هل خرج الأمير عبد القادر من الجزائر مستسلماً ؟
بقلم: الأميرة بديعة الحسني الجزائري-
الجواب:يجده القارئ الكريم في هذا البحث الموثق نقدّمه لكل من كتب عن هذا الرجل أنه سلّم نفسه وعائلته لعدوّه أو كتب أنه اضطر إلى الاستسلام.
وإلى الذين وضعوا هذه الجمل في المقررات المدرسية في سياق كتابة تاريخ هذا الرجل، الأمير عبد القادر الجزائري.
من المألوف التحدث عن شخصيةٍ ما دخلت التاريخ والكتابة عنها زمناً طويلاً، ولكن هل من المألوف الاستمرار بنقل كل ما كتبه الأعداء عنها، من غير بحث أو تحليل والكشف عن أكاذيبهم والاكتفاء فقط بنقل كل ما قُدّم لمؤرخينا ؟ وإصرار البعض من المؤرخين الشديد على نقل السم وترك «الدسم».
من المعلوم بعد استقلال الجزائر وخروج آخر جندي فرنسي منها نتيجة مقاومة استمرت أكثر من قرن ونيف من الزمن، لأنها كانت متفرقة، وحينما اتحد الشعب في مدة ست سنوات، انتصر. وطرد المحتلين بالقوة ، قوة الوحدة الوطنية، والسلاح ، سلاح المقاومة والإيمان في ثورة متواصلة جعلت العالم ينحني لها تقديراً وإجلالاً.
وبعد الاستقلال اهتم كبار المسؤولين بتنظيم أمور الدولة وإدارة شؤون البلاد، وتُركت الأمور الثقافية، فأشرف على المنظومة التربوية والثقافية شخصيات ينتمون إلى المدرسة الفرنسية التاريخية التي نشأت في الجزائر وتوسعت أمثال «برونو إيتيان» و«جون كلود فاتان» وغيرهما، وربما الله أعلم أمثال الدكتور يحيى بو عزيز و عبد الجليل التميمي وبو جدرة على سبيل المثال .
هذه المدرسة الاستعمارية أي الاستكبارية تأسست أثناء الاحتلال واتبعت أيديولوجية فريدة في أدبياتها وأولوياتها، أولاً: احتقار المصادر العربية الإسلامية ، والكتابة بأسلوب إبداعي يجعل الطالب الجزائري يكره تاريخه ويحتقره ويبتعد عن قيمه وتراثه بل يحاول التبرؤ منه وإقناع هذا الطالب بأسلوب جذاب أنه ينتمي إلى فاندال الغرب الأوروبي لا للعرب الدخلاء المتخلفين، هذه المدرسة التقت تلقائياً بالمدارس البربرية التي أنشأتها فرنسا في المغرب العربي والجزائري.
من آرائها أن فرنسا دخلت الجزائر بهدف تجميلها وإنقاذها من الاحتلال التركي البغيض، وهنا يحضرني هذا الدليل على تأثير هذه المدرسة الفرنسية على البعض من المثقفين، في وصف معركة كتب عنها الدكتور يحيى بو عزيز المؤرخ الجزائري الأكاديمي خريج هذه المدرسة، فقال في كتابه «الأمير عبد القادر سيرته الذاتية ونضاله» في الصفحة 179: «تتدخل الجنرال مونتانياك لنجدة جنوده في مواجهة فرسان الأمير بقوة وسرعة وأصابوه بجروح بليغة في أسفل بطنه، وقتلوا عدداً من الجنود والضباط، وقتل فرسه، فقدم له آخر، فتوجه برأسه العاري ويده مشدودة على جرحه القاتل، ثم جلس على الأرض وأخذ يعطي الأوامر لمواصلة القتال بفمه وبالإشارة أحياناً لعدم قدرته على الكلام، وقتل اثنان من الضباط ، وعندما أدرك مونتانياك أن حالته ميؤوس منها أرسل يطلب نجدة ويسلم القيادة إلى فررمن كوست، وعندما طلب الأمير منهم الاستسلام أخذ مونتانياك يشجعهم على القتال قائلاً لهم (تشجعوا أيها الأبناء، الرصاص لا يؤذي، الشجاعة، الشجاعة أيها الأبناء). وعندما وصلت النجدة والطبيب والترجمان اليهودي كان مونتانياك قد لفظ أنفاسه.
