطينة سنة1306هـ /  1887م وعاش حتى توفاه الله سنة 1359هـ 1940 م ويصل نسبه إلى المعز بن باديس الصنهاجي وإلى القيروان من قبل الفاطميين وسنجد أن نشأة الرجل القائد كانت نشأة دينية صحيحة فقد أتم دراسته في جامع الزيتونة بتونس ثم رحل عبد الحميد بن باديس إلى الحجاز الذي كانت الدعوة السلفية التي بثها الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد ذاعت في شبه الجزيرة العربية فتشبع بأفكارها حين اتصل بشيوخها من أمثال الشيخ حمدان الونيسي المهاجر الجزائري والشيخ أحمد حسين الهندي وقد أشار عليه الشيخ الهندي بالعودة إلى وطنه الجزائر وخدمة الإسلام فيه قدر الجهد وخدمة اللغة العربية كذلك , وهنا يقول الشيخ ابن باديس :

( ورجعنا إلى الوطن بقصد خدمته فنحن لا نهاجر نحن حراس الإسلام والعربية والقومية في هذا الوطن ) ويعقب الدكتور محمد فتحي عثمان في كتابه : ( عبد الحميد بن باديس رائد الحركة الإسلامية في الجزائر المعاصرة ) على كلمة القومية بقوله ص 38( ولم تكن القومية في رأي ابن باديس إلا الحفاظ على شخصية الشعب الجزائري الإسلامية العربية أمام المحاولات الدائبة لفرنسته ) وهذا تعقيب هام حتى لا يظن القارئ المتعجل أن الشيخ رحمه الله أن يأخذ بمفهوم القومية العنصري وهو الذي تربي على الإسلام الذي ينبذ القومية العنصرية وهو الذي تربي على الإسلام الذي ينبذ القومية العرقية, والتي ذمها رسول الإسلام سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم قائلا :" دعوها فإنها منتنة ".

ثم عاد ابن باديس إلى الجزائر سنة 1912 م وبدأ نشاطه بمفرده أول الأمر يعلم ويثقف ويخطب ويكتب في الصحف ويوثق علاقاته بذوي المكانة والعلم والرأي على مر السنوات وانتظم يلقي دروسه في الجامع الأخضر بقسطنطينية حتى تجمع حوله عدد كبير واستطاع أن يؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) وقد حاول وأد تلك الجهود الدائبة في مستهل قيامها المفتي المولود بن موهوب الذي سعي لمنعه من التدريس بالجامع الكبير ولكن تمكن والد عبد الحميد بمكانته أن يستصدر إذنا لولده بالتعليم في الجامع الأخضر بقسطنطينية "

كما لم يغفل الشيخ عبد الحميد وسائل العصر في نشر دعوته وفي مقدمتها الصحافة فأصدر جريدة ( المنتقد) سنة 1345هـ / 1926م وشن فيها حملة على الأوضاع المخالفة للكتاب والسنة وعلى الطرق الصوفية الضالة لكنه لم يصدر منها سوي ثمانية عشر عددا.

كما كان قد شارك من قبل في تأسيس جريدة ( النجاح) لكنه تركها ليستقل بصحيفة يحررها دون مشاركة من أحد قد تحول بين تحقيق أهدافه أو تزحزحه عنها حتى إن سلطات الاحتلال تنبهت إلى خطورة أسلوبه المتميز في الكتابة والذي لم تعهد أن تقرأ مثل أفكاره التي ينشرها فمن عرفت من شيوخ الدين ولذلك قررت تعطيل ( المنتقد) بعد صدور ثمانية عشر عددا منها فأصدر مجلة الشهاب لتعبر عن أهدافه ومقاصده بأسلوب الحكمة التي يضمن لها الاستمرار , ويحميها من المصادرة والإيقاف .

