مسار الحراك الإصلاحي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في ميزان رؤى مالك بن نبي
بقلم: د. مصطفى داودي-
يقول مالك بن نبي: ظهرت الحركة الإصلاحية في الجزائر سنة 1925، ومعها تحرّكت المشكلة الجزائرية، وقد أوتيت لسانا ينطق، وفكرة تنير لها الطريق، عادت معها الحاسة الاجتماعية إلى الجزائر، فعادت بذلك إلى نقطة الحياة التي يستأنف فيها كل شعب رسالته، ويبدأ تاريخه.
وكانت بذلك الحركة الإصلاحية التي قام بها العلماء الجزائريون، أقرب إلى النفوس وأدخلها في القلوب، إذ كان أساس منهاجهم الأكمل هو قول الله تعالي:{ إِنَّ الله لاَ يُغَيّر مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيروِّا مَا بِأَنفُسهِم} ، فأصبحت هذه الآية شعار كل من يطرح في سلك الإصلاح في مدرسة (الشيخ ابن باديس)، وكانت أساسا لكل تفكير، فظهرت آثارها في كل خطوة، وفي كل مقال حتى أشرب الشعب في قلبه نزعة التغيير، فأصبحت أحاديثه تتخذها شرعة ومنهاجا، فهذا يقول: لا بدّ من تبليغ الإسلام إلى المسلمين، وذاك يعظ: فلنترك البدع الشنيعة البالية التي لطّخت الدين، ولنترك هذه الأوثان، وذلك يلحّ: يجب أن نعمل، يجب أن نتعلّم، يجب أن نجدد صلتنا بالسلف الصالح، ونحيي شعائر المجتمع الإسلامي الأول.
فجمعية العلماء المسلمين الجزائريين إذن ركّزت على عناصر النهوض وصناعة القوة المعنوية، وذلك من خلال العنصر التعليمي الذي من خلاله تبنى الشعوب في مجالي الدين والدنيا، وذلك وفق آليات المدارس والنوادي، والمساجد والصحافة وغيرها، والتركيز على عوامل الوحدة لا التفرقة، لأن المجتمع كلما كان في وحدة، كلما استمسك بعوامل القوة وبالتالي بتحصيل قوة المواجهة، وعلى الرغم من كل هذه القوة الإصلاحية، والجهد الكبير الذي بذلوه، وقد كان يتزايد من سنة إلى سنة إلاّ أنهم في نظر (مالك بن نبي) قد وقعوا في الانحراف – وبكل أسف – عن الأهداف التي أسسوا عليها البناء الإصلاحي، وكانت النتيجة انحرافاً، ولا نتيجة، لأن الحكمة قد تركت مكانها للانتهازية السياسية، وركونها إلى التفكير غير المنهجي، وكل ذلك أدخلها في دروب مظلمة، ما كان ليحدث لولا دخلوهم في خطّ العمل السياسي سنة 1936م من خلال تبنيهم ومشاركتهم الفعّالة في المؤتمر الإسلامي، وما انجر عنه من صراع سياسي بين أطياف الحراك الوطني في الجزائر، والصراع على السلطة، بدلا من المتابعة على الطريقة اللاّعنفية التي كان غاندي ينتهجها، فالمستعمرون يروعهم الاستقلال الثقافي والحضاري، ولا تروعهم الأفعال العنفية التي يتقنونها أكثر من كل الآخرين.
فسير العلماء عام 1936في القافلة السياسية التي ذهبت إلى باريس كتصرّف غير مدروس يعدّ أكبر سبب جرّها إلى أول انحرافها، واصطدامها من خلال كل ذلك بعنصر الإضعاف والإقلال، فبأي غنيمة أرادوا أن يرجعوا من هناك، وهم يعلمون أن مفتاح القضية في روح الأمة لا في مكان آخر؟ وبأي شيء في الحقيقة قد رجعوا؟ ألم يرجعوا بإخفاق المؤتمر الجزائري وبتشتيت جمعيتهم نفسها؟ فلقد ساد الرأي الانتخابي، وأصبح قائداً بدلاً من أن يكون مقوداً، وهكذا انقلبت الحركة الإصلاحية على عقبها، وأصبحت تمشي على قمة رأسها، لا على قدميها، وما كان الأمر خاصاً بالجزائر، بل كان العالم الإسلامي مصاباً بمثل ما أصاب الجزائر، فقد نشـأت فيه التيارات الحزبية، وانعكست فيه روح السمو وقوة الصعود والنهوض إلى عاطفة سفلية، وجاذبية سطحية، وربما كان عام 1936 في الجزائر هو القمة التي بلغها روح الكفاح والإصلاح الاجتماعي، وهي نفسها القمة التي هبط منها الإصلاح إلى هاوية لا قرار لها.