لاشك أن مشاعر شتى غمرت هذا المؤرخ الجزائري ويده تخط وصف هذه المعركة إن كان ذلك نقلاً أو تخيّلاً، وفي الحالتين ألم يكن يتمنّى أن يكون فرنسياً ينتمي إلى أمثال هذا القائد الشجاع الذي رفض الاستسلام وأبت عليه كرامته؟ ويقارن بينه وبين أمير بلاده الذي استسلم وسلّم نفسه؟ وذهب إلى فرنسا، واختار النفي، لأن هذا الكاتب لم يجد من يقول له أن الذي قرأته في المدرسة عن أمير بلادك هو كذب وتلفيق واتهام باطل، لأن الحقيقة أن أميرك حقن دماء الأخوة في الدين والجوار في معركة فُرضت عليه ، ورفض متابعة القتال ضد الذين حاصروه من قوات الدولة الشقيقة، فوجبت عليه الهجرة لأنه كان المقصود شخصياً في اتفاقية طنجة بين السلطان وبيجو عام 1844م ، إما قتله أو أسره، فقرر وقف تلك المهزلة، وحقن دماء الأخوة. وكانت المعركة دفاعية على أرض جزائرية وليس مغربية كما يشيعون. والدليل أنها جرت على ضفاف نهر ملوية، الفاصل بين البلدين.
قرر الهجرة كجده رسول الله e ، وعقد مع أعدائه عقد أمان، والعقود معترف بها عالمياً، لم يوقف المقاومة وإنما ترك رجالاً أشداء تابعوا طريقه في مقاومة الاحتلال حتى النصر، وكان هو من مكان إقامته بعد خروجه من السجن يساعد ويوّجه حتى وفاته.
الكلام الأول، درسه منذ نعومة أظفاره وقبله درسه والديه ، هذا النموذج ودليل على نجاح المدرسة الاستعمارية والغزو الفكري المَعين الذي لا ينضب بعد الغزو العسكري.
الغزو الذي جعل البعض من الجزائريين يخجل بانتمائه إلى ماضٍ متخلف متوحش، حان وقت سقوطه كنبتة سيئة جفت وحُطّمت ولم يعد أحد قادراً على إعادتها إلى الحياة، هذا الفكر الذي درسه وتعلّمه خريجو هذه المدرسة الفرنسية من الجزائريين كصاحب دار المعرفة في الجزائر «فيصل هومة» وأمثاله ونظرتهم إلى الإسلام، هكذا درس هو وأمثاله . والدليل الذي قُدّم لهم استسلام أمير بلادهم الذي لا ينتمي إلى حضارة قائمة قوية ، كنبتة جيدة التغذية قوية الجذور عريقة المنشأ كتلك الحضارة التي أنجبت هؤلاء القادة العظام (بيجو ومونتانياك ولامورسيير والدوق دومال ونابليون الثالث وشارل العاشر ) وغيرهم على سبيل المثال لا الحصر.
لا شك أن الذي فعلته فرنسا بالجزائر أخطر وأشد من الاحتلال العسكري وقطع الآذان وحرق المحاصيل ، وكل الأعمال الإرهابية التي يتفاخر بها جنودهم ويرسلون التقارير للحصول على المكافآت . هذه الأعمال لولاها لما استطاعت فرنسا البقاء في الجزائر أكثر من شهر واحد، ولما استطاعت أخذ كنوز الجزائر التي لا تُحصى لزيادة رفاهية شعبها الفرنسي، هذا معتقدهم.
ومن الواضح أن هذا الأكاديمي الجزائري لم تتح له حرية التفكير هو وأمثاله، لأن الدماغ غُسلت منذ نشأتها وزُرعت بمعلوماتٍ مفادها أن فرنسا دخلت الجزائر لإنقاذها من حكم الأتراك البغيض المتوحش وتجميلها، ونشر الحضارة بين قبائلها المنحطة وإدخال النور إليها، كما قال هنري تشرشل في كتابه «عبد القادر سلطان عرب الجزائر». هذا العنوان ألا يحتاج إلى تحليل؟ وطرح سؤال: لماذا كتب هذا الضابط البريطاني عنواناً لكتابه «سلطان عرب الجزائر» ؟ أليس لإشعال الفتن والتفرقة في الأمة الواحدة؟ هذا عربي وذاك بربري.
