بين لوثر وابن باديس
بقلم: د. نورالدين ثنيو-
بين لوثر (1483- 1546) وابن باديس (1889- 1940) علاقة جوهرية هي السَّمت الإصلاحي الذي التزم به كل واحد منهما لحد العقيدة التي يتماهى معها الإنسان إلى الرمق الأخير. فالمسافة الزمنية التي تفصل بينهما، خمسمئة سنة، هي فاصل تاريخي، ولم تكن أبدا فاصلا في فهم الدين والدنيا في سياقها الحضاري وفي رَاهِنيتها التلقائية عندما تتدفق بالمعاني والحقائق الجديدة.
فقد جاء لوثر بإصلاحاته في سياق زمني ينم عن نهاية العصر المدرسي السكولاستي الذي شارف على الانتهاء، وينتظر تشكل بيئة حضارية جديدة، فكانت تعاليم مارتن لوثر هي المادة الحيوية التي أشَّرت إلى بداية عصر. كذلك كانت الإصلاحات التي جاء بها ابن باديس، في سياق شارفت فيه النزعة الطرقية البليدة على لفظ أنفاسها الأخيرة، ليقيم مكانها حالة جديدة من التدين قائمة على عقيدة التوحيد والبحث الدائم عن الإسلام الصحيح.
فالحركة الإصلاحية على ما تمثلها ابن باديس هي امتداد أمين للتجربة الإصلاحية في العالم الأوروبي، بالمعنى الذي يستوفي البعد الإنساني للدين، ويؤكد بشرية الإنسان والنظرة الواقعية لأمور الدنيا والدين، أي احترام المجالات والميادين كوقائع جديدة يتطلب التعامل معها من وحي جدّتها وحداثتها. ولعلّ ما يؤكد تواصل النهضة العربية الحديثة، على عهد ابن باديس، مع النهضة الأوروبية على عهد لوثر، هو التعبير عنها بالدين عندما يعني إصلاح العقيدة.
يرى ابن باديس في هذا الصدد: «أنه كانت الكتب المقدسة عند الأمم السابقة، ومنهم أهل الكتاب، مقصورة على الكهنة ورجال الدين دون غيرهم من جميع المؤمنين بها، فلا تصل إليها يد لامس، ولا تفتح لذي فكر ونظر، وبذلك توصّل أولئك الرؤساء الروحيون إلى استبداد في التشريع والتحجير على العقول، والتصرف في الأموال والأبدان، وقد قاست أمم أوروبا من إكليروسها ألوان العذاب في العصور الطوال، ولم يصل إلى ما وصلت إلا بعد أن كسّرت ذلك النير وأوقفت سلطة أولئك الرؤساء عند حد محدود، وما عرفت كتب الأناجيل إلا بعد أن نهض لوثر بإصلاحه المشهور». في هذه الفقرة ما ينم عن فهم إنساني للدين الذي ينهض بإصلاح الوضع البشري والعمراني لكل الناس، وإجرائية الإصلاح، كما تعامل معه ابن باديس في إطار جمعية العلماء المسلمين التي أسسها عام 1931، هي التي سمحت له بالتعامل مع الوضعية الاستعمارية في الجزائر، كونها منافية للتاريخ، ومناهضة لمسار أوروبا ذاتها عندما تنكرت لتجربة الإصلاح الكبير مبدع النهضة ومنشئ الحداثة. فحالة العالم العربي، ومنه الجزائر، تستدعي إصلاح العقيدة كإمكانية لامتلاك الوعي السياسي والثقافة التاريخية المرشحة لبناء دولة قائمة على مؤسسات اعتبارية، يندرج فيها الفرد ويتحوّل إلى مواطن كشرط لازب لوجود الدولة الحديثة.
فالإصلاح الديني كما هو معروف، ظهر أول ما ظهر في أوروبا في القرن السادس عشر على يد القس الألماني مارتن لوثر، الذي انتقد الكنيسة في أطروحاته المعروفة، التي أسس على إثرها المذهب البروتستانتي، وتجربة الإصلاح الكبير، كما عرف لدى الأوروبيين بعد ذلك، سارت مساوقة لحركة التقدم العام الذي انتاب أوروبا طوال القرون اللاحقة: عصر التنوير قرن الثامن عشر، عصر الثورات السياسية القرن التاسع عشر، وما تلاه من عصر الاستعمار والسياسة الدولية. وهذا ما كان يعنيه ابن باديس نفسه، ويدرك أيضا لماذا تهاب الإدارة الاستعمارية من الحركة الإصلاحية الدينية في الجزائر.
