تطبيقات التربية الإصلاحية في فكر الشيخ عبد الحميد بن باديس 2/1
بقلم: د. بدر حمد العازمي – د. فهد أحمد الفيلكاوي- د. هديل يوسف الشطي-
تنوعت اتجاهات التربية عند الشيخ عبد الحميد بن باديس (1989–1940)، في بدايات القرن الماضي في المغرب العربي بشكل عام وفي الجزائر على وجه الخصوص، حيث تشكلت أصول التربية في مدارسه الفكرية التي أسسها على صورة لا تكاد تتغير حتى يومنا هذا وهي استئثار التوجهات الإصلاحية في التربية على باقي الأصول في فلسفته المعلنة وغير المعلنة. ومن خلال الاستقراء ودراسة وتحليل أدبيات ومجلات جمعية العلماء المسلمين والكتب التي ألفها الشيخ عبدالحميد بن باديس وأتباعه والمدارس والمؤسسات التي أسسها، يظهر لنا جليا تركيز جميع الأصول التربوية في فلسفته على التربية الإصلاحية بمختلف أنواعها الفردية منها والجماعية.
والإصلاح والتجديد، مفاهيم وممارسات تتجدد من حين لآخر، لتقويم مسار المجتمع ورده إلى طريق الاستقامة، وجرت سنة الله في الكون أن يبعث في كل قرن من الزمان، من يجدد هذا الدين ويقوم مساره ويرشد الناس إلى ما غفلوا عنه ويحق الحق ويبطل الباطل، وجاء في هذا المعنى، ما يرويه الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، رواه أبو داود وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة. ويوضح عمر عبيد حسن هذا بقوله: (والمنهج النبوي أكد على أن عمليات الإصلاح ومحاولات التغيير تبدأ من تحرير الإرادة وتحرير الضمير تبدأ من داخل النفس ذلك أن القيام بأي عمل مؤثر في الواقع الثقافي أو السياسي أو الاجتماعي غير ممكن قبل تحرير الإرادة وانعتاق الضمير من رواسب ذلك الواقع و تأثيراته الأمر الذي يمكن من إعادة صياغة الإنسان وإعادة تشكيله باعتباره أدارة التغيير وهدفه في وقت واحد). (حميداتو، 1997: 13).
تأتي أهمية هذا الإصلاح، في وقت حالك الظلمة مرت به البلاد العربية عامة والجزائر على وجه الخصوص، حيث سيطر الجهل، وخيم الضلال، وانتشرت البدع، فكانت الحاجة إلى تربية إصلاحية تنهض بالأمة من جديد وتبعث فيها روح الخلاص. يصف أبو اليقظان نائب الأمين العام لجمعية العلماء المسلمين هذا بقوله: (مرت على الشعب الجزائري أحقاب متطاولة، ساد فيها المبيدان، الجهل والخرافات، واستغلها الفريقان، الأمراء والرؤساء الروحيون، فعاشت الأمة الجزائرية طيلة هذه الأحقاب بين فكي الجهالة والفوضى الدينية، تتقاذفها الأمواج من الفتن، وتتدافعها أعاصير من الشرور، إلى أن قيض الله لها من أبنائها رجالا علماء حكماء هم لها بمثابة المطر). (جريدة البصائر، العدد 1، السنة الأولى ص: 5).
تسعى الدراسة الحالية إلى تتبع ملامح وتطبيقات التربية الإصلاحية المجتمعية، وأبرز صورها في الواقع، وتحويل المبادئ والنظريات الفلسفية إلى كيان ملموس يمكن مشاهدته ومعاينته والمشاركة فيه والتفاعل معه. وذلك عبر التعمق في محتوى فكر الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، وعرض وتحليل صور التربية الإصلاحية في منهجه التربوي، واستثمار كنوز المنهج التربوي الإسلامي في كتبه وتراثه وآثاره الفكرية النظرية منها والعملية، استنادا إلى دراسة منهجية نتقصى فيها خطوات دقيقة، نصل من خلالها إلى استدلالات ونتائج علمية تثري الفكر، وتساهم في تطوره، وبناء أركانه على أسس علمية متينة.
يؤكد الباحثان الكندري وملك هذا المعنى بقولهما: (يتضمن التراث الإسلامي الضخم مضامين ثقافية هي مجسات ومؤشرات فكرية من شأنها أن تكشف مجموعة من نقاط القوة والضعف، في مسيرة التربية الإسلامية، وأحوال المجتمع المسلم وملامح الانسانية وخصائصه الثقافية. والأبحاث المو سعة وسيلة من وسائل رصد الماضي واستثماره عبر التدبر التربوي و استبصار معطيات الأسلاف لتدعيم الحاضر وتخصيب الفكر الإنساني، وتوسيع آفاقه بالأصالة والمعاصرة، فهما نبع النبوغ، وقوام الابداع، ومعين التنوع). (الكندري وملك، 2010: 3).
ويتضح لنا من سيرة وحياة الشيخ عبد الحميد بن باديس أنه استكشف الواقع المحيط به ودرس حالته السياسية والاجتماعية وتشرب طبيعتها العامة والخاصة حتى تشكلت في ذهنه صورة للمجتمع الإصلاحي الذي ستنطلق منه مسيرة التربية الإصلاحية، من ثوابت الأمة وتراثها الفكري والاجتماعي بما لا يتعارض من هذه الثوابت. جاء عبد الحميد ونور الإسلام في الجزائر يكاد يخبو إلاّ من بصيص يظهر هنا أو هناك. وفي سنوات قلائل -من عمر الشعوب- جعل الجزائر من أقصاها إلى أقصاها تضيء بالنور الرباني، فانتشرت المدارس، والمعاهد، والنوادي، والجمعيات وتراجعت برامج الفرنسة والإدماج، وانطفأت نيران البدع والخرافات والضلالات، وأصبح الشعب الجزائري يردد) الإسلام ديني، والجزائر بلادي، واللغة العربية لغتي (مطبقاني 1999: 2).