لأنّ إيديولوجية هذه المدرسة ومبادئها ، القضاء على اللغة العربية بالدرجة الأولى، أي على هوية الوطن ، بحجة أنها لم تعد مناسبة لحضارة العصر ، وتعليم اللغة الفرنسية الجميلة بدلاً منها أو المازيغية ، هذه النزعة المحمومة وقفت في وجهها دولة الأمير عبد القادر سداً منيعاً، وبعدها جمعية العلماء المسلمين التي ترأسها الشيخ بن باديس ، لقد وجدت هذه المدرسة في وجهها حصوناً منيعة، ففشلت في مسعاها ومن قبل أنقذ العثمانيون الإسلام والقرآن في المغرب العربي .
أما هذه الوثائق التي ترجمها الأستاذ الكريم زهير ناجي ونشرها عام 1957 في صحيفة الرأي، التي تفضح وحشية الاستعمار الفرنسي في الجزائر نقلاً عن كبار كتّاب فرنسيين ، لاشك أنها معلومات من المفيد معرفتها، ولكن من المفيد أيضاً معرفة معلوماتٍ عن المقاومة الجزائرية وفضح الأكاذيب والمبالغات إلى جانب أخبار التعذيب وقطع الآذان، لاشك أن هؤلاء الكتّاب الكبار الفرنسيين يكرهون الاستعمار والطبقة البرجوازية، ولكن لا يكرهون وطنهم فرنسا، ويخشون على سمعته.
وهي أدلة على وحشية هذه الطبقة البرجوازية في فرنسا ولكنهم بالتأكيد لا يكرهون وطنهم فرنسا وإنما يأتي نقدهم بهذه الطريقة للدفاع عن وطنهم والقول أن الشعب الفرنسي ليس هؤلاء برجوازيين وهم قلّة من الشعب، والدليل وجود أمثالهم من المفكرين. هذا أيضاً ما أرادوا قوله لنا .
فنشر واستنكار وحشية الاستعمار تضمنت بين طياتها تحذيرات للعرب والعالم والقول احذروا من الوقوف ضد مصالح الأقوياء، والدليل أمامكم «الأمير عبد القادر» الذي اضطر في نهاية المطاف إلى الاستسلام بعد أن جرّ ورائه شعبه في نضال مرير، وفي النهاية اضطر إلى الاستسلام «نهاية ابتدعوها وألصقوها بهذا البطل المقاوم»، لأنّ هؤلاء الكتّاب الكبار والمؤرخين في سياق أعمالهم النقدية للنظام الاستعماري لم يذكروا أن الأمير عبد القادر لم يستسلم ، ولم يقفوا لحظة واحدة عن معنى إرسال الجنرال لامورسيير سيفه إلى الأمير عبد القادر والذهاب لمقابلته، إلى جانب فضح وحشية المحتلين من أبناء قومهم. هذا الحدث التاريخي تجاهلوه، لماذا ؟
وأيضاً هناك حدث لا يقل عنه أهمية وهو نقل الأمير من الباخرة الجزائرية «أحمودة» في عرض البحر إلى البارجة الفرنسية التي سارت به إلى طولون.
لقد اهتم مؤرخونا العرب والكتاب بالتفسير والرأي، تفسير الاستئمان، وهو بندٌ من بنود قوانين الحرب في الإسلام، فسروه بالاستسلام، وفسروا الهجرة بتسليم النفس. فمثلاً تجاهلوا أحداثٍ هامة وتمسكوا بتفاسير الأعداء وآرائهم.منها مثلاً العمل الذي قام به الجنرال لامورسيير ممثل فرنسا في الجزائر، وهو إرسال سيفه حينما علم بقرار الأمير الشفهي، فأرسل سيفه إلى الأمير إلى جانب ورقة بيضاء عليها ختمه وتوقيعه، وكتابة ورقة أخرى للدوق دومال ابن ملك فرنسا قال له فيها: «الآن ممتطياً جوادي للذهاب لمقابلة الأمير عبد القادر في دائرته للموافقة أمامه على قبولنا وقف الحرب وذهابه إلى عكا، وعدم تعرضنا له أثناء مسيرته إلى ميناء الغزوات، والموافقة على طلباته الثلاث.
