صورة الشباب الجزائري في فكر محمد البشير الإبراهيمي
بقلم: د. عادل بوديار-
استطاعت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بفضل جهودها الاصلاحية في الجزائر خلال ربع قرن من النضال (1931-1956) أن تترك أثرا واضحا في الحياة الثقافية، والدينية، والاجتماعية، والسياسية الجزائرية على الرغم من أن قانونها الأساس كان قد نص في أحد بنوده على عدم التدخل في الشؤون السياسية إلا أن تأثيرها السياسي لم يكن مباشرا، إذ تجلى من خلال تصحيح المفاهيم الخاطئة، وحث الشباب إلى الاستعداد للحياة والاعداد لها، ومحاربة الفكر الديني الضال الذي يرى في الاستعمار الفرنسي قدرا محتوما.
1. جهود الاصلاح وتصحيح المفاهيم:
كان لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين الفضل الأكبر في طرح مفهوم الدولة بعد الاستقلال من خلال تثبيتها دعائم الإسلام الصحيح في الجزائر، ونشرها اللغة العربية، ومحاربتها البدع، والخرافات، والوقوف في وجه دعاة الاندماج مع فرنسا، بعدما ظن المستعمر الفرنسي أنه ران على قلوب الجزائريين، وأنهم تخلوا عن مطلب الاستقلال، ورضوا بمصير الاستعمار.
وكان محمد البشير الإبراهيمي (1889-1965) أحد رواد الاصلاح في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين يفتخر بدور الجمعية في المحافظة على الهوية الوطنية، ويقول: «لا تستطيع هيئة من الهيئات العاملة لخير الجزائر أن تدعي أن لها يدا مثل الجمعية في توجيه الأمة الجزائرية للصالحات، ورياضتها على الفضيلة الإسلامية، وأما عملها للعروبة فها هنا معاقد الفخار»، والحقيقة أنه ليس هناك منظمة وطنية جزائرية كانت قد تركت « بصمتها على الحياة الجزائرية وأثرت على عقلية أهلها تأثيرا واضحا مثلما فعلت جمعية العلماء. وإذا كانت المنظمات الأخرى (بما في ذلك الأحزاب السياسية) قد خاطبت فئة معينة فقط أو انحصرت في أبرز المدن فحسب، فإن خطاب جمعية العلماء كان قد وصل أفقيا وعموديا إلى مختلف الطبقات الاجتماعية أينما كانت ريفية أو مدنية، ومن ثم فقد هزت المجتمع الجزائري هزا عنيفا، كما أنها لم تستعمل الخطاب السياسي الذي لا يفهمه كل الناس، ولا الخطاب المادي الذي يهم كل الفئات، وإنما استعملت الخطاب العقلي، والروحي (الدين، اللغة، التاريخ، التعليم) الذي يستغني عنه أحد في المجتمع » ؛ لذلك نجد أن خطابات، وجهود جمعية العلماء قد آتت أُكلها قبل الثورة التحريرية وخلالها، وبعدها على الرغم من جحود بعض الذين لا يفهمون حركة التاريخ، وأما الذين فهموها فإنهم يشهدون بالدور الفعَّال الذي لعبته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بعدما « وجه [ المستعمر ] همَّه في الجزائر إلى سحق العقيدة، وسحق اللغة، وعن هذا الطريق كاد يصل إلى غايته .. فلما انتفضت الجزائر بالحياة كانت العقيدة هي المشعل الذي أضاء لها الطريق، وكانت اللغة هي الحبل الذي تتماسك به الجموع الشاردة في الظلام » ، بل إننا نجد من أبناء الجزائر البررة من يصدح بتحية عطرة لجمعية علماء الجزائر والشكر موصول لشيخها الجليل الذي بعث في الجزائريين روحه القوية شعاعا حارا، وأشعرهم بأن في العالم الإسلامي رجالا .. رجالا من طراز فريد، ولن يموت هذا العالم ويبعث من أعماقه هؤلاء الرجال، الذين لم يستطع التاريخ أن يجحد لهم فضلا؛ إذ المستعمر نفسه استشعر خطر الجمعية على مخططه التدميري لما رآه من جهود صادقة في سبيل إعادة إحياء الشعب الجزائري في إطاره الإسلامي، وهذا فضل يعزى لجمعية العلماء؛ لأنه من السهل إقامة دولة، ولكن من الصعب إحياء أمة ماتت وطمست معالم إحياءها.
