نبذة عن حياة المرحوم الأستاذ الفضيل الورتلاني (1900-1959)
ولد الأستاذ الجليل المرحوم السيد / حسين الفضيل بن محمد السعيد بن فضيل المعروف باسم (الشيخ الفضيل الورتلاني) في 6 فبراير عام 1900 بقرية (آنو) بلدية بني ورتلان دائرة بني ورتلان ولاية سطيف، وينحدر من أسرة عريقة ينتمي إلى سلالة الأشراف ولقبه العائلي (حسنسن)، وقد نشأ وترعرع في مسقط رأسه وبه حفظ القرآن الكريم، وزاول دراسته الإبتدائية بالقرية المذكورة، وتلقى فيها مبادئ العلوم على مشائخ القرية نذكر منهم على سبيل المثال العلامة الفقيه المعروف الشيخ السعيد البهلولي وغيره، كما تلقى منذ طفولته المبكرة في أحضان أسرته تربية إسلامية أورثته الحفاظ على تعاليم الدين الحنيف والتشبت بأهدافه، ونشأ على احترام كرم الأخلاق والمثل العليا، والقيم الرفيعة، وجده الأعلى (جد والده) المباشر لأبيه هو العلامة الرحالة سيدي الحسين الورتلاني صاحب الرحلة المعروفة باسم (رحلة الورتلاني).
إلتحاقه بالشيخ عبد الحميد بن باديس بقسنطينة:
في سنة 1928 م انتقل إلى مدينة قسنطينة لمزاولة تعليمه الثانوي على يد الإمام عبد الحميد بن باديس، وبعد تخرجه مباشرة تولى التدريس بالجمعية الخيرية التي كانت نواة التربية والتعليم، وقد تخرج على يده عدد كبير من الطلبة لا يزالون يذكرون ما له عليهم من فضل وإحسان واعتراف له بالفضل والجميل، وقد بعث في تلاميذه روحا وثابة، وأحدث تطورا فكريا لدى طلابه، ونال بذلك رضا أستاذه بن باديس، لما بذله من جهود معتبرة في خدمة العلم وما يمتاز به من حيوية ونشاط منقطع النظير، بحيث أعجب به الشيخ بن باديس وأخذ يصطحبه معه أينما ذهب وأينما حل وارتحل، خاصة في الجولات التفقدية التي كان يقوم بها بين الفينة والأخرى عبر البلاد، وهكذا لازم الفضيل الورتلاني أستاذه بن باديس عدة سنوات كلها عامرة بالعلم والعمل المثمر البناء، وتأثر بمنازعه الخطابية ومواقفه الوطنية، وسقيت ملكته بغيب ذلك البيان الإلهامي فأصبح فارس منابر، وحضر اجتماعات جمعية العلماء العامة والخاصة، فاكتسب منها الصراحة في الرأي، والجرأة في النقد البناء والاحترام للمبادئ لا للأشخاص، كل هذه الخصال الممتازة في شخص الورتلاني هي التي جعلته يكون محبوبا وأشد ارتباطا بأستاذه بن باديس ويوليه عنايته ويعتمده في المهام الكثيرة.
فلا غرو فقد كان يستخلفه أستاذه فى كثير من الاجتماعات والمناسبات وممثلا له في نفس الوقت وهو ما يزال طالبا، وتشتد الحرب المذهبية والصراعات القائمة على أشدها بين أنصار الحركة الإصلاحية من جهة وبين أنصار الطرقية من جهة أخرى فيلعب الفضيل فيها أدوارا إيجابية ذات أثر فعال في ترجيح ميزان القوة لجانب الحركة الإصلاحية على اختلاف أهدافها وتعدد مجالاتها، وبعد هذه الحماسة من حياته وهو ما يزال مواظبا على دروس أستاذه، تناط به مهمة تتلاءم مع طبيعته في حب الإتصال بالجماهير الشعبية وتنسجم مع ميوله نحو الدعوة والتبليغ والتبشير بالمبادئ التي يؤمن بها ويقتنع بصحتها وصدقها، لهذا وجد ضالته في مهمة تمثيل مجلة (الشهاب) التي كانت تصدر في ذلك العهد بمدينة قسنطينة، وقد كان ينشر فيها العديد من البحوث والمقالات القيمة التي يعالج فيها قضايا اجتماعية وثقافية وسياسية، وطاف أطراف البلاد متنقلا باسمها وتكثير أنصارها وتوضيح خطتها وغايتها .. وقد قام بهذه المهمة سنة 1932 م.
