عبد الحميد بن باديس.. رائد الإصلاح في الجزائر
بقلم: الشارقة: «الخليج»-
يعتبر الشيخ عبد الحميد بن محمّد بن باديس، أحد أهم الأعلام الفكرية والشخصية في تاريخ الجزائر الحديث، ورائد النهضة الفكرية والإصلاحية والقدوة الروحية لحرب التحرير الجزائرية؛ حيث اتُخذ يوم ميلاده عيداً للعلم في الجزائر، وهو الذي ناضل طوال حياته في سبيل نهوض أمته ومجتمعه، وكرس نفسه في سبيل تحرر أمته من الاحتلال وجعلها أمة مستقلة في حضورها وتاريخها وإرثها؛ إذ يقول:«إن الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا، ولا يُمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا لو أرادت، بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها وأخلاقها وعنصرها وفي دينها، ولا تريد أن تندمج».
ولد الشيخ عبد الحميد بن محمد بن المصطفى بن مكي بن باديس، يوم 4 ديسمبر/ كانون الأول عام 1889، من عائلة عريقة في الحسب والنسب، تعود جذورها إلى بلكين بن زيزي بن مناد، ويكنى بأبي الفتوح وينتمي إلى قبيلة صنهاجة الأمازيغية.
حفظ ابن باديس القرآن على الشيخ محمد المداسي، ولإعجاب المداسي بذكائه وسيرته الطيبة قدّمه ليصلي بالناس صلاة التراويح ثلاث سنوات متتابعة في الجامع الكبير، وفي سنة 1903 درس على الشيخ أحمد أبو حمدان لونيسي الذي كان ينتمي إلى الطريقة التيجانية، فأخذ يعلمه في جامع سيدي محمد النجار مبادئ العربية والمعارف الإسلامية ويوجهه وجهة علمية أخلاقية. وكان ابن باديس يعترف له بالفضل، وبما كان له من تأثير في نفسه.
التكوين المبكر
ويمكن النظر إلى عدة عوامل أسهمت في تكوين شخصية الشيخ ابن باديس الفذة، العامل الأول في تكوينه من الناحية العلمية يعود إلى أسرته، وخصوصاً أباه الذي رباه ووجهه وجهة أخلاقية وعلمية وحماه من المكاره صغيراً وكبيراً على حد تعبيره، والعامل الثاني يرجع إلى بيئة الدراسة وتأثير المربين من المعلمين والشيوخ الذين نمّوا استعداده وتعهدوه بالتوجيه والتكوين، وكان يطيب لابن باديس أن يذكر فضل أساتذته عليه، في تخطيط مناهج العمل في الحياة، فيقول: «وأذكر منهم رجلين كان لهما الأثر البليغ في تربيتي وفي حياتي العلمية.. حمدان لونيسي القسنطيني نزيل المدينة المنورة ودفينها، وثانيهما الشيخ محمد النخلي المدرس بجامع الزيتونة المعمور رحمهما الله».
وله مع كل من هذين المربيين واقعة هي التي جعلته يتجه اتجاهاً معيناً سواء من الناحية العلمية أو النظرية، ويقول في هاتين الواقعتين: «وإني أذكر للأول (حمدان لونيسي) وصية أوصاني بها، وعهداً عهد به إلي. وأذكر أثر ذلك العهد في نفسي ومستقبلي وحياتي وتاريخي كله، فأجدني مديناً لهذا الرجل بمنة لا يقوم بها الشكر، فقد أوصاني وشدد عليّ أن لا أقرب الوظيفة ولا أرضاها ما حييت، ولا أتخذ علمي مطية لها، كما كان يفعله أمثالي في ذلك الوقت. وأذكر للثاني (محمد النخيلي) كلمة لا يقل أثرها في ناحيتي العلمية؛ وذلك أني كنت متبرماً بأساليب المفسرين وإدخالهم لتأويلاتهم الجدلية واصطلاحاتهم المذهبية في كلام الله، ضيق الصدر من اختلافاتهم فيما لا اختلاف فيه من القرآن، وكانت على ذهني بقية غشاوة من التقليد واحترام آراء الرجال حتى في دين الله وكتاب الله فذاكرت يوماً الشيخ النخلي فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق فقال لي: «اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة، وهذه الأقوال المختلفة، وهذه الآراء المضطربة، يسقط الساقط ويبقى الصحيح، وتستريح»، فوالله لقد فتح بهذه الكلمة القليلة عن ذهني آفاقاً واسعة».
ولا ينسى الشيخ عبد الحميد أن يبين عاملاً آخر من أهم العوامل وهو الشعب الجزائري، وما ينطوي عليه من استعدادات عظيمة للخير، وهو ما عمل على تنميته والنضال من أجل تغليبه على جوانب النقص وعوامل السكون. ويصف الأمة الجزائرية بأنها أمة معاونة على الخير منطوية على استعدادات الكمال.