هذا وقد اتخذ الشيخ عبد الحميد بن باديس القرآن الكريم والسنة المطهرة أساس للانطلاق بدعوته وكان ينشر في مجلة الشهاب دروس التفسير تحت عنوان (مجالس التذكير في تفسير كلام العليم الخبير) وفي ذلك يشهد له الشيخ محمد البشير الإبراهيمي خليفته على رئاسة جمعية العلماء فيقول عنه في مقدمة تفسير ابن باديس .

.... انتهت إمامة التفسير – بعد موت الشيخ محمد رشيد رضا تلميذ الشيخ محمد عبده وترجمان أفكاره – في العالم الإسلامي كله , إلى أخينا وصديقنا ومنشئ النهضة الإصلاحية العلية بالجزائر بل وبالشمال الإفريقي ( عبد الحميد بن باديس ) .

ومما يجدر ذكره أن جمعية المسلمين بالجزائر قد واكب إنشاؤها الاحتفال بمضي قرن على احتلال الجزائر ( فكان ذلك ردا عمليا على المحتفلين الذين كانت أصواتهم تردد ( الجزائر فرنسية ) وكان شعار العلماء المصلحين : ( الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا )

ولقد صور الأستاذ مسعود الندوي في مقال كتبه بالإنجليزية سنة 1371 هـ /  1951 م بعنوان 🙁 الحركات الإسلامية المعاصرة ) جاء فيه :

عبد الحميد بن باديس دارس متعمق للقرآن والسنة , وباحث وكاتب بالعربية له موهبة الرأي المتزن وذو نزعة سلفية في الفقه والدين وهو من نفس المستوى والنوع الذي يدرج فيهما محمد عبده ورشيد رضا وعالما الشام عبد الرزاق البيطار وجمال الدين القاسمي .

وقد شق طريقه على نهج قويم وأصدر مجلة الشهاب أسبوعية أخري ( الصراط – الشريعة – السنة) وقد درست أى مسعود الندوي – بعضا من هذه الصحف وأقرر بلا تردد أنه بالنسبة لهذا اللون من الصحافة يمكن أن نضع صحف الجزائر الإسلامية الصادرة في ذلك الوقت في مصاف أرقي مجلاتنا وإلى جانب الكتابة عمل ابن باديس على افتتاح شبكة من المدارس الابتدائية وكان هو بنفسه يقوم بالتدريس في قسطنطينة وقد حمل إخوانه وتلاميذ دعوته إلى كل زاوية وركن من البلاد وإن كان المتصوفة والعلماء المفسدون لم يألوا جهدا في وضع العراقيل وتعويق تقدمه وتأسست ( جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ) لتسير على هذا النهج ومن يوم مولدها والحكومة الاستعمارية الفرنسية لا تطيق وجودها وكذلك جهلة المتصوفة واستمرت دسائس الخصوم جني وفاة ذلك المجاهد العظيم في 1359هـ 1940 م ولكن غياب جسده عن مسرح الأحداث في الجزائر لم يكن يعني توقف الحركة التي بدأها فقد سارت في طريقها ( انتهي )

ومما يذكر أن ابن باديس وجماعته قد تعرضوا لسلسلة من مكائد أصحاب الطرق وحماتهم من المحتلين ومثال ذلك تلفيق التهم وإلصاق كل فتنة بدعاة الإصلاح بل ومحاولات الاغتيال مثل التي حدثت للشيخ ابن باديس نفسه وهو عائد من درس التفسير ليلا إذ هم أحد الجناة باغتياله لكنه شعر به فاستغاث وتجمع الناس حوله وتمكن من إلقاء القبض عليه قبل إتمام الجريمة فسجل الشعراء ذلك الموقف المشرف له .

حمتك يد المولي وكنت بها أولي

فيالك من شخ حمته يد المولي

وقد أدركت فرنسا خطورة ابن باديس , والجمعية التي أسسها والخط الفكري الذي ينشره في مجلته الشهاب حيث ينادي بمقاومة التغريب والتجزية والتجنيس ومطاردة الاحتلال ورأت أن ذلك سيعجل في يقظة الأمة الجزائرية إن لم تكن قد استيقظت بعد لذلك ظلت تنظر إلى ابن باديس في قلق بالغ وكانت تستدعيه لتحقق معه بين آن وآخر كما تحول بينه بين التنقل بين القري والمدن ولكنه كان لا يلبث أن يردد كلمته الخالدة : ( إن لنا فكرة معروفة ولن نحيد عنها ) .

