الفضيل الورتلاني الجزائري الذى ربط المشرق بالمغرب
بقلم: عطاء الله أحمد فشار-
“إن المدرك لحركة التاريخ يعلم أن فجر كل نهضة يسبقه ليل طويل، وكما انطلقت أمم الأرض جمعا ستنطلق أمتنا اليوم، وهي بلا شك قادرة على تحصيل أسباب القوة والمنعة ولو بعد حين… فقط علينا أن نحسن قراءة حركة التاريخ، وندرك السنن الكونية ونعتبر من مسارات الأمم وتاريخها ونجعل من سلطان العلم هو سبيل النفاذ إلى عوالم الحضارة والرقى والتقدم واللحاق بركب الأمم المتطورة منطلقين من مكوناتنا الحضارية وقيمنا، ومبرزين لفضائل الرجال وأدوارهم عبر الزمان والمكان وما تركوا من أثار.."
قال فضيلة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله:” ...وظل الشيخ البشير الإبراهيمي، ومعه بعض الجزائريين يرتبون الأمور بين القاهرة الموالية للمجاهدين وبين أرض المعركة التي احتدم فيها القتال وتضاعف الشهداء، ولا أنسى منبين أصحاب الشيخ الأخ الفضيل الورتلاني الذي زاملني في الدراسة، وأنا في تخصص الدعوة والإرشاد –قبل مجيء الإبراهيمي ببضع سنين- وكان الشيخ الفضيل عملاقا في مبناه ومعناه ورجلا له وزنه، وكان يتبع الشيخ البشير على أنه تلميذ وفي له ويتعاونان على نصرة القضية الجزائرية بكل ما لديهما من طاقة...".
مقدمة
إن المرحوم الفضيل الورتلاني يعتبر بحق من رواد النهضة الفكرية في العصر الحديث، فعظمته تتجلى في أنه صاحب رسالة آمن بها وضحى من أجلها منذ نعومة أظافره بكل غال ونفيس، فقد هيأته الظروف وتكوينه الثقافي المتين لكي يتحدى الصعاب والعراقيل، و ظل كالطود الشامخ لا يهاب الأعاصير ولا النكبات ولا الدسائس والمؤامرات التي تكاد له من طرف الاستعمار وأذنابه، فعاش مجاهدا بالقلم واللسان وناضل طوال حياته من دون ملل أو توقف .
لقد كان الفضيل الورتلاني أول رجل أخرج الجزائر من محيط النسيان والتجاهل إلى عالم الظهور والبروز في العالم العربي الإسلامي، هذا الرجل الذي لم يقتصر على القول وهو الذي لا يؤمن إلا بالواقع بل كان يتبع القول بالعمل الإيجابي مجندا كل الإمكانات ومواهبه في إيجاد منظمات وهيئات آلت على نفسها أن تعضد الجزائر في كفاحها المرير، إلى جانب مناصرته لكفاح أقطار المغرب العربي، بالإضافة إلى ما كان يكتبه بقلمه حول كبريات الأحداث التي تجري في هذه الأقطار، وقد كان على صلات قوية بكثير من أعلام الإصلاح الإسلامي في المشرق والمغرب والساسة والوطنيين الأحرار، هدفه من وراء ذلك توثيق عرى الأخوة بين أبناء الوطن العربي والإسلامي وربط الجزائريين بتيارات الفكر العربي المعاصر بعد أن ظلت الأبواب موصدة في وجوههم منذ ابتلائهم بالاستعمار، إن هذا الرجل الذي نذر حياته كلها منذ نعومة أظافره، وسخر نفسه لخدمة قضية وطنية دفاعا عن مبادئه المقدسة وحفاظا على ذوبان شخصيته الغالية .
إن هذا الرجل لا جدال بأنه أهل لأن تكتب عنه مؤلفات تغوص في عمق تاريخ هذا الرجل، وتبين لنا بوضوح مدى عظمة ما قدمه الورتلاني في خدمة القضية الجزائرية والمغرب العربي والإسلامي، وما أريد أن أتحدث عنه هنا في هذا الموضوع الذي لا يفي بمقام الرجل هو فترة اندلاع حرب التحرير الجزائرية، وهل ساهم الورتلاني في الثورة خلال مدة أربع سنوات عاشها أثناء الثورة؟، وإن كان هناك عمل يستحق الذكر ففيما يتمثل؟، وإن لم يكن هناك عمل فماهو السبب الذي جعل رجلا في عظمة الورتلاني لا يساهم في الثورة؟، أم أن هناك أطراف أخرى كان لا يرضيها أن يكون الفضيل الورتلاني في خدمة الثورة وفي قيادتها بالخارج بالقاهرة، أين كان يوجد الفضيل الورتلاني لخدمة القضية الجزائرية لما له من ثقافة واسعة وعلاقات كثيرة وحنكة وتجربة.
