خصائص شخصية الشيخ عمر دردور رحمه الله
بقلم: أ.د. مسعود فلوسي-
من الصعوبة بمكان تحديد الخصائص التي انطوت عليها شخصية العلامة المصلح المجاهد الشيخ عمر دردور رحمه الله (1913-2009م)، ذلك أن عملا كهذا يتطلب أن يكون صاحبه ممن ربطتهم علاقة وثيقة بالمتحدَّث عنه وممن صحبه في أطوار حياته وفي مختلف شؤونه وعرفه عن قرب ولازمه ملازمة مستمرة، وكل هذا مما لم أحظ به، فعلاقتي بالشيخ لم تتعد زيارات قليلة له في بيته في سنواته الأخيرة، وقبل ذلك لم أكن أعرفه إلا من خلال المشاهدة في بعض المناسبات، دون أن يكون لي شرف التقرب منه أو الملازمة له. ومع ذلك فيمكن تلمس ملامح شخصية الشيخ عمر دردور رحمه الله من خلال الكلمة الموجزة التي قالها في حقه شيخ المؤرخين الجزائريين الدكتور أبو القاسم سعد الله رحمه الله، والذي عرفه في القاهرة حين كان يزاول دراسته هناك وكان الشيخ دردور عضوا في مكتب جبهة التحرير فيها، حيث يقول الدكتور سعد الله في حق الشيخ: «كان الشيخ عمر؛ بهيئته وهندامه وحديثه وصرامته، يبدو لنا أنه من جيل آخر، جيل تطمئن إليه النفس، وتثق في كلامه وصدقه» ]حصاد الخريف: 266.[ والرجل الذي تطمئن إليه النفوس وتثق في كلامه وصدقه، لابد أن يكون متحليا بجملة من الخصال النفسية والخصائص الشخصية التي تميزه عن غيره وترفعه إلى مرتبة أن يكون موضع ثقة ومحل اطمئنان.
وقد خلُصْتُ من خلال التأمل في شخصية الشيخ عمر دردور وتتبع مواقفه والنظر في مسيرة حياته إلى التأكد من تحليه بجملة من الخصائص الشخصية التي قلما تجتمع في رجل واحد، وهي في نظري كما يلي:
أولا: العمل الدائب والجهاد المستمر
إن الناظر في مسيرة حياة الشيخ عمر دردور يلاحظ أن الرجل تميز بعمله الدائب وجهاده المستمر في خدمة المصلحة العامة للأمة والسعي فيما ينفع الناس ويعود عليهم بالخير، وقد بدأ هذا منذ شبابه الباكر وظل ملازما له إلى أن أقعده العجز ومنعه من الحركة في إطار المجتمع، في مسيرة لا تقل عن سبعين عاما متواصلة من العطاء والجهاد.
فهو قد انخرط في بداية شبابه في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وسخر نفسه لتعليم الناشئة وغرس الروح الوطنية في النفوس ومقاومة المحتل بالقول والعمل من خلال تأسيس خلايا الجمعية ثم من خلال الإسهام في التحضير للثورة، ثم بالمشاركة فيها، ثم بالخروج إلى الخارج لتمثيلها في المشرق العربي. وبعد الاستقلال أسس معهد التعليم الأصلي بمدينة باتنة وأداره ودرَّسَ فيه رفقة ثلة من أصدقائه الذين استعان بهم في تأسيسه وإقامة دعائمه، ثم انخرط في قطاع الشؤون الدينية فتولى عدة مناصب، وبعد تقاعده تفرغ للإفتاء وإصلاح ذات البين، ولم ينكفئ على نفسه ويقعد في بيته إلا بعد أن طعن في السن ولم يعد قادرا على الخروج والمشاركة في الأعمال العامة.
ثانيا: الشجاعة والإقدام
تميزت مسيرة الشيخ رحمه الله بالشجاعة في المواقف والإقدام على القيام بالأعمال عند التأكد من فائدتها، دون حساب للصعوبات والعراقيل والعقبات، ولا اهتمام بالمخاطر المحدقة به نتيجة قيامه بهذه الأعمال، محتسبا أجر عمله عند ربه عز وجل.
فقد واجه الشيخ رحمه الله - وهو شاب مقبل على الحياة - جبروت سلطات الاحتلال في منطقة الأوراس، ولم يتردد في انتقاد إجراءاتها وقراراتها مما عرضه للسجن والتعذيب.
كما أنه لم يتردد في الإسهام في التحضير للثورة والانخراط في أعمالها بعد اندلاعها من خلال اتصالاته واجتماعاته مع قادتها في الأوراس، دون حساب لمراقبة سلطات الاحتلال له والتقارير التي كان يرفعها الخونة ضده، مما عرضه إلى الملاحقة ومحاولة القبض عليه، وهو ما جعل جبهة التحرير الوطني ترسله إلى الخارج لتمثيلها في المشرق العربي والدعاية للثورة وجمع المساعدات لها.
