العلامة ابن باديس وجهوده في إصلاح المجتمع
بقلم: د. علي الصلابي-
اعتبر العلامة عبد الحميد بن باديس أن المدخل لتحقيق الإصلاح الاجتماعي الشامل هو تحقيق الوعي القائم على العلم والقيم لكافة فئات المجتمع، وأن هذا الوعي هو السبيل لانتشار الأخلاق واستلهام القدوة الصالحة في كل مجال والمثل الأعلى الأخلاقي لمواجهة النقص وعلاج المفاسد المجتمعية ومواجهتها والقضاء عليها، وفي مقدمتها الجهل والجمود والتخلف.
لقد تسبب الاحتلال الفرنسي في تردِّي الأوضاع الاجتماعية للأفراد والمجتمع الجزائري، فما أن وطئت أقدام المحتل الفرنسي الأراضي الجزائرية حتى استحالت حياة الناس إلى جحيم من الفقر والفاقة والعوز، والبطالة والحاجة، وانتشرت بينهم الأمراض العضوية والنفسية والاجتماعية، هذا ما عبَّر عنه أحد الأوربيين الذين زاروا الجزائر في مطلع القرن العشرين بقوله:
"إن الحياة التي يحياها الجزائريون هي حياة لا يمكن وصفها بغير البائسة والحقيرة، هذا الشعب الذي كان بالأمس السيِّد المتصرف فيما يملك، أضحى اليوم نتيجة لوجود الفرنسيين على أرضه كالعبد الذليل ينتظر اللقمة التي تُرمى إليه ليسدَّ بها رمقه من الجوع، الحياة البائسة جداً، الناس يعانون من المرض والأوبئة، والأمراض الجلدية تنتشر بصورة مخيفة بين الناس الصغار والكبار، وقليل من الناس يحظون بفرصة العلاج والدواء، لقد تنقلت في أرجاء متفرِّقة من الجزائر، ورأيت مشاهد فظيعة لشعب فقير بائس يسير ببطء نحو الفناء، الأسر الأوربية والفرنسيون يستأثرون بالمال والثروة والطعام والأرض، وأهل الأرض طردوا منها إلى الصحراء حيث الجدب والأرض القاحلة".
ومع هذا الواقع المأساوي، فقد جلب المستعمِر معه العادات والآفات السيئة باختلافها مما يفضي إلى الفوضى والفلتان الذي يكون المناخ المناسب لشيوع الرذائل وانتشار الجرائم والفساد وما إلى ذلك. فقد كانت السلطات الفرنسية تعمل وفق مقاربة اجتماعية ترمي إلى تشجيع الفساد بما في ذلك تعاطي الخمور والبغاء وتشجيع المعاملات الربوية التي كانت تجارة رائجة يمارسها اليهود، وسرعان ما انتشرت بين الجزائريين.
وأمام هذا الوضع الاجتماعي المتدهور قام الشيخ ابن باديس وشيوخ جمعية العلماء بالتصدي للآفات والمحرمات، بتوعية الناس على أساس الدعوة والنصيحة والوعظ، وكتابة المقالات الاجتماعية لتصحيح العادات الخاطئة والغريبة عن المجتمع الجزائري، وكانت مقالات ابن باديس والإبراهيمي في مجال محاربة الفساد نموذجًا لهذه الآلية، وقد كانت الدعوة إلى الدين الصحيح باب الولوج إلى حرب شاملة على الفساد.
اهتمامه بالمرأة:
أدرك ابن باديس رحمه الله أن المجتمع لا يستطيع أن يتقدم إلى الأمام وشطره يقبع في ظلمات الجهل، كما أدرك أن التعليم سيؤدي إلى تكوين جيل لا ينتمي إلى الجزائر وفكرها وعقيدتها، وقد كتب ابن باديس كثيرًا عن المرأة، ولعلنا نقتطف بعضًا مما كتبه في هذا المجال حيث كتب في أحد مقالاته مؤكدًا: أن البيت هو المدرسة الأولى، والمصنع الأصلي لتكوين الرجال، وتديُّن الأم هو أساس حفظ الدين والخلق، والضعف الذي نجده من رجالنا معظمه نشأ من عدم التربية الإسلامية في البيوت وقلة تدين الأمهات.ويقول في مناسبة أخرى: لماذا تعاقب المرأة بعلمها؟ هل هو وِرْدُ صفاء للرجال ومنهل كدر للنساء؟ هل له تأثير حسن على فكر الذكور قبيح على فكر الإناث؟
أما الخطوات العملية التي اتخذها ابن باديس في هذا السبيل فإنه لما تأسست جمعية التربية والتعليم حرص رحمه الله أن يتضمن قانونها الأساسي أن يكون تعليم البنات مجانًا سواء كن قادرات على دفع مصاريفه أم عاجزات عن دفعها، وذلك تشجيعًا لهنَّ على الإقبال على الدراسة. وزيادة على هذا فإنه كان يتصل شخصيًا بالمواطنين يحثهم على إرسال بناتهم إلى مدرسة جمعية التربية والتعليم، وكان يفعل ذلك أثناء جولاته في أنحاء القطر ويطلب من زملائه العلماء الدعوة إلى تعليم المرأة. ولم يكن كافيًا أن تتعلم الفتيات الصغيرات، فقد خصَّصَ دروسًا للنساء في المسجد الأخضر، وغيره من مساجد قسنطينة، وكنَّ يحضرن بأعداد كبيرة حتى ضاقت عليهنَّ جنبات المسجد المخصصة للنساء.
