نشاط الطالب أبو القاسم سعد الله في مصر والولايات المتحدة الأمريكية (1955-1962)
بقلم: أ.د. مولود عويمر-
لقد وصل الطالب بلقاسم (أبو القاسم) سعد الله إلى القاهرة في سبتمبر 1955، وهو في سن النضج الفكري والقوة الجسدية (23 سنة)، لذلك كانت إقامته في مصر ثم في الولايات المتحدة الأمريكية خصبة ومليئة بالنشاطات الثقافية وثرية بالنضال الوطني. وهو ما حاولت أن أبينه هنا في هذا المقال بالمختصر المفيد.
في رابطة الطلبة الجزائريين بمصر
إن الطلبة الجزائريين "الذين كانوا يدرسون في المدارس الحرة ومعاهد المغرب وتونس والمشرق العربي قد انضموا للثورة منذ اندلاعها." وأسسوا رابطة الطلبة الجزائريين في المشرق العربي، وكان لها فروع في مصر وسوريا والعراق والكويت.
وكان من أبرز الأعضاء الناشطين في رابطة الطلبة الجزائريين بمصر، أذكر هنا: منوّر مروش، وعلي مفتاحي، وعيسى بوضياف، وعبد الرحمان مهري، وعبد القادر نور، ويحي بوعزيز ...الخ. وقد ترأس المكتب الأول منوّر مروش ثم خلفه عيسى بوضياف. وكان محمد بلعيد أمينا عاما، وأبو القاسم سعد الله مسؤولا عن الشؤون الثقافية. ودمجت الرابطة رسميا في عام 1959 مع الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، باعتبارها فرعا من فروعه في المشرق العربي.
وهنا نقف على حقيقة تاريخية تتعلق بدور طلبة معهد عبد الحميد بن باديس (قسنطينة) والمدرسة الكتانية (قسنطينة) في الثورة التحريرية، فإن جلهم دأبوا على التحصيل العلمي لكنهم لم يتأخروا عن الانضمام إلى الكفاح الوطني والمشاركة الفعلية في الثورة التحريرية.
وكان من أعمال الرابطة إصدار نشرية فيها مقالات وأشعار "جاءت كلها تعبيرا عن وجهة نظر الطالب في القضايا الوطنية الأدبية والفكرية". وكان لها صدى طيب لدى الطلبة والمتابعين للشأن الجزائري آنذاك في مصر.
وكم أتمنى أن يعيد نشرها أحد هؤلاء الطلبة أو بعض المؤسسات التي لها صلة بهذا الموضوع حتى ينفض الغبار عن نضال الطلبة الجزائريين في المشرق العربي الذي مازال في حاجة إلى الدراسة والتعريف به ليستلهم منه طلبة اليوم، ويتخذوه نبراسا لهم في طريق التحصيل العلمي والبناء الوطني والجهد التنموي للبلاد.
ولم تكن هذه النشرية هي أبرز ما كان يقوم به الطلبة من نشاط في سبيل القضية الجزائرية، لكن أيضا كانت الرابطة تنظم باستمرار ندوات ومحاضرات حول تاريخ الجزائر وآدابها، وكان الهدف من ذلك هو فضح السياسة الاستعمارية في الجزائر ودعوة العرب والمسلمين وأحرار العالم لمساندة كفاح الجزائريين.
ولم يقتصر عمل سعد الله على الجانب التنظيمي فقد ساهم هو أيضا بإلقاء محاضرتين، عنوانهما: "محمد العيد آل خليفة"، و"أحمد رضا حوحو ونضال الكلمة". ولم يكن هذا الاختيار عبثا، إذ كان شعر محمد العيد وقصص ومقالات حوحو – الذي مات شهيدا- بمثابة سلاح فكاك يدمر جدران الخوف، كما كانت أعمالهما سيمفونية تعزف في الجبال والمعتقلات والسجون، وهي تبشر بالنصر القريب.