والعامل الأخير الذي يفوق جميع العوامل الأخرى والذي كرس له ربع قرن من حياته، هو القرآن الكريم الذي صاغ نفسه، وهز كيانه.
إصلاح العقيدة
وقد شرع الإمام ابن باديس في العمل التربوي، وانتهج في دعوته منهجاً يوافق الفكر الإصلاحي في البعد والغاية، وإن كان له طابع خاص في السلوك والعمل يقوم على إصلاح عقيدة الجزائريين بالدرجة الأولى؛ لذلك كانت دعوته قائمة على أخذ العقيدة من منابعها وعلى فهم الأوَّلين، والتحذير من الشرك ومظاهره، ومن بدعة التقليد الأعمى، ومن علم الكلام وجنايته على الأمّة؛ ذلك لأنّ من أهمّ أسباب ضياع التوحيد ابتعاد الناس عن الوحي، ومرض الجمود الفكري والركون إلى التقليد والزعم بأنّ باب الاجتهاد قد أغلق في نهاية القرن الرابع.
في حوالي سنة 1922 تبلورت في الأوساط الإصلاحية فكرتان تختلفان في المنهج، وتتفقان في الهدف، الفكرة الأولى ترى أن سبيل الإصلاح يتمثل في توجيه الطاقات والجهود نحو ناحية التربية والتعليم وتكوين نخبة من الدعاة مدربة على مناهج الدعوة، مسلحة بالعلم والمعرفة، مطلعة على أصول الدين وعقائده، وكان من أصحاب الفكرة في ذلك الوقت الشيخ البشير الإبراهيمي، وكان الرأي الثاني يقوم على أساس ثوري عنيف يزلزل سلطان البدع المستحكمة، ويهدم العادات المتمكنة، وهذا الرأي يمثله الشيخ عبد الحميد بن باديس ونخبة من الشبان، ومع انتشار الرأي الثاني، أسس ابن باديس جريدة «المنتقد» التي يبين اسمها عن معنى النقد الذي كان يخشاه أرباب الطرق الصوفية التقليدية ويقاومونه في مناهج تربيتهم للمريدين وللجمهور بتلك العبارة المعروفة «اعتقد ولا تنتقد» وأول مقال في الصفحة الأولى عنوانه: «خطتنا: مبادئنا وغايتنا وشعارنا»، ومما جاء فيه أنه لا يتعرض للأشخاص، فيما يختص بأحوالهم الشخصية وإنما يتوجه إلى سلوكهم، الذي يمس شؤون الأمة، وعدد من يتعرضون للنقد، من الطبقات الاجتماعية فقال: «فننتقد الحكام والمديرين والنواب والقضاة والعلماء والمقاديم وكل من يتولى شأناً عاماً من أكبر كبير إلى أصغر صغير من الفرنسيين والوطنيين، ونناهض المفسدين والمستبدين من الناس أجمعين، وننصر الضعيف والمظلوم بنشر شكواه، والتنديد بظالمه كائناً من كان، لأننا ننظر من الناس إلى أعمالهم، لا إلى أقدارهم، فإذا قمنا بالواجب فللأشخاص منا كل احترام».
غير أنّ هذه الصحيفة لم تعمّر طويلاً وتوقّفت بسبب المنع الصادر من قبل الحكومة الفرنسية.
عزيمة صلبة
لكن هذا التوقف لم يُثْنِ عزيمة الشيخ العلامة ابن باديس -رحمه الله- في السعي إلى إصدار مجلة «الشهاب» خلفاً «للمنتقد» تعمل على المبدأ نفسه والغاية ذاتها. وتؤدّي رسالتها النبيلة بكلّ صمود، مصدّرة في الغالب بآيات مفسرة وأحاديث مشروحة واستمرت حتى عام 1939.
عمل ابن باديس خلال فترات حياته على تقريب القرآن الكريم بين يدي الأمّة مفسّراً له تفسيراً سلفيّاً، سالكاً طريق رُوّاد التفسير بالمأثور، معتمداً على بيان القرآن للقرآن، وبيان السنّة له، آخذاً في الاعتبار أصول البيان العربي، كما كانت عنايته فائقة بالسنّة المطهرة وبالعقيدة الصحيحة التي تخدم دعوته الإصلاحية، فوضع كتابه «العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية»، على نهج طريق القرآن في الاستدلال المتلائم مع الفطرة الإنسانية، بعيداً عن مسلك الفلاسفة ومنهج المتكلّمين، وحارب البدع والتقليد ومظاهره والتخلّف ودعا إلى النهضة والحضارة في إطار إصلاح المجتمع، وسانده علماء أفاضل في دعوته ومهمّته النبيلة، كما ساعدته خبرته بالعلوم العربية -آدابها وقواعدها- لذلك جاء أسلوبه في مختلف كتاباته سهلاً مُمتنعاً، بعيداً عن التعقيد اللفظي، وكذا شعره الفيّاض.
يومية الخليج - تاريخ النشر: 18/06/2017