تطبيقات التربية الإصلاحية في فكر الشيخ عبد الحميد بن باديس 2/2
بقلم: د. بدر حمد العازمي – د. فهد أحمد الفيلكاوي- د. هديل يوسف الشطي-
المبحث الثاني: مظاهر المنهج الإصلاحي في فكر ابن باديس
بعد فترة مركزة في طلب العلم والاعتكاف في مجالس العلم الشرعي في تونس والحجاز، وغيرها من المحطات التي مر بها ابن باديس في رحلته لطلب العلم والاستزادة منه، ومرافقة العلماء والتفكير في هموم الأمة العربية والإسلامية، ومحاولة تصحيح حالها، رجع الشيخ عبد الحميد بن باديس إلى بلده الجزائر محملا بالرغبة العارمة بالإصلاح، والرغبة الداخلية الصادقة هي بداية الإصلاح، رجع بعد اقتناعه بوصية الشيخ حسين الهندي أثناء لقائله به بالمدينة المنورة، حيث أقنعه أن الحل في وجوده بالجزائر بين أهله وشعبه. استطاع ابن باديس بعد خمس سنوات قضايا خارج الجزائر أن يضع المنهج، ويحدد الأهداف، وينظم الرجال، ويعد العدة لمواجهة الاحتلال الفرنسي من عدة جبهات كلها تصب في تعليم الإسلام والعربية، وتثبيت العروبة والهوية، محاربة الجهل والأمية (عبد الله، 2015: 9).
أدرك ابن باديس أن الخروج من هذا النفق المظلم الذي تعيشه البلاد لا يمكن إلا عن طريق التعليم، ولذلك اختار (العلم) و(التعليم) أساسا لمنهجه التربوي الإصلاحي، وبالرغم من العزلة السياسية والاجتماعية التي فرضتها سلطات الاحتلال الفرنسي على الجزائر، إلا أن ابن باديس استطاع الاتصال بالعالم الإسلامي من حوله، وفتح قنوات التواصل والتبادل الفكري. وكنتيجة لهذا المنهج الإصلاحي الذي ارتكز على (التربية) بدأ ابن باديس بنشر دعوته في الإصلاح والتغيير عن طريق المدارس والنوادي ودروس الحضارة الإسلامية وتفسير القرآن الكريم والحديث الشريف، والتي أخذ يلقيها على طلبته في الجامع الكبير والجامع الأخضر في مدينة قسنطينة مسقط رأسه. (مقبل: مرجع سابق ص: 7).
ويعلل جورج الراسي توجه ابن باديس إلى طريق التربية والتعليم الإصلاحي هو ما وصل إليه الجهاد المسلح من طريق مسدود، وبذلك كانت الحاجة لابتكار طريقة جديدة أخرى لمواصلة الجهاد بصورة مختلفة عن السلاح، واستبدال البندقية بالقلم، والسيف بالكتاب، فكانت النتائج أفضل مما كانت. يقول جورج الراسي في هذا السياق: (عندما وصل الإسلام السياسي بدوره إلى طريق مسدود أمام تعنت و عنصرية الغزاة، ظهر الإسلام الإصلاحي مع جمعية علماء المسلمين الجزائريين بزعامة ابن باديس، التي حاولت عن طريق التربية والتعليم والصحافة تستعيد بعضا من المساحة الحضارية وبعضا من الشخصية الوطنية بأبعادها العربية والإسلامية). (الراسي، 171:1997).
