الجِدُّ في أمور العلم..
بقلم: د.عبد العزيز بن سايب-
تَعَلَّمْتُ في دمشق أهمية تلقي العلم على أيدي أهله، وأن طلبه من الكتب فقط ليس كافيا بمرة، وأن مزاحمة العلماء بالرُّكَب من سنن طالب العلم .
فعند عودتي من الشام في كل عطلة صيف كانت تحفى قدمي بحثا عمن يدرسني في بلادي، وخصوصا في مدينتي قسنطينة .والأماكن التي يمكن فيها تحقيق ذلك بعيدة عنا جدا، كالصحراء في الجنوب الجزائري، ووالدتي كانت تُمانع فكرة سفري هناك بشدة، وتقول لي: أنت في طول السنة غائب في سوريا، ولما تأتي في العطلة تريد أن تتركنا وتتغرب حتى داخل البلاد..
وكانت الرغبة ملحة في دراسة الفقه المالكي، لأن الشام على كثرة علمائها ووفرة فقهائها كانت خِلْوًا من علماء في المذهب المالكي . وحاولتُ مع بعض الأصدقاء البحث عمن يدرسنا المذهب، فلم نعثر على أحد، وكان الكلُّ يقول: "آخر مفاتي المالكية في الشام الشيخ إبراهيم اليعقوبي رحمه الله تعالى" المتوفى سنة 1985.
وأذكر أننا ذهبنا للشيخ السيد الفاتح الكتاني، باعتبار أن والده الشيخ السيد محمد المكي الكتاني رحمه الله تعالى المتوفى سنة 1973 كان من مَفاتي المالكية بدمشق، بيد أن الشيخ الفاتح صَدَقَنَا أنه درس المذهب حنفي، وتعلم في صباه شيئا قليلا من المذهب المالكي على يد والده الشيخ المكي، لكنها مجرد شذرات، وقال بصراحة: أنا وأنتم سواء، فإذا أردنا دراسة الفقه المالكي عنده فإنه سوف يُحَضِّرُ لنا فقط، وأذكر أنه قال لنا أن له من كتب المالكية: المدونة الكبرى، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرياني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني . فعَزَفْنَا عن الفكرة من أساسها لما خَبرنا واقع الحال.
وكم توجهتُ في العُطَلِ لبعض من أُرْشِدْتُ إليهم من العلماء في قسنطينة وكم..بدون جدوى، فمنهم من قد طعن في السن وأقعده المرض كالشيخ المولود مهري، والبعض اعتذر بالانشغال، وآخرون بالانقطاع عن العلم وشؤونه .
بل لقد سافرت إلى التلاغمة المتاخمة لمدينتنا للشيخ إدريس عبدو رحمه الله تعالى، وهو من علماء إثيوبيا الأزهريين، هو من الذين أكرم الله تعالى بهم مدينتنا فاستقر فيها، وطلبتُ منه تدريسي رسالة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني، لكنه تَحَفَّظَ من طلبي وامتنع، وتَفَهَّمْتُ وضعه، فقد كانت الجزائر في بداية مخاض التسعينات، والشيخ كانت إقامته تكتنفها ظروف خاصة .
ثم وفقني الله بواسطة أحد قرابتي إلى شيخٍ من بقايا تلاميذ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ومن طلاب المدرسة الباديسية. كان يسكن على مقربة من وسط المدينة في منطقة "باب القنطرة"، ولم تكن بعيدة عن حَيِّنَا "سيدي مبروك"، فكنتُ أذهب إليها مشيا على الأقدام سالكا طريق غابة الصنوبر الرائعة الْمُفضية إلى باب القنطرة .
ذلكم هو الشيخ الْجَمْعُونِي، رحمه الله تعالى .
لما زُرتُهُ وأَفضيتُ له بمكنون رغبتي، اعتذر متأسفا متعللا بكبر السن والمرض، ولكنه أبدى استعداده لاستقبالي كل أسبوع لنتحادث عن العلم وشؤونه وجمعية العلماء . فرَضِيتُ بما قَسَمَهُ الله لي . وتواعدنا على اللقاء المقبل .
لما ذهبتُ إليه في الموعد وجلسنا سألني عمَّا أحبُّ أن يحدثني عنه، فطلبتُ منه الكلام عن الشيخ الأستاذ الرئيس عبد الحميد ابن باديس، رضي الله عنه، وعن اعتناء جمعية العلماء بالعلم ومنهجيتهم في ذلك .
فحدثني عن جد الشيخ الأستاذ عبد الحميد اين باديس الشيء العُجَاب .
من ذلك أن الشيخ ابن باديس رحمه الله تعالى كانت له جِدية وصَرامة مع الطلاب في دراستهم .
فقبل بداية إلقاء الدرس يتأكد من حفظ الطلاب للنص محل الدراسة، ويتحقق من تحضريهم له .
فإذا وجد طالبا قد أهمل ذلك يكتفي أولا بالإشارة المنبِّهَة له، فإن تكرار ذلك منه مرة أخرى يَزيده بالتأنيب والتحذير، فإذا وقع منه ذلك كرة ثالثة يَفْصِلُهُ..، ويقول له: يا ابني إننا ندرس تحت مراقبة فرنسا المتربصة بنا، المضيقة علينا، والظروف عسيرة، وعدد المقاعد كما ترى قليلة معدودة، لذلك لا نستطيع قبول الكثير . يا ابني أنتَ تَحتل مَقْعَدا لا يُناسبك، وتَحْرِمُ غيرك، الأفضل أن تذهب لمدرسة أخرى تستطيع أن تتابع طريقتها، .. ربي يوفقك .
نعم هكذا كان الشيخ ابن باديس رحمه الله تعالى، كرَّس كل حياته وأفنى كل وقته في خدمة هذا الدين والبلاد والعباد، بحياته العلمية وحياته العملية، وسط ضُغوط تندك لها الجبال، في مرحلة عصيبة وحقبة حرجة، فكان لا يرضى من الطالب تلك الحالة، ولا تلك الهمَّة، فهي لا تتمشى مع طبيعة التحدي . وكأني به يُرَدِّدُ مع الطُّغْرَائِيّ قوله في لامية العجم:
قد رشَّحوك لأمرٍ إنْ فطِنتَ لهُ ... فاربأْ بنفسكَ أن تَرْعَى مَعَ الهَمَلِ
من هنا ندرك عمق مقولته لما كان يُسأل عن سبب عزوفه عن تأليف الكتب، فقد كان جوابه: إني مشغول بتأليف الرجال ..
رحمه الله تعالى، وبارك في عطائه، وأجزل مثبوته على جهوده التي ساهمت في أحياء هذه الأمة، ورفع الغبن المسلط على هذه البلاد .