غير أن البحث في هذا الموضوع فيه نوع من المخاطرة لأنه يكتنفه كثير من الغموض، ولأنه متشابك الأطراف فيما يخص علاقة الفضيل الورتلاني بكثير من الزعماء وتيارات إسلامية ووطنية، مثل جماعة الإخوان المسلمين، وجماعة الشبان المسلمين، وجماعة عباد الرحمان بلبنان، وحركة الانقلاب باليمن التي كان مشاركا فيها، وكذا علاقته بجمال عبد الناصر، وبالطلبة الجزائريين المتواجدين بمصر وبقيادة وفد جبهة التحرير بالقاهرة.
بالإضافة إلى قلة المصادر والمراجع وإن وجدت، فهي أسرار في صدور مقفلة لأشخاص ماتوا أو ما يزالون على قيد الحياة، لكن لا يبوحون بها.
نشأته ومولده :
ولد الأستاذ المرحوم حسنين محمد بن محمد السعيد بن فضيل، المعروف باسم (الشيخ الفضيل الورتلاني) في الثامن عشر من فبراير 1900 م بقرية أنو بني ورثلان دائرة بني ورثلان ولاية سطي، وينحدر من أسرة عريقة ينتمي إلى سلالة الأشراف ولقبه العائلي (حسنين)، وقد نشأ وترعرع في مسقط رأسه وبه حفظ القرآن الكريم وزاول دراسته الابتدائية بالقرية المذكورة، وتلقى مبادئ العلوم على علماء بلدته، نذكر منهم: الشيخ السعيد البهلولي الورثلاني، والشيخ آيت حمودى يحي وغيره.
كما تلقى منذ طفولته المبكرة في أحضان أسرته تربية إسلامية، أورثته الحفاظ على تعاليم الدين الحنيف والتثبت بآدابه ونشأ على كريم الأخلاق والمثل العليا، وجده الأعلى (جد والده) المباشر لأبيه هو الشيخ الحسين الورتلاني، صاحب الرحلة المعروفة باسم (رحلة الورتلاني).
التحاقه بالشيخ عبد الحميد ابن باديس بقسنطينة:
في سنة 1928م انتقل الى مدينة قسنطينة لمزاولة تعليمه الثانوي على يد الإمام عبد الحميد بن باديس، وبعد تخرجه مباشرة تولى التدريس بالجمعية الخيرية التي كانت نواة التربية والتعليم، وقد تخرج على يده عدد كبير من الطلبة لا يزالوا يذكرون ما له عليهم من فضل وإحسان واعتراف له بالجميل، وقد بعث في تلاميذه روحا و ثباتا وأحدث تطورا فكريا لدى طلابه، ونال بذلك رضا أستاذه ابن باديس لما بذله من جهود معتبرة في خدمة العلم والتعليم، وأخذ الشيخ ابن باديس يصطحبه معه أينما حل وارتحل في جولاته التي كان يقوم بها بين الفينة والأخرى لبعض المدن والقرى عبر أنحاء البلاد.
وهكذا لازم الفضيل الورثلاني ابن باديس عدة سنوات كلها عامرة بالعلم والعمل المثمر البناء، وتأثر بأساليبه الخطابية ومواقفه الوطنية في محاربة الضلال والبدع والخرافات التي كانت متفشية آنذاك في الأوساط الشعبية، وسقيت ملكته بغيث ذلك البيان الهامي فأصبح فارسا مثابرا، وحضر اجتماعات جمعية العلماء العامة والخاصة، فاكتسب منها الصراحة في الرأي، والجرأة في النقد والاحترام لمبادئ الأشخاص، إن كل هذه الخصال الممتازة في شخص الورتلاني هي التي جعلت أستاذه ابن باديس يوليه عنايته ويعتمده في المهام الكبيرة التي ربما لا يستطيع غيره من الناس القيام بها، فقد كان يخلف أستاذه في كثير من الاجتماعات والمناسبات وممثلا له في نفس الوقت، وهو ما زال طالبا، وتشتد الحرب المذهبية والصراعات القائمة على أشدها بين الحركة الإصلاحية من جهة، وبين الطرقية من جهة أخرى، فيلعب الفضيل فيها أدوارا إيجابية ذات أثر فعال في ترجيح ميزان القوة إلى جانب الحركة الإصلاحية على اختلاف أهدافها وتعدد مجالاتها، وبعد هذه المرحلة من حياته، وهو ما يزال مواظبا على دروس أستاذه، تناط به مهمة تتلاءم مع طبيعته في حب الاتصال بالجماهير الشعبية وتنسجم مع ميوله نحو