Categories: مالك بن نبي

بين فكر مالك بن نبي وفكر علي عزت بيغوفيتش

بقلم: محمد بوالروايح-

قرأتُ لمالك بن نبي وعلي عزت بيغوفيتش فوجدت أن هناك تقاربا بينهما في الفكر إلى حدٍّ كبير، فكلاهما اهتم بالأزمة الحضارية التي مر بها العالم الإسلامي في مرحلة فتور العقل الإسلامي وعجزه عن صناعة الأفكار ورعاية التراث الفكري للأمة الذي يزيد إذا اقتصرنا على المرحلة الأندلسية وحدها عن ثمانية قرون. بين بن نبي وبيغوفيتش فارقٌ في العمر ولكنهما ينتميان إلى نفس العصر، عصر التحولات الكبيرة في الغرب والانحطاطيات الكبرى في الشرق، وينتميان أيضا إلى رقعة جغرافية واحدة هي العالم الإسلامي الذي يتلمس طريق الخلاص بعد سلسلة الانتكاسات الكبيرة التي مُني بها في صراعه مع العالم الغربي.

يتفق بن نبي وبيغوفيتش على أن أزمة العالم الإسلامي أزمة مركّبة، فهي أزمة أخلاقية لغياب القدوة واستفحال مظاهر التمرد على الفطرة، وهي أزمة فكرية بسبب عجز العقل الإسلامي عن صناعة الأفكار وسقوطه في دوامة التقليد الأعمى، وهي أزمة تراثية بسبب تخلي الأمة الإسلامية عن رصيدها التراثي الذي تكوّن على فترات طويلة من تاريخها.

ويتفق بن نبي وبيغوفيتش على أن العلاقة بين الإسلام والغرب ليست علاقة ندية كما يجب أن تكون، ولكنها علاقة تابع بمتبوع، وهي التي يعبر عنها بن نبي بـ”القابلية للاستعمار” ويجاريه بيغوفيتش في هذا التوصيف ولكن بمقاربات أخرى.

ويتفق مالك بن نبي وعلي عزت بيغوفيتش على أن استعادة الدور الحضاري للعالم الإسلامي لا يمكن أن يتحقق إلا بإجراء مراجعات عميقة لطريقة التعامل مع الأشياء واستعادة الكيمياء بين محددات المادة ومحددات الروح. ويتفق بن نبي وبيغوفيتش بأن كبوة العالم الإسلامي قد حدثت بسبب الخروج عن المنظومة السننية والتخلي عن السببية في علاقة الإنسان بالحضارة.

يصف بن نبي وبيغوفيتش طريق الخلاص للعالم الإسلامي في ثلاث خطوات عاجلة لا تقبل التأجيل، أولها الاستثمار في العنصر الإنساني والاقتناع بأن الإنسان هو مركز الثقل في العملية الحضارية، وثانيها التخلي عن الصراعات المذهبية والسياسية والتفرغ للمهمة الجوهرية وهي إعادة العالم الإسلامي إلى ركب الحضارة والريادة، وثالثها استعادة عنصر الثقة في النفس وطرح عقدة الغرب هو الأقوى.

إن الدراسة المقارباتية لفكر بن نبي و فكر بيغوفيتش تكشف أنه ليس بينهما إلا تفاصيل صغيرة وهي الحقيقة التي نقف عليها من قراءتنا لكتبهما، فرغم اختلاف طريقة كل من بن نبي وبيغوفيتش في رصد ودراسة الظاهرة الحضارية، إلا أن بينهما تشابها ظاهرا بينا لا يختلف فيه اثنان، فكتاب بيغوفيتش “الإعلان الإسلامي” على سبيل المثال الذي ألفه بعد نهاية حرب البوسنة والهرسك في التسعينيات والذي يمثل بالنسبة لبيغوفيتش خارطة طريق لما يجب أن يكون عليه مستقبل العلاقة بين الإسلام والغرب، هذا الكتاب يتوافق من حيث فكرته المركزية مع كتاب بن نبي “فكرة كومنولث إسلامي” في تكريس مبدأ التميز الإسلامي والندية الإسلامية وهي الحلقة المفقودة في الدراسات الحضارية.