اهتمامه بالشباب:
كان الاحتلال الفرنسي قد شمل بسياسته الظالمة عموم أفراد الشعب الجزائري نساءه ورجاله، شيوخه وشبابه، غير أن التركيز كان منصباً على الشباب أكثر من غيره، لما في الشباب من أهمية في حياة الأمم ـ وكان ذلك بإضعاف قواه وإفساد أخلاقه بهدف ضرب الأمة في أكبر قوة مادية تملكها في حياتها، وكان ابن باديس قد اهتم وركز على الشباب مبكراً، فظهرت رعايته بالشباب في محورين اثنين: الرعاية العامة للشباب، والعناية الخاصة بالطلبة.
الرعاية العامة للشباب:
تدخل عناية ابن باديس بالشباب في إطار اهتمامه العام بمجموع أفراد المجتمع الجزائري، وطبيعي أن يتوجه هذا الاهتمام في نطاق النهضة إلى عنصر الشباب أكثر من غيره بما ينتظر أن يقوم به من نشاطات في هذا المشروع، بسبب ما تميزت به من قوة في الإرادة وصدق في العزيمة وثقة في المستقبل، فهو عدة الأمة، وحادي قافلة نهضتها، وحامل مشعل تطلعاتها إلى أهدافها في التحرر والتقدم.
يقول ابن باديس عن شباب الجزائر في ذلك العهد، وما ينبغي أن يكون عليه: «أعني الشهاب» من أول يومه و«المنتقد» الشهيد قبله؛ أنه لسان الشباب إلا شباب أنساه التعليم الاستعماري لغته وتاريخه ومجده وقبح له دينه وقومه، وقطع له من كل شيء ـ إلا منه ـ أمله، وحقره في نفسه تحقيراً. وإلا شباب جاهل أكلته الحانات والمقاهي والشوارع.
ومن وجد العمل منه لا يرى نفسه إلا آلة متحركة في ذلك العمل، لا همّ له من ورائه في نفسه فضلاً عن شعوره بأمر عام، وإلا شباب حفظه الله للإسلام والعروبة، فأقبل على تعلمها، لكنه تعلم سطحي لفظي خالٍ من الروح، لا يعتز بماضٍ، ولا يألم بحاضر، ولا يطمح لمستقبل، اللهم إلا أفراد قلائل جدًّا هنا وهناك. وأما اليوم فقد تأسست في الوطن كله جمعيات ومدارس ونوادٍ ـ إلا نادراً ـ إلا وهو منخرط في مؤسسة من تلك المؤسسات وشعار الجميع: الإسلام، العروبة، الجزائر.
وتمتد عناية ابن باديس بالشباب إلى الكشافة الإسلامية الجزائرية، فكانت تربطه بها صلة متينة، فكان رئيساً شرفياً لأول مؤتمر كشفي ينعقد بالجزائر سنة 1930م، كما كان رئيساً ومؤسساً لفوج «كشافة الرجاء» سنة 1935م، وكان يوجههم في نتاجه.
العناية الخاصة بالطلبة:
ويتحول هذا الاهتمام العام بالشباب إلى عناية خاصة بالطلبة، تشملهم وهم يطلبون العلم في كتاتيبهم، ومدارسهم، ومساجدهم، وكان الشيخ قد بذل جهودًا حميدة في هذا الميدان منذ أن رابط بالجامع الأخضر، يربي الناشئة ويكوّن الجيل، ولم تكن عنايته هذه بتربية الشباب لتقتصر على تربية البنين دون البنات، وإنما كانت تشمل الجانبين، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وكان يحرص في هذا المجال على توطيد أسباب الصلة بينه وبين طلبته بتقديم يد العون لهم، فكان يساعدهم ماديًا من ماله الخاص، وما تعود به مساعيه من أجلهم لدى المحسنين بحثِّه إياهم على إغاثة أبناء الأمة، بما يمكّنهم من التغلب على مؤونة التبلغ والتفرغ، ثم مواجهة أعباء الطلب والتحصيل.
المراجع:
1- أندري ديرليك، عبد الحميد بن باديس.
2- عبد الرشيد زروقة، جهاد ابن باديس ضد الاستعمار الفرنسي.
3- عبد العزيز فيلالي وآخرون، البيت الباديسي.
4- عبد العزيز فيلالي، وثائق جديدة عن حياة خفية في حياة ابن باديس الدراسية.
5- علي الصلابي، كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس، ج2.
6- عمار الطالبي، ابن باديس حياته وآثاره.