بين أحمد رضا حوحو وعبد الرحمان شيبان
بقلم: أ.د. مولود عويمر-
في ذكرى وفاة الشيخ عبد الرحمان شيبان أنتهز هذه الذكرى الخالدة للكتابة عن علاقته المتينة مع الأديب الجزائري أحمد رضا حوحو الذي جمعتهما معا الأقدار في قسنطينة بين 1948 و1956.
وبقي الشيخ شيبان وفيا لعهد الصداقة، فقد كان له الفضل في تعرف جيلي من الطلبة الثانويين على أدب أحمد رضا حوحو، فهو الذي أدرج نصوصه في الكتب المقررة في الأدب العربي حينما كان مفتشا عاما في وزارة التربية الوطنية في السبعينات من القرن الماضي.
وتعرفنا بعد ذلك على روائع الأستاذ حوحو وأدركنا قيمتها الفنية والأدبية التي كشف عنها الأكاديميون أبو القاسم سعد الله وعبد الله الركيبي وعبد الملك مرتاض وأحمد منور وصالح الخرفي في كتبهم النفيسة التي درسوا فيها حياة هذا الأديب الشهيد وأعماله الأدبية.
التعارف في معهد عبد الحميد بن باديس:
تعارف عبد الرحمان شيبان وأحمد رضا حوحو في معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة في عام 1948. فنمت بينهما أواصر الصداقة والمودة الدائمة. كان مسار كل واحد منهما مختلفا. فشيبان المولود في بلدة الشرفة بالبويرة درس في جامع الزيتونة بين 1938 و1947، وتحصل منه على شهادتي الأهلية والتحصيل. وعرف خلال هذه الفترة بنشاطه الطلابي في رحاب جمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين التي ترأسها سنة واحدة.
أما أحمد رضا حوحو المولود في سنة 1910 بسيدي عقبة بمنطقة بسكرة فقد درس العربية في مسقط رأسه وتعلم الفرنسية في ثانوية سكيكدة. ثم هاجر إلى المدينة المنورة حيث أتيحت له فرصة الالتحاق بمدرسة العلوم الشرعية ونيل الشهادة العالية في عام 1938. وعمل بعد ذلك مدرسا في هذه المدرسة الشرعية ومشاركا في الصحافة بكتاباته القصصية وترجمة نصوص أدبية من الفرنسية إلى العربية.
في عام 1947 فتحت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين معهدا علميا للعلوم الشرعية أطلقت عليه اسم رئيسها الأول الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي كان يحلم بتأسيس معهد إسلامي ثانوي وكلية شرعية في الجزائر تستقبل طلبته المتخرجين من جامع الأخضر والطلبة الجزائريين النجباء غير القادرين على السفر إلى المغرب وتونس ومصر لمواصلة دراساتهم العليا.
التحق حوحو بمعهد عبد الحميد بن باديس بعد عودته من الحجاز الذي قضى فيه أكثر من عشرين عاما، كمراقب عام، بينما انضم شيبان إلى هيئة التدريس بهذا المعهد بعد عودته من جامع الزيتونة.
في رياض الأدب
توجت الصداقة بين الرجلين بتأسيس جمعية أدبية اسمها "إخوان الصفا" التي سرعان ما تحوّلت إلى نادي أو صالون أسبوعي يجمع نخبة من المثقفين القسنطنيين في دار حوحو يتناقشون فيه قضايا الأدب والثقافة. وكان من ثمرة هذه اللقاءات تأليف حوحو لرائعته " مع حمار الحكيم".
قال الشيخ شيبان في هذا الشأن: " في ليلة من تلك الليالي الزاخرة، قدمت للأخ حوحو " حماري قال لي" للأستاذ توفيق الحكيم ...فالتهمه في سهرة واحدة. وأعاده إلي في الغد، وهو معجب بموضوعه، مأخوذ بأسلوبه، فقلت... لا تدع هذه الجذوة التي أوقدها الأديب الحكيم في نفسك تخمد دون أن تقوم بعمل ما ! فقال: ما ذا تريدني أن أعمل؟ قلت: تجند قلمك لتوجيه هذا الشعب الذي كثر مستغلوه وقل خادموه على نحو ما فعل توفيق الحكيم بمصر. وذلك ما كان."
وهكذا نشر حوحو سلسلة من المقالات في جريدة البصائر في هذا المعنى فلقيت صدى كبيرا، ونالت إعجاب القراء وتقديرهم، وجذبت لصاحبها شهرة أدبية. وجمعت هذه المقالات فيما بعد، ونشرت في الجزائر بتقديم الشيخ شيبان.
معا في عالم الصحافة:
في عام 1949 أسس أحمد رضا حوحو في قسنطينة مع أحمد حماني والصادق حماني وأحمد بوشمال جريدة هزلية نقدية إسمها الشعلة. صدر عددها الأول في 15 ديسمبر 1949. بينما صدر العدد الأخير (54) في 8 فبراير 1951. وهي صحيفة أسبوعية تصدر كل يوم الخميس.