الدعوة و التبليغ والتبشير بالمبادئ التي يؤمن بها ويقتنع بصحتها وصدقها، لهذا وجد ضالته في مهمة تمثيل مجلة (الشهاب) التي كانت تصدر في ذلك العهد بمدينة قسنطينة، وقد كان ينشر فيها العديد من البحوث والمقالات القيمة التي تعالج قضايا اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية وطاف أطراف البلاد وعرضها متنقلا باسمها وتكثير أنصارها وتوضيح خطتها وغايتها، وقد قام بهذه المهمة سنة 1932م. وفي نفس السنة قام بعدة جولات عبر مناطق القبائل الصغرى مدنها وقراها، مغتنما هذه الفرصة، فدعا كثيرا من الطلبة للالتحاق بالدروس العلمية بقسنطينة، وقد لقيت دعوته تلك استجابة واسعة وأقبل الطلبة أفواجا أفواجا يتوافدون من كل حدب وصوب ومن كل فج عميق على دروس العلم والمعرفة في جامع الأخضر بقسنطينة، هذا بالإضافة إلى تعريفه وشرحه لمبادئ جمعية العلماء التي كانت آنذاك حديثة العهد بالوجود، والتي لاقت من خصوم العلم معارضة شديدة، ولاسيما من طرف الخونة وأذناب الإستعمار المأجورين.
هجرته إلى أوروبا في إطار الحركة الإصلاحية:
وفي سنة 1936م انتدبته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين للقيام بنشر الدعوة الإصلاحية بفرنسا، وذلك لتوعية العمال الجزائريين المغتربين بأوروبا، حيث تمكن في ظرف سنتين ونصف، من إحداث ما يزيد عن ثلاثين مركزا للدعوة الإسلامية والربط بين الجاليات العربية الإسلامية من جهة، وإسماع صوت الجزائر العربية المسلمة للعالمين الشرقي الإسلامي العربي والغربي الأوروبي من جهة أخرى.
وهكذا ظل الفضيل الورتلاني يعمل في باريس بجد ونشاط ويؤدي رسالة جمعية العلماء بكل ما أوتي من قوة بيان، وشجاعة قلب، ومضاء عزيمة في الأوساط العمالية في فرنسا التي مكنته من الاتصال بكثير من أعضاء الجاليات الشرقية العربية هناك، وفي أواخر سنة 1940م أصبح على يقين من أن السلطات الفرنسية صممت على جعل حد لنشاطه السياسي بعد أن دأبت على تعقب تحركاته تمهيدا لإلقاء القبض عليه، لذلك عقد العزم على السفر إلى القاهرة، وقد تم له ما أراد بفضل أنصار الحركة الإصلاحية بفرنسا الذين ساعدوه في هذه المهمة، خاصة بعد أن لاحت في الأفق السياسي الغربي بوادر حرب عالمية ثانية فغادر العاصمة الفرنسية قاصدا مصر تكلؤه عناية الله وهناك التحق بالأزهر الشريف معقل العروبة والإسلام بأرض الكنانة وتابع فيها دراسته العليا إلى أن نال الشهادة العالمية الأزهرية بكلية أصول الدين والشريعة الإسلامية.
استئناف نشاطه السياسي بمصر:
وفي سنة 1940 م أسس مكتبا بالقاهرة يحمل اسم (مكتب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) الذي كان ممثلا له، وقد قام بعدة اتصالات لدى كثير من الدول العربية الشقيقة لإقناعها بضرورة قبول الطلبة الجزائريين الذين أتموا دراستهم بمعهد عبد الحميد ابن باديس بقسنطينة لاستكمال دراستهم وإتمام معلوماتهم العلمية بكليات ومعاهد الشرق العربي فلبت الدعوة، وتم كل ذلك في ظروف حسنة، فتوالت البعثات العلمية تلو الأخرى من الجزائر نحو الأقطار العربية، وذلك تحت إشراف جمعية العلماء إلى كل من مصر، العراق وسوريا، والكويت، والمملكة العربية السعودية.
كما أن له -رحمه الله- في المشرق العربي أعمال جليلة أخرى منها، انخراطه في كثير من المنظمات الإسلامية التي كان هو على صلة بها في تلك الفترة بالذات، وكتاباته في أغلب الصحف والمجلات التي كانت تصدر في مصر لها طابع إسلامي عربي تحرري.