2. الشباب عماد الأمة:
لقد استطاع تيار الإصلاح الذي ظهر في الجزائر قبل الثورة التحريرية، وانبثق عن جمعية العلماء المسلمين الجزائيين، وراده عدد من المصلحين أمثال: “محمد البشير الإبراهيمي “، و”عبد الحميد بن باديس”، و”الطيب العقبي”، و”العربي التبسي” أن يصنع جيلا من الشباب الجزائري الذي حمل على عاتقه مسؤولية تحرير الوطن من الاستعمار، ونفض غبار الجهل، والكسل، والخوف، والذل عن عيون الشباب الجزائري، وكان أمل محمد البشير الإبراهيمي في الشباب الجزائري كبيرا لما رأى أنه يمثل «الدَّم الجديد الضامن لحياة واستمرار، ووجود كل أمة، فهم الامتداد الصحيح لتاريخها، وهم الورثة الحافظون لمآثرها، وهم المصححون لأغلاطها، وأوضاعها المنحرفة، وهم الحاملون لخصائصها إلى من بعدهم من الأجيال«.
إننا عندما نتلمس طريقة محمد البشير الإبراهيمي في إصلاح الشباب الجزائري نجدها قائمة على الأمل الواعد في غدٍ أفضل من خلال فهم الحاضر فهما صحيح بعيدا عن الخرافات، والدجل، والتدليس. إنها طريقة قائمة على استثمار حاضر الشباب، وتحيين ظروفه المختلفة في سبيل تحقيق صحوة شبابية مندفعة تجاه النصر والتمكين، وقد أثبت جيل التحرير الذي خاض الثورة التحريرية بعزم، وإرادة، وثبات، وصمود، أنه جيلٌ أُعد لخوض غمار الصعاب بصبر وثبات؛ إذ ليس من المعقول أن هذا الشباب قد توجه تلقاء خوض الحرب في سبيل الحرية والاستقلال مصادفة، وإنما تؤكد الملاحم البطولية التي خطها شباب الثورة في ساحات الوغى أنَّ هبته كانت عن إصرار يحدوه ذلك الأمل الواعد الذي زرعه رواد الإصلاح قبل الثورة وأثناءها.
لقد تميز البشير الإبراهيمي عن غيره من المصلحين في عصره بنظرته الاستشرافية لمستقبل أمته التي بذل المستعمر جهده في غزو عقول شبابها، وتسكيرها جهلا، وإظلالها خرافة، وإحباطها وهنًا، وإنه من المنصف أن نقول إن جهود الإبراهيمي قد جاءت في وقت مهم من تاريخ الجزائر، وتاريخ الأمة العربية والإسلامية، إذ نجده يوجه خطاباته إلى فئة الشباب خاصة ليقينه أن الشباب خير منْ يرعى الأفكار وينميها، فمنذ ظهور الإسلام والشباب المسلم هو من تكفل بالدعوة ومناصرتها ونشرها، وشباب الجزائر في نظره سليل الشباب المحمدي الذي يُعد « أحق شباب الأمم بالسبق إلى الحياة، والأخذ بأسباب القوة؛ لأن لهم من دينهم حافزا إلى ذلك، ولهم في دينهم على كل مكرمة دليل، ولهم في تاريخهم على كل دعوى في الفخار شاهد، [وهو لا] يشغل وقته في تعداد ما اقترفه آباؤه من سيئات أو في الافتخار بما عملوه من حسنات، بل يبني فوق ما بنى المحسنون، ويتقي عثرات المسيئين»، ويصلح ما أفسدوه، وهو في ذلك أمل الجزائر، وكيان الأمة الإسلامية فليس من حقه أن ينام في الزمان اليقظان أو يهزل والدهر جاد، أو يرضى بالدون من منازل الحياة. إذ الدعوة قائمة لشباب الإسلام بأن يتصلوا بالله تدينا، والنبي إتباعا، وبالإسلام عملا، وبتاريخ الأجداد اطلاعا، وبآداب الدين تخلُّقا، وبآداب اللغة استعمالا .. فإن فعل الشباب حزم من الحياة الحظ الجليل، ومن ثواب الله الأجر الجزيل، وفاءت عليه الدنيا بظلها الظليل .