ومما يؤكد صلابة ابن باديس ورسوخ دعوته قوله ( تستطيع الظروف أن تكفينا ولكنها لا تستطيع أن تقهرنا ) ومن مواقف ابن باديس الشجاعة أن دعا لمقاطعة الاحتفال الفرنسي بمرور مائة عام على احتلال فرنسا للجزائر وأصدر بيانا أعلن فيه صراحة وبكل جرأة أن هذا العمل خيانة للبلاد وحينئذ عجزت فرنسا من أن تجد من يعاونها في هذا العمل فانصرفت عنه .

وعاش ابن باديس حياته شبيها بجمال الدين الأفغاني , فلم ينجب أولادا , ولم يشغل نفسه بشئون الأسرة فقد كانت دعوته تملك عليه كل وقته وقلبه وقد عبر عن ذلك بقوله : ( إنني لن أنجب أودا ومع ذلك فأنا أب لأن كل الجزائريين أبنائي ) !!

ولعل أصدق صورة لدعوته ال تحرك بها من خلال جمعية العلماء ما أفصح عنه بقوله : ( إننا نريد نهضة شعبية قوية تجلي شخصية الشعب الجزائري وتكشف له عن مجد الماضي بما نير له طريق الحياة من جديد ..

نريد انقلابا جزائريا يرتكز على إعداد نشء صالح تتمثل فيه عبقرية الجدود فتنهض نهضة إسلامية عربية تأخذ من عظمة الماضي ويقظة الحاضر ما يعصمها من الزلل والانحراف وهي تسير في طريق المستقبل الباسم )

وكذلك قوله : ( لمن أعيس ؟ أعيس للإسلام والجزائر )!!

أما خطابه التاريخي في جمعية العلماء سنة 1356هـ /  1937م فيمثل الأبعاد الحقيقية لدعوته :

إذ يقول : ( جوربت فيكم العروبة : حتى ظن أنه قد مات منكم عرقها ومسخ فيكم نطقها فجئتم بعد قرن تصدح بلا بلكم بأشعارها ويهدر خطباؤكم بشقاشيقها فتدك الحصون والمعاقل ويهز كتابكم أقلامها فتصيب المفاصل .

وحورب فيكم الإسلام حتى ظن أنه قد طمست أمامكم معالمه وانتزعت عقائده ومكارمه فجئتم بعد قرن ترفعون علم التوحيد وتنشرون من الإصلاح لواء التجديد وتدعون إلى الإسلام كما جاء به محمد صلي الله عليه وسلم وكما يرضي الله لا كما حرفه الجاهلون وشوهه الدجالون ورضه أعداؤه .

وحورب فيكم العلم حتى ظن أن قد رضيتم بالجهالة وأخلدتم للنذالة ونسيتم كل علم إلا بما يخرج لكم بما هو أضر من الجهل عليكم فجئتم بعد قرن ترفعون للعلم بناء شامخا وتشيدون له صرحا سامقا .

فأسستم على قواعد الإسلام والعروبة والعلم والفضيلة جمعيتكم ( جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ) .

وحوربت فيكم الفضيلة ورميتم بالصغار حتى ظن أن قد زالت منكم المروءة أو النجدة وفارقتم العزة والكرامة فارتضيتم الضيم , ورضيتم الخسف .. فجئتم بعد قرن تنفضون غبار الذل وتهزهرون أسس الظلم وتهمهمون همهمة الكريم المحنق وتزمجرون زمجرة العزيز المهان , وتطالبون مطالبة من يعرف أن له حقا لابد أن يعطاه ويأخذه .