هذا الحدث لماذا تجاهله المؤرخون؟ ولم يقفوا عنده قليلاً واختصروا كل تلك الأحداث كما فعل الأعداء وفسروها بجملة واحدة «الاستسلام» مع أن الواقع واضحٌ كالشمس، أن فرنسا هي من ألقت سلاحها للأمير والسيف في ذلك الزمان هو السلاح الأساسي للحروب لا الأمير هو الذي ألقى سلاحه، وممثلها هو الذي ذهب لمقابلة الأمير وعقد تلك الاتفاقية معه، أي عقد أمان «ألا يقاتل أحدهما الآخر منذ تلك اللحظة بصفة الأمير عبد القادر الشخصية وليس كرئيس دولة».
ولكن لا لوم على كل من لفق وبدّل وكذب وفسّر تفسيرًا خاطئًا منهم، لا لوم عليه، لأنه وجد في ذلك خدمة لوطنه حسب ثقافته ، فهو يدافع بهذا الأسلوب في مؤلفاته دفاعاً عن كرامة بلاده والحفاظ على سمعتها، لأن في ذكر هذه الأحداث الهامة أولاً فيها تبرئة للأمير عبد القادر مما أُلصق به من تهم ، ثانياً ذكر وتسجيل عملية الغدر والاختطاف ، ثالثاً أن فرنسا هي من قَبِل وقف الحرب وهي من بادر بإرسال سلاحهم إلى الأمير عبد القادر، وبشيء من التحليل يجد الباحث أن لو كان الأمير ضعيفاً لما قبلت فرنسا وقف الحرب.
وأيضاً لا لوم على هنري تشرشل الضابط البريطاني الذي أراد تقديم نشوة النصر إلى حليفة بلاده، فكتب في الصفحة 248 في كتابه «حياة عبد القادر سلطان عرب الجزائر» : «عمّت أنباء استسلام عبد القادر فرنسا بحماسٍ شديد بالانتصار، لأن الجزائر أصبحت بحق مستعمرة فرنسية ، إن إخضاع عبد القادر هو حادث في غاية الأهمية لفرنسا، إنه يؤكد طمأنينة احتلالنا، إنه يسمح لنا أن نخفض عدد الرجال والنقود التي كنا نرسلها إلى إفريقية لسنوات طويلة».
هذا رأي الكاتب البريطاني وتفسيره للاستئمان الزمني الذي ذكره بالحرف الواحد في الصفحة التي سبقت، وعلى الرغم من ذلك فسرها بالاستسلام أي الخضوع وبذُلّ، لتُحفر في أذهان أطفال بلادنا ومؤرخينا الذين تمسكوا بتلابيب هذه التفاسير والآراء ومبادئ المدرسة الفرنسية التاريخية، حتى منهم ابن الأمير عبد القادر محمد باشا في كتابه «تحفة الزائر»، الذي ذكر في الصفحة الرابعة من كتابه ، الذي سُرقت مسوّدته وحُرقت، فكتب في أول هذه الصفحة «وألقينا السلاح إلى الفرنسيين» مع أنه كتب تفاصيل إرسال الجنرال الفرنسي سيفه إلى والده، وذهب لمقابلته على الرغم من ذلك نسي ما كتبه ربما، فأراد كسب ود فرنسا في كتابه هذا، وهذه الجملة كانت سبب إرسال أخوته أحد الخدم لأخذ تلك المسوّدة وصب عليها الكاز وحرقها، لولا الدُخان ورائحته الذي لفت نظر أحد المارّين فأطفأ النار، فلم تُحرق بالكامل، واعترف المؤلف بذلك.
لم يعترف بأنها حُرقت لغرضٍ في نفسه. وفي كتابه هذا الذي طُبع في الإسكندرية عام 1903 ، الكثير من التناقض على الرغم أنه تضمّن معلوماتٍ قيّمة صحيحة .
ولقد قمتُ قبل سنوات بدراسة هذا الكتاب وألّفت كتاباً صدر عام 2009 عن دار الفكر .
أما هؤلاء الكتّاب والمؤرخون التقدميون الفرنسيون الذين كانت لهم نظرياتهم وقاموا بفضح الأعمال الوحشية للطبقة البرجوازية في الجزائر وغيرها في مؤلفاتهم ليس معناها كما أسلفتُ، كرهٌ لوطنهم فرنسا بنشر تلك الأعمال الإرهابية وبالتأكيد كانت أهدافهم فضح تلك الطبقة خدمةً لمبادئهم وأحزابهم وهي قطعاً لا تدخل في دائرة النقد لا الماركسي ولا حقول النقد الثقافي بقدر ما تدخل في دوائر التشهير والفضح وكشف المستور .
