خطبتا القاضي العادل والإمام الإبراهيمي عند تحرير المسجدين الأقصى وكتشاوة
بقلم: محمد الهادي الحسني-
أدّيت – صحبة الأخوين مالك بوعمرة سونة ومحمد غازي بوشامة- صلاة الجمعة يوم (26-10-2018) في مسجد كتشاوة.. وبعد الصلاة تجولنا في رحاب المسجد بعد ترميمه من طرف الإخوة الأتراك، لما يحمله هذا المسجد من دلالة، وجهاد مشترك بين الشعبين المسلمين الجزائري والتركي.
وقد استعرضنا بعض تاريخ ذلك المسجد، ومنه النكبة التي حلّت به عندما دنّسه الصليبيون الفرنسيون، وحوّلوه إلى كاتدرائية باسم قدّيسهم فيليب، كما دنّس الصليبيون الأولون المسجد الأقصى، ويدنسه اليوم أحفاد السّامري.
لقد تذكرنا الكلمة التي نسبت إلى الإمام مصطفى ابن الكبابطي عند تحويل مسجد كتشاوة إلى كنيسة، وهذه الكلمة هي: “لئن تحوّلت العبادة في مسجدنا فإن ربه لن يتحول في قلوبنا”. ولاشك في أن بقاء الإيمان في قلوب الجزائريين، وتجذره في نفوسهم هو الذي أعاد هذا المسجد سيرته الأولى، وطهره من الرجس، وأزهق باطل الصليبيين الفرنسيين.
لقد أكرمني الله – العزيز الكريم – فشهدت وأنا ابن خمسة عشر عاما أول صلاة أقيمت فيه، بعد تطهيره من رجس الفرنسيين، وكان يوم جمعة.. وميزة هذه الصلاة أنها كانت بإمامة الإمام محمد البشير الإبراهيمي، الذي قضى سواده وبياضه من أجل إعزاز الإسلام، وتحرير الجزائر – أرض الإسلام- وطرد الفرنسيين – أعداء الإسلام- منها.. وكان ذلك مما جاهد في سبيله الجزائريون من رمزهم الأول الأمير المجاهد عبد القادر بن محي الدين، إلى رمزهم الثاني الإمام عبد الحميد ابن باديس، وسائر المجاهدين والشهداء..
وقد تذكرت أن الحاج الحبيب اللمسي – رحمه الله – صاحب “دار الغرب الإسلامي” للنشر سلّم لي- في أحد أيام 1996 ببيروت- نسخة مصورة من بحث لأحد الأساتذة اللبنانيين يسمى علي مصطفى أبو غنيم، الذي قدّم هذا البحث لكلية الإمام الأوزاعي في بيروت، وكأن هذا البحث يحمل عنوانا لافتا هو “دراسة مقارنة بين خطبتي قاضي صلاح الدين والبشير الإبراهيمي عند انتصار المسلمين في حطين وفي الجزائر”. وخطيب الجمعة في المسجد الأقصى هو الإمام محيي الدين بن زكي الدين، وكان قاضيا على دمشق، فاستقدمه المجاهد صلاح الدين الأيوبي لينال شرف صلاة أول جمعة في المسجد الأقصى بعد طرد الصليبيين منه ومن فلسطين، التي سيحررها – بإذن الله عز وجل- ومعها المسجد الأقصى، المجاهدون الصادقون، لا “العبيد” الموالون لأعداء الإسلام في طول العالم الإسلامي وعرضه..
أورد الأستاذ علي مصطفى أبو غنيم نصّي الخطبتين، خطبة محي الدين بن زكي الدين “وقد كساه الله البهاء، وأكرمه بكلمة التقوى، وأعطاه السكينة والوقار والسناء، (فكانت) خطبة عظيمة، سنيّة فصيحة بليغة”. (ابن الأتير: البداية والنهاية. ج7. ص 181- دار الإمام مالك بالبليدة). ثم أورد خطبة الإمام محمد البشير الإبراهيمي في جامع كتشاوة، ووصف عمر بهاء الدين الأميري، الشاعر والدبلوماسي والمفكر السوري – تلك الصلاة “بأنها صلاة ليس بينها وبين الله حجاب”. (يوميات وأيام عمر بهاء الدين الأميري. باسل الرفاعي. ص 291).
عرف الأستاذ علي مصطفى أبو غنيم في بحثه الخطابة والبلاغة وأهميتهما في تبليغ المعاني الجليلة، وتأثير ذلك على المتلقين.. ثم تكلم عن الفصاحة والبلاغة، في الخطبتين التاريخيتين، “الفريدتين” من خلال براعة الاستهلال، والسجع، والجناس، والاقتباس، والطباق، والمقابلة، والمثل، والاستفهام، والنداء.
وصف الأستاذ علي مصطفى خطبة الإمام الإبراهيمي بـ “الفذة، التي حوت الكثير من وجوه البلاغة والبيان”، وذكر الإمام بأن الاستعمار كالشيطان الذي خرج من الأرض، ولكنه لم يخرج من ألسنة بعض الناس وقلوبهم، وحذرهم من التعامل معه إلا فيما اضطروا إليه.. ولكن بعض من قدّر لهم أن يكونوا في الصف الأول من المسئولية كانوا صما بكما عميا.. وصارت فرنسا أعزّ لديهم من كل عزيز..
وختم الأستاذ هذا المبحث بقوله: “ولو تأملنا خطبة الشيخ محمد البشير لوجدناها واضحة المعاني، محددة الأهداف، بعيدة عن التكلف والتعقيد، تشع فيها آيات الإخلاص والصدق والحرص على قومه..”.
وأنهى الأستاذ بحثه بالتأكيد على أن الحروب الصليبية القديمة والحديثة، المبطّنة حينا والمعلنة حينا آخر واحدة..
إن أغبى الأغبياء – وإن زعم أنه أذكى الأذكياء- هو من ينخدع لكلام المسئولين الغربيين، وليتذكر “المسلمون” أن الجنرال الإنجليزي ألانبي قال في سنة 1917 عند احتلاله مدينة القدس: “اليوم انتهت الحروب الصليبية”.. كما أن أخاه الصليبي الفرنسي الجنرال غورو، قال بعد بضع سنوات من ذلك، وعند احتلال مدينة دمشق، وأمام ضريح المجاهد صلاح الدين الأيوبي: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”.
إن هؤلاء الحكام العرب الذين يسارعون في الصهاينة، ويستقبلونهم ونساءهم في القصور، ويهدون إليهم أغلى الهدايا يعمون عما يكابده ويعانيه الشعب الفلسطيني الذي جاءه كثير مما هو فيه من جانب بعض مسئوليه الذين يزعمون أنهم يسعون لتحريره.. وما يزيدونه إلا قيودا. وإلقاء به في فم أشد الناس عداوة للذين آمنوا..
إن كل ما يقع في فلسطين لن يجعلنا نيأس من تحريرها من النهر إلى البحر.. وإن طال الزمان.. واستقوى الصهاينة بالعملاء العرب والحلفاء من أبناء الغرب.. ذلك وعد الله، وهو وعد غير مكذوب.
ولهذا فإن أغبى الأغبياء من الغربيين من يظن أن الأمور ستبقى على ما هي عليه إلى الأبد، فالله يداول الأيام بين الناس، والعاقبة للذين صبروا، وصابروا، ورابطوا، وجاهدوا و”كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله”، “وما النصر إلا من عند الله”. وتحية للصامدين في فلسطين المجاهدة.