نهضنا بعد أن صهرتنا نار الفتنة وآلمتنا حوادث الزمان وقارعتنا الخطوب ودافعتنا الأيام ودافعنها ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) هكذا في الأصل – ( وفي سورة الحج الآية 40)

( ولولا دفع الله الناس بعضهم بعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز )

نعم نهضتنا بعد قرن : بعد ما متتنا وقبرنا وأحيينا وبعثنا سنة كونية فقهناها من القرآن ونعمة ربانية تلقيناها من الملك الديان ( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم ) ( أو كالذي مر على قرية ) .

نعم نهضتنا نهضة بنينا على الدين أركانها فكانت سلاما على البشرية لا يخشاها والله النصراني لنصرانيته ولا اليهودي ليهوديته ولا المجوسي لمجوسيته ولكن يجب أن يخشاها الظالم لظلمه والخائن لخيانته .

والعروبة والإسلام والعلم والفضيلة هذه أركان نهضتنا وأركان جمعية العلماء التي هي مبعث حياتنا ورمز نهضتنا فما زالت هذه الجمعية منذ كانت تفقهنا في الدين وتعلمنا اللغة وتنبرنا بالعلم تحلينا بالأخلاق الإسلامية وتحفظ علينا جنسيتنا وقوميتنا وتربطنا بوطننا الإسلامي الصادق ولم يزل كذلك بإذن الله .

عرفت الأمم من تاريخها لا تنهض إلا على صوت علمائها فهو الذي يحل الأفكار من عقالها ويزيل عن الأبصار غشاوتها ويبعث الهمم من مراقدها ويدفع بالأمم إلى التقدم في جميع نواحي الحياة..!!

وما كانت جمعية العلماء حتى العلماء القرآنيون الذين فقهوا الدين بفقه القرآن وعرفوا الدين الأقوم بمعرفة سنة محمد صلي الله عليه وسلم وهدوا واهتدوا بما كان عليه السلف الصالح ورجال الدين العظام ..

إن الإسلام عقد اجتماعي عام فيه جميع ما يحتاج إليه الإنسان في جميع نواحي الحياة لسعادته ورقية وقد دلت تجارب الحياة كثيرا من علماء الأمم المتمدنة على أن لا نجاة للعالم مما هو فيه إلا بإصلاح عام على مبادئ الإسلام فالمسلم الفقيه في الإسلام غني به عن كل مذهب من مذاهب الحياة .

فليس للجمعية إذن نسبة إلا الإسلام وبالإسلام وحده تبقي سائرة في طريق سعادة الجزائر لا نوالي الأحزاب ولكنا ننصر الحق والعدل والخير ونقاوم الباطل والظلم والشر محتفظين بشخصيتنا ومبادئنا ) ( انتهي ) نقلا عن : تراجم الأعلام المعاصرين في العالم الإسلامي – أنور الجندي ) .

والحق أن تطلعات ابن باديس السياسية كانت مرتبطة ومرتكزة على الإصلاح العقيدي الفكري المتمثل في الحفاظ على شخصية الجزائر الإسلامية العربية وتنمية هذه الشخصية وإنهاضها حتى تأخذ مكانها في العالم الحر المعاصر .

وقد أجاد الدكتور محمد فتحي عثمان وهو يتحدث عن ابن باديس في ضوء المقارنة بينه وبين محمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا وجمال الدين الأفغاني فيأتي بالنشابه ونقاط الالتقاء ويقف عند الخصائص المميزة لكل مصلح وداعية منهم فيقول عن ابن باديس في كتابه المسمي باسمه ..

( وقد استعان ابن باديس – في حكمة وتوفيق – بأدوات عصره لتحقيق أهدافه الجليلة من ( الصحافة ) إلى ( الجماعة *) إلى ( المدرسة ) مستندا إلى الذخيرة التي لا تنفذ ولا تنقطع ثمارها وآثارها ( القرآن الكريم ) من جهة ( والمسجد ) من جهة أخري .

