مالك بن نبي يحدثكم: هكذا يمكنكم صناعة حضارة
بقلم: حرزالله محمد لخضر-
"وغنى المجتمع لا يقاس بكمية ما يملك من أشياء، بل بمقدار ما فيه من أفكار" مالك بن نبي. إن الحديث عن رهانات الارتقاء الحضاري والتطور الاقتصادي والاجتماعي وركائزه ومقارباته في ظل مجتمعات المعرفة الحديثة، يدفعنا بكل إلحاح لطرح إشكال محوري في أي عملية تنموية وهو: من أين ينطلق المعراج الحضاري والبناء التنموي في عصر مجتمعات المعرفة؟ وبالنظر للتجارب الإصلاحية والتنموية لبعض الدول الرائدة قديما وحديثا كاليابان وألمانيا وسنغافورة وتركيا وماليزيا وباقي دول العالم المتقدم، نجد أن بينهم قاسما مشتركا في منطلقاتهم المنهجية نحو الإقلاع الحضاري والاقتصادي، يتمثل في أولوية بناء الإنسان قبل العمران، إذ أن رسم السياسات الإصلاحية والتأسيس لمشروع مجتمع جديرٍ بتحقيق القفزة التنموية والمعراج الحضاري، يتطلب تأهيل الإنسان إلى مَصَفِّ الوعي والفعل الحضاري الذي يجعله في مستوى التطلعات التنموية أداءً وثقافةً وتفكيراً.
إن جل المشاريع الإصلاحية في بلادنا العربية لم تنطلق من المقدمة الصحيحة، فلم تجعل الإنسان محور تنميتها ومنطلقها نحو الإرتقاء في مدارج التطور والبناء، بتنمية التعليم وتطوير مقارباته والاستثمار في مخرجاته، فجل مشاريعنا تستند إلى الأرقام ومقدار المخصصات المالية وعدد المؤسسات والتجهيزات، دون وجود أدنى استراتيجية لتنمية رأس المال الفكري والبشري الذي يمثل الروح التي تبعث الحياة والفاعلية في تلك المشاريع، ويؤكد مالك بن نبي رحمه الله هذه الحقيقة بقوله: "إن القيمة الأولى في نجاح أي مشروع إقتصادي هي الإنسان، فالاقتصاد ليس قضية إنشاء بنك وتشييد مصنع فحسب، بل هو قبل ذلك تشييد إنسان وتعبئة الطاقات الاجتماعية في مشروع تحركه إرادة حضارية".(1)
والملَاحَظ في مشاريعنا التنموية هو رهانها على الموارد المادية والمالية وجعلها معيارا مرجعيا لقوة الاستثمار والنمو الاقتصادي، فنسمع الحديث عن تخصيص الملايير في مشاريع ضخمة دون الحديث عن قوة وجَوْدَةِ الأفكار Quality ideas المسَيّرة لهذه الموارد المالية، والتي ما تلبث أن تتحول إلى هياكل وتجهيزات تتعرض للتلف والتخريب، أو تفقد فاعليتها في الواقع ولا تعكس حجم الأغلفة المالية المرصودة لها، وللأسف أصبح هذا روتينا رسميا ثابتا، فنتفاخر بإنشاء كذا مؤسسات تربوية وجامعات ومستشفيات وشركات ومراكز تجارية، دون أن نتساءل عن مردودها الاقتصادي والتعليمي والاجتماعي والثقافي والتنموي، وهل يكافئ ذلك مستوى الأهداف المرجوّة من هذه المشاريع التنموية؟ وهل تم تحقيق ذلك فعليا على أرض الواقع؟
إن رؤية المجتمعات الحضارية الرائدة قد تجاوزت مرحلة تثمين الأشياء Valuation of things إلى مرحلة تثمين الأفكار Valuation of ideas ومدى قوتها وفعاليتها في إحداث التغيير التفاضلي، ويؤكد مالك بن نبي رحمه الله هذه الحقيقة بقوله: "إن قيمة مجتمع معين في فترة ما من تاريخه، لا يعبر عنها بمجموعة (الأشياء) في هذا المجتمع ولكن بمجموعة (أفكاره)(2)، فالتنمية المحلية للدول تنطلق أساسا من بناء الفرد وتهيئته ليلعب دورا حاسما وإيجابيا في بيئته من خلال تحفيزه على المشاركة في تقديم الرؤى والأفكار الحية والعملية، ويقول مالك بن نبي مستلهما من التجربة الصينية: "إن الصين تقدمت اقتصاديا بسرعة مرموقة لأنها طبقت منذ اللحظة الأولى في خطط تنميتها مبدأ الإتكال على الذات، أي بالتعبير الاقتصادي مبدأ الاستثمار الاجتماعي من الإنسان الصيني، التراب الصيني، والزمن المتوفر في كل أرض.. فالصين وضعت تبعيات التنمية على كاهل الشعب، فعوضت بطاقاته الحيوية الموجودة بقدر الإمكان الطاقاتِ الميكانيكية المفقودة.. مما جعلها تحصل على خبرة فريدة في مجال توظيف الإنسان والتراب والزمان"(3).