ففي مجال الدعوى الإسلامية كانت له علاقة أخوية وثيقة بجمعيتي الإخوان المسلمين “والشبان المسلمين” في مصر حتى أنه كان يستخلف أحيانا من طرف المرشد العام للإخوان المسلمين الداعية الإسلامي الكبير الشيخ حسن البنا -رحمه الله- في محاضراته الإرشادية الأسبوعية هذا من جهة، ومن جهة أخرى كانت له روابط متينة بالجمعيات الإسلامية المنتشرة في أطراف دنيا الإسلام والمسلمين، منها: (جمعية عباد الرحمان) في بيروت، هذه الجمعية التي ما فتئت تكن له صدق المحبة وأخلص الوفاء ولم تتخل عنه في أحرج ظروفه حينما تنكر له بعض الأدعياء، ولقد خلدت مآثره حيث أنها قامت بجمع أثاره القلمية وطبعها في كتاب أطلق عليه اسم الجزائر الثائرة، إضافة إلى ما كان يكتبه بقلمه حول كبريات الأحداث التي تجري في هذه الأقطار. وقد كان الفضيل الورتلاني على صلات قوية بكثير من أعلام الإصلاح الإسلامي في المشرق العربي، منهم أمير البيان شكيب أرسلان، ومحب الدين الخطيب، ورشيد رضا، وجمال عبد الناصر، وعميد الأدب العربي طه حسين، وحسن الزيات، والأستاذ العقاد وغيرهم. وهدفه من ذلك توثيق عرى الأخوة بين أبناء الوطن، ومحاولة ربط الجزائريين بتيارات الفكر العربي المعاصر بعد أن ظلت الأبواب موصدة في وجوههم منذ ابتلائهم بالاستعمار والإمبريالية العالمية عبر العصور، ومضى الفضيل في نشاطه هذا غير مكترث بما ستحمله الأيام له في مصر، فكانت لقاءاته بأحرار مصر كلها فرصا للتوعية والتوجيه السياسي، كما كان لخطبه الثورية وقع كبير في جميع الأوساط المصرية خاصة لدى المثقفين من شباب الإخوان المسلمين، ومن أهم أعماله الجليلة التي قام بها بالمشرق العربي مساهمته في تأسيس بعض الهيئات السياسية التي سعى في تكوينها وأسهم في نشاطها بحظ موفور.
1) اللجنة العليا للدفاع عن الجزائر التي أسست بالقاهرة سنة (1942 م).
2) جمعية الجالية الجزائرية التي أسست في نفس التاريخ تقريبا.
3) جبهة الدفاع عن شمال إفريقيا التي أسست أيضا بمصر عام (1944 م).
4) جبهة تحرير الجزائر التي تم إنشاؤها بمصر في نوفمبر سنة (1955 م).
وفي عام 1948، وبطلب من الإمام يحيى ملك اليمن وبتوجيه من الإمام حسن البنا، توجه إلى اليمن وشارك في الإنقلاب الذي وقع هناك، لكن الانقلاب فشل -(وهناك كتاب لأحمد الشامي بعنوان رياح التغيير في اليمن وكتاب للدكتور مصطفى الشكعة بعنوان في مجاهل اليمن)- وهرب من اليمن في سفينة أبحرت به ظل على ظهرها 03 أشهر، ولم تسمح له أية دولة بالدخول إلى ترابها، وفي آخر المطاف تم اتفاق بينه وبين الحكومة اللبنانية على أن يدخل بيروت على شرط أن يكون التجاؤه مكتوما غير مصرح به، وأن يظل وجوده في لبنان مجهولا لا يعرفه إلا حكام لبنان، وفعلا تم ذلك وقام بأعمال جليلة هناك، وكان يعمل مع جماعة عباد الرحمان، وتمكن من الاتصال بكثير من الشخصيات والساسة.
ثم بعد مدة معينة، وفي بداية الخمسينات، عاد إلى مصر، وبقي بها يخرج منها ويعود إلى أن ألم به المرض فذهب إلى تركيا للعلاج، إلى أن وافته المنية في 12 مارس 1959 ودفن بأنقرة.
الفضيل الورتلاني وانطلاق الثورة الجزائرية:
عند انطلاق ثورة الفاتح نوفمبر 1954،كان الفضيل الورتلاني بمعية الشيخ البشير الإبراهيمي بالقاهرة، ويقينا أنهما لم يكونا على علم بموعد انطلاق الثورة، وعاش الورتلاني إلى غاية 1959، لكن هذه الفترة من عمر الفضيل الورتلاني أثناء الثورة تجعلنا نطرح السؤال التالي: أين موقع الفضيل الورتلاني من الثورة، وما موقفه منها؟.