وشارك سعد الله في المهرجان الثاني للشباب العربي المنعقد عام 1957 في الإسكندرية. وكانت فرصة له للاحتكاك بهذه القوة الناعمة وتبليغها معاناة الشباب الجزائري في ظل الاحتلال، وكشف جهوده من أجل الارتقاء بوعي شعبه، وإبراز تضحياته المستمرة للدفاع عن بلده بوسائل مختلفة، وخاصة أن الصحافة العربية لم تكن في تلك الفترة في مستوى تلك التحديات القائمة في العالم العربي.
كما أن التواصل بين الجزائر والمشرق كان آنذاك محدودا بسبب السياسة الاستعمارية التي كانت ترى في التقارب بين الأشقاء العرب خطرا يهدد مصالحها في الجزائر، ويفسد إستراتجيتها الرامية إلى عزلها عن فضائها الثقافي الطبيعي، واجتثاث روحها الحضارية الإسلامية لتظل جسدا هامدا لا يقوى على المقاومة ولا يطمح في الحرية.
كذلك ساهم الطالب سعد الله في حصة "كلمة الجزائر" التي كانت تبث في إذاعة العرب بالقاهرة، وهو يقدم برامج ثقافية في ركن "المغرب العربي"، يعرّف العرب بأمجاد الجزائر وأعلامها الذين ساهموا في التراث العربي الإسلامي، ويبرز معالمها التي بذلت الدولة الاستعمارية جهودا جبارة لطمسها أو تحويل طبيعتها وتحوير رسالتها.
مع الجمعيات المصرية والعربية المهتمة بالجزائر
كان الطالب سعد الله يحرص على المشاركة في النشاطات التي تهتم بالجزائر ودعم الثورة الجزائرية. وهكذا نجده حاضرا في مقر جمعية الشبان المسلمين الذي كان يحتضن الشعراء والأدباء الذين ينشدون الأشعار ويلقون الخطب مثل الشاعر اللبناني محمد علي الحوماني، وأحمد الشرباصي وأمين الحسيني...الخ.
وبمناسبة الذكرى الثالثة للثورة الجزائرية، نظم مكتب جبهة التحرير الوطني يوم 1 نوفمبر 1957 احتفالا بمركز الشبان المسلمين تكلم فيه كل من الدكتور أحمد الشرباصي، والشيخ محمد عبد اللطيف دراز، وأحمد توفيق المدني، وأبو القاسم سعد الله وصالح خرفي. وألقى الطالب سعد الله قصيدة عنوانها: شعارات. وعرض بهذه المناسبة فيلم عن الثورة الجزائرية.
كما حضر الحفل الذي نظمه نادي طلبة المغرب العربي في يوم 31 أكتوبر 1957 بمقره ي 6 شارع بنك مصر، ألقى خلالها كلمة مطولة باسم طلاب الجزائر. وقد نشرها في عام 1984 بمجلة "الثقافة".
وقد قال بالخصوص: «لقد أعلنت هذه الثورة العربية الصميمة أنها ليست ثورة الجزائر وحدها وليست ثورة المغرب العربي فقط، وإنما هي ثورة العرب جميعا.. هي الوجه الحقيقي للطاقة العربية المشعة رغم الطلي والظلام والكثافة التي وضعها الاستعمار على ذلك الوجه.. ومن هنا كان انتصار الجزائر في المعركة انتصارا لفلسطين الجريحة والجنوب العربي المكافح.. انتصارا لمصر وسوريا في صراعهما التحرري.. انتصارا للقومية العربية في كل مكان».
وبقي سؤال وهو: هل تطوّع الطالب سعد الله في العمل المسلح؟ وجدنا إشارات قليلة تشير إلى تدربه العسكري. اتصل بجمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، وفيها التقى بالأمير عبد الكريم الخطابي للمرة الأولى أكتوبر 1955. وفيها أيضا تدرب مع الطلبة الجزائريين على المقاومة الشعبية أيام العدوان على مصر في سنة 1956.
نشاطه الأدبي والصحفي
كان الطالب سعد الله مولعا بقراءة الصحف، ومتعلقا بها، ومن يقرأ يومياته: "مسار قلم" خاصة في فترة الخمسينيات، يلمس ذلك بكل سهولة، فكانت على سبيل المثال جريدة "الجمهورية" تكاد لا تفارقه يوميا خلال إقامته بالقاهرة، حتى عجز هو نفسه في تفسير تعلقه بهذه الجريدة الحكومية المصرية.
