كيف أجرؤ على جرح وإدماء قلبي
بقلم: محمد الهادي الحسني-
قائل هذه الكلمة “كيف أجرؤ على جرح وإدماء قلبي”، هو رجل عالم عاش طوال حياته أبيا عزيزا كريما، ولم يسمح لأحد – قريبا أو بعيدا- أن يمس هذا الإباء وهذه العزة وهذه الكرامة.. وأحسبه ممّن تجسد فيهم في عصرنا الحاضر مبدأ “العزة” التي حصرها الله -عز وجل- في ذاته -سبحانه وتعالى- وفي رسوله -صلى الله عليه وسلم- وفي صادق المؤمنين، حيث جاء في كتاب الله الذي ينطق بالحق: “ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين”.
إن لهذه العزة ثمنا غاليا، لا يقدر على دفعه إلا من كان قلبه عامرا بالإيمان، ومعلقا بالرحمن، فلا يكبر في صدره كائن من كان..
لقد ابتلاه الله -عز وجل- بابتلاءات لو ابتلي بها كثير غيره لهان، ورضخ، وأعطى الدنية في دينه ووطنه.. وما قيمة الإنسان من غير دين، ووطن؟ إذ لا دنيا لمن لم يحي دينا ووطنا، ويبيعهما كما يبيع أزهد الأشياء وأبخسها.. مع أن الدنيا كلها لاتساوي عند الله جناح بعوضة – كما قال من لا ينطق عن الهوى..
إن الثمن الباهظ الذي دفعه هذا العالم العامل هو حرمانه من أعز ما يملكه الإنسان المؤمن بعد الإيمان بالله -عز وجل- وبرسوله، حرمانه من وطنه، وأهله، وعشيرته.. حيث نفي مرتين، مرة من الجزائر إلى تونس، ثم من تونس إلى مصر..
إنه العالم العامل، المجاهد بلسانه وقلمه، الشيخ إبراهيم اطفيش، الذي نفته فرنسا المجرمة.. من الجزائر إلى تونس، ثم من تونس إلى مصر، ولو أمكنها أن تؤذيه في مصر لما قصرّت في ذلك..
وأما هذه الكلمة فقد قالها الشيخ أطفيش لمحام فرنسي اسمه “بارون”، كلف ليدافع عنه، بعد القرار الظالم الذي اتخذته فرنسا بطرده من تونس إلى مصر.
في لقاء جمع هذا المحامي الفرنسي مع المقيم الفرنسي في تونس، قال هذا الأخير للمحامي: “سترى رجلا يبغض فرنسا بغضا ليس له نظير، ومع ذلك فإن قال لك إنه يحب فرنسا فإني سأتراجع عن قرار إبعاده، مع أني متيقن بأنه لن يقولها”.
ثم التقى المحامي الفرنسي بالشيخ اطفيش، وحاول أن يستلّ منه تلك الكلمة، لينجو من تنفيذ قرار الطرد، ودون أن يفكر الشيخ أو يتأنى قال لذلك المحامي: “عجبا أيها الكومندان بارون تسألني عن حب فرنسا، والحب محله القلب، فكيف أجرؤ على جرح وإدماء قلبي..” وانتهى اللقاء بأن قال ذلك المحامي للشيخ: “je sais”. (د.محمد ناصر: الشيخ إبراهيم اطفيش في جهاده الإسلامي. ط. 5.ص 86). وقد حدثني الشيخ علي مغربي أن فرنسا لم تسمع كلمة خير من اثنين هما الشيخان الإبراهيمي واطفيش.. ومن أجمل ما قيل في معنى عداوة الأعداء قول الإمام عبد الحميد ابن باديس: “الحب والبغض سلامان لازمان في الحياة، ولا بقاء لأمة بدونهما إذا استعملتهما في محلهما”. (مجلة الشهاب، سبتمبر 1937. ص321).
ولم يتخل الشيخ عن عزته وجزائريته -رغم ضيق معيشته، حتى لقي ربه- رحمه الله، ورزق الأمة الإسلامية رجالا أعزة يغرسون العزة في نفوسها.