وفي نفس السنة قام بعدة جولات عبر كامل القطر الجزائري مدنه وقراه مغتنما هذه الفرصة فدعا من الطلبة المتعطشين للعلم والمعرفة للالتحاق بالدروس العلمية بجامع سيدي الأخضر بقسنطينة، وقد لقيت دعوته تلك استجابة واسعة وأقبل الطلبة أفواجا أفواجا يتوافدون إلى جامع سيدي الأخضر من كل حدب وصوب ومن كل فج عميق.
هذا بالإضافة إلى تعريفه وشرحه لمبادئ جمعية العلماء التي كانت آنذاك حديثة العهد بالوجود، والتي لاقت من خصوم العلم وأعداء الوطن معارضة شديدة.
الفضيل الورتلاني بين حركة الإصلاح ونشر الدعوة والتعريف بالقضية الجزائرية
هجرته إلى أوروبا في إطار الحركة الإصلاحية:
وفي سنة 1936 م، انتدبته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين للقيام بنشر مبادئها والدعوة الإصلاحية بفرنسا وذلك قصد توعية العمال الجزائريين المغتربين بأوروبا بحيث تمكن في ظرف سنتين ونيف من إحداث ما يزيد عن عدة مراكز للدعوة الإسلامية والربط بين الجاليات العربية الإسلامية من جهة، وإسماع صوت الجزائر العربية المسلمة للعالمين الشرقي الإسلامي والغربي الأوروبي من جهة أخرى.
وهكذا ظل الفضيل الورتلاني يعمل في باريس بجد وحيوية ونشاط ويؤدي رسالة جمعية العلماء بكل ما أوتي من قوة بيان، وشجاعة نادرة، ومضاء عزيمة في الأوساط العالمية في فرنسا التي مكنته فيما بعد بالاتصال بكثير من أعضاء وممثلي الجاليات الشرقية العربية من مختلف الأقطار العربية.
وفي أواخر سنة 1940 م، أصبح الفضيل الورتلاني على يقين من أن السلطات الاستعمارية الفرنسية صممت على جعل حد لنشاطه السياسي بعد أن دأبت على تعقب تحركاته تمهيدا لإلقاء القبض عليه، لذلك عقد العزم على السفر إلى مصر، خاصة بعد أن لاحت في الأفق السياسي الغربي بوادر حرب عالمية ثانية فغادر العاصمة الفرنسية بعد توديعه من طرف أنصار الحركة الإصلاحية قاصدا مصر تكلؤه عناية الله وهناك التحق بالأزهر الشريف معقل الأحرار حيث تابع فيه دراسته العليا إلى أن نال الشهادة العالمية بكلية أصول الدين والشريعة الإسلامية.
استئناف نشاطه السياسي بمصر:
وفي سنة 1949 م، أسس مكتبا بالقاهرة يحمل اسم (مكتب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) الذي كان ممثلا له، وقد قام بعدة اتصالات لدى كثير من الدول العربية الشقيقة وإقناعها بضرورة مد يد العون والمساعدة لإخوانهم الطلبة الجزائريين الذين سيأتون من الجزائر لاستكمال دراستهم وإتمام معلوماتهم العلمية بكليات ومعاهد الشرق فلبت الدعوة واستجابت للنداء وتم كل ذلك في ظروف جد حسنة، فتوالت البعثات العلمية تلو الأخرى من الجزائر نحو الأقطار العربية الشقيقة، وذلك تحت إشراف مكتب جمعية العلماء المذكور.
