علي مراد
بقلم: محمد الهادي الحسني -
سمعت اسم علي مراد في بداية السبعينيات من القرن الماضي، عندما اطلعت في مكتبة مسجد الطلبة بجامعة الجزائر على كتاب علي مراد عن “الحركة الإصلاحية في الجزائر 1925-1940”. وقد استفدت منه، فثمنت الكتاب، وأكبرت الكاتب، الذي لم أكن أعرف عن مسيرته ومواقفه شيئا… ومنذ ذلك الوقت وأنا أتساءل عن عدم ترجمة هذا الكتاب، التي لم تتم إلا في سنة 2007 عن دار الحكمة بالجزائر، كما علمت عن دراسته عن الإمام عبد الحميد ابن باديس مفسرا، التي لم تترجم إلى الآن…
وفي بداية الثمانينيات وقع في يدي مجلد أعداد جريدة “الشاب المسلم”، وهي جريدة أصدرتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مستهدفة بها الشبان الجزائريين من ذوي الثقافة الفرنسية حتى لا ينسلخوا عن دينهم، ووطنهم، وقومهم وأمتهم، وكان من بينهم كتاب تلك الجريدة كاتب يسمى “أبو جميل طه”، الذي عرفت فيما بعد اسمه الحقيقي وهو علي مراد، الطالب أيامئذ بكلية الآداب بجامعة الجزائر…
كانت صورة علي مراد في ذهني جميلة، حتى وقع في يدي في سنة 1982 أو 1983 كتاب مترجم من الفرنسية إلى العربية عنوانه: “شارل دوفوكو في نظر الإسلام”، من تأليف علي مراد… قرأت الكتاب، وأعدت قراءته.. فزالت من ذهني صورة علي مراد الجميلة، وحلت محلها صورة لا أدري كيف أصفها… وسألت الله – عز وجل – أن يثبتني بالقول الثابت هنا وهناك… وقد كتبت يومها مقالا طويلا نشر على صفحتين في جريدة الشعب تعليقا على الكتاب، ونقدا لما فيه، وتنديدا بصاحبه…
ومما قلته إن عنوان الكتاب “دوفوكو في نظر الإسلام” تلبيس على القارئ، وكان المفروض أن يكون العنوان “الإسلام في نظر دوفوكو” لأن دوفوكو في نظر الإسلام معروف، فدوفوكو الضابط، الجاسوس، المترهبن كان نصرانيا كاثوليكيا يؤمن بالتثليث، ويدعو إليه، فهو في نظر الإسلام “كافر” بنص الآية الكريمة الصريحة التي يقول فيها الله – عز وجل -: “لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة”. ودوفوكو – الضابط، الجاسوس، المترهبن – يؤمن بأن سيدنا عيسى – عليه السلام – هو “ابن الله”، والله – عز وجل – يقول عن نفسه بأنه “لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد”.
أما كارثة الكوارث في كتاب علي مراد عن الضابط، الجاسوس، المترهبن، فهو افتتاحه له بالآية الكريمة التي تقول: “فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا”
في عام 1984 دعي علي مراد لحضور ملتقى الفكر الإسلامي، الذي عقد في فندق الأوراسي، وقبيل افتتاح الملتقى جاءني أستاذي عبد الحميد شيران، رحمه الله، وقال لي: إنني أود أن أصلح بينك وبين علي مراد… ولما تبين لي أن أستاذي عبد الحميد شيران لم يطلع على كتاب علي مراد، ولا على مقالي عن الكتاب، قلت له: “ما رأيك في شارل دوفوكو؟”. فصب عليه وابلا من الشتائم واللعائن…. فسألته ثانية: “وما هو رأيك فيمن يكتب كتابا يمجد فيه شارل دوفوكو، ويزكيه، فيصفه بأنبل الصفات… ويتجرأ فيفتتح كتابه بالآية الكريمة: “فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم…” فاحمر وجه أستاذي شيران غضبا، وانهال على هذا الكاتب – الذي هو علي مراد – بأكثر مما قاله عن دوفوكو… وعندما أخرجت كتاب علي مراد من محفظتي وأريته لأستاذي…
وقد التقيت في ذلك الملتقى مع علي مراد، ولم أعرفه بشخصي، والتقطت معه صورة نشرتها في كتابي “من وحي البصائر” (ص100)، مع مقال عن دوفوكو عنوانه: “إبليس يأمر بالمعروف”. لأن مراد قال عن دوفوكو إنه كان “يأمر المعروف”.