كان من المفترض على الحركة الإصلاحية أن تبقى متعالية على أوحال السياسة والمعامع الانتخابية، ومعارك الأوثان، ولكن العلماء آنذاك قد وقعوا في الوحل حيث تلطخت ثيابهم البيضاء، وهبطت معهم الفكرة الإصلاحية .
ولئن كان هنالك شيء يؤسف له منذ عام 1925، فإن أكبر أسفنا على زلة العلماء، التي كانت زلة نزيهة، لما توفر فيها من النية الطاهرة، والقصد البريء ومع ذلك فإنه يجب أن لا يغرب عن بالنا أن الحكومة الاستعمارية كانت هي السبب الخارجي لتلك الخطوة المشئومة التي خطاها العلماء نحو السراب السياسي، وكان ذلك حينما تكونت في فرنسا الجبهة الشعبية التي بذلت الوعود بغير حساب، ولكن ألم تكن المعجزة الحقة في تحويل الأمة وتقدمها شيئاً أغلى من هذا السراب؟ ألم يكن موطن المعجزة هو ما دل عليه القرآن، أي في النفس ذاتها؟ أو لم يكن العلماء أنفسهم ينهلون من ذلك الينبوع معجزتهم من عام 1925 حتى عام1936 إذ كانوا يغيرون ما بنفس الفرد، ذلك التغيير الذي هو الشرط الجوهري لكل تحول اجتماعي رشيد؟.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه في مثل هذه القراءات، هل أن رؤية مالك نبي للحركة الإصلاحية في الجزائر كان دقيقا ؟ خصوصا في موقفه اتجاهها بعد المؤتمر الإسلامي سنة 1936م؟ وهل فعلا أن جمعية العلماء أخطأت؟ أم أن لموقفها مبررات مقنعة وكان له نتائج إيجابية سواء على المستوى القريب أو البعيد؟.
إن المنظور الذي انطلق منه مالك بن نبي في تقييم الحراك الإصلاحي في الوطن العربي عموما، وقطر الجزائر خصوصا، كان منظورا أصيلا أملته سنن الله التي أرادها في خلقه، والتي كان شعارها منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، هو قوله تعالى:{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ }(1).
فالله عزّ وجل جعل مناط التغيير ينطلق من النفس، فتتشرّب قيم الصلاح، فإذا ما تشبّعت شعّت به نورا، وهكذا الأنفس حتى يشمل الإشعاع المجتمع بأكمله فينعكس على كل قضاياه في مجالات الحياة كلها، بهذا المنطلق كان حراك الإصلاح في الجزائر من قبل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، واستطاعت أن تخطو في ذلك خطوات عملاقة تغيّر بها حال المجتمع الجزائر من حال إلى حال، اتسم به بالاستيقاظ بعد ليل طويل أراده الاحتلال الفرنسي في الجزائر، لكن تأتي لحظة المؤتمر الإسلامي ومعه يبزغ دور جديد لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين بانخراطها في الجدل السياسي بل تتسيد حراكه من خلال إقامتها لهذا المؤتمر وما انجر عنه من جدل ولوائح بها مطالب رفعت إلى المحتل، كل ذلك جعل المفكر (مالك بن نبي )، يعتبر بأن اللحظات التي سبقت عقد المؤتمر كانت هي لحظات القمة للحركة الإصلاحية في الجزائر، وعند انعقاده بدت لحظة الانهيار والسقوط المريب والخفوت العجيب لشعاع ذلك الإصلاح الذي ملأ آفاق قطر الجزائر إشعاعا ونهضة .