إن الإصلاح كفكرة أو مفهوم في الحالة الجزائرية يحتاج إلى إعادة بعثه من جديد، عندما تتوفر وسائله وآلياته، خاصة لحظة ما بعد الحرب العالمية الأولى، التي انفرجت فيها بعض الأفكار المتعلقة بحرية الشعوب واستقلالها ومفاهيم السيادة وتقرير المصير وحقوق الإنسان والمواطن. فقد كان هذا الخطاب معروفا في الجزائر بحكم الوجود الفرنسي فيها، لكن على سبيل حرمان الشعب منه، وهو ما لا يستقيم مع مفهوم الحداثة السياسية، التي يجب أن تعامل الشعب معاملة العنصر المكوّن للدولة، وهذا ما كان مفهوما لدى السلطة الاستعمارية ولا تعمل على تحقيقه في الجزائر، وهو ما كان أيضا مفهوما لدى النخبة الإصلاحية والوطنية والمثقفين الأحرار ويسعون إلى تحقيقه في الجزائر.
يوضح ابن باديس هذه النقطة، على النحو التالي :»إن العالم الغربي اليوم، بلغت منه الروح الوطنية غايتها، فمن المستحيل أن يبقى العالم الشرقي، مع ما بينهما من اتصال فكري واقتصادي وسياسي، محروما من هذه الروح، بل نواميس النمو الاجتماعي قاضية بأنها لا بد أن تصل فيه إلى ما وصلت إليه في أخيه. فسريان الروح الوطنية في المسلمين، كجميع الأمم الشرقية، أمر واقع». يقين ابن باديس، أن ما جرى ويجري في الغرب، واقع لا محالة في عالم الشرق ومنه الجزائر، بحكم الصلة المحكمة بين الشرق والغرب. والمسألة برمتها، كما يرى دائما ابن باديس، أن هناك خطابا استعماريا يتجشم دائما محاولة مواراة والتستر على الحقيقة الجديدة، التي انتابت الشرق كله في محاولته للنهوض والإصلاح والتقدم… يقول ابن باديس: «إن ساسة الغرب يعلمون هذه الحقيقة حق العلم، غير أن منهم من تَغْلُب عليهم الروح الاستعمارية، فيتوجسون خيفة من تنبه الشرق ويعاكسون نهضته ويحاولون قتل روح وطنيته. ومنهم من تَغْلُب عليهم الروح الحكيمة فيسايرون نهضة الشرق لتجري في روحه الوطنية في مجرى الاعتدال، ويحفظ أبناؤه أيادي الغرب، ويعيش الجميع في إخاء وهناء وسلام».
إن مقاربتنا لمفهوم الإصلاح كما تعامل معه ابن باديس والحركة الإصلاحية بشكل عام أن مقوِّماته قد صادرتها السلطة الاستعمارية عندما استولت طوال القرن التاسع عشر على الأوقاف الإسلامية وألحقتها بالدومين العام، كما أنها قيدت شؤون العبادات الإسلامية وألحقتها بالنظام الحكومي وهو ما ينافي تماما مبدأ فصل الدين عن الدولة، كما يقر بذلك قانون الفصل لعام 1905. فهو نوع من الاستيلاء الذي يجب أن يرتب عبر الحركة التاريخية حالة من المطالبة للجهة المحرومة منه، لأنه يتعلّق بحياتها ووجودها. فقد كان مطلب فصل الدين الإسلامي عن سلطة الدولة مطلبا اجتماعيا وجماعيا أيضا من قبل الجزائريين، الذين ألحوا دائما عليه، بداية من الشبان الجزائريين إلى أنصار حزب انتصار الحريات الديمقراطية.
هذا الجانب كان متواريا عن المجال العام في الجزائر، ولم يكن النظام الفرنسي يسمح بظهوره لأنه، عن تجربة تاريخية، يدرك مآلات الحركة الاصلاحية وحيويتها على صعيد التطور العام في فرنسا وأوروبا بشكل عام، كما أنه يدرك القيمة الإجرائية لمبدأ الفصل، الذي رسّخ النظام العلماني في إدارة الدولة والمجتمع، ومنح دينامية جديدة وعملية للسلطات التي تشّكل منظومة الدولة الحديثة. فقد تقاطع تاريخ فرنسا مع تاريخ الجزائر، ومن ثم تقاطع التطوّر مع الحرمان، وحَثَّ الطرف المحروم على استعادة ما اغتصب منه، حتى لو تم ذلك عبر السياسة. وبالمختصر، نقول: إن الحركة الإصلاحية التي قادها ابن باديس في الجزائر هي في جزء كبير منها محاولة لاستعادة مقوِّمات الذات الجزائرية من إسلام وعربية وهي حالة تاريخية قلمّا سادت منطقة من مناطق العالم العربي والإسلامي. فإذا كانت الحركة الإصلاحية قد اجتاحت كل العالم العربي، إلا أنه وجد تفاوت أيضا في التعبير عن هذا الإصلاح، من حيث الإثراء والتنويع ومن حيث الطرق والمسالك. وكل ذلك يساوق ويجاري فكرة الإصلاح الديني، سواء وعت الشعوب الحديثة ذلك أم لم تعِ، لأن تاريخها اندرج ضمن التاريخ الكبير ذي المدى الطويل، على رأي بروديل.
د. نورالدين ثنيو- كاتب وباحث جزائري