وبمجرد استقراره عاد إليه الحنين إلى الكتابة التي سبق له وأن مارسها في تونس والجزائر، فتشجع على المساهمة في الجرائد والمجلات المعروفة في الساحة الفكرية والثقافية آنذاك كمجلة "العالم العربي" المصرية، ومجلة "الرسالة" العراقية، ومجلة "الآداب" اللبنانية.
وقد وقع المقال الأول الذي نشره في هذه المجلة الأخيرة في ربيع 1954 في قلبه موضع اعتزاز، فقال:" كان لنشر ذلك المقال في مجلة مشرقية راقية كالآداب أثر كبير في نفسي."
وواصل الكتابة فنشر كتب مجموعة من المقالات حول الثورة الجزائرية وعمل في مجلة "العالم العربي" كمحرر لباب "المغرب العربي في المرآة" لعدة شهور. وقد درست هذا الجهد الصحفي بشيء من التفصيل في مكان آخر.
نشاطه الوطني في الولايات المتحدة الأمريكية
بقي سعد الله على اتصال بالاتحاد العام للطلبة الجزائريين بالقاهرة، ويستقبل من خلالهم صورا للاجئين الجزائريين وصورا عن الجرائم الاستعمارية في القطر الجزائري، لنشرها في الوسط الطلابي وفضح الاستعمار الذي كان يقدم صورة مغايرة للواقع الجزائري آنذاك.
وكان يتابع الأخبار عن الثورة عن طريق الصحافة العربية خاصة الجرائد التونسية ( الصباح والعمل) التي كانت تصله من سفارة هذا البلد بحكم امتلاكه لجواز السفر التونسي.
ثم انضم إلى فرعها بالولايات المتحدة الأمريكية الذي كان يشرف عليه كل من عبد القادر شندرلي ورؤوف بوجقجي، ويدفع الاشتراك السنوي المقدر بـ 11 دولارا.
وقد ساهم في نشاطات متعددة مصرا دائما على الحديث عن القضية الجزائرية، فعلى سبيل المثال أصر في الاحتفال المنظم لذكرى مولد جورج واشنطن على إنشاد النشيد الوطني رغم معارضة المنظمين لعدم إحراج الطلبة الفرنسيين.
وفي يوم 28 مارس 1961 شارك في ندوة حول الجزائر في كلية سان كاترين في مدينة سان بول وقد وجد تجاوبا كبيرا من الأمريكيين الحاضرين، فقال في هذا الشأن: «كان الناس شغوفين لمعرفة الكثير عن الجزائر وقد بذلت جهدي»، لكننا لا نعرف ماذا قال بالضبط.
كما نظم ندوة عن الجزائر باسم إتحاد الطلبة الأمريكيين واستضاف عددا من الأساتذة الأمريكيين للحديث في موضوع الجزائر. وقد حضر فعالياتها جمهور من الطلبة والمهتمين بالقضية الجزائرية التي كانت تشغل آنذاك الرأي العام العالمي.
وكان يحرص أيضا على نشر بيانات الحكومة الجزائرية المؤقتة، ويقدم تقارير إلى مكتب جبهة التحرير الوطني بنيويورك في المسائل التي لها صلة بالثورة الجزائرية.
وفي الختام أقول أن الطالب سعد الله كان يتميز بهمة عالية، وحركية دائمة، وإصرار على بلوغ المرام الذي رسمه متحملا المشاق ومتغلبا على العوائق. وقد كان أكبر نشاطه بالقلم شعرا ونثرا، خاصة في الصحافة التي كانت تمثل عنده دائما مجالا "للنشر وطرح للأفكار ودخول للعالم بالكلام المكتوب"، وكونها أكثر انسجاما مع طبيعته الميالة إلى الفعل أكثر من القول.
وهكذا وظّف الطالب أبو القاسم سعد الله قلمه للتعبير عن آرائه، وتبليغ أفكاره ونصرة قضيته العادلة، وهي الثورة الجزائرية عنوان التحرر للشعب الجزائري، ولكل شعوب العالم المظلومة !
أ.د. مولود عويمر- أستاذ تاريخ الفكر المعاصر بجامعة الجزائر 2