لكن السؤال الذي يطرح هل الإصلاح المغير للأنفس من قبل جمعية العلماء قد ازداد توسعا وانتشارا بعد المؤتمر الإسلامي؟ أم أن هذا الأخير زاده تقليصا وخفوتا حتى دبّ فيه السكون؟ وهل أن الحوار مع صاحب القرار السياسي في فترة ما هو عين السياسة؟ ثم هل أن جمعية العلماء ومسائل الوطن السياسية منذ تأسيسها كان خطا أحمر تلزم نفسها دائما أن لا تتعداه؟ ثم أليس من ضروريات إصلاح الأنفس تهيئة الأجواء أمام الحراك الإصلاحي ليبلغ مداه؟.
إنها تساؤلات جوهرية يمكن أن نناقش من خلالها رؤية مالك بن نبي لمشاركة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في المؤتمر الإسلامي بصورة مختلفة، باعتبار أننا حينما نمعن النظر في النشاط الإصلاحي للجمعية بعد المؤتمر الإسلامي، نجده قد ازداد توسعا عبر الوطن بالمقارنة مع مرحلة ما قبل عقد المؤتمر سنة 1936م، لا من حيث إقامة المدارس والنوادي الحرة، ولا من حيث عدد الطلاب الذين حملوا رسالة القضاء على الجهل الذي غرسه الاحتلال وبكل أشكاله، سواء داخل الوطن أو خارجه .
ثم هل أنه بمجرد حوارهم مع أطياف الحراك السياسي في الجزائر يكونون قد ارتدوا الجبة السياسية؟ لأن المنطق يفرض أن الإصلاح المنعزل عن الواقع المتحرك في المجتمع هو إصلاح في سراديب مظلمة، فالمصلح ينبغي أن يكون في نباهة لكل ما يقع، حتى يكون نعم الربان لسفينة الإصلاح يعرف المسالك والمعوقات والأجواء المعترضة، وكل ذلك من ضروريات الإصلاح، لأن المصلح الذي لا يهيئ الظروف لحركيّته الإصلاحية حتى يضع الأنفس في قمة القبول الإصلاحي، هو مصلح بعيد عن زمانه، لذلك رأى رجال جمعية العلماء أن أجواء وحدة قرار المحتل واختلاف أطياف البلد المحتل هو واقع سيزيد الأوضاع سوءا وضعفا، لذلك رأوا أنه من الضروري أن يجتهدوا وهو مطلب شرعي لإيجاد حلّ لهذه الفرقة والتباين في المطالب حتى بدوا أمام أعين العدو صغارا ضعافا، ولم يجدوا بدا من عقد مؤتمر جامع عساه يجعل المطلب واحدا ورسالة القوة فيه واحدة، مع العلم أن صياغة مطالب في ظروف معينة وفترة خاصة، ليس معناه أن هذه المطالب هي غايات نهائية، وفي بعض الأحيان تكون صياغة المطالب للخصم لتعريته عن أطياف تحتج بتلك الرؤى، فهل أن حركية الإسلام في الإصلاح تقاس من خلال لحظة صلح الحديبية وما حوته من بنود، أم أن لجلل الموقف، والأبعاد والغايات الضابطة، والمتوخاة سر كبير في كثير من فواصل التاريخ لها ما بعدها.
فقد تكون المطالب في بعض الأحيان لحظة تمحيص لكثير من الناس، وبالتالي إن لم يكن هناك حسنة من كل هذا المؤتمر فبمجرد جمع أطياف الجزائر في طاولة واحدة لأول مرة في تاريخ الحركة الوطنية كاف لرجال الإصلاح، فما بالك أنها جمعتهم وتقابلت الوجوه مع بعضها وسمعوا من بعضهم البعض، ووصلوا إلى فقه التنازلات المتبادلة بينهم لأجل الاتفاق على رؤية واحدة كان لها ما بعدها في المستقبل، وأن هذا الجمع هو الذي أسس فيما بعد لثقافة الوحدة، إذ أنه بعد قيام الحرب العالمية الثانية، تأسس أحباب البيان كبوتقة جامعة، وهيأ أطياف الحراك الوطني والإصلاحي للالتقاء في بوتقة جبهة التحرير الوطني التي خاضت حرب التحرير واستقلال الجزائر.