سألت علي مراد في ذلك الملتقى لماذا لم يسع لترجمة كتابيه “الحركة الإصلاحية…” و”ابن باديس مفسر القرآن” إلى اللغة العربية، وأذن بترجمة كتابه عن شارل دوفوكو…؟ فلم يجبني عن الكتابين الأولين، وقال لي عن كتابه دوفوكو بأنه ترجم في لبنان دون علمه. ولما كنت آنذاك أعمل في الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، تبينت أن علي مراد أراد أن يصرفني بذلك الجواب غير المقنع، لأن القوانين المعمول بها في هذا المجال لا تسمح بترجمة أي كتاب إلا بإذن مؤلفه وإذن ناشره الأصلي.. فإن ترجم الكتاب من غير إذنيهما لهما الحق في رفع دعوى ضد المترجم والناشر.. وهذا ما لم يقع فسقط في يدي علي مراد.
إن عقدة علي مراد بدأت في سنة 1956 عندما رفض الامتثال لأمر جبهة التحرير الوطني، القاضي بمقاطعة الطلبة الجزائريين للدراسة، والتحاقهم بصفوف الجهاد، في المنظمة المدنية، أو في جيش التحرير الوطني.. لقد آثر علي مراد مصلحته على مصلحة وطنه وشعبه، فكان جزاؤه أن وظف في جامعة الجزائر قبل أن يحصل على شهادة الدكتوراه…
فلما جاء نصر الله، واستعادت الجزائر استقلالها، لم ينظر بعض مسئوليها بعين التقدير والاحترام لمن آثروا مصلحتهم على مصلحة الجزائر في ساعة عسرتها، فاتخذ قرار بإخراجه من الجامعة، وتعيينه في إحدى الثانويات في مدينة داخلية.. فأخذته “العزة”، والتحق بفرنسا..
فكان حلقة في سلسلة من أسميهم “المستشرقين الجزائريين”، الذين سماهم الشيخ إبراهيم أبو اليقظان “الألسن الفرنسية في الأفواه الجزائرية”، مثل آركون، وابن الشيخ، وحربي، وصنصال،،، وكل من احتضنتهم دور النشر الفرنسية، ولو بقوا في الجزائر، وأكلوا من هنا ومن هناك..
ما سمعته في بعض القنوات، وما قرأته في بعض الجرائد كان إشادة بعلم علي مرّاد ومكانته الأكاديمية، وما جادل – في علمي- أحد في ذلك، إنما الذين آخذوا علي مرّاد آخذوه على موقفه في سنة 1956، وإشادته غير المقبولة وغير المعقولة عن مجرم كبير، هو شارل دوفوكو، الضابط، الجاسوس، المنصّر، الذي رفعه مكانا عليا، وما هو بأهل لذلك، ووصفه للمجاهدين الذين قتلوا دوفوكو في تمنراست بأنهم “لصوص” و”قطاع طرق”، وما كانوا إلا مجاهدين من أتباع الحركة السنوسية المتشرة آنذاك في الصحراء الكبرى.
إن الإسلام أمرنا أن لا نبخس أحدا أشياءه، كما نبّه إلى الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا.. وإذا كانت الحسنات يذهبن السيئات، فإن هذه تأكل تلك، خاصة إذا كانت هي الأخيرة.. ونعوذ بالله من السّلب بعد العطاء..
قد يكون علي مرّاد استيقظ ضميره، واسترد وعيه، وشعر بذنبه، فعزم على إنهاء حياته بترجمة جديدة لمعاني القرآن الكريم، وخاطب في ذلك أحد معارفه في الجزائر ليشترك معه فيها على أن تكون معهما أستاذة تونسية.. ويبدو أن اليقين قد أتاه قبل تنفيذ ما عزم عليه.
إن في هؤلاء “المستشرقين الجزائريين” لعبرة لمن يفضلون أن يكونوا ككلب أصحاب الكهف في وصيد فرنسا، التي ستلفظهم بعدما تقضي منهم وطرها ومآربها، وعند موتهم لا تبكي عليهم سماء ولا أرض.. ولخسران الآخرة أكبر لو كانوا يعقلون..