رَجُلٌ يَسْعَى..
بقلم: د. عبد العزيز بن السايب-
إن الرجال الكبار والعلماء الأجلاء لهم في الحياة نمط خاص..لا يُطيقُهُ غيرُهُم، ولا يتحمل لَأْوَاءَهُ من ليس من طبقتهم .
ومن هؤلاءِ الأعلامِ الإمامُ الرئيسُ عبدُ الحميد ابنُ باديس، عليه رحمات الله الرحيم الكريم .
حياتُه مثال للجديةِ، والمواظبةِ، والتضحيةِ، والفداءِ، واستغلالِ الوقت، والحرصِ على القيام بالأعمال الجليلة . فلا تجد له وقتا ضائعا، أو اشتغالا بالسفاسف، أو تَأَثُّرًا بالتوافه ..
لقد كان مُدركا لواجباته، وحقوق دينه وأمته، وسَيْطَرَ عليه التفكير في نهوضها، والتهمم بمستقبلها ..
وليس ذلك بالأمر السهل، فالحالة كانت مزية من كل الآفاق، لكنه بقي مرابطا على هذا السبيل رغم التحديات التي كانت تحيط به، ورغم الظروف الصعبة التي كانت تُغَلِّفُ بلدَنا وقتها .
كان برنامجه اليومي عامرا، وكانت ترتيباته الأسبوعية مكتضة..وعلاقاته مع شتى طبقات المجتمع متشابكة، ونشاطاته متكثرة ..
هذه حياته لعشرات السنوات منذ حمل هم هذه الأمة ومنذ رفع راية الإصلاح بكل أبعاده وميادينه.. مع جسم ضعيف وبِنْيَةٍ نحيلة ..
منذ نعومة أظفاري وأنا أسمع الثناء العاطر على الشيخ في بيتنا، على لسان أُمِّنَا، رحمها الله تعالى، والصورة الوحيدة التي كانت في بيتنا هي صورة الشيخ ابن باديس، ولا زلت أحتفظ بها رغم عواتي الزمان التي طالت بعض أطرافها .
وهذه قصة من قصص والدتي عن الشيخ ابن باديس، وهي تحكي إحدى تنقلاته في أيامه الأخيرة، رحمه الله تعالى ..
حدثتني أمي أن والدها جَدِّي سَعْدُون ـ رحمه الله تعالى ـ أخبرها أن الشيخ ابن باديس كان مَارًّا على حي "سيدي مبروك"، وكان لجدي حمام هناك على النمط التركي، وعادة جدي الجلوس على المسطبة الخارجية، فلما رأى الشيخُ ابنُ باديس جدِّي أقبل عليه، ووقف معه دقائق معدودة ..
ولما طلب جدي من الشيخ ابن باديس المكوث أكثر، وتقديم الضيافة اللائقة، اعتذر الشيخ ابن باديس، وأخبره بأنه مشغول جدا، بأمر من الأمور .. ربما مرة أخرى نجلس أكثر.. وانطلق على رجليه مُسرعا يَسعى..
قال جدي: وكان يَظهرُ على الشيخ ابن باديس التَّعبُ، والإجهادُ واضحٌ عليه ..
وهذا اللقاء كان قبل وفاة الشيخ ابن باديس بثلاثة أيام أو أربعة ..
إن النظر في حياة الشيخ ابن باديس يجعل كُلَّ واحدٍ يَعرفُ محلَّه من الإعراب.. ويفهم سبب ما يُفتح لقوم دون آخرين، وما يُنجزه البعض دون غيرهم، وما يتحقق على أيد طائفة دون أخرى .
لقد كان الشيخ ابن باديس على قدم السابقين، وبهمة السلف الصالحين، الذين وُصفوا بأن الموت لو جاءهم لا يكون لأحدهم مزيد عمل يقوم به، لأن أيامهم ملئ بالأعمال الجليلة والنشاطات النافعة ..
بل لو قُسِمت إنجازاتهم مع ساعات أعمارهم وسنوات حياتهم لوقف الإنسان مشدوها.. فلا تناسب بينها إطلاقا .
وها هي تَمُرُّ ثمانون سنة إلا قليلا على رحيل علامة نهضة الجزائر .. ولا أجد في هذا الخَطب تعزيةً في الشيخ ابن باديس أبلغَ من كلماته هو نفسه .. وهو يُعزِّي الأمة في وفاة علامة قسنطينة الشيخ عبد القادر المجَّاوِي الذي توفي سنة 1914، فإنها عباراتٌ كأنها منحوتةٌ على مقاسه، جملة جملة ..كلمة كلمة..حرفا حرفا..بل ربما أزيد..، فقد دَبَّجَ يراعُه هذه الكلمات النيرات: "..إن أجلّ الخطوب وقعًا، وأعظمها رَدْعًا، وأشدها على النفوس صدعًا، ذهابُ العلماء الذين هم سر الحياة وإكسير الوجود، فكم بذهابهم انحلت للمجد عُرى، وكم بفقدهم انحطت النفوس من قمة العز إلى حضيض الثرى، وقد أصابنا ما أصاب الأمم في عظمائها، فها نحن منكسرو الظهور تحت كَلْكَلِ هذا الرُّزْءِ الثقيلِ الجللِ..
وا آسفاه عليك أيها الإمام الذي ببزوغ شمسه تمزقت سحبُ الجهلِ وبَدت غرةُ العلم للعيان، أنت الذي عانيت في سبيل إصلاحنا أتعابا طويلة، أنت الذي كما كُنْتَ مَوردَ المتعطشين ومصدر الكاملين كُنْتَ مِثالا لحسن الأخلاق وكرم الطبع ولباب الفضيلة، أنت تَعَاضَدَ حلمُك وعلمك فأصعد بالناس في معارج الكمال، وأورثاهما المآثر الجليلة، فلا بدع أن تطول عليك حسراتنا، وتصعد فيك زفراتنا، وعلى جدثك المنعم عبراتنا . نبكيك بالدموع السخية، ويَبكيك القرطاس والقَلَمُ، نبكيك وتبكيك المنابر ودروس العلم والحكم، نبكيك ويبكيك هذا القطر الحزين الذي غمرته ببيض أياديك وغرر فضائلك الحسان..فارجع إلى ربك راضيا مرضيا مَثنيا عليك، فهنيئا لك الفوز بالخلد في أرقى فراديس الجنان.. اهـ.
د. عبد العزيز بن السايب- أكاديمي وباحث وإمام داعية، عضو الهيئة العلمية الاستشارية لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.