الشيخ العربي التبسي شهيد العلم والوطن
بقلم: أ.د. مولود عويمر-
لقد قامت السلطة الفرنسية بعدة محاولات لحمل الشيخ العربي التبسي المسؤول الأول عن جمعية العلماء المسلمين في الجزائر على رفض الخيار الثوري لحل القضية الجزائرية والدعوة إلى التبرؤ من كفاح جبهة التحرير الوطني واعتباره مغامرة خطيرة لا مستقبل لها، واستعانت على ذلك بكل إمكانياتها وحيلها. ولما عجز الفرنسيون عن إقناعه وجره في سياستهم التضليلية قاموا باختطافه من بيته في 4 أفريل 1957.
ما هي ظروف اعتقاله؟ وما هو موقف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من هذه القضية؟
هذه الوثيقة التاريخية النادرة التي حرصت على نشرها هنا كاملة بمناسبة الذكرى الخامسة والخمسين لاستشهاد الشيخ العربي التبسي تجيب عن هذين السؤالين وغيرهما من الأسئلة، وهي تحمل عنوان: «بلاغ من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في قضية اعتقال الأستاذ الشيخ العربي التبسي الرئيس الثاني للجمعية ومدير معهد ابن باديس ». والنص كتبه الشيخ أحمد حماني نيابة عن المكتب الإداري لجمعية العلماء الذي كان معظم أعضائه في السجن أو في ميدان الكفاح في الداخل أو في الخارج.
وقد أرسل الشيخ حماني هذا البلاغ عن طريق البريد ووسائل اتصال أخرى إلى قادة جمعية العلماء في الخارج لتوظيف كل الوسائل المتاحة لكشف هذه القضية أمام الرأي العام العالمي والضغط على الحكومة الفرنسية للإفراج عن الشيخ التبسي، والتوقف عن الممارسات القمعية التي تمارسها أجهزتها العسكرية والأمنية تجاه الجزائريين الأحرار والثوار الأبرار.
وكان الخوف يراود عائلته وأصدقاءه وتلامذته بأن تقوم الجهة الأمنية التي اختطفته بتصفيته ثم بعد ذلك نشر خبر انتحاره كما حصل مع مجموعة من الشخصيات الجزائرية المؤثرة وعلى رأسهم الشهيد محمد العربي بن مهيدي. وللأسف هذا ما وقع، فقتل الشيخ العربي التبسي تحت التعذيب ولم يراع فيه المجرمون مرضه وكبر سنه ومكانته بين قومه وحرمة شهر رمضان...الخ.
لقد اغتالته السلطة الاستعمارية لزرع الرعب ونشر الخوف ظنا منها أنها قادرة على إيقاف مسار الاستقلال وإضعاف عزيمة المجاهدين وتثبيط المتعاطفين معهم، غير أن حركة التاريخ قد قالت كلمتها الفاصلة فحكمت بحق أهل القضية العادلة في العيش في العزة والكرامة والاستقلال. فمهما طال ليل الاستعمار فلا بد لشمس الحرية أن تشرق.
وإليك الآن أيها القارئ نص الوثيقة التي أذاعتها بعض وسائل الإعلام العربية ونشرتها الصحف، منها جريدة «المقاومة الجزائرية » لسان الثورة التحريرية.
«في مساء يوم الخميس 4 رمضان 1376 هـ/ 4 أبريل 1957 ، وعلى الساعة الحادية عشرة ليلا اقتحم جماعة من الجند الفرنسي التابعين لفرق المظلات المتحكمين اليوم في الجزائر سكنى فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ العربي التبسي، الرئيس الثاني لجمعية العلماء والمباشر لتسيير شؤونها، وأكبر الشخصيات الدينية الإسلامية بالجزائر، بعد أن حطموا بعض نوافذ الأقسام المدرسية الموجودة تحت الشقة التي يسكن بها بحي بلكور طريق التوت، وذلك شانهم في اقتحام ديار المسلمين ولا يأتونها غالبا من أبوابها، وإنما من السطوح والنوافذ، لتتم حسب زعمهم المفاجأة، أو ليشتد الإرهاب والنكال، ثم طرقوا باب الشقة ففتح لهم، وكانوا يرتدون اللباس العسكري الرسمي للجيش الفرنسي، ومسلحين بالأسلحة التي يحاربون بها الشعب الجزائري والمدنيين المسلمين.