تمثل المنهج التربوي الإصلاحي في فكر ابن باديس بتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في عام 1931 م وكانت جمعية دينية تسعى إلى العمل من أجل تنقية الدين من الشوائب والبدع، ونشر اللغة العربية، وإنشاء المدارس والنوادي، ويصف فنان الجمعية بأنها: (بمثابة الأرضية الأيديولوجية الصلبة التي تقف عليها الحركة الوطنية) (فنان، 1994: 171). ويتمثل المنهج التربوي الإصلاحي أيضا بتأسيس نادي الترقي عام 1926 وكان بمثابة النور الذي يجمع المثقفين وطلاب العلم والفكر في لقاءات ثقافية وتربوية شكلت نهضة إصلاحية مهدت للحرية، كل هذا كان نتاج تأثر المنهج التربوي الإصلاحي عند ابن باديس بحركات الإصلاح في المشرق العربي، وفقد كانت حركته وثيقة الصلة بمؤثرات حركة التجديد الإسلامي التي بدأها في الشرق الإسلامي الشيخ محمد بن عبد الوهاب ت(1792) واستكمالا بحركة التنوير التي قادها جمال الدين الأفغاني ت(1897) مرورا بتلميذه محمد عبده ت(1925) ومحمد رشيد رضا ت(1935) وعبدالرحمن الكواكبي ت(1902) وغيرهم من رواد حركة الإصلاح التربوي. كانت نتائج هذا الاحتكاك الفكري بهؤلاء الرواد، هو ولادة حركة النهضة التربوية الجديدة في الجزائر على يد قائدها ومعلمها الشيخ عبد الحميد بن باديس. يؤكد هذا ما ذكره ياسين في دراسته أن (الشيخ بن باديس تأثر بأعلام الفكر والمصلحين العرب والمسلمين، والذين التقى بهم خلال رحلته في طلب العلم وسفراته المتكررة إلى بلاد المشرق، فكانت لهذه اللقاءات الأثر الكبير على شخصيته ونضوج أفكاره وطروحاته السياسية والفكرية فخط لنفسه منهجا جديدا وواضحا استطاع من خلاله أن يضع للجزائر مشروعا سياسيا وهو جزء من مشروعه الإصلاحي المتكامل والشامل). (ياسين، 2013: 2).
يذكر عويمر (أن مشروع ابن باديس الإصلاحي جاء نتيجة للظروف التاريخية التي مرت بها الجزائر المستعمرة ولم يجيء نتيجة تأثر مباشر بأفكار محمد عبده، والمشروع الإصلاحي عند ابن باديس يتمثل بالمقام الأول في تركيزه على تربية النشء كوسيلة لتحضير مستقبل الجزائر وتوعية الشعب الجزائري، ومن هنا عمل ابن باديس على تلافي الأخطاء المنهجية التي سار على خطاها رواد المشروع التحرري حيث ركز الأفغاني والكواكبي على التغيير السياسي، في الوقت الذي اهتم فيه محمد عبده بالتغيير عن طريق التربية والتعليم. (عويمر، 2013: 2).
المبحث الثالث: الآثار التطبيقية للتربية الإصلاحية
من الصعب إغفال الآثار التطبيقية لهذه التربية الإصلاحية و التي بدأت غريبة على المجتمع الجزائري الذي سادت فيه أنواع مغايرة و ذات توجهات مختلفة تماما عن التوجه الإصلاحي، فقد ساد في تلك الفترة نوع من التربية ذات الصلة بالتصوف بينما اتسمت دعوة ابن باديس بأنها دعوة دينية سلفية خالصة تتميز بالانفتاح والتجديد وتجافي الجمود والانغلاق، وتقاوم الاندماج، وتنادي بالمحافظة على الصبغة العربية الإسلامية للجزائر. يؤكد ابن باديس هذا بقوله و(نحن ينبغي هنا أن نربي أبناءنا كما علمنا الإسلام، فإن قصرنا فلا نلومن إلا أنفسنا، ولنكن واثقين أننا نبني على الماء ما لم نعد الأبناء بعدة الخلق الفاضل و الأدب الديني الصحيح) (مجلة الشهاب عدد نوفمبر 1935). في هذا الوقت، تدهورت الحالة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والدينية للمجتمع الجزائري، فحلت اللغة الفرنسية محل اللغة العربية، وحوصر الدين في أضيق نطاق، وما بقي منه عبث به أصحاب الطرق الصوفية المنحرفة، الذين خدروا الشعب بنشر الخرافات والبدع بما لهم من سلطان على الأرواح والأبدان. (حميداتو ، 1997: 41). أن الطرق الصوفية رغم الدور الايجابي الذي قامت به في بعض الأحيان في مقاومة الاحتلال الفرنسي، إلا أنها كثيرا ما انحرفت في ما بعد عن الخط العام الذي رسمه مؤسسوها الاوائل فكثرت عندها البدع والضلالات والخرافات، وتقديس القبور والطواف حولها، والنذور لها، والذبح عندها، وغيرها من أعمال الجاهلية الأولى. (مرجع سابق: 44).
