الأمير عبد القادر القائد الرائد: المكانة الأدبية للأمير الكاتب الشاعر (5)

بقلم: أ.د. محمد بن سمينة-
نبادر بالقول في هذا الميدان أن  الدارسين للأدب الجزائري الحديث اختلفت آراؤهم في تقيم المكانة الأدبية للأمير إلى فريقين1- أحدهما ويمثل غالبية الدارسين المعاصرين، يحاول أن يتخذ من الأمير منطلقا في أحاديثه عن النهضة الأدبية الجزائرية. 2- أما الفريق الثاني - ويمثله بناة النهضة - فلا يكاد يعثر الباحث فيما اطلع عليه من أعمال هؤلاء على أية إشارة إلى هذه المكانة (1) .

فهل يعود ذلك لشعور هؤلاء الأعلام بأن الأمير يمثل نموذجا مميزا في تاريخ الأدب الجزائري ؟ بسبب تعاطيه شيئا من الكتابة من موقع متميز وفي وقت خاص ، كانت فيه بلاده تصارع ما ابتليت به على أيدي الاستدمار الفرنسي من أنواع الظلم والقهر والطغيان ، ولم تكن قد أطلت بعد، إشراقة شمس النهضة الحديثة على حياتها فيكون  قد أظلها شيء من بعض مؤثراتها : من تعليم  وطباعة وصحافة وحركة تأليف ونواد وجمعيات ، وما كان فيها من ذلك يومئذ لم يكن منطلقا من ذاتها ولخدمة مراميها  وإنما كان ذلك  من نتاج المحتلين ولخدمة أغراضهم وتنفيذ مخططاتهم  .

ومن أين للأمير-وهو يقود أبناء شعبه على طريق الجهاد، يتصدى في جبهة لرد العدوان، ويتحرك في جبهة أخرى لإرساء اللبنات الأولى في أساس الدولة الجزائرية الفتية- أن يتفرغ للتأليف والتصنيف والإبداع ؟(2)
وإن ما كان له من ذلك بعد ، إنما كان له بعد أن انسحب من ميدان الصراع المسلح وغادر الجزائر واستقر بمهاجره المختلفة حيث توفر له بعض ما ساعده على ذلك، فكتب ما كتب .

ونخلص إلى القول في هذا المضمار أن الأمير إذا كان-كما يرى معظم الدارسين المحققين الجزائريين- ظاهرة فريدة في زمانه من نحو، وكانت مصنفاته -كما مر معنا- باستثناء بعض أشعاره ذات اهتمامات فكرية وشخصية في مضمونها، وذات سمات تقليدية في مبناها من نحو ثان ، وكان الأمير  من نحو ثالث ، قد كتب هذه المصنفات وهو يعيش في ظروف خاصة و يقع تحت تأثير بيئات مختلفة في مكوناتها السياسية والثقافية عن البيئة الجزائرية ، فإذا كانت الملابسات في هذه القضية على هذا النحو . فمن أين للباحث أن يتخذ من أعمال الأمير نموذجا عن النهضة الأدبية الحديثة في الجزائر ؟ ومن أين له ثانية أن يعد صاحبها أحد رواد هذه النهضة ؟ بله أن يعده رائدها الأول، كما ذهب إلى ذلك بعض الدارسين ، فقارنه في شاعريته بالشاعر البارودي رائد الشعر العربي الحديث(3).

وأحسب أن هذه النتيجة التي انتهى إليها التحليل في هذا الموضوع لا ترقى إلى درجة التقليل من القيمة التاريخية الرفيعة التي ارتقى إليها الأمير بإسهاماته العلمية والأدبية وبأعماله الجهادية ومواقفه الإنسانية، بصفته : قائد مقاومة ، وزعيم أمة ، ومؤسس دولة، وعلم من أعلام الإسلام والعروبة في مطلع  العصر، الحديث . وحسب الأمير بعد، ما حظي به من تلك المكانة السامية في قلوب كل الجزائريين، وفي قلوب كل الذين عرفوه، وكانت لهم به صلة من أبناء الأمة العربية الإسلامية ،وغيرهم من المنصفين وغير المتعصبين من أبناء الأمم الأخرى
 