ولقد كانت خطة بان باديس في إصلاحه الثقافي التعليمي الاجتماعي بحق " عملا وطنيا سياسيا " عميق الجذور واسع النطاق طويل المدى .

ويمضي قائلا :

( وعي ابن باديس أراه دعاة الإصلاح الذين سبقوه ولا سيما جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وأيقن أن طبيعة الواقع الجزائري وتسلط الاستعمار الفرنسي القاهر سوف يجعله في نهجه أقرب إلى ما آثره محمد عبده من الفكر والإرشاد والتربية والتعليم ... لكن ابن باديس كان ( حركيا شعبيا ) في دعوته الإصلاحية يؤثر العمل بين الجماهير الأمية الساذجة , ويحدثهم بما يفهمون في المساجد والمجامع وبينما يخاطب المتعلمين بقلمه في صحافته وينشئ المدارس متطلع إلى جيل قادم ومؤمن مستنير في المستقبل نراه لا يغفل الحاضر القائم ويحرض على عدم الانجراف في تيارات السياسة الغاتية في صراع غير متكافئ أو في وقت غير موات لكنه لا يتقوقع ولا ينكل إذا كان لابد من مواجهة الأعاصير الهوج وكان ذلك ضروريا وممكنا وكان يري في جهوده البناءة في تدعيم الشخصية الجزائرية العربية خير ظهير للمطالبة بحقوقه السياسية ويري في العمل لنيل هذه الحقوق السياسية المهضومة وتأييد الساسة العاملين لذلك خير تأكيد للمقومات الإسلامية العربية لهذا الشعب .

هذا ويمكن لنا أن نلحظ حرص ابن باديس على بلورة مفهوم ( الشخصية الجزائرية ) المتميزة على أساس أصوله الإسلامية العربية في ذلك الشعار الذي جعله لصحيفة ( المنتقد) التي أشرنا إليها سابقا إذ هو ( الحق فوق كل أحد , والوطن قبل كل شئ ) وكان يردد دائما ( نحن الجزائر وما الجزائر إلا الجزائريون ) و( العروبة والعربية ) عنده ملتحمتان مع الإسلام لا تنفكان عنه وحاجز متين يحول دون التذويب الثقافي الذي نستخدمه فرنسا ليظاهر الإدماج السياسي .

وكان إصرار ابن باديس كبيرا في نشر التعليم الإسلامي اللغة العربية كسبيل أكيد ووحيد للحفاظ على الشخصية الجزائرية وقد أدركت ذلك فرنسا فأصدرت ( قانونا في مارس 1357هـ /1939م يقضي بإلزام كل معلم باستصدار ترخيص بذلك وإلا تعرض للغرامة والسجن ) .

وقد ندد بهم ابن باديس وكشف خطتهم الشيطانية في عزل الجزائر عن هويتها الإسلامية وعروبتها فكتب مقالا بعد شهر من صدور هذا القانون الظالم نشر في مجلة البصائر سنة 1357هـ / 1938 م جاء فيه ( ... أعداء الأمة الجزائرية يجمعون أمرهم , ويدبرون كيدهم فيستصدرون من الحكومة قرارا وزاريا بعقوبات صارمة على التعليم, ليهدموا الشخصية الإسلامية من أصلها , وليقضوا عليها بالقضاء على مادة حياتها , .... علموا أن لا بقاء للإسلام إلا بتعليم عقائده وأخلاقه وآدابه وأحكامه , وأن لا تعليم له إلا بتعليم لغته فناصبوا تعليمها العداء وتعرضوا لمن يتعاطي تعليمها بالمكروه والبلاء فمضت سنوات في غلق المكاتب القرآنية ومكاتب التعليم الديني العربي والضن بالرخص واسترجاع بعضها حتى لم يبقوا منها إلا على أقل القليل ولما رأوا تصميم الأمة على تعلم قرآنها ودينها ولغة دينها واستبسال كثير من المعلمين في القيام بواجبهم واستمرارهم على التعليم رغم التهديد والوعيد ورغم الزجر والتغريم – لما رأوا هذا كله سعوا سعيهم حتى استصدروا قانون العقاب الرهيب ..