ونرى عمليات النقد الدقيقة للوضع السائد في المجتمع التي مر بها الشيخ عبد الحميد بن باديس بنفسه ومارسها مع أقرانه، حتى اتضحت له الصورة الإصلاحية التي يرنو إليها ويسعى لتحقيقها في نفسه أولا، ومن ثم في الآخرين من حوله. فقد تركزت معايير الإصلاح عند ابن باديس على قيم (الكتاب والسنة المطهرة) وكانت الأصول الدينية لفكره التربوي واضحة جلية منذ البداية، وهي ليست ردة فعل على الوضع الاستعماري الفرنسي في ذلك الوقت فحسب، بل هو اعتقاد فكري تنطلق منه التربية الإصلاحية التي يريدها وهي بالفعل ما تشكل لاحقا في مدارسه ومناهج التعليم التي أسسها. ويعد نقد عبد الحميد بن باديس للواقع إثارة للتفكير واستنتاج جوانب الخطأ والصواب. يصف هذا رفيق دربه البشير الإبراهيمي (تـ 1965) في قوله و: (له في القرآن رأي بني عليه كل أعماله في العلم والإصلاح والتربية والتعليم، وهو أنه لا فلاح للمسلمين إلا بالرجوع إلى هديه والاستقامة على طريقته، وهو رأي الهداة المصلحين من قبله). (محمود،2015، 12)، وكان يقول: (لن يصلح هذا التعليم إلا إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله وموضوعه، في مادته وصورته، فيما كان يعلم عليه الصلاة والسلام، وفي صورة تعليمه). (انظر مجالس التذكير: ابن باديس ص: 107(
إن مثل هذه الدعوات الإصلاحية التي تنطلق من منطلقات الفكر التربوي الإسلامي وتبتغي نشر الفضائل في المجتمعات الإسلامية، تساهم في زرع قيم وسلوكيات ذات دلالات سوية ومستقيمة وإن لم تكتمل هذه الدعوات وتنجح على المستوي السياسي أو الاجتماعي، والمجتمع يحتاج مؤسسات ترعى وتنشر هذه القيم المستمدة من (الكتاب والسنة المطهرة). يقول عبد الله: (أن ابن باديس لم يأل جهدا في خدمة الإسلام و القرآن و لغتهما بكل الوسائل المتاحة في عصره إلى أسلم الروح إلى باريها). (عبد الله، 2015: 2). ومن باب التجديد الإصلاحي جاءت الحاجة لتسويقها على صور قيم وأخلاق يرتكز عليها المنهج التربوي، وتدس للطلاب في مؤسسات التعليم بمختلف مستوياتها. يؤكد عمر عبيد حسنه هذا الاتجاه بقوله (إن دعوات الإصلاح والتجديد التي نبتت في التربية الإسلامية وعلى الرغم مما أدركها من الخطأ والنقص والتقصير، الأمر الذي حال دون بلوغها أهدافها كاملة، إلا أنها تركت رصيدا طيبا في ضمير الأمة، وجددت ذاكرتها تجاه واقعها الأليم، وبصرتها بأعدائها الذين كادوا يلبسون عليها، ومكنتها من الاحتفاظ بقيمها، والاستشعار بأن القيم الإسلامية في الكتاب والسنة، هي سبيل الخروج وسفينة النجاة، وإن لن تستطع أن تفلح بشكل كامل في تقديم الأوعية المطلوبة لحركة الأمة في اتجاه عودتها للإسلام، وتحويل المبادئ إلى برامج والسياسات إلى خطط وممارسات). (محمود ، 2015: 20)
فمنذ البداية تركزت صور الإصلاح التربوي وتطبيقاته على دلالات ذات صلة بما نصت عليه الشريعة الإسلامية حيث يستمد فكر ابن باديس كل مقوماته منها، وهي كما أشرنا سابقا (الكتاب والسنة المطهرة) ونرى هذا التوجه واضحا في العدد الأول من جريدة المنتقد التي صدرت في عام 1925 حيث صدرت افتتاحية العدد بهذه الدعوة بكل وضوح: (نحن قوم مسلمون جزائريون في نطاق مستعمرات الجمهورية الفرنسوية فلأننا مسلمون نعمل على المحافظة على تقاليد ديننا التي تدعو إلى كل كمال إنساني، ونحرص على الأخوة والسلام بين شعوب البشر، وفي المحافظة على هذه التقاليد المحافظة على أهم مقومات قوميتنا وأعظم أسباب سعادتنا، وأن الدين قوة عظيمة لا يمكن الاستهانة بها). (جريدة المنتقد، العدد1، السنة الأولى، 1925).
لماذا هذه الدراسة؟
إن الحاجة التي أيقنها الباحثون للبدء بهذه الدراسة، تأتي من عدم تركيزنا على تراثنا التربوي، ومخزوننا الفكري الذي أنطمر بين صفحات التاريخ، وسجل الماضي، (وإن عودتنا إلى التراث التربوي الإسلامي سوف تظهر لنا مقدار اسهامانا في تطور الفكر التربوي العالمي، ومقدار قدرتنا على أن نسهم اليوم من جديد في صياغة هذا الفكر وتوجيهه). (النقيب، 2004: 69). ومن ناحية أخرى نتجنب أخطاء الماضي لنصنع حاضرنا ونشكل مستقبلنا على نحو يدمجنا في عالم كوني متغير تتجدد ابداعاته على نحو غير مسبوق في تاريخ البشرية). (قمبر، 2006: 27). إن طغيان الجانب النظري لكثير من الدراسات التربوية، الأمر الذي تعدى إلى منابع الفكر، وأصوله، فنجد أن الكثير من كنوز الفكر التربوي الإسلامي ذهب أدراج الرياح وتعرض للضياع والاندثار، وذلك لأن أغلب الدراسات والتجارب التي أشرفت على شرح وتبيان هذا الفكر كانت دراسات وتجارب نظرية مجردة، ليس لها تطبيقات على أرض الواقع ومن هنا جاءت الحاجة إلى دراسات تربط الجانب النظري بالتطبيقي، وربما أطلق عليه البعض مصطلح (فقه الواقع) أو (معرفة الحال)، وهو التناغم والمزج بين العلم والواقع الحالي، وغيرها من تواصيف كلها تقودك إلى الحقيقة الواضحة، وهي دلالات التطبيق العملي للنظريات الفكرية.