وحسبه عظمة وخلودا  ما كان له في حركة النهضة العربية الإسلامية من مشاركة مشرفة ،  تلك التي تبدو في هذه الصور

1ـ إسهاماته النظرية ومواقفه الميدانية، وغيرته القوية عن تعاليم الدين الإسلامي، وذوده عن حياضه، وإبرازه الصورة الصحيحة له : عقيدة وشريعة، أخلاقا ومعاملات، قيما وحضارة .

2ـ استجابته الصادقة لنداء الأمة المكلومة بسيف الغزو الصليبي ، واضطلاعه بأعباء التصدي لأدواته ومخططاته وصنائعه، ودفع غائلتهم عنها .

3ـ حرصه على تآخي المسلمين ووحدة صفهم ، ونبذ كل أسباب التفرقة فيما بينهم ، وحضهم على التسامح، وحسن المعاملة، مع كل من يساكنهم من أبناء الملل والنحل الأخرى.

4- إن موقفه الإنساني في إطفاء نار الفتنة التي اندلعت ما بين المسلمين و المسيحيين بلبنان ودمشق 1860م، لا ينساه له التاريخ ، ولا تنساه له الإنسانية

وقد استطاع الأمير بهذه الخصال الإنسانية النبيلة، أن يجمع في جهاده ما بين التصدي للغزو الصليبي الفرنسي بسيفه في ساح المعركة ، و بين إسهامه في عملية تجديد الفكر الإسلامي وإيقاظ المسلمين بالقلم عن طريق الكتابة العلمية والأدبية . .

 ويمكن اعتباره- بحق- بهذه الخاصية الجهادية النموذج المبكر في تاريخ الفكر الجزائري الحديث الذي جسد بكل قوة وصدق ووضوح، ذلك التلاحم المتين ما بين الدين والوطن.  وقد أعده بعض الباحثين بهذه المميزات واحدا من أبرز أعلام اليقظة العامة في العالم العربي الإسلامي في العصر الحديث، من أمثال (ناصف اليازجي 1800-1875م) (رفاعه الطهطاوي 1804- 1873م) ، ( أحمد فارس الشدياق 1804- 1885م) وغيرهم من أعلام مدرستهم (4).

إلا أن الذي يوازن بين أعمال هؤلاء وأعمال الأمير بحثا عن الجهد العلمي والحضور الأدبي في هذه وفي تلك ، يلحظ أن ما تتميز به آثار الأمير من ذلك لا يرقى- نظرا لاختلاف ملابسات البيئة وظروف المجتمع بين الطرفين - إلى المكانة التي تسمو إليها آثار أولئك الأعلام، مما يؤكد مرة أخرى الرأي الذي يذهب أصحابه إلى أن شخصية الأمير ومكانته التاريخية، إنما تبرز في مواقفه الجهادية أكثر مما تبدو في إسهاماته الأدبية . ولعل مما يزيد هذا الرأي وضوحا ما ذهب إليه بعض الباحثين ، من أن المقاومة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي بقيادة الأمير تعد من بين خمس ثورات في الوطن العربي الإسلامي في القرن التاسع عشر الميلادي(5).

 

الهوامش:

1- د/ صالح الخرفي : المدخل إلى الأدب الجزائري الحديث ص101 وما بعدها

2- الأمير عبد القادر : الديوان المقدمة ص8  تحقيق  د/ ممدوح حقي

3- د/ عمر بن قينة: أدب الرحلة في النثر الجزائري الحديث مخطوط ص15 .

4- ينظر حسن السندوبي : أعيان البيان ، و ينظر جرجي زيدان : بناة النهضة .

 5- الأمير محمد: تحفة الزائر في تاريخ الجزائر والأمير عبد القادر تح د/ ممدوح حقي المقدمة ص:ج12.


آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.