كان ابن باديس يدرك أن الجزائر تواجه استعمارا مادياً فرنسياً، واستعمارا معنويا طرقياً صوفياً، وأنهما متحالفان معاً ضد الشعب الجزائري. ورأى ابن باديس أن البدء بمحاربة الطرقية والصوفية المنحرفة هو المدخل السليم لمحاربة الاستعمار الفرنسي. وهذا المنهج من ابن باديس سابق على إنشاء الجمعية لكنه مع إنشاء الجمعية أصبح منهجاً جماعياً تقوم به جمعية تضم عددا من العلماء ومئات المدرسين من خلال مدارس الجمعية، ولم يعد أمرا فرديا يقوم به ابن باديس. (شحاته، 2013، 12).
ولسنا بصدد ذكر طرق الصوفية وتقييم دور ها وسيطرتها على عقول أتباعها ومريديها ونشر الكسل وتثبيط الهمة في الاستعداد للكفاح، ولسنا بصدد ذكر المدارس البديلة التي افتتحها الاستعمار لتجريد الشعب الجزائري من هويته وشخصيته العربية الإسلامية، وقتل الروح الوطنية فيه، بل نذكر هنا تلك الآثار التطبيقية التي ترتبت على التربية الإصلاحية، والتي أثمرت بتأسيس مدارس معتدلة، ذات منهج فكري إصلاحي تطبيقي، ملتزم بالكتاب والسنة النبوية الصحيحة. انطلقت منذ البداية بمقالات مجلة الشهاب التي حذرت وأوضحت حكم التعبد وزيارة القبور والتبرك التي انتشرت في المجتمع الجزائري، وبينها ابن باديس من خلال فتاوى شرعية لم يعهدها المجتمع الجزائري حيث يقول: (ولا يخلو اليوم قطر من أقطار الإسلام في الغالب من ضريح أو أضرحة تزار و تشد إليها الرحال). (مجلة الشهاب العدد 4 السنة الأولى ص : 16). ومن هنا بدأت حركة الإصلاح التطبيقي والتي بعثها رواد النهضة من أمثال عبد الحميد بن باديس، ومحمد البشير الإبراهيمي، والطيب العقبي غيرهم، من المصلحين الذين يرون أن الأمة الجزائرية هي قطعة من الأمة الإسلامية والعربية ودينها التوحيد ولغتها العربية. ولعل من أبرز هذه الآثار والتي كان لها دور بارز في بعث الروح العربية والإسلامية من جديد بفكر تربوي إسلامي إصلاحي، تطبيقا عمليا على أرض الواقع، يمتد بجذوره إلى أصوله الصحيحة ما يلي:
أولا : حلقات التدريس التي كان ابن باديس يلقيها بعد عودته من رحلاته، ولم يكتف بتعليم الكبار في المساجد فحسب، بل كان يهتم أيضا بالناشئة الصغار وعن ذلك يقول: (فلما يسر الله لي الانتصاب للتعليم سنة 1332 للهجرة، جعلت من جملة دروسي، تعليم صغار الكتاتيب القرآنية بعد خروجهم منها إلى آخر الصبيحة وآخر العشية. فكان ذلك أول عهد الناس بتعليم الصغار). (آثار ابن باديس، مجلة الشهاب ج 12نوفمبر 1934 ص 70). يوضح قاسم 1979 تطبيقات هذا بقوله: (بدأ ابن باديس فلسفته النظرية و العملية بمحاولة إحياء القرآن في قلوب مسلمي الجزائر ، حتى يبعثهم إلى الحياة بدورهم، وكان هذا الإحياء للقرآن عن طريق تفسيره وفقا لمنهج السلف، ومعنى ذلك أنه أراد تطهير العقائد من الأوهام والأباطيل التي شوهتها، فجلعت الدين يبدو في نظر كثير من المؤمنين به كما لو كان مضادا للعقل، كما ثبتت مفاهيم دينية خاطئة انتهت بتثقيف الأمة وكادت تقضي على مقوماتها الأساسية) (قاسم، 1979: 83). نذكر هذا في وقت انتشر فيه نوع آخر من التعليم، وهو تدريس المبادئ الصوفية وانتشرت مدارس الطرق في المجتمع الجزائري تنشر المفاهيم المخالفة والمغالية للشريعة الإسلامية وتوجه الناس إلى ما لا ينبغي، ويذكر الميلي أن (في بر الجزائري بحسب تحقيقات (دوبون) و(كوبلاني) 23 طريقة صوفية، لها 295189 مريدا وعليها 57 شيخا، و6000 مقدم وعندها 949 زاوية وتجبي من الأخوان كل سنة ما يقدر بسبعة ملايين) (مجلة الشهاب، العدد 13 السنة الأولى، ص:10).