ثم ألم تكن خطابات فرنسا داخليا وخارجيا تجاه المسألة الجزائرية كلها تختبئ وراء تشتت مطالب الجزائريين وعدم قدرتهم على إيصال صوت واحد يوحي بأنها أمام طرف مقابل يحمل من الجدية والتميّز والإصرار ما يستوجب الإصغاء له حوارا وتحقيقا للمطالب؟
ألم تصم فرنسا مسامع الجزائريين بأنهم جزء من فرنسا لهم ما عليهم مع الفرنسيين، وأن الحقوق والحريات والمساواة دين يتساوى فيه الجميع وبوتقة تجمع الكل، فإذا توحّدت مطالب الشعب في يسير من هذه المطالب فهل سيصدق وعد فرنسا؟
إنها أسئلة تفنّنت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في فهمها، ومعها تفنّنت في إظهار زيف الوهم الفرنسي من خلال بريق هذه الشعارات، فأحرجتها بوهمها، وكأنّ الجمعية بهذا المؤتمر أثبتت للداخل وللخارج بأن فرنسا أمة كذوب تلوّح بالسراب ليعتقده الضمآن ماء، كما هزّت أولئك الذين أغراهم الوهم وجذبهم السراب فضنوا أن البريق حق والسراب ماء، فاطمأنوا وناموا، هزتهم وأيقظتهم جمعية العلماء من خلال هذه اللحظة التاريخية، فما وجدوا أنفسهم إلاّ في أحلام زائفة يتطلب معها الرجوع إلى وعد الله الحق وإلى أحضان الوطن الحق لا وعد فرنسا الكذوب، ومن تلك اللحظة بدأت تلك الفئة تنجذب لوطن اسمه الجزائر.
يضاف إلى ذلك كله مسألة أن خطاب رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين منذ العشرينيات، لم يخل أبدا من الأبعاد السياسية من وراء خطاباتهم، لأن العدو المواجه بسلاح الإصلاح جاثم فوق الأرض، وأن روح الإصلاح موجهة بالأساس له لأنه مصدر كل العطب، وهذا أمر طبيعي في طريق الحركات الإصلاحية، فجمعية العلماء إذن لم تجعل من الجمعية حزبا سياسيا، ولم تدخل معتركا انتخابيا وحملة خطابات سياسية خالصة، ولو فعلت ذلك لكان رأي( مالك بن نبي) ومقاربته الفكرية هذه فيها نسبة عالية من الصحة والعمق، لأن الحركات الإصلاحية ينبغي أن تكون قريبة من الجميع إن تفرقوا وحّدَتْهم، وإن زاغوا هدتهم، وإن ضعفوا قوّتهم، فهي حامل همّ الجميع، وملاذ في لحظات العسر والضيق للجميع .
ثم ينبغي أن نؤكد بأنه إذا كان هناك تأثير سلبي على الحراك الإصلاحي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ما بعد 1936م فليس لكونه شارك في المؤتمر الإسلامي فقط، بل هناك عديد العوامل الأخرى المؤثرة منها أوضاع العالم نهاية الثلاثينات والتغيرات المتسارعة في فرنسا وقيام الحرب العالمية الثانية، ووفاة شيخ رجال الإصلاح عبد الحميد بن باديس وغيرها من العوامل .
فالحركة الإصلاحية هي بمثابة قاطرة لها نقطة بداية، وآفاق وغايات وتصور لنقطة النهاية التي يراد الوصول إليها، وبين البداية والنهاية محطّات للشحن والتزوّد واكتساب القوّة، وحتى تلك التي تدخل في باب العوارض، ممهلات كانت أو أعطاب في الطريق أو مكائد من يكره الحراك .
وقد تكون هناك محطات للمناورة في الطريق لكشف الخبايا والنوايا التي قد تعيق مسار ذلك الحراك الإصلاحي، ولإبطال نفاثات العقد وإزالة تلك الأقنعة التي تظهر الجمال والحسن وتبطن الشر المستطير الذي غايته شلّ كل حراك الإصلاح والنهضة وتحقيق غايات الخير في هذه الحياة.
الدكتور مصطفى داودي: أستاذ التاريخ بجامعة زيان عاشور ــ الجلفة ــ الجزائر