يقول عبد الحفيظ أمقران -عضو الأمانة الوطنية للمجاهدين- في هذا السياق : ” وما كادت ثورة الفاتح نوفمبر 1954 تندلع نيرانها في الجزائر حتى ارتفعت أصوات الجزائريين الأحرار في كل العالم، وكان في مقدمة من سارع إلى توجيه نداءات لثورتنا وثوارنا المجاهدين مؤيدا ومشجعا ومحرضا مكتب جمعية العلماء المسلمين بالقاهرة، الذي كان يمثله آنذاك المرحوم الأستاذ الفضيل الورتلاني والشيخ البشير الإبراهيمي، وقد كانا على صلة بكبار جبهة التحرير الوطني ومسؤوليها، مجددين العهد على مواصلة المسيرة الثورية من أجل تحرير الجزائر حتى النصر، مجندا قلمه ولسانه لإذاعة كل ما يحدث من أحداث عظيمة على أرض الوطن، فأجرى بها أنهارا من الحبر شرح حقائق هذا النضال”.
وهذا ما يذكره عبد الحفيظ أمقران عن مساهمة الرجل في الثورة، ويبدو أنه يقصد النداء الذي وجهه مكتب جمعية العلماء المسلمين من القاهرة إلى الشعب الجزائري بإمضاء البشير الإبراهيمي والفضيل الورتلاني، يدعو فيه الشعب الجزائري إلى مواصلة الكفاح وعدم التراجع والتخاذل، وكان ذلك يوم 15 نوفمبر 1954.
كما أنه يقصد ما كان يكتبه الفضيل الورتلاني في الجرائد والمجلات وما يلقيه من خطب في المنتديات والمحافل للتعريف بالقضية الجزائرية وبكفاحها، خصوصا وأن الفضيل الورتلاني كان خطيبا موهوبا، حيث يقول عنه محمد الصالح الصديق عضو جمعية العلماء: ” إن الأستاذ الفضيل الورتلاني كان في طليعة الخطباء، وكانت له مميزات الخطيب ومواهبه من شخصية قوية وذهنية خصبة، وعقلية قوية وبديهة حاضرة، ولفظ مختار وقدرة على الارتجال لا تبارى، إذا نهض يخطب في النوادي والمحافل نهضت معه القلوب وثارت معه الخواطر وانشدّت إليه المشاعر و الأحاسيس”.
وبالإضافة إلى هذا أورد رئيس المخابرات المصرية، في كتابه “عبد الناصر وثورة الجزائر”، وثيقة تثبت أن الفضيل الورتلاني أسهم في تأسيس هيئة بالقاهرة تسمى جبهة تحرير الجزائر في 17 فبراير 1955، وجاء في نص الوثيقة أن مجموعة من أبناء الجزائر ورجالها منهم: أحمد مزغنة، أحمد بن بلة وآيت أحمد حسين، البشير الإبراهيمي والفضيل الورتلاني تدعو إلى تأسيس هيئة تسمى جبهة تحرير الجزائر، من بين أهدافها:
تعمل الجبهة على تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي ومن كل سيطرة أجنبية مستعملة كل الوسائل الممكنة لتحقيق أهدافها، كما جاء في وثيقة القانون الداخلي لهذه الهيئة، أنه تم الاتفاق على إنشاء:
1/ لجنة المساعدة للعمل الإيجابي في الداخل مهمتها حاجيات جيش التحرير الوطني.
2/ لجنة الاتصالات و مهمتها العمل على إنارة الرأي العام الدولي والعمل على تحقيق العون الأدبي والسياسي من الشعوب والحكومات لصالح القضية الجزائرية.
3/ مكتب إداري يعمل على تسيير الإدارة وإعداده أول الأعمال.
وبالإضافة إلى هذا ما ذكره لي السيد عبد الحفيظ أمقران، من أن الفضيل عندما ذهب إلى تركيا، وهو مريض، قام بالتحريض والدعوة إلى مظاهرة سلمية قام بها الشعب التركي مساندة للقضية الجزائرية، وضغط على الموقف الحكومي لتركيا ليكون إيجابيا تجاه الجزائر وقد تم ذلك فعلا.
وما يتبادر إلى الذهن هو كيف لرجل مثل الفضيل الورتلاني أن لا يقوم بعمل أكبر من هذا للثورة، أم هناك أطراف عملت على إبعاد ه، ولم تكن راغبة في أن يساهم الفضيل الورتلاني في الثورة، وذلك من دون شك دونه أغراض وأهداف، وعندما نسمع لشهادة الشيخ محمد الغزالي حول الرجل،نلمح أن الرجل كان له وزن وثقل وأنه كان يقدم أو يحاول أن يقدم خدمات للثورة لكن حال دون ذلك عراقيل.