ويرى الباحثون أن الأفكار النظرية المجردة تظل معلقة بين صفحات الكتب وعلى أرفف المكتبات، ما لم ترتبط بدراسات وتجارب ذات طبيعة تطبيقية توضح مسار النظريات الفكرية على أرض الواقع وهذا الذي فعله ابن باديس حين أدرك أن التوجيهات النظرية التي اشتملت عليها حركة الإصلاح عند جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده وغيرهم من رواد الإصلاح والنهضة الفكرية الذين سبقوه أو عاصروه، أدرك أنها اهتمت كثيرا بالجانب النظري ولم تتوازن بالجانب العملي التطبيقي معه، الأمر الذي جعل من فكرهم مراجع يستأنس بها ليس أكثر، ومن هنا اختلف ابن باديس معهم في هذا الاطار، وبدأ بالتطبيق لأفكاره التي آمن بها، (إن ابن باديس عند وضعه لمناهج التعليم، لم يكن مذهبه مثاليا مبيناً على تصورات نظرية، بل كان واقعيا، أملته متطلبات العصر، وأولويات المجتمع ومعتقداته). (حميداتو ، 1997: 133). ولذلك نرى أن عناية ابن باديس بموضوع التربية، ليست عناية الباحث المنظر، الذي لا شأنه له بالتطبيق العملي، بل كان يمارس ذلك كل يوم في حلقات الدروس في الكتاتيب والمدارس، حتى في النوادي والأسواق. ولذلك نجده على سعة علمه وغزارة فكره، مقل جدا بالتالف والكتابة، بل أن أغلب كتبه كانت من جمع تلاميذه لبعض شروحه ودروسه ومقالاته بالمجلات، وعلى النقيض تماما، تتجلى صور الجانب التطبيقي للفكر والتربية عند ابن باديس، فنجده مشغولا بالعمل وتربية النشء والتعليم وتقديم الدروس منذ الصباح الباكر وحتى منتصف الليل، نظرا لإيمانه بإمكانية تطبيق النظريات التربوية في الكتاب والسنة المطهرة إلى واقع عملي، ويؤكد هذا المعنى الدكتور عبدالحليم عويس أستاذ التاريخ الإسلامي الذي كتب حول دور جمعية العلماء المسلمين في تصحيح العقائد، وتحرير العقول. ونراه يشيد بفكر ومنهج ابن باديس فيقول: (إن ابن باديس كان يؤمن إيمانا لا حدود له بدور القرآن الكريم في تكوين الجيل المنشود، على غرار الجيل الذي كونه القرآن الكريم في العصور الأولى للإسلام) (الزركلي، 1979: 85). ويري الباحثون، أن الباعث على هذا، كله هو الايمان بإمكانية تطبيق التربية الإصلاحية على أرض الواقع، وتلافي أخطاء السابقين، والخوف من استحالة فكره إلى نظريات ومقولات، بدلا من حوادث وإنجازات، وفي هذا الصدد جاءت أهمية هذه الدراسة بتوضيح وتبيان تطبيقات التربية الإصلاحية، وبلا شك ابن باديس نموذجا.
منهجية الدراسة:
هذه دراسة تحليلية وصفية، تقوم على تحليل المحتوى والمضمون العلمي في فكر وأدبيات الشيخ عبد الحميد بن باديس، وتقييمه، ونقده، وبيان مظاهر التجديد فيه، وأبرز الاسهامات التطبيقية التي أضافها على الفكر التربوي الإسلامي المعاصر فيما يخص التربية الإصلاحية موضوع الدراسة، (ودراسات تحليل المضمون تتم من غير اتصال مباشر مع المصادر البشرية، حيث يكتفي الباحث باختيار عدد من الوثائق المرتبطة بموضوع بحثه مثل السجلات والقوانين والانظمة والصحف والمجلات وبرامج التلفزيون والكتب وغيرها من المواد التي تحوي المعلومات التي يبحث عنها الباحث). (عبيدات وآخرون 1989: 211). وستركز الدراسة على الجوانب العملية، وتطبيقات النظريات الفكرية في مدارس ابن باديس على مختلف مستوياتها، مع الاهتمام بتطبيقات التربية الإصلاحية على وجه الخصوص، (ويلجأ الباحثون هنا إلى الوثائق المدون فيها معلومات أو قرارات أو قوانين تخص جانبا معينا من جوانب التعليم ويقومون بدراسة وتحليل هذه المعلومات بهدف الوصول إلى بعض التعميمات أو الاستنتاجات التي ترتبط بذلك الجانب). (الكندري وآخرون، 2000 : 116).