أما الكاتب والمناضل «فرنستز فانون» المناضل الزنجي الذي نشأ في مستعمرة فرنسية ، وعايش الذل والهوان ودرس في فرنسا الطب النفسي ثم رافق الثورة الجزائرية عام 1954 ، اختصاصه الطب وليس التاريخ لذلك لا لوم عليه إن لم يذكر الأمير عبد القادر ولم ينصفه. لقد عمل في المشافي الجزائرية فكان عقلٌ يحلّق ويخفق ، وموسيقا تصدح بالألحان الوطنية الجزائرية كما وصفه المفكّر الشهير جان بول سارتر في تقديمه كتاب «معذّبو الأرض»، فنصح في هذه المقدمة جميع الأوربيين بقراءة هذا الكتاب الذي تضمن شهادات حيّة من شاهد عيان على وحشية الأوربيين في الجزائر، شاهد على عمليات التعذيب التي كُلّف بإسعافاتها عند الرمق الأخير من نساءٍ وأطفال، وشاهد على صبر وصمود وشجاعة الجزائريين وإيبائهم.
لقد وجد هؤلاء الكتّاب فرصة للهجوم على خصومهم السياسيين البرجوازيين ومثالبهم ولكن بالتأكيد كان ذلك لغايات حزبية وفكرية لأنهم لم يلتفتوا نحو آفاقٍ أخرى أخلاقية تمس عظمة بلدهم فرنسا ولم يقاربوا مبادئ ثورة بلادهم عام 1789 وشعاراتها الثلاث والبند الثاني منها وهو العدالة ، التي اعتبرها الكثير من المفكرين الفرنسيين كالكونت «سان سيمون» معلم من معالم تطور التاريخ الحضاري .
العدل، كان يتطلب من هؤلاء الكبار التقدميين، ذكر حادثة، تاريخية لا تخرجهم من الحقول التي يكتبون فيها وهي حرب الجزائر. الحدث التاريخي الذي تجاهلوه وهو : إرسال لامورسيير الجنرال الفرنسي ممثل فرنسا في الجزائر، إرسال سيفه إلى الأمير عبد القادر، حينما علم بقرار الأمير وقف الحرب وهجرته من البلاد، ثم ذهابه لمقابلته في دائرته والتوقيع على طلبات الأمير الثلاث وهي عدم ضرب الباخرة أحمودة التي ستنقله إلى عكا ، ثانياً: الخروج من ميناء الغزوات مع عائلته. وأخيراً طلب عدم التنكيل بأهله في الجزائر لا غير، لا هدنة ولا صلح، أليس حدثٌ هام يذكر؟ لأنه يتعلق بشخصية هامة بالنسبة لهم قاتلت دفاعاً عن بلادها سبعة عشر عاماً ضد قوات بلادهم الغازية ، ولم يستطع أحد من مؤرخيهم تجاهل انتصاراته على قواتهم ، وآخر معركة كتب عنها الكثير منهم، حدثت قبل خروج الأمير من الجزائر مهاجراً بأربعة أشهر، وهي معركة «سيدي إبراهيم» لأن انتصار الأمير كان مدوّياً وخسائرهم كانت كبيرة فادحة.
أما الحدث الثاني كما أسلفتُ الذي تجاهله المؤرخون، وهو الحدث التاريخي الذي لا يقل أهمية عن الأول وهو نقل الأمير وعائلته من الباخرة الجزائرية التي كانت في طريقها إلى عكا، نقلهم بالقوة إلى بارجة فرنسية في عرض البحر ، سارت بهم إلى مدينة طولون الساحلية الفرنسية ، هذا الحدث الذي لا يسمى إلا اختطاف وغدر لم يذكره أحدٌ منهم في مؤلفاتهم ولو بالإشارة، إلى جانب نشرهم وحشية الطبقة البرجوازية الحاكمة، لماذا؟ ؟ أليس إرسال السيف معناه الخضوع والقبول بوقف الحرب ؟ أليس لأن الأمير هذا القائد ، كان مازال قوياً يكبدهم الخسائر ؟ وهم كانوا ضعفاء ووصلوا إلى درجة خطيرة من اليأس مما جعلهم يفرحون ويسرعون بالخضوع لطلبات الأمير مهما كانت، وخروجه من الجزائر وشعورهم بنجاح خطتهم ، خطة بيجو ، بفتح جبهة جديدة بين الأمير والسلطان عبد الرحمن سلطان المغرب، ولا مجال لذكر تفاصيل فتح تلك الجبهة في هذه العُجالة.