يقول الشيخ محمد الغزالي في محاضرة ألقاها، وهو في معرض الحديث عن البشير الإبراهيمي يقول: “وظل البشير الإبراهيمي ومن معه من الجزائريين يرتبون الأمور بين القاهرة الموالية للجزائريين المجاهدين وبين أرض المعركة التي احتدم فيها القتال وتضاعف فيها الشهداء، ولا أنسى من بين أصحاب الشيخ الإبراهيمي الفضيل الورتلاني الذي زاملني في الدراسة وأنا في تخصص الدعوة والإرشاد، وكان الشيخ الورتلاني عملاقا في معناه ومبناه ورجلا له وزنه، وكان يتبع البشير الإبراهيمي على أنه تلميذ وفي، و يتعاونان على نصرة القضية الجزائرية بكل ما لديهما من طاقة “.
لكن يبدو أن الفضيل الورتلاني لم يكن مرغوبا فيه من القيادة المصرية ممثلة في جهاز مخابراتها وبإيعاز من القيادة المصرية وكذلك من طرف قيادة جبهة التحرير في القاهرة ولكل طرف من هؤلاء أغراضه.
قيادة المخابرات المصرية تشكك في اتجاهات الفضيل الورتلاني وتتهمه بعدم الثقة
يقول فتحي الذيب، رئيس جهاز المخابرات المصرية: “أنه عقد اجتماعا مع الأمين العام بالجامعة العربية عبد الخالق حسونة يوم 12 جانفي 1955 ومع مساعده عبد المنعم مصطفى لتنسيق العمل فيما بينهما حول شؤون شمال إفريقيا، يقول ثم اتفقنا على ما يلي: رفع وصاية الشيخ البشير الإبراهيمي عن الطلبة الجزائريين الذين كانوا يدرسون بالقاهرة للحد من ضغوط البشير الإبراهيمي ومساعده الفضيل الورتلاني الشكوك في اتجاهاته على الطلبة “.
ومحل الشاهد هو سعي المخابرات بكل ما تملك لرفع وصاية الورتلاني عن الطلبة والتشكيك في اتجاهاته، والتي يفهم منها أن اتجاهه حسب هذا القول كان مضادا للثورة.
ويقول فتحي الذيب في موضع آخر “… وتم الاجتماع الأول في السادسة من مساء يوم 19 يناير 1955 بمنزلي وحضره الشيخ البشير الإبراهيمي والسادة أحمد بيوض، ومحمد خيضر، وأحمد مزغنة، والسيد حسين الأحول… و يقول: وأوضحت الهدف من الاجتماع وهو إتمام توحيد الهيئات الجزائرية وتأليف لجنة عامة تمثل جبهة التحرير الجزائرية، وتم تبادل الآراء وانتهى النقاش الذي كان حادا واتخذ طابع العنف لإصرار الشيخ البشير الإبراهيمي على حضور مساعده الفضيل الورتلاني غير الموثوق به والشاذلي المكي ممثل مصالي الحاج، وانتهى الاجتماع في الحادية عشر مساءا بلا أية نتيجة إيجابية وتدخلنا مرارا لتهدئة الوضع فيما بين المجتمعين”.
ونلاحظ من خلال هذا أن رئيس المخابرات المصرية يرى بأن الفضيل الورتلاني شخص غير موثوق به، وبالتالي لابد من أن يبعد عن أي عمل متعلق بالثورة،كما أننا نلاحظ أن الاجتماع دام حوالي خمس ساعات، ولم يخرج بأي اتفاق وانقضت هذه المدة في النقاش حول حضور الفضيل الورتلاني والشاذلي المكي الاجتماع أم لا.
كذلك نلاحظ أن رئيس المخابرات يضع الورتلاني في نفس وضع الشاذلي المكي ممثل مصالي الحاج الذي يقول عنه رئيس المخابرات بأنه معروف بقدرته على بث الفرقة والتخريب، وهذا تشكيك في وطنية الورتلاني ووفائه،كما هو تشكيك في وطنية الشاذلي المكي.