لا تهمني في هذا المقام حملات التشويه التي تعرض لها كتاب “الإعلان الإسلامي” وحملات التضييق والاعتقال والسجن التي طالت مؤلفه، فقد كتب حولها كثيرون، وإنما يهمني بيان التوافق الحاصل بين بيغوفيتش وبن نبي في ضرورة إيجاد الفرد المسلم والحياة الإسلامية والنظام الإسلامي والتي لا تعني بأي حال من الأحوال الانفراد بالحكم أو إقصاء المخالفين أو تأسيس معزولة لا تتعاطى مع العالم لا سلبا ولا إيجابا كما يصورها بعض حملة الفكر الإسلامي المغشوش.

تلتقي فكرة بيغوفيتش في كتابه “الإعلان الإسلامي” مع فكرة بن نبي وهي ضرورة إحياء الشخصية الإسلامية وتجديد الأفكار الإسلامية، يقول بيغوفيتش في كتابه “الإعلان الإسلامي”: “هل نريد للشعوب المسلمة أن تخرج من دائرة التبعية والتخلف والفقر؟. هل نريد لها أن تنطلق في طريق العزة والنهضة مرة أخرى؟ هل نريد للشجاعة المتوهجة والعبقرية والفضيلة أن تنبعث من جديد بكل قوتها وزخمها في كيان هذه الأمة؟. يمكننا إذن أن نبيِّن بوضوح الطريق الذي يؤدي إلى تحقيق هذه الغايات، إنه طريق إحياء الإسلام في جميع مجالات حياتنا الفردية الشخصية، وإحيائه في الأسرة والمجتمع، وتجديد الأفكار الإسلامية، وإقامة مجتمع إسلامي موحد من المغرب إلى إندونيسيا”.

تلتقي فكرة عزت بيغوفيتش هذه من حيث المعطى العام مع فكرة مالك بن نبي في كتابه: “فكرة كومنولث إسلامي”. إن فكرة علي عزت بيغوفيتش حول ضرورة تجديد الأفكار الإسلامية كشرطٍ لتجديد النهضة الإسلامية هي عينُ الفكرة التي قررها بن نبي في كتابه: “فكرة كومنولث إسلامي” من أجل القضاء على مظاهر التخلف في العالم الإسلامي، فانعدام الفاعلية في المجتمع الإسلامي حسب بن نبي مردّها في الأساس إلى العجز في الأفكار، يقول في هذا الصدد من كتابه سالف الذكر: “لأن العجز في الأفكار يخلق أو ينتج في المجال النفسي عجزا في المراقبة الذاتية، وفي مراجعة النتائج، ففكرُنا لا يقيم علاقات بين النشاطات والجهود والوسائل من ناحية ونتائجها من ناحية أخرى ومفهوم المحصول لا وجود له في تربيتنا الأولى، إذ هو لا يكون جزءا من عالم أفكارنا”. إن عجز الأفكار هو السبب الجامع لاستمرار انعدام الفاعلية في المجتمع الإسلامي وبالتالي فإن استعادة الدور الحضاري مرهون بتجديد هذه الأفكار حتى يحصل التوافق بين حركة الفكر وحركة الحضارة وبين حركة الحضارة وحركة التاريخ. إن تجديد الأفكار الإسلامية هو السبيل لتجديد الحضور الإسلامي والشهود الحضاري وهو الكفيل بتحقيق المجتمع الإسلامي الذي يمتد من طنجة إلى جاكرتا.