ثانيا: الإفتاء، حيث انتصب ابن باديس للفتوى مع التدريس وتوسع الأمر عند قيام الصحافة الإصلاحية والتي نشرت فتاوى تهم المجتمع والناس، فكانت الأسئلة الفقهية ترد من كافة القطر الجزائري فيجيب عليها في صفحات مجلتي الشهاب والمنتقد. ويعتبر هذا الأمر إضافة جديدة ونوع من أنواع التجديد الفكري الإصلاحي، فالفتوى لها بالغ الأثر في تقويم سلوك المؤمن وزالة الجهل، وتصحيح المسار، وتوثيق الصلة بين الأمة وعلمائها، وكثيرا ما ينصاع ويمتثل المؤمن المطيع لرأي فقهي من أهل الثقة وأهل العلم. يقول الدكتور ماهر الحولي: (إذا كانت الفتوى مؤصلة تأصيلاً شرعياً سليماً من التنطع، معافاة من التسيب، بعيدة عن الأقوال الشاذة، نائية عن الأدلة التالفة، مراعى فيها رضى الحق، وملاحظا بها مصالح الخلق، فإن الفتوى تترك في الأمة آثارا طيبا. (الحولي، 2008: 7).
وهنا نذكر فتوى ابن باديس من قضية التجنيس التي دعت إليها السلطات الفرنسية الجزائر يين لنيل المواطنة الفرنسية بل وفرضتها حتى ينسلخ المسلم الجزائري من ذاته الإسلامية، أصدر ابن باديس فتوى تحرم التجنيس بالجنسية الفرنسية، وبهذه الفتوى حافظ على الشخصية الجزائرية الإسلامية من الانسلاخ من حظيرة الإسلام، والذوبان (ابن باديس، 2015: 32).
ثالثا : الإصدارات الشرعية و التربوية التي كان يكتبها ابن باديس سواء الصحفية أو المصنفات والكتب بمختلف تخصصاتها ، بدءا من تفسير القرآن الكريم في عام و شروح موطأ الإمام مالك، وقد جمعت هذه المؤلفات التي كان أغلبها ينشر بمجلات جمعية العلماء المسلمين ولعل أبرزها، (مجالس التذكير) و(العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية)، و(رجال السلف ونساؤه) وتحقيق كتاب (العواصم من القواصم) للإمام ابن العربي. وغيرها من الإصدارات التي جمعت لاحقا من مقالات نشرت بالمجلات والجرائد. وكانت هذه الإصدارات الشرعية تعتبر مرجعا فقهيا يسلط الأضواء على كثير من القضايا المعاصرة برؤية شرعية لا تجدها في مكان آخر، مثال على ذلك (قضية التجنيس الفرنسية) وما هو حكم من أخذ الجنسية الفرنسية من الجزائريين، وغيرها من القضايا ذات الطابع الخاص بالمجتمع، والتي لا يمكن أن يستوعب مضمونها إلا رائد ومصلح من المجتمع ذاته لا من خارجه، وهنا نشير مرة أخرى على وصية الشيخ الهندي لابن باديس بالرجوع إلى الجزائر وبدء العمل هناك بدلا من المكوث بالمدينة المنورة.