أسئلة الدراسة:
يمكن توضيح معالم الدراسة من خلال أسئلة الدراسة ومباحثها الرئيسة والتي سيحاول الباحثون الإجابة عليها وتوضيحها مستعينا بشكل مباشر على المصادر الأولية في هذا السياق، من كتابات ومؤلفات الشيخ عبد الحميد بن باديس نفسه سواء في تفسير القرآن الكريم (مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير) والذي أسقط من خلاله العديد من الشروح والمبادئ لفكره وفلسفته. أو القرارات والقوانين التي صدرت من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين باعتبارها الواجهة الرسمية التي يعمل من خلالها ابن باديس ويطبق فيها جميع أفكاره، أو من خلال المجلات والصحف التي أصدرها كمجلة الشهاب، والبصائر والمنتقد، وغيرها من مصادر أولية. كما تستعين الدراسة بكتابات زملائه وتلاميذه ورفقاء ردبه في التربية والنضال، أمثال محمد البشير الابراهيمي، والطيب العقبي، والشيخ الونيسي، غيرهم من الفضلاء. وتصف مجلة الشهاب هؤلاء ودورهم بوصفها: (فهذا "الباديسي" المجدد بعظاته الاعتدالية النيرة التي ما هي إلا الشمس التي كان يستمد منها صدر الإسلام. وهذا "العقبي" بزواجره المخيفة التي ما هي إلا نور ساطع للمؤمنين الصادقين، ورجوم للشياطين المتعنتين. و هذا "الميلي" بوطنياته النافعة التي ما هي إلا مرهم وشفاء لما في الصدور. وهذا "الفرقد" بنيراته السامية التي ما هي إلا نهضة فوارة بالإخلاص. وهذا "أبو اليقظان" بإرشاداته ونصائحه العالية التي ما هي إلا هدية نفسية لأبناء شعبه). (مجلة الشهاب ، العدد 4 السنة الأولى ص 8). وسوف تحاول الدراسة الإجابة على الأسئلة التالية:
1- ما هي أبرز ملامح الحياة الفكرية عند الشيخ ابن باديس؟
2- ماهي أبرز مظاهر الحركة الاصلاحية في فكر الشيخ ابن باديس؟
3- ما هو تأثير تطبيقات التربية الاصلاحية عند الشيخ ابن باديس على المجتمع الجزائري؟
4- الموازنة والتكامل بين النظرية والتطبيق في فكر ابن باديس
من خلال الأسئلة أعلاه ، تتضح لنا مباحث الدراسة و يمكن حصرها بخمسة مباحث وهي:
المبحث الأول: الحياة الفكرية والعلمية عند ابن باديس.
المبحث الثاني: مظاهر الحركة الإصلاحية في فكر ابن باديس.
المبحث الثالث: تطبيقات التربية الإصلاحية عند ابن باديس .
المبحث الرابع: الموازنة الفكرية بين النظرية والتطبيق.
المبحث الخامس: الخاتمة والتوصيات العامة .
حدود الدراسة:
تقتصر هذه الدراسة على تسليط الضوء على الجوانب التطبيقية للتربية الإصلاحية عند ابن باديس، وسوف تركز هذه الدراسة على النواحي العملية في فكره، أكثر من عرضها للفلسفة الفكرية المجردة، الأمر الذي يجعلنا نسقط آرائه النظرية على تطبيقاتها في الواقع وعلى المجتمع الجزائري، وسوف نحاول قد الإمكان توضيح ذلك وذكر الأمثلة عليه.
الدراسات السابقة:
اعتمدت الدراسة الحالية على عدة مصادر ومراجع لمؤرخين جزائريين وكتاب من العالم العربي والإسلامي، حسب ما اقتضته ضرورة الدراسة، فضلا عن المقابلات الشخصية لأفراد أسرة ابن باديس وأصحابه ورفقاء دربه ممن لا يزال على قيد الحياة والتي أثرت مدارك الباحثين في فهم الكثير من أسلوب ومنهج ابن باديس في الإدارة والقيادة، واستعانت الدراسة بالمصادر الأولية من صحف ومجلات من صحافة الحركة الإصلاحية التي أسسها ابن باديس نفسه مثل: مجلة الشهاب، والمنتقد، والصراط السوي والبصائر. كما وظفت العديد من الكتب التي تحدثت عن الإشكالية بشكل مباشر. كذلك رجعت الدراسة إلى سجل جمعية العلماء المسلمين التي كانت بداية لكل هذا المشوار الإصلاحي، وهو مصدر ضم العديد من المقالات التي كتبها رجال الإصلاح، وكتب ودراسات مختلفة، بالإضافة إلى مقابلات شخصية قام بها الباحثون خصيصا أثناء زيارته لمدينة قسنطينة مسقط رأس الشيخ عبد الحميد بن باديس، وزيارة منزل العائلة والالتقاء بأخيه (الشيخ عبد الحق بن باديس الذي يناهز من العمر 93 عاما وسؤاله عن الدور التربوي والتعليمي للشيخ ابن باديس، وزيارة مقر مؤسسة ابن باديس والالتقاء برئيسها الدكتور فيلالي والحصول على العديد من المراجع والكتب والمجلات النادرة التي ساهمت في تحرير هذه الدراسة، ونذكر من الدراسات السابقة التي استفادت منها الدراسة الحالية ما يلي:
دراسة بعنوان (الحركة الإصلاحية في الفكر الإسلامي المعاصر، الشيخ عبد الحميد بن باديس)، 2010 لمحمد طهاري، والذي تحدث عن جوانب الإصلاح عند ابن باديس وتطرق إلى صور الإصلاح في مجالات عديدة ولم يتطرق إلى نواحي التربية بصورة مباشرة إلا في ذكر انجازات ابن باديس للمدارس والصحافة، في حين ركزت الدراسة على جوانب أخرى للإصلاح خلاف ما ركزت عليه الدراسة الحالية.