وما قلته عن التقارب بين كتاب “الإعلان الإسلامي” لعلي عزت بيغوفيتش وكتاب “فكرة كومنولث إسلامي” لمالك بن نبي ينطبق أيضا على كتبهما الأخرى بما يؤكد أن فكرهما يخرج من مشكاة واسعة وأن مظاهر التأثير والتأثر بين فكر بن نبي وفكر بيغوفيتش أظهر وأكبر من أن ينكرها الناكرون وإن كنت أميل شخصيا إلى ترجيح التأثر من جانب بيغوفيتش بفكر بن نبي وليس العكس، وهو رأيٌ مبنيٌّ على إثباتات نصية سأفصلها في مقالات لاحقة.

يكاد كتاب بيغوفيتش “عوائق النهضة الإسلامية” أن يكون صورة مستنسخة لكتاب “شروط النهضة” لبن نبي مع بعض الاختلافات الطفيفة في أسلوب المعالجة وآليات التطبيق العملي. لقد استلهم بيغوفيتش فكرة “القابلية للاستعمار” من بن نبي ولكنه لم يعبِّر عنها بهذا اللفظ الصريح وإنما عبّر عنها على طريقته حيث يقول: “أليس من الطبيعي أن يقود الشعوبَ الإسلامية رجالٌ تربوا في الإسلام، واستلهموا الطريق من الفكر الإسلامي، ولكنهم لا ينجحون في ذلك لسبب واحد: إنهم قد رُبُّوا ليكونوا أتباعا لا قادة. أليس من كنه المنطق أن يكون المسلمون المخلصون ركائزَ الثورة على المستعمِر والأفكار الأجنبية الدخيلة والطغيان السياسي والاقتصادي؟ ولكنهم غير فادرين على ذلك، لنفس السبب الأساسي، لأنهم تعلّموا ألا يرفعوا صوتهم مجلجلا، وأن يقولوا سمعا وطاعة”.

ولا يشذُّ كتابُ علي عزت بيغوفيتش “الإسلام بين الشرق والغرب” عن كتبه الأخرى في استلهام كثير من الأفكار الحضارية من مالك بن نبي وليس في هذا ما يضير؛ فالفكر تأثير وتأثر وأخذ وعطاء، وإنما أردتُ من وراء ذلك أن تهدأ نفوس بعض الذين يضيقون بهذه الحقيقة مع أنها ظاهرةٌ مألوفة في عالم الفكر، فلو كان بيغوفيتش حيا ما وسِعه إلا الإقرار بهذه الحقيقة، فلماذا يحرص بعض أنصار فكره أن يكونوا بيغوفيتشيين أكثر من بيغوفيتش؟.

admin

المقالات الأخيرة

مالك بن نبي والزَّعامة الصَّنمية

بقلم: ناصر حمدادوش - يؤكد “مالك بن نبي” في كتابه “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”…

11 شهر قبل

في ذكرى وفاة الأستاذ سعد الله

بقلم: محمد الهادي الحسني - منذ عشر حِجَجٍ، وفي يوم 14-12- من سنة 2013 جاء…

11 شهر قبل

دعوة ابن باديس للثورة

بقلم: د. علي الصلابي- كانت نفسية ابن باديس وأشواقه الروحية تواقة إلى التضحية في سبيل…

سنتين قبل

الثورة في شعر ابن باديس ونثره

بقلم: د. علي الصلابي- استعمل عبد الحميد بن باديس في العديد من مواضيع شعره ونثره،…

سنتين قبل

الإشراف التربوي في مدارس جمعية العلماء المسلمين ج1

بقلم: د. توفيق جعمات- لم تكن مدارس جمعية العلماء المسلمين مجرد فصول تعليمية أو كتاتيب…

سنتين قبل

لمحة عن مسار الدكتور سعيد شيبان مع العلم والإيمان والنضال

بقلم: عبد الحميد عبدوس- تعرفت على الكاتب المفكر والطبيب المجاهد الدكتور السعيد شيبان في سنة…

سنتين قبل