رابعا: العلم والمعرفة عند ابن باديس له مكانة خاصة، فقد استحوذت موضوعات العلم على اهتمامه وشغلت فكره و حياته، وعمل جاهدا في محاربة الجهل و التخلف، ولكنه في الوقت ذاته لم يكتف بمجرد العلم، بل أسقط تطبيقاته على الواقع الذي يعيشه،فسارع في بناء المدارس و نشر الصحف التربوية ذات المواضيع العلمية والعملية، التي تبصر الناس بحالهم. فقد بلغ ما فتح من مدارس في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين حتى عام 1945 حوالى 150 مدرسة، موزعة في مختلف أنحاء الجزائر، وقد وصل عدد تلاميذها إلى أكثر من 40 ألف طالب أي ثلث عدد التلاميذ المسجلين في المدارس الفرنسية في ذلك الوقت.
خامسا : ظهور القدوة، فإن هذه المسيرة التربوية الإصلاحية ساهمت في تو ثيق صلة ابن باديس بالشعب عامة وجماهير المساجد على وجه الخصوص، وتأثر به الطلاب وجموع الناس، لما يرونه من تسهيلات وتضحيات قدمها هذا العالم من أجل بلده، الأمر الذي خلق قدوة تقتدي به العامة، وتنهج نهجه، وتستنير بعلمه، في فترة خلت من العلماء العاملين، وصفت بأنها خواء وفراغ فكري ومنهجي، تعطشت له الجماهير والشعوب، وبعث فيها روح الأمل من جديد على عالم جليل من أسرة ثرية لا ينقصه شيء، فترك الثراء والراحة وانبرى للعمل والجهاد الفكري وبدأ بالمنهج الإصلاحي.
سادسا: إصلاح المناهج التربوية، فقد كانت المناهج في عصره غير معتدلة سواء في صورتها أو مادتها لإهمالها كثيرا من المبادئ الإسلامية وهو يرى: (أنه لا يصلح هذا التعليم إلا إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله وموضوعه. في مادته وصورته) (مرجع سابق ص: 74). ليس هذا فحسب، بل أنه انتقد منهج جامع الزيتونة، والذي يعد في وقته أبرز المنارات الفكرية، وهو عبارة عن كلية دينية يتخرج منها رجال القضاء والفتوى، ورجال الإمامة والخطابة، ورجال التعليم (حميداتو، 1997 : 140). حيث أن ابن باديس رأى أن مناهج الدراسة فيه تعتمد اعتمادا كليا على النواحي النظرية وتطيل الشرح فيها، بصورة تخل بالنواحي التطبيقية والتي يراها أهم وأشمل، ويؤكد ابن باديس (قد حصلنا على شهادة العالمية من جامع الزيتونة ونحن لم ندرس آية واحدة من كتاب الله) (مجلة الشهاب عدد رجب 1353). ويصف اهتمام الجامع بالإشكالية النظرية وصرف الطلبة عن الاستنتاجات التطبيقية، وما لا يؤمن به ابن باديس. فيقول: (وفي جامع الزيتونة عمره الله تعالى، إذا حضر الطالب بعد تحصيل التطويع في درس التفسير ويا للمصيبة، يقع في خصومات لفظية في القواعد التي كانت يحسب أنه فرغ منها من قبل فيقضي في خصومة من الخصومات أياما وشهورا، فتنتهي السنة و هو لا يزال حيث ابتدأ) (مجالس التذكير ص: 251). وقد قدم ابن باديس مذكرة شملت اقتراحا لإصلاح التعليم والمناهج بجامع الزيتونة، ركز فيها على التربية الإصلاحية وتطبيقاتها.
سابعا: إتاحة الفرصة لتعليم المرأة، ولقد أولى ابن باديس تعليم المرأة المسلمة اهتماما كبيرا، مدركا الخطر المحدق بالأمة إذا تركت المرأة بغير تعليم، فقد كان أهالي الجزائر يمنعون بناتهم من الذهاب إلى المدارس الحكومية، لأن القائمين عليها ليسوا مسلمين، بل واستمر الأمر إلى أن منعوهن من الكتاتيب غيرة على الأعراض وحفاظا على الدين في نظرهم.