دراسة بعنوان: (الحركة الوطنية الجزائرية) 1992 لشيخ المؤرخيين أبو القاسم سعد االله. و(تاريخ الجزائر المعاصر دراسات ووثائق) 2009 لمحمد الأمين بلغيث، حيث فصلت الدراستان في الأوضاع الاجتماعية والسياسية للمجتمع الجزائري في فترة ابن باديس وتأسيسه للجمعية وبداية النضال وذكروا دور الطرق الصوفية الايجابي منها والسلبي ومظاهر الإصلاح التي عاصرت تلك الفترة، ولكنها أيضاً لم تتحدث عن التربية الإصلاحية ولم تشر إليها إلا إشارات عابرة .
دراسة بعنوان: (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ودورها في تطور الحركة الوطنية الجزائرية) 1981 لعبد الكريم بوصفصاف ودراسة تركي رابح بعنوان: (التعليم القومي و الشخصي الجزائرية 1931 –1956) دراسة تربوية للشخصية الجزائرية 1981، و(الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الإصلاح الإسلامي و التربية في الجزائر). إضافة إلى بعض المراجع التي أّرخت للحركة الإعلامية، ودراسة بعنوان: (الشيخ عبد الحميد بن باديس باعث النهضة في الجزائر المعاصرة العربية الإسلامية) للمؤلف تركي رابح 2003. هذه الدراسات شبه متكاملة وبالأخص التي كتبها الاستاذ تركي رابح مؤرخ الجمعية، والذي أسهمت كتاباته عن الشيخ عبدالحميد بن باديس بحفظ الكثير من تاريخ الجمعية، غير أنها كذلك لم تتناول تفاصيل التربية الإصلاحية على وجه الخصوص، رغم تناولها التفصيل بدور الجمعية التربوي، وذكر المدارس ولكن دون تحليل لآثارها أو مضمونها.
دراسة بعنوان: (عبد الحميد بن باديس رائد الإصلاح والنهضة في تاريخ الجزائر الحديث) 2003 للمؤلف فهمي توفيق محمد مقبل، وهي دراسة قيمة تناول فيها الباحث أدوارا عديدة للجمعية وتحدثت الدراسة عن أصول الفكر عند ابن باديس، وامتداده إلى فكر محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وغيرهم من رواد النهضة الحديثة، غير أن الدراسة تختلف عن الدراسة الحالية لاهتمامها كثيرا بالنواحي التاريخية، فضلا على أنها لم تتطرق إلى تطبيقات النظرية التربوية عند ابن باديس.
دراسة بعنوان: (الإمام عبد الحميد بن باديس رائد النهضة العلمية والفكرية) للمؤلف الزبير بن رحال. ودراسة بعنوان: (تجربة التجديد والإصلاح في فكر ابن باديس ومحمد عبده) 2011 للمؤلف شريف رضا، اهتمت الدراستان في تبيان ملامح التجديد عند ابن باديس دون التطرق للتربية الإصلاحية أو نقدها وتقييمها. بخلاف الدراسة الحالية التي ركزت على آثار التربية الإصلاحية عند ابن باديس وفصلت في تطبيقاتها.
دراسة بعنوان (الفكر السياسي عند العلامة عبد الحميد بن باديس) 2010، للمؤلف مالك بن خليف. ودراسة (منهجية الدعوة عند الشيخ عبد الحميد بن باديس) أطروحة جامعية مقدمة لنيل شهادة الماجستير في العلوم الإسلامي تخصص أصول الدين، جامعة الجزائر، 1999، للمؤلف الطيب شارف، ودراسة بعنوان: (الفكر السياسي عند الشيخ عبد الحميد بن باديس)، رسالة مقدمة لنيل شهادة الماجستير في العلوم الإسلامية، تخصص أصول الدين، كلية أصول الدين، جامعة الجزائر، 2001، للمؤلف مسعود جباري، اجتمعت هذه الدراسات على توضيح الجانب السياسي بشكل خاص، وشرح ظروف المجتمع الجزائري وما مرت به جمعية العلماء المسلمين من تطورات ومراحل، دون ذكر للتربية الإصلاحية كما هو الحال في الدراسة الحالية، مع أنها ذكرت العديد من النواحي الإصلاحي في جوانب أخرى.
دراسة بعنوان: (آثار ابن باديس) 2010، للدكتور عمار الطالبي. يقول المفكر مالك بن نبي في مقدمة هذا الكتاب: حين أقدم هنا لدراسة عن ابن باديس أشعر بلذة مزدوجة. فما كان أشد إغراء مثل هذا الموضوع في بلد ما يزال من شاهد حياة لشيخ وأثره كثيرا عددهم، ولكن ما أصعبه من موضوع إذ الحقيقة أنه لا يمكن أن يخلو حكم معاصر على أحداث عهده ورجاله من نظرة ذاتية إلا نادرا. تحدثت الدراسة عن حياة ابن باديس وأبرز الآثار والمواقف التي عاشها، وفصلت في السيرة الخاصة فيه، ولم تتطرق الي أي من أنواع التربية أو منهجه الفكري بشيء من التحليل على خلاف الدراسة الحالية التي اهتمت بهذا على وجه الخصوص.
نظرة عامة على الدراسات السابقة:
بالنظر إلى الدراسات السابقة، نجد العديد منها أهتم بتوضيح الجانب السياسي وتأثيرات الاحتلال الفرنسي على الهوية العربية والإسلامية للشعب الجزائري، وكانت أغلب الدراسات القديمة منها والحديثة، تشير إلى تداعيات الاحتلال وآثاره الفكرية والدينية والاجتماعية والتربوية، وهي بلا شك، دراسات أسهمت في تأريخ وتوضيح طبيعة تلك الفترة ومحاولة الاستفادة منها، غير أن الدراسة الحالية اقتصرت على تبيان التربية الإصلاحية في فكر ابن باديس، ليس هذا فحسب، بل وتطبيقاتها العملية على أرض الواقع، ولم تتطرق هذه الدراسة لأي جانب من جوانب السياسة أو الاجتماع، بل ركزت بشكل مباشر على تطبيقات النواحي التربوية والفكرية.