فهمت الأمة هذا الكيد والشر المدبر لدينها وقرآنها ولغة قرآنها ودينها والناطقة في الدفاع عنها في هذه الناحية بلسانها والمعاهدة لله وللأمة على ذلك الدفاع إلى آخر رمق من حياتها وسنمضي بعون الله في طريق تعليم ديننا ولغتنا رغم كل ما يصيبنا ... وإننا على يقين من أن العاقبة وإن طال البلاء لنا وإن النصر سيكون حيلفنا لأننا قد عرفنا إيمانا وشاهدنا عيانا أن الإسلام والعربية قد قضي الله بخلودهما ولو اجتمع كلهم على محاربتنا ) .

ولعل من أبرز ما التفت إليه ابن باديس في حركته الإصلاحية الإسلامية التعليمية السياسية الاجتماعية أنه حرص على وحدة الشعب الجزائري من عرب وبربر . فقد كانت توقيعات مقالاته تحمل اسم ( الصنهاجي ) فكتب ذات مرة مقالا بعنوان : ( ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان ) .

ومن أقواله في هذا المجال: ( إن أبناء العرب وأبناء مازيغ قد وحد بينهم الإسلام منذ بضعة عشر قرنا, ثم دأبت تلك القرون تمزج بينهم في الشدة والرخاء حتى كونت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرا مسلما جزائريا وأمة الجزائر وأبوه الإسلام .

وقد كتب أبناء يعرب , وأبناء مازيغ آيات اتحادهم على صفحات هذه القرون بما أراقوا من دمائهم لإعلاء كلمة الله وما أسالوا من محابرهم لخدمة العلم فأى قوة في العالم تستطيع أن تفرقهم لولا الظنون الكواذب والأماني الخوادع؟

يا عجبا لم يتفرقوا وهم الأقوياء فكيف يتفرقون وغيرهم القوي ؟ كلا والله بل لا تزيد كل محاول للتفريق بينهم إلا شدة في اتحادهم وقوة رابطتهم – ذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم الإسلام له حارس والله عليه وكيل ) .

كما لم يفته أن يحرص على تأكيد العلاقات الطيبة بين المسلمين وغيرهم في الوطن الجزائري قولا وعملا .

وبعد فلعلنا نكون قد أوضحنا شيئا عن جماعة العلماء المسلمين بالجزائر من خلال شخصية الشيخ عبد الحميد بن باديس مؤسسها ومنشئها ولسان حالها .

ولعل أفضل ما نختم به هذا البحث هو قطوف من أقواله التي سرت بين الناس مضرب الأمثال والتي كان لها أكبر الأثر في استمرارها وبذر بذور روح الجهاد التي بزغت مع سنة  1954 م هذه الثورة التي عرفت باسم ثورة المليون شهيد والتي ما توقفت حتي حصلت الجزائر الخالية من الأخطار لا تساوي شيئا .

( من رام أن يحول بيننا وبين فكرتنا التي نؤمن بها فقد حاول عبثا قلب الحقائق فلن نتزحزح عن الفكرة قيد شعره مهما طال سيل الكوارث على أمة لها ما لشعب الجزائر من الصفات المرغوبة فيها الكامنة كمون النور في الكهرباء ).

( أنا أحارب الاستعمار بالعلم ومتى انتشر التعليم في أرض أجدبت على الاستعمار وشعر في النهاية بسوء المصير ) وكان يردد دائما ( اللغة هي القوة ) .