وبعد الاستقلال فكر في تأسيس معهد إسلامي، وباشر المهمة دون أن يحسب حسابا لما قد ينجر عنها من عواقب وما قد يواجهها من عقبات وتحديات، فأجرى الاتصالات وطلب المساعدات وجمع الأموال ووظف علاقاته وأعلن مباشرة عن فتح التسجيلات وشرع في التدريس في ظرف وجيز لم يتجاوز السنة الواحدة، وقد كان هذا مجازفة ومخاطرة لا يقدم عليها إلا من كان عميق الإيمان راسخ اليقين صادق التوكل على الله.
ثالثا: الحكمة وحسن التصرف في المواقف
مع ما تحلى به الشيخ من شجاعة وإقدام في القيام بالأعمال والنهوض بالمهمات الصعبة، إلا أن ذلك لم يكن بتهور وسوء تصرف واستعداء للآخرين، وإنما كان بحكمة وحِنْكة وحُسْن سياسة، وموازنة بين المصالح والمفاسد.
هذه الحكمة تجلت في موقفه الذي اتخذه لإقناع السلطة السياسية باعتماد معاهد التعليم الأصلي، حيث إنه عند زيارة الرئيس هواري بومدين رحمه الله إلى باتنة، قام الشيخ عمر بتهيئة عدد من طلبة المعهد الذين يثق فيهم للقيام بتصرف يلفت انتباه الرئيس إلى هذا الموضوع، فأعد لافتة تضمنت عبارات تطلب من الرئيس اعتماد المعهد وسلمها لهؤلاء الطلبة وأمرهم بتركها ملفوفة وعدم فتحها إلا عندما يكون الرئيس بصدد إلقاء خطابه، وفعلا عندما كان الرئيس يتحدث بدأ الطلبة في نشر اللافتة فانتبه الرئيس إلى الأمر والتفت إليهم ورأى ما كتب في اللافتة وفهم الموضوع، فما كان منه إلا أن استجاب للطلب وأمر باعتماد المعهد وقبول شهادات طلبته.إلى جانب مواقف أخرى تجلت فيها حكمته وبصيرته رحمه الله.
رابعا: الأمانة والورع
عندما التحق الشيخ عمر رحمه الله بالوفد الخارجي لجبهة التحرير في القاهرة تم تكليفه بمهمة أمين المال على مستوى مكتب القاهرة، فكانت الأموال كلها تودع عنده وهو الذي يتولى توزيعها وإعطاءها لمستحقيها، فيدفع المرتبات للإطارات ويعطي المساعدات للطلبة ويتولى شراء ما يُحتاج إليه من لوازم.
وقد عُرف عن الشيخ رحمه الله صرامته في هذا الأمر وحرصه الشديد على وضع كل قرش أو جُنيه في موضعه دون زيادة أو نقصان، وقد حاول البعض إغراءه واستمالته أحيانا أو تهديده أحيانا أخرى للحصول منه على نصيب من المال لتوظيفه في مصالحهم الخاصة، إلا أن الشيخ وقف بصرامة وحزم أمام هذه المحاولات ولم يُبال بالتهديد ولا بالوعيد الذي حاول بعضهم أن يضغط به عليه.
وكما كان الشيخ يمنع غيره من الحصول على مليم واحد لا يستحقه من أموال الجبهة، لم يكن يسمح لنفسه بذلك بداهة ولم يذكر عنه أحد أنه مد يده لأخذ شيء لصالحه من المال الذي ائتًمن عليه، ولو حدث لعُرِفَ ولذكره أولئك الطامعون الذين حاولوا أن يحصلوا على شيء منه، بل لقد اعترف له الجميع بالأمانة والنزاهة وحسن التسيير.
خامسا: المروءة والنجدة
تميز الشيخ رحمه الله بالمروءة والنجدة وتقديم يد المساعدة لكل من يقصده، فلم يكن يتأخر في استعمال علاقاته في مساعدة من عُرقلت مصالحهم، كما كان يُسخر سيارته في خدمة مصالح الأمة ومساعدة من يحتاج إليها، وكان يقدم المساعدات المالية لمن يقصده في حاجة عجز عن قضائها ولم يجد من يساعده فيها. كما لم يتردد في الدفاع عن المظلومين والتدخل لرفع المظالم عنهم.
ومواقفه في هذا الباب كثيرة لا تُحصى. ويكفي ما كان يعامل به الأساتذة المشارقة الذين كانوا يدرسون في المعهد الإسلامي، حيث يحرص على قضاء حوائجهم ويسعى في توفير راحتهم ويجتهد في إدخال السرور على نفوسهم. وكذلك كان حاله مع الطلبة الذين كثير منهم فقراء محتاجين، فكان يجتهد في مساعدتهم وجمع التبرعات للتكفل بهم.
سادسا: الزهد والتواضع وخمول الذكر
على الرغم من المكانة الاجتماعية التي تبوأها الشيخ والعلاقات الواسعة التي ربطته بأناس أصبحوا وزراء ومسؤولين في مختلف قطاعات الدولة، إلا أنه بمجرد حصول البلاد على استقلالها عاد إلى مقر سكناه بتازولت، ولم يفكر في الرحيل إلى العاصمة للإقامة فيها وتولي المسؤوليات بها.