والأمير عبد القادر كان رئيس دولة منتخب من القبائل الجزائرية بالإجماع ، وليس مبايعة من سكان القيطنة، التي كانت مزرعة العائلة ومورد رزقهم وعدد سكانها لا يتجاوز الخمسين فرداً بين عمال زراعيين وأطفال، لم يصل إلى الحكم بالوراثة ولا بالتعيين ، وإنما بمبايعة شرعية ، والكلام عنه المفروض أن يكون من هذا المنطلق ، ومن المفروض ذكر هذه الأحداث الهامة بتحليل دقيق، وهو أمر غير صعب ، لأن كل المعطيات سهلة وميسرة أمامهم مثلاً ككتاب هنري تشرشل ، ففي استطاعتهم غربلته «وهذا اصطلاح للمفكر العربي ميخائيل نعيمة» في كتابه «الغربال» وبإمكانهم التركيز على هذين الحدثين وتحليلهما، ولم يكن يحتاج الأمر إلى كثير من التفكير ، فلولا وصول القوات الفرنسية في الجزائر إلى حافة اليأس، ويأسها من الاستمرار في الاحتلال والانتصار على الأمير ومقاومته لما وافق القائد الفرنسي على القبول والخضوع لطلب الأمير والاستسلام لإرادته لفك ذلك الحصار ، حصار الأخوة للأمير في الدين وليس الفرنسيين، وحقن دماء الأخوة في الدين والجوار، في تلك الليلة المظلمة من غير متابعة قتال لا شهداء فيه، «الأمير أوقف الحرب أي انسحب، أوقف تلك المهزلة ، ولكن لم يوقف المقاومة ضد فرنسا، والدليل فبعد اختطافه وسجنه بأشهرٍ قليلة اشتعلت ثورة الزعاطشة بقيادة الشيخ مزيان خليفة الأمير على بلاد الزيبان ». وذكر أسماء الأبطال من رؤساء الولايات أي خلفاء الأمير الذين تابعوا المقاومة بعد سجنه يحتاج إلى مجلد ومئات الصفحات من الوثائق.
أما هؤلاء الكتّاب العظماء الفرنسيون التقدميون قد قرأتُ معظم كتبهم ونظرياتهم وعطفهم على الشعوب المستضعفة ولكن لم أقرأ كلمة واحدة تمس هيبة فرنسا في مؤلفاتهم وعظمتها وقوتها ، صحيح أنهم يكرهون الاستعمار ولكن لا يكرهون وطنهم فرنسا كما أسلفت، ولقد تحاشوا في سياق كتاباتهم عن حرب الجزائر أحداث هامة ، تجاهلوا عملية الغدر والاختطاف في عرض البحر ، لم يذكر أحدٍ منهم هذه الأحداث الشائنة .
أما نشر رسائل وتقارير من الجزائر لفضح خصومهم ، فهو عملٌ لم يكن يَخجل هؤلاء الخصوم منه وربما يفخرون به لأنه كان في مصلحة وطنهم فرنسا، وكل عملٍ فيه مصلحة لفرنسا في أدبياتهم عملٌ مشروع، ولو أشاروا إلى تلك الأحداث بشيءٍ من التفاصيل حولها والحقائق لخروج الأمير عبد القادر من الجزائر لما ذكر أحدٌ وكتّابنا أن الأمير استسلم ولفتت كتاباتهم نظر مؤرخي بلادنا ولقدموا شيئاً من العدالة التي نادت بها ثورتهم وبرؤوا الأمير عبد القادر هذا المقاوم العربي من الاستسلام، لفرنسا أو تسليم نفسه أو قبوله بالنفي، بالأدلة والبراهين ولما تحولت هذه الإشاعات الكاذبة إلى كرةٍ من الثلج تتدحرج حتى يومنا هذا ولما أُلصقت هذه الفرية والتهمة بالأمير وتكرر ذكرها بالكتب المدرسية وزيدَ جملة «اضطر إلى الاستسلام» جملة كاذبة أيضاً وهي «التجأ إلى سلطان المغرب» حتى عام 2009 .