وساهم الشيخ شيبان في هذه الجريدة بأسماء مستعارة وبدون توقيع. وقد اطلعت على أعداد كثيرة من هذه الجريدة فلم أجد فيها أسماء صريحة للكتاب الذين كانوا يعالجون مواضعهم ويناقشون قضاياهم بنبرة شديدة وسخرية لاذعة ونقد مكشوف.
توقف الأستاذ أحمد رضا حوحو عن الكتابة حتى تساءل عنه القراء، فكتب الشيخ عبد الرحمان شيبان مقالا في جريدة البصائر متسائلا: "أين حمار الحكيم؟" الذي عوّد قراءه بموضوعات هامة في مختلف الفنون بأسلوب طريف وجذاب. وحثه على العودة إلى الكتابة ومواصلة نضال الكلمة.
واستجاب أحمد رضا حوحو لنصيحة الشيخ شيبان، وأعلن عن عودة حمار الحكيم بصراحته وجرأته المعهودة لكنه لم يقدم الأسباب التي منعته من الكتابة طوال تلك المدة. ورغم عزيمته المعلنة، فإن حوحو لم يكتب ما وعد به، فبعد فترة قصيرة، ظهرت له مساهمة وهي عبارة عن ردود على رسائل القراء وليس مقالا في الموضوع المنتظر.
يستأنف حوحو بعد ذلك سلسلته الشهيرة في أربع حلقات، ثم ينشر بريد حمار الحكيم في حلقتين. لقد جاءته رسائل كثيرة من المعجبين والساخطين. ولعل أغربها تتمثل في تلك الرسالة الطويلة التي اتهم فيها صاحبها أحمد رضا حوحو بوسخ جريدة البصائر لأنها جريدة دينية محترمة ولا علاقة لها بالحديث عن الحمار وفصيلته. وقال مراسل آخر أنه يخشى أن تصبح هذه الجريدة الإصلاحية حديقة للحيوانات، أو تتحوّل إلى كتاب في علم الحيوان!
كتب الأستاذ أحمد رضا حوحو سلسلة من المقالات في جريدة البصائر على ستة أساتذة معهد ابن باديس، وهم: نعيم النعيمي، أحمد حماني، عبد الرحمان شيبان، عبد القادر الياجوري، العباس بن الشيخ الحسين، حمزة بوكوشة. ورسم لكل واحد منهم بورتريا مزج فيه بين الجد والفكاهة.
ووصف حوحو صديقه شيبان بالبرجوازي الأنيق الذي يعشق الأدب والبلاغة ويحب شراء الكتب والمجلات الشرقية التي يتداول على مطالعتها زملاؤه وطلبته في معهد ابن باديس.
وكتب الشيخ شيبان مقالات أدبية واجتماعية وسياسية في جريدة البصائر، ولم يتوقف عن الكتابة إلا بعد مصادرة البصائر وتوقيفه من طرف السلطة الاستعمارية في أبريل 1956.
شيبان يكتب عن حوحو في الصحافة التونسية:
مر عام على استشهاد حوحو في عام 1957، والشيخ شيبان كان حينئذ بتونس أين كان يعمل في لجنة الإعلام لجبهة التحرير الوطني، فكتب عنه مقالا في جريدة الصباح التونسية في 3 حلقات(1) رسم فيه الأجواء الصعبة في قسنطينة التي كان يعيش فيها حوحو، وبيّن الظروف التي استشهد فيها تحت تعذيب رجال الأمن الاستعماريين.
كما قدم شيبان تعريفا عن هذا الكاتب وأسلوبه ونزعته التحررية وجرأته الأدبية، وكشف أيضا عن جوانب مجهولة في شخصيته، تبرز كفاءاته ومواهبه المتعددة التي لا يعرفها إلا من كان قريبا منه مثل الشيخ شيبان.
قال الشيخ شيبان في هذا الشأن: " يحسن كاتبنا الفقيد إلى جانب مهارته في الأدب والصحافة والفن والإدارة فنونا تطبيقية عديدة، فقد باشر فن التمريض بمعهد ابن باديس أمدا طويلا، ويحسن الضرب على الآلات الكاتبة: العربية والفرنسية، ويتقن تجليد الكتب إتقانا...وهو يحسن استعمال وإصلاح أدوات المنزل العصرية كالراديو والكهرباء."
بهذا الوصف الجميل أختم مقالي داعيا الله أن يرحم الأديبين، ويسكنهما فسيح جنانه، ويعوّض عنهما الأمة الإسلامية علماء عاملين مخلصين.
الهوامش:
1- محمد صالح الجابري. النشاط العلمي والفكري للمهاجرين الجزائريين بتونس. الدار العربية للكتاب-الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، تونس-الجزائر، 1983، ص 399.