فقد زهد في الدنيا وآثر التواضع وخمول الذكر، ولم يسع إلى الشهرة وعلوّ المكانة الدنيوية، راغبا في العيش وسط الناس لمعرفة همومهم والإحاطة بالمشكلات التي تواجههم والسعي في مساعدتهم ورفع المعاناة عنهم وخدمة مصالحهم.
كل ذلك بتواضع ونكران للذات وتجاوز للمنفعة الشخصية، وهو ما كان سببا في أن يرفع الله مكانته ويبوئه مقاما تمناه طالبو الشهرة والحريصون على المناصب الدنيوية الزائلة دون أن يحصلوا عليه، فقد سقطت أسماؤهم ونسيهم الناس بمجرد خروجهم من المناصب، بينما ظل ذكر الشيخ عاليا في حياته وبعد وفاته وما يزال وسيبقى إن شاء الله.
سابعا: الوفاء
عُرف الشيخ رحمه الله بالوفاء الشديد لمبادئ الإسلام وقيم ثورة نوفمبر. كما عُرف بوفائه لأستاذه الشيخ الإمام عبد الحميد ابن باديس رحمه الله، الذي اتخذه قدوة في حياته، واتخذ من خصاله وأعماله نبراسا يضيئ دروبه ويرسم مسار حياته، وظل يذكره ويُشيد بخصاله وأعماله.
وعُرف الشيخ كذلك بوفائه لزملائه وإخوانه وأصدقائه الذين جمعته بهم مختلف مراحل الحياة، وكان حريصا على توثيق صِلاته بهم في مختلف المناسبات، وظل يذكر من توفوا قبله منهم بالخير ويُثني عليهم بما قدموا من صالح الأعمال.
ثامنا: سلامة النفس من الأضغان
لم يكن رجل مثل الشيخ عمر دردور رحمه الله ليشغل نفسه ببُغض غيره أو يحمل في نفسه الحقد والضغينة لأحد، فقد شغلته الأعمال الكبيرة والمهمات العظيمة التي تصدى لها عن التفكير في أولئك الذين ظلموه أو سعوا في إيذائه أو عملوا على عرقلته عن إنجاز مشاريعه وتحقيق مساعيه أو نشروا في حقه الافتراءات والأكاذيب.وهكذا عاش رحمه الله صافي النفس سليم القلب من الأحقاد والضغائن.
تاسعا: حسن السمت وجمال الوقار
إن كل تلك الخصائص النفسية التي تفرد بها الشيخ عمر دردور واجتمعت في شخصيته، كان لها أثرها الواضح على حياته، فقد تجلت بصورة واضحة في ذلك الصمت المميز والوقار الفريد الذي كان يميز المظهر الخارجي للشيخ رحمه الله.
فإلى جانب الهندام الجميل النظيف الأنيق، والمشية المتزنة، والهدوء والرزانة، كان هناك النور المنبعث من الوجه والمنعكس على الكيان كله، وهو ما أعطى لشخصية الشيخ هيبة يحسها كل من اقترب منه، بل يحسها حتى من يراه من بعيد، ويستشعرها القريب والبعيد على سواء. وهي هيبة لم تكن تبعث على الخوف والرهبة، وإنما كانت هيبة تدعو إلى المحبة والتوقير والتقدير والاحترام.
والمتأمل في الصور التي التُقطت للشيخ رحمه الله في مختلف مراحل حياته منذ شبابه الباكر وإلى شيخوخته المتقدمة، وفي مختلف المجالات التي تحرك فيها، يلاحظ هذا الصمت المتميز وهذا الوقار الفريد من نوعه.
ولاريب أن مثل هذا الصمت والوقار لا يتحقق إلا لمن أخلص نفسه لله، وتخلص من الميل مع الهوى والشهوات الدنيوية الفانية، وجعل غايته رضوان الله عز وجل والفوز بالجنة والنجاة من النار يوم القيامة.
خاتمة
لقد كان الشيخ عمر دردور رحمه الله - فيما نحسب، ولا نزكي على الله أحدا – من المؤمنين الربانيين الصادقين، وكان - بحق - رجلا نهض بما هيأه الله له من مهمات وسخر نفسه في خدمة دينه ووطنه وبني قومه، ولم يطلب من وراء ذلك مالا ولا جاها ولا منصبا.
ولاشك أن أمتنا، ووطننا الجزائر خاصة، بحاجة إلى أمثال هذا النوع من الرجال الذين يجعلون غايتهم خدمة الدين والوطن، مبتغين بذلك مرضاة الله وحده، فبمثلهم تنهض البلاد وتعلو مكانتها وتتخلص من أمراضها ويتقدم شعبها وتحقق لنفسها مكانة تجعل غيرها من البلدان والشعوب تحترمها وتقدرها وتحسب حسابها.
كما لاشك أن شبابنا وأجيالنا الصاعدة بحاجة ماسة إلى الاقتداء بمثل هذا النوع من الرجال، حتى يستطيعوا أن يخدموا دينهم ويبنوا وطنهم ويحققوا ما ترجوه الأمة منهم.
أ.د. مسعود فلوسي - كلية العلوم الإسلامية – جامعة باتنة 1