قيادة جبهة التحرير تشبه الورتلاني بالحمى الصفراء والكوليرا والتيفوس
هذا عن الطرف المصري ممثلا في المخابرات، أما الطرف الجزائري، فيبدو لنا كذلك أنه رافض للفضيل الورتلاني، ويمكن أن نلاحظ ذلك في كلام رئيس المخابرات المصري عن الاجتماع الذي انتهى من دون نتيجة بسبب الخلاف حول حضور الفضيل الورتلاني، ويضاف إلى هذا ما ذكره توفيق المدني في كتابه “حياة كفاح”، مذكرات على لسان المرحوم محمد خيضر حول الورتلاني: يقول توفيق المدني، أنه لما ذهب إلى القاهرة لتنظيم عمل الوفد الخارجي في القاهرة، سألت عن بقية الأعضاء، ومنهم الفضيل الورتلاني، فقال إن محمد خيضر قال لي بوداعة وصوت هادئ: “يمكنك أن تتعامل مع الكوليرا ومع التيفوس ومع الوباء ومع الحمى الصفراء أما مع هذا النحس فلا، وأرجوك يا أحمد أن لا تعود لذكره مرة أخرى، إنه رجل خسر نفسه وخسرته أمته فهو لا يعبد إلا واحدا لا شريك له، يعبد نفسه وما عرفت رجلا أنانيا مثله، فالوطن هو والجهاد هو والتضحية هو، لا يشاركه في ذلك أحد، فالعمل معه على هذه القاعدة مستحيل”.
أبعاد وخلفيات الإقصاء:
ومن خلال هذا يتبدى لنا جليا أن كلا الموقفين من الرجلكانا يشككان في صدق وإخلاص الرجل ويشككون في انتمائه ويحاولون إبعاده عن الثورة بشتى الطرق والأساليب، فماهي يا ترى أسباب وخلفيات هذا التشكيك في الفضيل الورتلاني من الطرفين وأبعاد الإقصاء؟.
أولا: من طرف المخابرات المصرية:
أ) إن شخصية الفضيل الورتلاني البارزة القوية وثقافته الواسعة وعلاقاته المتعددة بأطرافكثيرة تجعل منه رجلا ذا شخصية صلبة ليست سهلة الانقياد والانصياع، ولو تمكن من أن يكون في قيادة جبهة التحرير وفي قيادة توجيه الثورة لما تم استيعابه من طرف القيادة المصرية، على عكس ما حدث مع الآخرين، ولهذا عملت المخابرات على تحييده.
ب) إن الفضيل الورتلاني كان على علاقة وثيقة بتنظيم الإخوان المسلمين في مصر وبمرشدهم حسن البنا، وقد كان الإمام البنا يستخلف الفضيل الورتلاني في إلقاء المحاضرات الإرشادية الأسبوعية بالمركز العام للإخوان، وكان لمحاضراته وقع كبير في شباب الإخوان المسلمين، وكان مكلفا بفتح فروع لتنظيم الإخوان المسلمين، وبتأطير الطلبة الجزائريين في تنظيم الإخوان المسلمين، و هذا بشهادة الدكتور محي الدين عميمور الذي كان طالبا آنذاك، كماكان الفضيل الورتلاني من المرشحين لخلافة الإمام البنا بعد موته.
ونحن نعلم بعد كل هذا أن جمال عبد الناصر كان على علاقة بتنظيم الإخوان عندما كان مع الضباط الأحرار وأن الإخوان هم الذين مهدوا له للوصول إلى الحكم ثم انقلب عليهم وسجن شبابهم وأعدم العشرات من قادتهم وكبار رجالهم، وبالتالي أصبح الورتلاني امتداد طبيعي للإخوان المسلمين وربما يعمل على احتواء الثورة لصالح الإخوان المسلمين، و بالتالي لابد من إقصائه.
ج) كذلك إن علاقة الفضيل الورتلاني بالطلبة الجزائريين، والذين كان يشرف عليهم ويعمل على تأطيرهم في تنظيم الإخوان ومخافة من أن يوجه هؤلاء الطلبة ضد جمال عبد الناصر، فإن المخابرات سعت بكل جهدها إلى رفع وصاية الفضيل الورتلاني على الطلبة.
يقول الدكتور محي الدين عميمور وكان طالبا آنذاك بالقاهرة: “بالنسبة لقضية الالتحاق بالتنظيم (تنظيم الإخوان)، وفي حدود معلوماتنا فإنه تم نتيجة لاتفاق بين قيادة بعثة جمعية العلماء وجماعة الإخوان المسلمين كان أبرمه المرحوم الورتلاني، وتردد يومها تعبير يقول: إن الإخوان هم منبر المشرق وبابه ومفتاح خزائنه”.
ثم يضيف في موضع آخر: “لكن الوضع بعد ذلك تغير بعد حدوث التوتر بين قيادة الإخوان المسلمين المتحالفة مع الرئيس المصري محمد نجيب والقائد الفعلي لتنظيم الضباط الأحرار المرحوم جمال عبد الناصر، و بدأ مسؤولو الإخوان في تحريض الجميع ضد عبد الناصر لصالح نجيب”، وهذا يعني بما أنه تم تحريض للطلبة الجزائريين ضد جمال عبد الناصر من طرف الفضيل الورتلاني، باعتبار أن له علاقة متينة مع الإخوان، وهذا ما لم يغفره جمال عبد الناصر للفضيل الورتلاني، وعملت مخابراته على إبعاده واتهامه بأنه مشكوك فيه.