( إن هذه الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا ولا يمكن أن تكون فرنسا ولا تريد أن تصير فرنسا ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها وفي دينها ولا تريد أن تندمج ولها وطن محدود معين هو الوطن الجزائري )

( إن لنا فكرة معروفة ولن نحيد عنها )

( السعادة هي التضحية , هذه أمة – يقصد الجزائريين أخذت تقدم الضحايا في سبيل سعادتها )

( تستطيع الظروف أن تكفينا لكنها لا تستطيع أن تقهرنا )

(ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان ) ( سنن الكون نافذة , لا تخلف , والويل لمن قعد أو تقاعس )

وإن الدارس لشخصية ابن باديس ليجد فيها مواهب متعددة وطاقات هائلة وظفها جميعها في سبيل نشر دعوته حتى فجرت طاقات الثورة بعد ذلك وأكدت الهوية الإسلامية واللغة العربية بين أرجاء محاولات الفرنسية الملحة والضاغطة والذي لم نكشف عنه حتى الآن رغم اقتباسنا الكثير من أقواله التي تحدد ملامح شخصيته ومنهاج دعوته فيقول :

شعب الجزائر مسلم

وإلي العروبة ينتسب

من قال حاد عن أصله ؟

أو قال مات فقد كذب

أو رام إدماجا لأه

وخض الخطوب ولا تهب

وأذق نفوس الظالمين

السم يمزج بالرهب

واخلع جذور الخائنين

فمنهم كل العطب

واهزز نفوس اليائسين

فلربما حيا الخشب

من كان يبغي ودنا

فعلي الكرامة والرحب

أو كان يبغي ذلنا

فله المهانة والحرب

هذا نظام حياتنا

بالنور خط وباللهب

حتي يعود لشعبنا

من مجده ما قد ذهب

هذا لكم عهدي به

حتى أوسد في التراب

فإذا هلكت فصحيتي

تحيا الجزائر والعرب !!

خاتمة :

هذه هي جمعية علماء المسلمين الجزائريين وهذا هو الشيخ عبد الحميد بن باديس مريبها ومرشدها عرضنا الكثير من الأفكار والمبادئ من بين ثنايا الأقوال والكلمات فلعلها تكون قادرة على تبيان ما كنت حريصا عليه من تبيان معالم هذه الشخصية المضيئة في حياة الجزائر بل وفي حياة الوطن العربي وضمير العالم الإسلامي وما ذاك إلا لأن كثيرا من الأعلام المسلمين المعاصري قد لحقهم النسيان وراج حولهم التعتيم عن قصد لأنهم بحق كانوا منارات هدي يستضاء بنورهم في مسيرة الحياة ومحاولة البعض الإسلامي المرتقب .

فمع بان باديس الداعية المصلح والسياسي الناجح عشنا بعض الوقت آملين أن تكون قد حلفنا حول سيرته الذاتية بما يفيد وينفع إن شاء الله .

admin

المقالات الأخيرة

مالك بن نبي والزَّعامة الصَّنمية

بقلم: ناصر حمدادوش - يؤكد “مالك بن نبي” في كتابه “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”…

سنة واحدة قبل

في ذكرى وفاة الأستاذ سعد الله

بقلم: محمد الهادي الحسني - منذ عشر حِجَجٍ، وفي يوم 14-12- من سنة 2013 جاء…

سنة واحدة قبل

دعوة ابن باديس للثورة

بقلم: د. علي الصلابي- كانت نفسية ابن باديس وأشواقه الروحية تواقة إلى التضحية في سبيل…

سنتين قبل

الثورة في شعر ابن باديس ونثره

بقلم: د. علي الصلابي- استعمل عبد الحميد بن باديس في العديد من مواضيع شعره ونثره،…

سنتين قبل

الإشراف التربوي في مدارس جمعية العلماء المسلمين ج1

بقلم: د. توفيق جعمات- لم تكن مدارس جمعية العلماء المسلمين مجرد فصول تعليمية أو كتاتيب…

سنتين قبل

لمحة عن مسار الدكتور سعيد شيبان مع العلم والإيمان والنضال

بقلم: عبد الحميد عبدوس- تعرفت على الكاتب المفكر والطبيب المجاهد الدكتور السعيد شيبان في سنة…

سنتين قبل