وقد وجدوا فضيلة الشيخ في فراش المرض الملازم له، وقد اشتد عليه منذ أوائل شهر مارس 1957، وأخذت نوباته تتوالى عليه عنيفة مرات في الأسبوع، فلم يراعوا حرمته الدينية، ولا سنه العالية ولا مرضه الشديد وأزعجوه من فراش المرض بكل وحشية وفضاضة، ثم أخذوا في التفتيش الدقيق للسكنى، والملفات والكتب والرسائل بعد أن حجزوا العائلة وفصلوا عنه أبناءه وبناته واعتدوا بالضرب على أكبرهم لما حاول مساعدة والده المريض، ثم أخذوا محفظته بما فيها، ثم أخرجوه حاسر الرأس، حافي القدمين، غير متدثر بأي شيء إلا لبسة المتفضل، ولكنهم أرغموه على ارتداء سروال ولده الأفرنجي ومعطفه وكلاهما لا يصلح له لباسا لصغره.
وقد كان من المحقق لدى العائلة أنهم ذهبوا به للتحقيق معه، وإنما عومل هذه المعاملة لأنهم لم يشاؤوا أن يميزوه عن شعبه زيادة في النكال والاستفزاز. وكان هذا شأنهم منذ التحصيل على التفويضات الخاصة في مارس 1956 وخصوصا منذ أن حجرت الجزائر إلى القائدين لفرق المظلات ماسو وبيجار.
ولكن المفاجأة كانت تامة عندما سئل عنه في اليوم الموالي والأيام بعده في الإدارات الحكومية والمدنية والعسكرية والشرطية والعدلية، فتبرأت كل إدارة من وجوده عندها أو من مسؤوليتها عن اعتقاله، أو من العلم بمكانه حتى وصل إلى الإدارة العليا بمقر الوزير المقيم والوالي العام فتظاهرت بإنكار العلم واستنكار الفعل ووعدت بالبحث.
وبقيت المسألة كذلك على أن أرسل مكاتب جريدة لوموند الباريسية بخبر صغير نشر في زاوية مهملة يعلن فيه أن رجال المظلات قد اعتقلوا الشيخ العربي التبسي وهو عضو هام في جمعية العلماء، وأنه تحت أيديهم لأجل الاستنطاق والتحقيق. وكان ذلك بعد يومين من اعتقاله. وإذا بشركة الصحافة الفرنسية –وهي رسمية- تبادر بنشر بلاغ وإذاعته على العالم تزعم فيه أن الشيخ العربي قد اختطف من طرف مجهولين وأن وليه التجأ إلى الإدارة العليا فبادرت بفتح بحث في القضية انتج انه اختطف من مجهولين ويشم من هذا البلاغ أنها بريئة من القضية، وأنها ممن يشتكى إليه، ويلتجأ إلى حمايته وعونه.