ثانيا: من طرف قيادة جبهة التحرير بالقاهرة:
1) لقد كان الورتلاني عند اندلاع الثورة في سن الـ55 سنة، وكان خيضر وبن بلّة ما زالوا شبابا لم يتجاوزا الـ 26 سنة، ومن خلال ما ذكره خيضر عن الورتلاني يبدو أنه كانت فيه حساسية مفرطة تجاه الفضيل الورتلاني من قبل محمد خيضر وتصوروا أنه أناني، له حب الزعامة والقيادة فعملوا على إبعاده.
2) أن الفضيل الورتلاني ومع الشيخ البشير الإبراهيمي في بيانهما الذي بعث به في15 نوفمبر 1954 إلى الشعب الجزائري، لم يرد فيه اعتراف بجبهة التحرير إلا في مارس 1956.
3) إن نظرة الفضيل الورتلاني لكفاح الجزائر لم تكن نظرة ضيقة، بل كانت نظرته في إطار المغرب العربي ككل، يقول الدكتور محي الدين عميمور في هذا المضمار: “… وكان هناك أيضا المرحوم الفضيل الورتلاني الذي كان قد استقر في القاهرة، والذي كان يرى أنه كماكان يقول لنا إنه أكبر من أن يهتم بقطر واحد لأن مجاله هو العالم الإسلامي كله”.
4) كذلك علاقة الفضيل الورتلاني بالطلبة الجزائريين التي سبق ذكرها، إذ كان الفضيل الورتلاني يعمل على تأطير الطلبة في تنظيم الإخوان، وقد رفض بعض الطلبة هذا العمل خصوصا بعدما ساءت العلاقة بين جمال عبد الناصر والإخوان المسلمين، مما حذا بقيادة جبهة التحرير بالقاهرة العمل على إبعاد الفضيل الورتلاني من أن يكون له تأثير على الثورة.
يقول الدكتور محي الدين عميمور في هذا الإطار: “… وفي صيف 1954 على ما أذكر وصلت العلاقات بين معظم طلبة البعثة وقيادة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى طريق مسدود، والبعض ينسب ذلك إلى تأثير الشيخ الفضيل الورتلاني على القيادة، مما دفعها إلى التصلب مع الطلاب”
ويرى الدكتور محي الدين عميمور أن سبب الخلاف هو: “رفض الطلاب الارتباط العضوي بتنظيم الإخوان المسلمين الذي بدأت بعض عناصره تحاول استغلال الطلاب في صراعهم مع القيادة المصرية”.
ولعله من هنا يتجلى لنا أن قيادة وفد جبهة التحرير بالخارج (القاهرة)، وجهاز المخابرات المصرية عملا وبإيعاز من جمال عبد الناصر، على تهميش الفضيل الورتلاني عن مجريات أحداث الثورة، ولم تمكنه من إيجاد موقع يمكن له من خلاله خدمة الثورة أكثر، فهل هي العقدة من الإخوان المسلمين أم العقدة من الإسلام الذي كان يحمل لواءه في مصر حينذاك تنظيم الإخوان المسلمين، هذه العقدة المتجددة من الإسلام من قبل بعض الحكام إن لم يكن أغلبهم، ومن قبل بعض الأحزاب، التي أدت إلى كبت الحريات وتهميش الطاقات.
-وهكذا بقي الحال حتى انتقل الفضيل الورتلاني إلى رحمة الله يوم 12 مارس 1959، لكن بقي جثمانه في أنقرة ولم ينقل إلى أرض الوطن إلا في 12 مارس 1987، فهل بقيت عقدة جبهة التحرير من الورتلاني تلاحقه حتى بعد وفاته ومنعته أن يعود إلى أرض الوطن حتى وهو ميت إلا بعد جهود كبيرة.
ـ ثم ختاما هل أن أصحاب فكرة ضرورة فصل الفكر المشرقي عن الفكر المغربي هم الذين كانوا وراء التعتيم على الفضيل الورتلاني ونشاطه وتعريف أبناء الصحوة الإسلامية به، لأن الفضيل ابن جمعية العلماء المسلمين، وصاحب الفكر الباديسي، الذي استطاع أن يمزج هذا الفكر بالفكر المشرقي دون عقدة أو خوف من الفكر المشرقي أو غيره.