كما يشير إلى التجربة الألمانية قائلا: "إن ألمانيا بعدما تعطلت تماما سفينتها في نهاية الحرب العالمية الثانية أقلعت بمقدار خمسة وأربعين ماركا فقط، لكن الاستثمار الحقيقي كان في رأس كل مواطن ألماني وفي عضلاته، وبصورة أشمل وأدق كان في تصميم الشعب الألماني وفي التراب الألماني على الرغم من فقره."(4). وإذا أردت أن تدرك عمليا القيمة الاستراتيجية للأفكار كمورد خلّاقٍ لمجتمعات واقتصاديات المعرفة"أنظر مثلا إلى الهاتف المحمولMobile، إن تكلفة خاماته تنكمش لتشكل عُشُرَ ثمنه تقريبا، معنى هذا أن الفرق بين هذه التكلفة وبين سعر البيع هي القيمة المضافة التي خلقتها عقول البشر كمصمّمين ومبتكرين ومطورين. أنظر إلى الشخصية الشهيرة بيل جيتس Bill Gates الذي اشتهر بأنه أغنى رجل في العالم، من أين جاءت ثروته؟ لقد جاءت من برامج الحاسب، وهي سلعة لا تعتمد على المواد الخام بل تعتمد على المعرفة الهائلة في عقول العاملين بشركته "ميكروسفت Microsoft"، ويرى جيتس: "أن العامل الأساسي في نجاح شركته هو خيال وابتكار العاملين بها".
هذا هو أبلغ مثال على عصر اقتصاد المعرفة الذي تلا عصر الصناعة، والذي يتطلب استثمارا مكثفا في البشر، في تعليمهم وتدريبهم وحفزهم على الإبتكار ليصبحوا قادرين على المنافسة في عصر قادم ستكون المنافسة فيه بالمعرفة وليس بالمادة الخام أو بمجرد توافر الآلات والتجهيزات"(5). ولهذا نجد دوما المفكر مالك بن نبي رحمه الله يشيد منذ أمد بعيد بمكانة الأفكار الفعالة Effective ideas في دفع عجلة التنمية واعتبارها أساس الإقلاع الاقتصادي، بل أكد بما لا يدع مجالا للشك أن رأس مال الأفكار والمعارف هو عصب التنمية وهو الأولى بالاستثمار من عالم الأشياء والموارد المادية، وهذا ما لاحظ غيابه عن برامج ونشاطات التنمية بالجزائر مما أفقدها روحها وجدواها وفعاليتها، حيث يقول رحمه الله: "وبملاحظتنا لبعض النشاطات النموذجية في الجزائر، تمكنت في دراسة ظهرت لي منذ بضعة سنين من الإشارة بالأرقام إلى تبديد مُفْرِطٍ لطاقتنا الاجتماعية وتبذير مسرف وغير محسوس في وسائلنا، وهذا مظهر من مظاهر اللافعالية التي تعزى إلى العجز في أفكارنا"(6).
فوفرة الإمكانات المادية والطاقات البشرية الخام لا يمكن أن يؤتي ثماره ويحقق انتقالا حضاريا في ظل غياب سياسات لا تُقَدّرُ منزلة المورد البشري والفكري وقدراته الفعّالة، بل تتمادى في تهميش الطاقات والكفاءات وعدم الاستثمار في التعليم، يقول بن نبي: "ونلاحظ هنا أن القضية لا تتصل بفقر في الوسائل لأن العمل هو الذي يخلقها ولكن بفقر في الأفكار"(7). فالفقر الحقيقي ليس في قلة الموارد التي يزخر بها علمنا العربي، وإنما في فقر الأفكار وضعف أدوات الإبداع وحاضناته وانعدام البيئة التحفيزية الملائمة والرؤية التنموية الرشيدة، فثمة تكمن معضلتنا الحضارية.
المراجع:
1- مالك بن نبي، المسلم في عالم الاقتصاد. ص59.
2- مالك بن نبي، فكرة كمنويلث إسلامي. ص53.
3- مالك بن نبي، المسلم في عالم الاقتصاد. ص76.
4- مالك بن نبي، بين الرشاد والتيه. ص172.
5- أحمد سيد مصطفى، إدارة الموارد البشرية رؤية استراتيجية معاصرة. ص21.
6- مالك بن نبي، فكرة كمنويلث إسلامي. ص61.
7- مالك بن نبي، بين الرشاد والتيه. ص175.