وجمعية العلماء تذيع على العالم أجمع أن الحكومة الفرنسية بادارتها المدنية والعسكرية مسؤولة مسؤولية كاملة في قضية الشيخ العربي. وتخشى أن تكون قد اغتالته يد العدوان أو مات تحت العذاب. ولم يمكنها في هذه المرة أن تدعي أنه انتحر – كيف وهو مقيد اليدين والرجلين- بعد افتضاحها في قضية الشهداء الأبرار العربي بن مهيدي، وعلي بومنجل والشريف العمراني، فاخترعت هذه الدعوى الجديدة تنصلا من المسؤولية، وعدوان أعونها. وتلاحظ الجمعية أن فضيلة الأستاذ العربي كان في الزمن الأخير قبلة أنظارهم ومحط آمالهم لعلهم يجدون منه لينا أو «تفهما » يشجعهم على اتخاذه (المفاوض الصالح) للفت في عضد الثورة وتشتيت شمل الشعب، فما وجدوا فيه إلا الصلابة والحزم، والتضامن الكامل مع شعبه المكافح، وجيش التحرير المحارب وجبهة التحرير المناضلة. لقد أرسلوا إليه في شهر نوفمبر 1956 مفاوضهم الخاسر م. كومان كاتب الحزب الاشتراكي المتولي الحكم فلم يفز منه بطائل، وأبلغه أن المفاوض الوحيد هو جبهة وجيش التحرير أو من يعينونه لكم. ومع ذلك فقد كتموا هذا الخبر واخفوا هذه المقابلة حتى قرب أوان المداولات في القضية الجزائرية أمام منظمة الأمم المتحدة، وإذا بهم يعلنون –في أسلوب تساؤل أهناك مفاوضة؟-إن م كومان قابل الشيخ العربي وتحادث معه في القضية الجزائرية ثم علقوا على هذه المقابلة كما يحلو لهم دون أن تكون بيد الشيخ وسيلة لنشر أي إيضاح.
ثم أرسلوا إليه أثناء شهر جانفي 1957 مبعوث جريدة لوموند الباريسية يحاول أخذ حديث منه ينشرونه من بعد، ثم يعلقون عليه بما يريدون فاعتذر له، ورفض مقابلته، ثم نشرت الجريدة نفسها حديثا طويلا لشيخ آخر كان ينتسب لجمعية العلماء وأخرج منها منذ سنة 1938 فزعمت:
1- أن هذا الشيخ من المؤسسين لجمعية العلماء المتكلمين باسم العلماء اليوم، الناطقين بلسانهم.
2- أن هذا الشيخ يعتنق مذهب غاندي في استنكار العنف والالتجاء إليه.
3- أن العلماء- وقد خرجت هذا التعليق تخريجا- منذ ابتداء الثورة الجزائرية قد انقسموا فطائفة منهم انخرطت في الجبهة وأيدت الثورة كالإبراهيمي رئيسها، والمدني كاتبها العام، وطائفة بقيت بالجزائر دون هذه المشاركة.
ولا شك أن هذه الجريدة أو الأيدي التي حركتها للعمل ورسمت الخطة لمبعوثها كانت ستفعل هذا أو شبهه في حديث فضيلة الشيخ العربي لتضليل الرأي العام الفرنسي، وتخذيل الشعب الجزائري لولا أنه رفض المقابلة ورد المبعوث المسخر خاسرا. وقد حاول في هذه الأيام الأخيرة بعض رجال الحكومة الكبار في الإدارة الجزائرية استدراج الشيخ لمقابلتهم، والتفاهم معه فلم يمكنهم من ذلك.
وآخر مكيدة دبرتها هذه الدوائر أنها أرسلت ذنبا من أذنابها يوم الجمعة 27 شعبان 1376 هـ الموافق 19 مارس 1957 إلى المسجد الجامع بحي بلكور فصعد المنبر دون طلب أحد وبحضور آلاف المصلين وفضيلة الشيخ ثم تلا الآية الكريمة:
«إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم. » ثم شرع الخبيث يتهم رجال الثورة الأبرار بما شهد العالم أجمع أنهم بريئون منه وزعم –إفكا- أنه طلب من الشيخ التدخل فجبن ولم يفعل. ثم زعم أنه متصل بالثوار وأنه أتى منهم بأوامر لينفذها الشيخ فأحجم وأبى. واسترسل في الكذب والمتناقضات حتى أنزل عن المنبر. وقد غضب الجمهور على هذا الخائن غضبا شديدا ولولا تدخل الشيخ لفتك به ومما لا شك فيه أن هذا الخائن المسخر كان يراد منه إثارة الشعور العام ضد الثورة وضد الشيخ وضد الجمعية.