بقيت المرأة بعيدة عن التعليم إلى أن ظهرت بوادر حركة الإصلاح والتجديد التربوي الذي جاء به ابن باديس ونادى بضرورة تعليم البنات وتوفير المكان المناسب لهم دون اختلاط ، معطيا بذلك روحا جديدا للتعليم في الجزائر لم يكن معهودا فيها. (مرجع سابق : 16). تأتي مبادرة ابن باديس بمجانية تعليم المرأة لتشجيعها على التعلم كصورة من صور التجديد التربوي غير المسبوقة، وتطبيقا للتربية الإصلاحية التي نادى بها. يذكر أن الجمعية افتتحت أول مدرسة للبنات عام 1919، مما يدل على سعة أفقهم فيما يتصل بتعليم المرأة، ومن مبادرات ابن باديس تشجيع المرأة على طلب العلم وإقرار مجانية التعليم للبنات وفي هذا يقول ابن باديس: (ندعو إخواننا المسلمين إلى المبادرة بأبنائهم وبناتهم ، إلى مكتب جمعية التربية والتعليم فأما البنون فلا يدفع منهم واجب الرسوم إلا القادرون، وأما البنات فتعليمهن كلهن مجانا، لتكون منهن بإذن الله المرأة المسلمة المتعلمة (مقبل 2015: 18).
ثامنا: اقتحم ابن باديس ميدان الصحافة ودخل عالمها حتى رسم فيها عالمه الخاص، وقال في افتتاحية العدد الأول من جريدة (المنتقد ): (باسم الله، ثم باسم الحق والوطن، ندخل عالم الصحافة العظيم، شاعرين بعظمة المسؤولية التي نتحملها فيه ، مستسهلين كل صعب في سبيل الغاية التي نحن إليها ساعون، والمبدأ الذي نحن عليه عاملون). (المنتقد، العدد الأول، الصفحة الأولى). أدرك ابن باديس ضرورة اصدار صحف ناطقة بمبادئ التربية والتوجيه والإصلاح والتجديد، فأنشأ بعدها مجلة الشهاب والتي استمرت حتى عام 1939 ثم مجلة البصائر، ولسنا بصدد حصر المجلات والصحف التي أسسها ابن باديس بقدر ما نوضح مدى اتساع الجهود الإصلاحية التي بذلت في سبيل تحقيق غايات نبيلة وأهداف سامية، تساهم في حركة الإصلاح والتجديد). (الميلي، 1980 : 12).
تاسعا: ولعل من أبرز آثار التربية الإصلاحية التطبيقية، هي خطة النهضة الشاملة التي رسمها ابن باديس في مجال الإصلاح الديني والاجتماعي الوطني، حيث رأى في التربية والتعليم والصحافة الوسيلة الناجعة لتحقيق أهداف النهضة المرجوة لطرد المحتلين بصورة سلمية لا تقصي أحدا، فكانت هذه الخطة سببا في نهضة الشعب الجزائري. وهنا تتجلى سعة أفق هذا الفكر التي اتسم بالتسامح وتقبل الرأي الآخر، فقد أكد على هذا ابن باديس بقوله: (عاش النصارى واليهود والمجوس في الشرق والغرب في حجر الإسلام وتحت سلطانهم قرونا طوالا فما أكرهوا على إسلام، ولا نصب لهم ديوان تفتيش، ولا أرهقوا بالضرائب، ولا اقتيدوا للموت في سبيل الإسلام، ولا انتزعت أراضيهم بأفانين الاحتيال، ولا منعوا من قراءة دينهم ولغتهم بوجوه المنع، ولا أخذت أموال بيعهم وكنائسهم وتركت تعيش بالتقتير والاستجداء دانية للخلاء والخراب، ولا تعرض للطعن ولا التشهير بأديانهم وأعراضهم وعظمائهم بالزور والبهتان، ولا خصصوا بأحكام استثنائية في قانون العدل العام، بل كانوا لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم يبلغو ن من العلم والجاه و الثروة تحت لواء العدل الإسلامي حيث يستطيعون) (مجلة الشهاب العدد 6 السنة الأولي ص: 17).