لم تجد لجنة تأليف كتاب «تاريخ العرب الحديث» للصف الثالث الثانوي الأدبي المؤلفة من تسعة أساتذة رجال ونساء، لم يجدوا أهمية أكثر من كتابة سطر ونصف يخصصوه لتاريخ الأمير عبد القادر، لم يجدوا أن هذا المقاوم يستحق أكثر من ذلك مع الأسف.
والوحيد في بلادنا ، والله أعلم ، الذي ذكر الحقيقة وأنصف الأمير بكلمة واحدة وهو المؤرخ العربي السوري «تقي الدين الحصني» الذي ذكر كلمة «الاستئمان». فقال في كتابه «منتخبات مشاهير رجال دمشق» صفحة 740 ذكر أن الأمير عبد القادر فاوض فرنسا واستأمن لنفسه وعياله، فبرأه من الاستسلام ولكن مع الأسف معظم كتّابنا العرب نقلوا تفاسير وآراء هنري تشرشل من غير تحليل أو تفكير ، لأن الكاتب بريطاني ليس عربيًّا، كالحصني العربي السوري، هذه الشريحة في بلادنا كان للمدارس الاستعمارية والغزو الفكري تأثيرٌ كبير عليها كما أسلفت في بداية بحثي، ففي عهد الانتداب الفرنسي كان يُذكر في مادة التاريخ والكتب المدرسية أن الأمير عبد القادر سلّم وذهب إلى فرنسا ونُفي إلى دمشق ، كما كُتب عن عبد الكريم الخطابي وجعلوا الاثنين في منزلة واحدة ، أما بعد الاستقلال فبُدلّت كلمة سلّم بـ «الاستسلام».
وفي الجزائر التي أشرف على المنظومة التربوية فيها بعد الاستقلال كتّاب فرنسيون أمثال «برونو إتيان» وغيره، فكُتب «اضطر الأمير عبد القادر إلى الاستسلام» ، وهذا دليل على نجاح المدارس الاستعمارية التي وصل تأثيرها إلى شريحة في مجتمعاتنا ولكن كانت في نطاق ضيّق لرحمةٍ من الله تعالى ونجا منها المؤمنون بقوله : )ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً (الإسراء 36.
فلو ذكرت الحقائق الحقيقية لخروج الأمير من الجزائر كما حدثت. وذُكر في الكتب المدرسية ووُضع أسئلة حولها للطلاب لأخذ العِبر وتدريبهم على الاستنتاج والتحليل والتعليل وتعويدهم على ذلك، وتقديم معلوماتٍ معرفية عن الهجرة وشروطها في الإسلام، الهجرة التي لجأ إليها الأمير عبد القادر أسوةً بجده الرسول r.
هؤلاء الكتّاب المؤمنون نجوا من تأثير المدارس الفرنسية وتقيّدوا بأمر الله تعالى ولكنهم لم يستطع أحد منهم إنصاف الأمير وتبرئته من تلك التهمة الكاذبة حتى الآن، وهناك حدثٌ لا يقل أهمية وهو زيارة نابليون الثالث لقصر أمبواز ومقابلة الأمير والاعتذار منه وتسليمه صك الإفراج بيده وتحليل هذا الحدث والكتابة عنه للدلالة على عدم استسلام الأمير وإنما على الغدر به واختطافه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الوثائق التي اعتمد عليها في البحث وتادراسة
هي الآتية:
1. كتاب «الأمير عبد القادر، سيرته الذاتية وجهاده»، تأليف الدكتور يحيى بو عزيز- ص 179.
2. كتاب «الكفاح المسلّح في عهد الأمير عبد القادر»، الدكتور محمد العربي الزبيري- 1982م.
3. كتاب «حياة عبد القادر السلطان السابق لعرب الجزائر»، تأليف الكولونيل هنري تشرشل- لندن 1867.
4. مجلة الدراسات التاريخية- العدد الخامس 1988م- وزارة التعليم العالي المدرسة الاستعمارية جمال قنان ص 128-134.
5. كتاب «معذبو الأرض» تأليف فرنستز فانون – نيسان 1963م – ترجمة الدكتور جمال الأتاسي والدكتور سامي دروبي. Les Damnés de la Terre, Frantz Fanon
6. بول آذان، جميع مؤلفاته مليئة بالخبث والمكر إلى جانب الحقائق يعني السم بالدسم.
7- Abdelkader Le Chevalier de la foi , Mohamed- cherif Sahli