المبحث الأول: الحياة الفكرية والعلمية لابن باديس
أولا: المولد والنشأة
هو عبد الحميد بن محمد بن المصطفى بن مكي بن باديس وينتهي نسبه إلى جده المعز بن باديس مؤسس الدولة الصنهاجية، ولد بمدينة قسنطينة بالجزائر عام 1889 للميلاد من عائلة ذات نسب وجاه، معروفة في تاريخ الجز ائر في العلم و الثراء. بدأ ابن باديس دراسته في مدينة قسنطينة مسقط رأسه وكانت عاصمة الشرق الجزائري، وتعلم اللغة العربية ومبادئ الشريعة الإسلامية على يد الشيخ حمدان الونيسي تـ(1920) وحفظ القرآن الكريم وصلى بالناس إماما على صغر سنه. (الطالبي ص74، 1968)
سافر ابن باديس إلى تونس لإتمام دراسته حيث مكث فيها أربع سنوات من الفترة 1908 حتى 1912 بهدف الاستزادة من العلم الشرعي والتحق بجامع الزيتونة، ودرس الأدب على يد العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ت(1973) وكان رئيس الجامعة آنذاك. ثم درس التفسير على يد الشيخ العالم محمد القيرواني ّ ت(1925) وبعدها جلس ابن باديس في تونس ودرس في جامع الزيتونة. (انظر قاسم، 1979 : 16).
عقد ابن باديس النية على التوجه إلى دول المشرق العربي، فقد شعر أنه بحاجة للقيام باتصال مباشر مع مواقع الفكر الإصلاحي في المشرق، وكان للشرق سبق في تجربة عمليات الإصلاح التربوي على ميادين كثيرة، فبدأ رحلته في عام 1913 إلى الحجاز لأداء فريضة الحج حيث التقى من جديد بأستاذه حمدان الونيسي، وتعرف للمرة الأولى على الشيخ البشير الابراهيمي و الذي أصبح أخا له و رفيق دربه في الكفاح الوطني، كما التقى الشيخ الجليل حسين الهندي :ت( 1957 ( الذي أشار إليه لاحقا بالرجوع إلى الجزائر و استكمال مسيرة الإصلاح من هناك. (مقبل 2003 : 12) وهنا ترغب الدراسة الحالية في تسليط الضوء على هذه النصيحة الثمينة من الشيخ الهندي، الذي أدرك بحكم تجاربه السابقة أن الإصلاح يكون من الداخل، والإصلاح الذي يبدأ من أهل البلد تكون نتائجه أبلغ وأكمل من الإصلاح الذي يأتي مستوردا من الخارج، وإن اختلفت موازين القوة بين الداخل والخارج. ولإن يبدأ المصلح عمليات الإصلاح في مجتمعه الذي عاش فيه وترعرع، أفضل من أداء هذه المهمة لمصلحين من الخارج وإن كانوا على درجة رفيعة من العلم والفقه بالواقع، وذلك لأن فهم ومعرفة طبيعة المجتمع عنصر هام في مراحل التأسيس، لا يدركه إلا من تربى وعاش فيه، وتستنتج الدراسة الحالية من هذه النصيحة والتي حتماً لم تأت عرضا أو تعليقا، بل أتت بأسلوب منهجي يدرك أهميتها في الواقع، وقد كان، فلا نتوقع نجاح أي عملية للإصلاح في الجزائر بتلك الفترة من غير تدخل مصلحين من المجتمع ذاته، ولعل هذه القاعدة تنطوي على مجتمعات أخرى، وإن كانت أقل تعقيدا من المجتمع الجزائري آنذاك.
وتزعم ابن باديس خلال عقد العشرينيات التيار الوطني عبر حركة الإصلاح وجعل وصحبه من العلماء والمشائخ من المساجد مراكز وعظ وإرشاد ودعوة إلى الكفاح في سبيل الإسلام والاستقلال والعروبة. وأصدر مجلة "الشهاب" العلمية الدينية الأدبية ثم قاد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تأسست في 5 مايو عام 1931 وضمت 72 عالماً جزائرياً من مختلف التيارات الدينية. ومع أن ابن باديس لم يحضر الاجتماع التأسيسي إلا في اليوم الثالث والأخير انتخب غيابياً رئيساً لمجلس إدارتها الذي ضم 13 عضوا. (جمال الدين، 2010: 8)
ثانيا : أهداف التربية عند ابن باديس
تلتقي أهداف التربية الإسلامية العامة مع أهداف التربية عند ابن باديس وذلك يرجع إلى أن ابن باديس مصلح ديني وتربوي ويستمد فلسفته في الإصلاح من روح الحضارة الإسلامية ثم من واقع مجتمعه المسلم العربي، وبهذا يقول ابن باديس: (لن يصلح هذا التعليم إلا إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله وموضوعه، ومادته وصورته، فيما كان الرسول صلي االله عليه وسلم، وفي صورة تعليمه). (مجلة الشهاب 10 أكتوبر 1934). وكرر أكثر من مرة في تفسيره لبعض الآيات بضرورة أن يكون التعليم صانعا للمسلم، ويشكل صورته حسب ما جاءت به تعاليم الإسلام فيقول: (ونعني بالتعليم: التعليم الذي يكون به المسلم عالما من علماء الإسلام، ويأخذ عنه الناس دينهم، ويقتدون به فيه) (آثار ابن باديس، مجلة الشهاب ج 12 نوفمبر 1934 ص: 74)
وفيما يلي بعض الأهداف التربوية في فكر ابن باديس والتي لخصها تركي رابح مؤرخ الحركة وكاتبها:
1. إعداد الفرد الجزائري للحياة:
والمقصود بالإعداد للحياة هو الإعداد الكامل الذي يشمل الحياة العقلية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية فابن باديس كان يرى أن تربية الفرد الجزائري من أجل إعداده الكامل للحياة يعتبر من أهم الأهداف التربوية التي ينبغي أن تسخر الجهود في سبيلها، ومن هنا عمل ابن باديس على تربية أبناء الجزائر تربية عالية أعدت منهم رجالا ناجحين في حياتهم العامة وساهموا في خدمة بلدهم والنهوض بها.