المبحث الرابع: الموازنة الفكرية بين النظرية والتطبيق
من أهم الأهداف التي تخدمها عملية تحصيل العلوم بصفة عامة هو هدف إمكانية تطبيق هذه العلوم ليستفيد منها الإنسان في أي مستوى اجتماعي سواء أكان فردا في أسرة أم في مدرسة أو عضوا في وزارة أو في حكومة ، وهكذا . يمكن القول انه لا فائدة من العلم إذا لم يلازمه التطبيق. فإذا حصل وانفصلت عملية التطبيق عن النظرية فان النتائج ستكون سلبية أو تكون أقل فاعلية مما لو اكتمل العلم بعملية التطبيق. ولا شك أن الحكومات في كثير من الدول المتقدمة والدول النامية تعطي اهتماما خاصا للعلوم بنوعيها النظري والتطبيقي. ويمكن الاستدلال على ذلك بالنظر في اهتمام الدول بفتح المعاهد الخاصة والعامة التدريبية والتطبيقية وذلك ضمن سياسات هذه الدول لدفع عجلة التقدم والتنمية نحو الأفضل ومن أجل خلق جيل من القيادات الواعية المسلحة بالعلم وخبرة التطبيق. كما أن فروع التعليم ازدادت وتفرعت حتى شملت تقريبا كل نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. وخير شاهد على ذلك ما للناحية التطبيقية من نصيب متزايد في ميزانيات هذه الدول ومن تزايد أعداد المتخصصين في مجالات تطبيقية تغطي كافة مجالات الحياة الحديثة في المدن والقرى على حد سواء. (يحى، 2010: 17).
تتجلى صور الموازنة في تطبيق النظريات والأدبيات التي استقاها من خبراته واحتكاكه بمصادر المعرفة و العلم واجتماعه بعلماء دول الجوار والمشرق العربي، وبالتالي تكونت لديه نظرية واضحة للتربية الإصلاحية التي يؤمن بها كمخرج و حل لشعبه الذي عانى الأمرين من ويلات الاحتلال، ولكن هذه المعرفة لا تكفي وحدها للوصول إلى الغاية النبيلة ولا تحقق الهدف المنشود إلا إذا اقترنت بآلية
مناسبة للتطبيق على أرض الواقع. ومن خلال الاستقراء وإتباع مراحل التكوين في جميع المؤسسات التي أسسها ابن باديس سواء التربوية منها كالمدارس ودور العلم والصحف والمجلات، أو التنظيمية والإدارية كالجمعيات والمؤتمرات الإقليمية منها والعالمية، بالنظر إلى هذا كله، تتجلى لنا الصورة الكاملة بل المتكاملة بين النظرية والتطبيق في فكر ابن باديس، فدائما ما تقترن التربية الإصلاحية عنده بالنظرية الثابتة والتطبيق الملتزم. ويتضح هذا جليا بالنظر إلى الكليات والجزئيات والتي تناغمت في فكره بصورة قل ما نشاهدها في تجارب التربية المعاصرة .
لقد حاول ابن باديس في خطابه الإصلاحي الواضح والشامل تقديم الإسلام بطريقة صحيحة مبنية على نقل صحيح وعقل صريح، مع مراعاة مقتضيات الزمان والمكان والحال. هذه الواقعية اقتضت من ابن باديس الثبات في الكليات والتيسير في الجزئيات والحفاظ على الأهداف مع تنويع الوسائل، ومن ثم الانتفاع بكل ما هو جديد بلا ذوبان، والترحاب بكل شيء نافع وصالح، والاستياء من كل تعصب ممقوت، وجمود مذموم، وضلال منكور. (عبداالله، 2015: 7).
ومن مظاهر التكامل في التربية الإصلاحية بين النظرية والتطبيق في فكر ابن باديس، دعوته إلى الشمولية، فمن خصائص خطاب الإصلاح عند ابن باديس مراعاة الشمولية عند مخاطبة الإنسان، وذلك من منطلق أن الإسلام رسالة للإنسان في كل مجالات وشؤون حياته، لأجل ذلك لم يكن خطاب ابن باديس الإصلاحي مقتصرا على جانب من جوانب الحياة البشرية، وإنما حاول في خطاباته استيعاب جميع جوانب الحياة التي تخدم الإنسان في كل أطواره حتى في تفسيره للقرآن الكريم لم يقتصر على الخطاب الوعظي، وإنما حاول أن يخرج من هذه الدائرة الضيقة إلى دائرة أوسع عندما تحدث عن أهمية اتخاذ أسباب تحصيل القوت، ورغد العيش، وتوسيع العمران، وتشييد المدنية وهذا كله يشمل الخطاب الاجتماعي والاقتصادي والسياسي (مرجع سابق :13). هذه الشمولية تجلت أيضا في دعوته للعلم حين دعا الرجال والنساء على حد سواء باعتبار المرأة شقيقة الرجل وشريكته في البيت والحياة وقد ذكرنا هذا سابقا بشيء من التفصيل.