كما أريد منه التمهيد لما أتى بعد الاختطاف فقد زعم بعض المسؤولين أولا أن الشيخ ربما اختطفه الإرهاب المضاد. ثم زعموا في البلاغ أنه اختطف من طرف مسؤولين مجهولين ثم صرحت الصحافة الاستعمارية – زاعمة افكا وزورا- أن الذين اختطفوه هم الإرهابيون وبهذا تسمي رجال جيش التحرير.
إن جمعية العلماء تكذب كل تضليل في الموضوع وتعلن للرأي العام الإسلامي وللرأي العام الفرنسي وللرأي العام العالمي أن الإدارة الفرنسية المدنية والعسكرية هي التي اعتقلته، وأن رجالها الرسميين هم الذين أخذوه، وأنها تتحمل مسؤوليتها كاملة. والأمة الجزائرية تهيب بكل ذي ضمير حي في العالم وبالهيئات الأممية والمنظمات الإنسانية والمذاهب الدينية وبالعالم الإسلامي العربي أن يتدخل في الموضوع، وأن يسألوا الحكومة الفرنسية في القضية ويجبرونها على قبول بحث محايد إما بواسطة منظمة الأمم المتحدة أو بواسطة رجال الصليب الأحمر الأممي من غير الفرنسيين أو بواسطة من يتفق عليه.
إن الأمة الجزائرية تعتبر قضية فضيلة الشيخ العربي – وهو أكبر رجال الدين الإسلامي- قضيتها الروحية وما قصدها إلا إهانتها، وإذلالها والمبالغة في استفزازها. وإنها لتكذب تكذيبا قاطعا لكل دعوى تدعيها الحكومة الفرنسية من جنوحها للسلم العادل كما أوصت به منظمة الأمم المتحدة وقبولها للحل السلمي. وإنما ننتظر هدوء الحالة بإيقاف إطلاق النار وإنما تتخذ كل الإجراءات للتوصل لهذا الهدوء، فهل اختطاف أكبر رجال الدين الإسلامي بالجزائر وإهانته وتعذيبه والتنكيل به في شهر الصيام ثم الذهاب به إلى مصير مجهول مما يساعد على ذلك؟
إن الأمة الجزائرية لتعلم أن الحكومة الفرنسية ساعية بكل عزم وتصميم لإفناء الشعب الجزائري والانتهاء منه وإحلال جموح الأوروبيين بتله ونجده وصحرائه وهي في سبيل ذلك تدفع جيشها دفعا إلى ارتكاب أفظع ما يتصوره العقل من أعمال القمع، تقتيلا وتعذيبا وتحريقا، وتحاول ما استطاعت ربح الوقت، وتأخير الحل.
إن الشعب الجزائري المؤمن بحقه في الحياة الحريص على كرامته، المصمم على نيل حريته واستقلاله ليعلن للعالم أجمع أنه سيواصل الكفاح، ويداوم الجهاد والمقاومة إلى النصر النهائي. ولن يثنيه سقوط أي كان من أبطاله في الميدان مهما سمت منزلته. ويعتقد أن الشهداء أفضل رجال وأكرمهم الله، وأبرهم بوطنهم وشعبهم ودينهم، وسقوطهم في ميدان الشرف كرامة لهم وهوان لأعدائهم. ولن يفت ذلك في عضده أو يثنيه عن عزمه بل ما يزيده إلا ثباتا وعزما وتصميما، ولن يوقف إطلاق النار إلا بالاعتراف بالاستقلال، ولن يوضع السلاح حتى يتحقق هذا الاستقلال.
والله أكبر، والمجد للعرب والنصر للجزائر والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين.
لقد كشف هذا النص صفحات مظلمة من تاريخ الاستعمار، وأبرز صورا مشرقة من كفاح علماء الجزائر وصمودهم في وجه الظلم والاستعباد، وهو يفند كل الأقاويل والأباطيل المشككة في مساهمة جمعية العلماء في الثورة التحريرية، فهذه الجمعية قدمت الكثير من رجالها قربانا للحرية والاستقلال أمثال العربي التبسي والأمين العمودي ومحمد الزاهي والربيع بوشامة وأحمد رضا حوحو وأحمد بوشمال... رحمهم الله.