2. كمال الحياة الفردية والاجتماعية:
ويقصد بها تكوين الشخصية المتكاملة على المستوى الفردي والاجتماعي فالفرد في نظر ابن باديس هو الخلية الأولى في بناء المجتمع لأن المجتمع عبارة عن مجموعة من الأفراد وعلى قدر تربية هؤلاء الأفراد وتهذيبهم واستقامتهم تكون تربية المجتمع وتهذيبه واستقامته فالمجتمع مرآة لأفراده ومن هنا تتجه فلسفة ابن باديس إلى تحقيق كمال الحياة للفرد والمجتمع معا عن طريق بناء الشخصية الفردية والقومية والاجتماعية للجزائريين.
3. النهوض بالجزائريين إلى الشعوب الراقية :
وهذا الهدف يعتبر من الأهداف الكبرى التي عاش ابن باديس لها وسعى إلى تحقيقها بواسطة التربية والتعليم والإصلاح الديني ونشاطه في الصحافة، فنجده أسس المدارس وفتح المؤسسات التعليمية لرفع شأن المجتمع. (رابح، 1982: 357)
ثالثا: الجهود العلمية والفكرية للشيخ ابن باديس
خلف ابن باديس آثارا علمية وفكرية لا نزال ننهل منها أطيب الحديث، وأعذب المعاني، من شروح وتفاسير وتحليلات تربوية وشرعية وفكرية بل وسياسية، ساهمت في صقل شخصية الأتباع وطلبة العلم داخليا وخارجيا، وامتاز أسلوبه بالعمق الشرعي الممزوج بمعرفة ودراية لفقه الواقع الذي دائما ما يثقل على الشعب الجزائري من ممارسات الاحتلال الفرنسي الجاثم على صدورهم، وصبغ الشعب العربي المسلم بصبغة الغرب التي لا تتناسب اجتماعيا ولا فكريا مع المحيط العربي بالجزائر وطبيعة الشعب المحافظ. ولقد ظل ابن باديس وفيا لمنهجه العلمي وهو إعداد الجيل وتربية النشء وقد وصفه أحد الباحثين فقال: (وهكذا عاش ابن باديس عالما لم يستهوه التنظير ولا شغلته الجاذبيات التأملية والفكرية التي نجدها تستهلب كثيرا من أهل الفكر وتشدهم إلى ساحلها فيقضون العمر في بناء الرأي، بعيدين عن الواقع الاجتماعي أو متواصلين معه). بل قد شغله ذلك حتى على تدوين تفسيره وما أنتجه فكره وما وصل إليه من اجتهاد، وكان يقول: (شغلنا بتأليف الرجال عن تأليف الكتيب)، والمتأمل في جملة ما تركه ابن باديس من تأليف لعدت قليلة بالنسبة لعقله الموسوعي وهذا المنهج العلمي الذي اتبعه بقدر ما فيه من ايجابيات ألا وهي العناية بالنشء (انظر: جمال الدين 2010 : 27). وقد جمع كثير من آثاره العلمية بعد وفاته، نظرا لتركيزه على النواحي العملية بدلا من الكتابة والتأليف، ونذكر منها:
- تفسير ابن باديس: نشره الأستاذان حمد صالح وتوفيق محمد، نقلا عن "مجالس التذكير" الذي طبع في عام 1948 م.
- مجالس التذكير من حديث البشير النذير: طبعته وزارة الشؤون الدينية بالجزائر عام 1983 م.
- العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية: هي الدروس التي ألقاها على التلاميذ وقد جمعها تلميذه محمد الصالح.
- كتاب ”رجال السلف ونساؤه" وهي مجموعة مقالات نشرت في مجلة الشهاب.
- تحقيق كتاب”العواصم من القواصم” للإمام ابن العربي وطبعه عام 1928 م (حميداتو ، 1997: 82)
ولعل أبرز الجهود العلمية تتركز على ما يلي:
1. المكانة الفكرية للشيخ ابن باديس:
تتجلى مكانة الشيخ ابن باديس الفكرية والعلمية، بشخصيته القيادية التي ساعدت لتقبل الشعب لها وما تدعو إليه، فبدأ مسيرته العلمية بتفسير القرآن الكريم وإلقاء الدروس المتخصصة بالتفسير على طلبته منذ عام 1914 وختمه في عام 1938 ولكنه لم يكتب منه إلا قليلا، فلم يكن الشيخ يكتب من التفسير ما يلقي، ولم تكن آلات التسجيل شائعة الاستعمال (مرجع سابق، 1997 :80). إلا أنه كتب بعض مجالس التفسير ضمن سلسلة مقالات بمجلة الشهاب وهي موجودة حتي يومنا هذا، جمعت بعد وفاته في كتاب تحت عنوان "مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير". كما أنه رحمه الله، شرح موطأ الإمام مالك، ولكنه أيضا لم يكتبه، وما وصل إلينا إلا ما نشره في مجلة الشهاب، وجمعت في كتاب تحت عنوان "مجالس التذكير من حديث البشير النذير". وعدم التألف والكتابة في البدايات لا يعد من سلبيات فكر ابن باديس، خصوصا إذا عرفنا سبب تجاهل الكتابة، والتركيز على النواحي الإصلاحية العملية والتطبيقية كما سنوضحه لاحقا، فابن باديس يريد لهذه الحركة أن ترسخ في نفوس الناس عمليا وليس نظريا، وقد ركز رحمه الله على الجانب التطبيقي ليتعود الناس على المنهج بدلا من قراءته. يذكر البشير الابراهيمي هذا ويفسر عدم اهتمام ابن باديس بالكتابة بقوله: (كان يرى أن في تفسيره بالكتابة مشغلة عن العمل المقدم، لذلك آثر البدء بتفسيره درسا تسمعه الجماهير). (مقدمة مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير). أما النشاط السياسي الأكبر الذي قام به ابن باديس منذ بدأ دعوته إلى الله فهو الدعوة إلى العودة إلى الإسلام الصحيح خال من الشوائب والخرافات في الاعتقاد والتشريع وكذلك الدعوة إلى الاهتمام باللغة العربية. جاءت فرنسا إلى الجزائر لتحارب الإسلام والعربية، وتحارب الجزائريين الذين يعتزون بانتمائهم للإسلام واللسان العربي، فنجح ابن باديس أيما نجاح في بث الشعور بالانتماء للإسلام ولغته. (جمال الدين، 2010: 23).