لقد أيقن الإبراهيمي بفكره الثاقب أن الشباب الجزائري في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الجزائر صار يُجسد مفهوم الشعب الذي يكون وقودا للثورات؛ إذ الشعب « جماعة من الأفراد يرتبطون فيما بينهم بالعادات المشتركة وبإمكانات التواصل » ، والشباب الجزائري يدرك جيدا في قرارة نفسه أنه يمثل الشعب بما يجسده من ترابط بينه وبين أبناء وطنه في العادات، والتقاليد، والدين، واللغة، وأن المستعمر ما هو إلا “قاوري” يختلف عنه تمام الاختلاف في العادات، والتقاليد، والدين، واللغة.
وهذا يعني أن الإبراهيمي من الرجال الذين يمتلكون بامتياز القدرة على فهم الواقع، وقراءة مؤشراته قراءة صحيحة، إذ هو يتقدم إلى ما يوكل إليه من مهام « يحمل الراية باليمين لا يأبه بالمكائد، ولا بالسجون، ولا يبالي بالمنافي في الفيافي، بل يدخل المعمعة بقلب أسد » محتف بالنصر قبل المعركة، وهذه الخلال جعلته في قلوب الشباب وفي أذهانهم، فانعكس فكره في أفعالهم وأقوالهم؛ لأنه « ليس رجل قُطْر، مهما اتسعت أرجاؤه، وليس رجل إقليم مهما امتدت أطرافه، ولكنه رجل أمة برَّحت به محنها، وصهرت جوانحُه آلامها، وأمضَّه هوانها على الناس »، وهو ما تؤكده خطاباته التي جاءت في شكل خواطر أدبية كشفت عن فهمه العميق لواقع الجزائر، واستشرافه لمستقبلها؛ لأنه كان يعتقد أن تربية الشباب التربية الصحيحة ستظهر نتائجها في الثورات وبعدها، إذ الثورة مهما طالت لا بد لها من نهاية، وإذا كان الانتصار حتمية الثورات الصادقة فإن ما بعد الثورة يمثل بناء الأمة، إذ الهزات التي تحدثها الثورات لن تؤدي إلا لشيء واحد « إلى اللحظة التي أصبح فيها الشعب أمة تحمل كل وظائف الدولة وتحمّلها لوحده. لا بل تحمّل وظائف الأمة والدولة في الوقت نفسه، وهذا يعني ضمان الوظائف الكونية للدولة والأمة » .
3. الشباب الجزائري كما تَمثَله الإبراهيمي:
ليس من شك في أن الإبراهيمي كان قد تجاوز الفكر القائم في عصر الذي لم يَتعدى في نظرته لمستقبل الجزائر الثورة التحريرية، وغفل عن الاستقلال الذي سيكون ثمرة الثورة، لذلك وجدنا الإبراهيمي بعيد النظر في تصوره لمستقبل الجزائر فهو لا يقف عند حدود الثورة التحريرية بل يتعداها إلى الاستقلال وبناء الدولة من خلال إعداده لشبابٍ يتسم بسمات تجعله يحمل على عاتقه همَّ بناء الدولة بعد نجاح ثورة التحريرية، إنه يتمثل في خاطره شبابا جزائريا كله مسؤولية، يميزه عن غيره بأن يكون متساميا إلى معالي الحياة، عربيدَ الشباب في طلبها، طاغيا عن القيود العائقة دونها، جامحا عن الأعنة الكابحة في ميدانها، متقد العزمات، تكاد تحتدم جوانبه من ذكاء القلب، وشهامة الفؤاد ونشاط الجوارح.