النتائج و التوصيات:
بعد مطالعة ودراسة النواحي الإصلاحية في فكر وتربية الشيخ عبد الحميد بن باديس، تتضح لنا صورة جميلة تكاد تتكامل بشكل متناغم بين المناداة والمطالب الفكرية النظرية من جهة، وبين تطبيقاتها العملية على أرض الواقع من جهة أخرى، ونستخلص من هذه الدراسة دروسا وحقائق نصيغها على صورة نتائج ، ووصايا توصيها الدراسة لمزيد من البحث والدراسة ونذكر أهمها:
1- إن تطبيق القول بالعمل قيمة ذكرها القرآن الكريم، وامتدح فاعلها بقول االله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتا عن االله أن تقولوا ما لا تفعلون) سورة الصف آية 2. ومن هذا المنطلق تتجلى صور التطبيقات العملية للتربية الإصلاحية عند ابن باديس الذي قرن المبادئ بتطبيقات عملية تزامنت بتناغم ملحوظ مع آرائه النظرية. الأمر الذي أعطى مصداقية لدعوته وقبول بين الناس.
2- سعة أفق ومدارك الشيخ عبد الحميد بن باديس فيما يتعلق بتعليم المرأة، فنجده منذ البداية يعلن أن للمرأة نصيب في فكره ومنهجه، حيث دعا إلى تعليمها باعتبارها ركيزة المجتمع وأساسه الذي تبنى عليه الأجيال، ويعد هذا سبق تربوي، في وقت رفض كثير من المفكرين هذا التوجه وعده تخالفا مع العرف والدين. من وهذا توصي الدراسة بالأخذ بآراء ابن باديس وطريقته في تطبيقات التعليم للبنات، والاستلهام من نظرياته في هذا الشأن، فما أحوجنا إليها في وقتنا الحاضر.
3- الدعوة إلى تخصيص جانب للتربية في منهج الحركات الإسلامية، فكثير من الجماعات والحركات التي تنادي بالمنهج الإسلامي، أخفقت في إعطاء جزء من جهودها للتعليم، واهتمت بالنواحي السياسية والتي غالبا ما تكون على حساب الجانب التربوي. ففي الوقت الذي سادت فيه النواحي السياسية في ظل الاحتلال الفرنسي للجزائر، نجد ابن باديس يتجه لفتح المدارس وينادي بتعليم المرأة، في صورة رائعة لتطبيقات عملية للفكر التربوي الإسلامي، الأمر الذي أثمر وانصب على المجتمع، وساهم في حفظ الهوية، والدين.
4- تدعو الدراسة وتوصي، باهتمام الباحثين والمفكرين بمجتمعهم المحلي، فابن باديس رجع إلى بلده بعد استكمال رحلته في طلب العلم، وساهم في بناء بلده لأنه أخبر الناس وأعلمهم في شؤون بلاده ، فالحلول لا تأتي من الخارج، أبدا بل تأتي من فكر وأيادي أبناء البلد.
5- التكامل والاستفادة من جهود السابقين، فابن باديس ذكر الفضل لأهله ولمن سبقه من الفضلاء والعلماء و المفكرين، أمثال جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، والشيخ الونيسي، والشيخ الهندي، ومن عاصره من زملائه أمثال محمد البشير الابراهيمي والشيخ العقبي و غيرهم، واستفاد من علمهم وتجاربهم، ثم أضاف إليها ما لم يكن لديهم، وبدأ من حيث انتهوا جميعا، فلم ينكر فضلهم، ولم يستر جهودهم، بل شكرها وباركها وأثنى عليها، وهذه من أخلاق العلماء، وهي صفات تجلب البركة و التوفيق للعمل، ونوصي جميع من يعمل في حقل الدعوة و التربية لهذه الأخلاق السامية
6- نشر وعرض سيرة وفكر ابن باديس على الباحثين والطلبة في الجامعات، وتشجيعهم لإعادة كتابة فكره بصورة تتناسب مع الواقع المعاصر.