2. تأسيس جمعية التربية والتعليم الإسلامية:
وهي أول جمعية إسلامية تعنى بالتربية والتعليم، يرخص لها في مدينة قسنطينة، ويقول ابن باديس عن تأسيس الجمعية (في عام 1930 رأيت أن أخطو بمكتب التعليم خطوة جديدة، وأخرجه من مكتب جماعة إلى مدرسة جمعية، فحررت القانون الأساس لجمعية التربية والتعليم الإسلامية، وقدمته باسم الجماعة المؤسسة إلى الحكومة، فوقع التصديق عليه). (نشرة جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسطنطينة سنة 1936). وقد جاء بالقانون الأساسي للجمعية أن هدفها نشر الأخلاق الفاضلة والمعارف العربية والفرنسية، وعدم الخوض في الأمور السياسية تفاديا للاصطدام بالسلطات، وتأسيس مكتب لتعليم أبناء المسلمين الذين لم يتمكنوا من الالتحاق بالمدارس الحكومية، وتثقيف أفكارهم بالعلم باللسانين العربي والفرنسي، وتأسيس ملجأ للأيتام ومعمل للصنائع وورش يتدرب فيها الطلبة على مختلف الحرف، حتى إذا ما تخرجوا سهل اندماجهم في الحياة العامة. (حميداتو، 1997، 92). وكان الإقبال على الجمعية منقطع النظير لأنها قدمت البديل الذي ينتظره الشعب ، فكان التفاعل التي تطلبه النفس الطيبة على حد تعبير البشير العلوي إذ يقول: (إن إقبال الأمة على جمعيتكم المباركة وخنوعها لما تلقيه عليها من دروس العلم الصحيح، وتيقنوا أن هذه الأنوار السماوية التي أشرقت بوارقها في ظلماء النفوس لا تستطيع ولن تستطيع أي قوة مها كان شأنها أن تطفئ أشعتها أو تحجب لآلأها) (جريدة البصائر، العدد 3، السنة الأولى، ص: 7).
3. تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين :
في سنة 1927م، تم تأسيس ”نادي الترقي” في مدينة الجزائر، وكان من أهدافه تثقيف مسلمي الجزائر، وإعانة الفقراء، وقد استدعى مؤسسو هذا النادي الشيخ ”الطيب العقبي” ليقوم فيه بالوعظ والإرشاد على غرار ما يقوم به الشيخ عبد الحميد بن باديس في قسنطينة. وقد ألقى ابن باديس فيه محاضرة عند افتتاحه، واستمر يتعهده بالمحاضرات ودروس التفسير كلما حل بالعاصمة. وكان لهذا النادي شرف احتضان الجلسات التمهيدية لتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، قبل أن يصبح مقرها الرئيس في العاصمة. في هذه الظروف المشحونة بالتحدي والاستفزاز من قبل المستعمر من جهة، وإحساس الأمة الجزائرية بسوء الحال التي هي عليها، وشعورها بلزوم إصلاح عام يشمل الدين والعلم والاجتماع، من جهة أخرى، في هذه الظروف ظهرت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين رسميا للوجود، في 5 مايو سنة 1931). (جمال الدين، 2010 : 37). وقد انتخب أعضاؤها: الشيخ عبد الحميد بن باديس بالإجماع رئيسا لها، في غيابه، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي نائبا له.
أهداف الجمعية :
لقد كان ابن باديس ورفاقه أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، من الحصافة بمكان، حيث أبدوا أشياء وأضمروا أخرى، مكتفين في تصريحاتهم الرسمية بإعلان الدعوة إلى الإصلاح الديني والتعليمي حذرا. فقد جاء على لسان رئيسها: (أن الجمعية يجب أن لا تكون إلا جمعية هداية وإرشاد، لترقية الشعب من وهدة الجهل والسقوط الأخلاقي، إلى أوج العلم ومكارم الأخلاق، في نطاق دينها الذهبي وبهداية نبيها الأمي، الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاق، عليه وآله الصلاة والسلام). (حميداتو ، 1997: 20).
ويمكننا القول بأن الجمعية ركزت في مراحلها الأولى على الأهداف التالية:
- إصلاح عقيدة الشعب الجزائري، وتنقيتها من الخرافات والبدع، وتطهيرها من مظاهر التخاذل والتواكل التي تغذيها الطرق الصوفية المنحرفة
- محاربة الجهل بتثقيف العقول، والرجـوع بها إلى القـرآن والسنـة الصحيحة، عن طريق التربية والتعليم.
- المحافظة على الشخصيــة العربيـة الإسلاميـة للشعـب الجزائــري، بمقاومة سياسة التنصير والفرنسة التي تتبعها سلطات الاحتلال (جمال الدين، 2010: 39).
يتبع