إن الشباب في فكر الإبراهيمي لا ينتهي دوره بإنجاز المهام المسندة إليه، بل إن نهاية مهمة تقود إلى مهمة أخرى أكثر أهمية، فنهاية مهمة التحرير لا تعني الركون إلى الراحة، إذ مهمة البناء أهم خاصة أن حلم المستقبل يشترط فيه أن تندج المشاريع الجماعية في إطار سياسي على مقاس الأمة، ووفق خصائص مقوماتها الحضارية، فلا تستورد الأفكار من غيرها، ولا تبني حضارتها من منتجات مستوردة إذ « الحضارة هي التي تلد منتوجاتها، وسيكون من السخف أن نعكس هذه القاعدة، وحتى إذا اشترينا منتجات حضارة أخرى فلا نستطيع أن تشتري الروح والأفكار التي صنعت منها الأشياء »، وهذا يعني أننا إذا لم ننتج من صنع أيدينا سنبني حضارة زائفة تسقط لأول رجَّة من رجَّات التاريخ المتقلب.
إن مكنون الفتوة والاندفاع الذي يحويه قلب كل شاب بإمكانه أن ينير الدنيا نشاطا وعملا، ومن هنا انتبه الإبراهيمي إلى هذه القوة الدافعة التي تهدُّ الصعاب وتتجاوز العراقيل، لذلك نجده يتمثل الشباب الجزائري مقداما على العظائم في غير تهور، محجاما عن الصغائر في غير جبن، مقدرا موضع الرجل قبل الخطو، جاعلا أول الفكر آخر العمل؛ إذا الشباب في فكره قوة تخدم العقل ولا تخذله، واندفاع في روية وتعقل، بعيدا عن تضخيم الصغائر أو احتقار العظائم، فمجموع القوة منتهاه العقل الذي يصرفها بحسب الحاجة، وهذا الطرح يقود إلى ظهور أنموذج شبابي له مواقف من قضايا مجتمعه العربي والإسلامي والإنساني. شباب جزائري واسع الوجود، لا تقف أمامه الحدود، فيرى كل عربي أخا له أخوة الدم، وكل مسلم أخا له أخوة الدين، وكل بشر أخا له أخوة الإنسانية، ثم يعطي لكل أخوة حقها فضلا وعدلا، إنها الصورة المثلى التي تصورها الإبراهيمي عن الشباب الجزائري الذي سيتجاوز من خلالها حدوده، ويرنو إلى قبول الآخر، والسعي في تقديم يد المساعدة له سواء أكان أخا أخوة دم أم دين أم إنسانية.
وإذا كان الشباب وقود الأمم والأساس الذي تبنى عليه حضاراتها فإن العمل هو الشعار الذي يجب أن يميز مسيرته، وإن العلم هو الموجه له؛ فإن الشباب الجزائري في فكر الإبراهيمي هو الذي يكون “حلف عمل لا حليف بطالة، وحلس معمل لا حلس مقهى، وبطل أعمال، لا ماضغ أقوال، ومرتاد حقيقة لا رائد خيال”؛ إذ الحضارة صندوق العمل، والبطالة مدعاة للكسل، وهو ما يعكسه واقع الشعوب في اقتصادها ونمط حياتها، وهذا يعني أن الشباب الذي تراهن عليه الأمة مستقبلها هو ذلك في كل حالاته “مقبلا على العلم، والمعرفة، والنفع إقبال النحل على الأزهار، والثمار لتصنع الشهد، والشمع، مقبلا على الارتزاق إقبال النمل تجد لتجد، وتدخر لتفتخر، ولا تبالي، ما دامت دائبة، أن ترجع مرة منجحة، ومرة خائبة”، إذ العلم والمعرفة هما الغذاء الروحي والمادي الذي يتغذى عليه الشباب الناجح الطامح إلى بناء الأمة على أساس القيم والمبادئ.
د. عادل بوديار: أستاذ محاضر بقسم اللغة والأدب العربي، كلية الآداب اللغات جامعة تبسة.