كما أن للفضيل الورتلاني - رحمه الله - في المشرق العربي أعمال جليلة أخرى، منها: انخراطه في كثير من المنظمات الإسلامية التي كان هو على صلة بها في تلك الفترة بالذات، وكتاباته في أغلب الصحف والمجلات التي كانت تصدر آنذاك في مصر ولها طابع إسلامي عربي تحرري.
ففي مجال الدعوة الإسلامية كانت له علاقة أخوية وثيقة ومتينة بجمعيتي "الإخوان المسلمين" و"الشبان المسلمين" في مصر حتى أنه كان يستخلف أحيانا المرشد العام للإخوان المسلمين الداعية الإسلامي الكبير الشيخ حسن البنا - رحمه الله - في محاضراته الإرشادية الأسبوعية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كانت له روابط متينة بالجمعيات الإسلامية المنتشرة في أطراف دنيا الإسلام والمسلمين منها: (جمعية عباد الرحمن) ببيروت، هذه الجمعية التي ما فتئت تكن له صدق المحبة والولاء وأخلص الوفاء، ولم تتخل عنه في أحرج الظروف حينما تنكر له بعض الأدعياء من ملوك العرب وزبانيتهم المأجورين، ولقد خلدت بعض مآثره حيث أنها قامت بجمع آثاره العلمية وطبعها في كتاب أطلق عليه اسم: ـ[الجزائر الثائرة]ـ طبع هذا الكتاب سنة 19566 م. على نفقتهم الخاصة، وأعيد طبعه سنة 19633 م، ونحن هنا بصدد إعادة الطبعة الثالثة إن شاء الله - هذا بالإضافة إلى ما كان يكتبه بقلمه حول كبريات الأحداث التي تجري في هذه الأقطار، وقد كان الفضيل الورتلاني على صلات قوية ووثيقة بكثير من أعلام الإصلاح الإسلامي في المشرق العربي منهم أمير شكيب أرسلان، ومحي الدين الخطيب، ورشيد رضا، وجمال عبد الناصر، ومحمد مصدق، وعميد الأدب العربي طه حسين والعقاد وغيرهم فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.
وهدفه من ذلك توثيق عرى الأخوة بين أبناء الوطن الواحد، ومحاولة ربط الجزائريين بتيارات الفكر العربي المعاصر بعد أن ظلت الأبواب موصدة في وجوههم منذ ابتلائهم بالاستعمار والأمبريالية العالمية عبر العصور.
وقد نزل ضيفا على الحكومة المصرية في عهد المرحوم جمال عبد الناصر ولقي فيها كل أنواع الإكرام والتقدير والاحترام من طرف أقطاب السياسة ابتداء من جمهوريتها إلى مجلس الوزراء، وكبار المسؤولين في الدولة، ومضى الفضيل الورتلاني في نشاطه هذا غير مكترث بما ستحمله الأيام له في مصر، فكانت لقاءاته بأحرار مصر فرصة للتوعية والتوجيه السياسي.
ومن أهم أعماله الجليلة التي قام بها المشرق العربي مساهمته في تأسيس بعض الهيئات والمنظمات السياسية التي سعى في تكوينها وأسهم في نشاطها بحظ موفور:
1 - اللجنة العليا للدفاع عن الجزائر التي أسست بالقاهرة سنة 1942 م.
2 - جمعية الجالية الجزائرية التي أسست أيضا في نفس التاريخ تقريبا.
3 - جبهة الدفاع عن شمال إفريقيا أسست بمصر سنة 1944 م.
4 - جبهة تحرير الجزائر التي تم إنشاؤها بلبنان في فاتح نوفمبر سنة 1954 م.
مساهته في الثورة التحريرية:
ما كادت ثورة الفاتح من نوفمبر 1954 م تبرز للوجود في الجزائر حتى ارتفعت أصوات الجزائريين الأحرار في كل أنحاء الدنيا، وكان في مقدمتهم الشيخ الفضيل الورتلاني حيث سارع إلى توجيه نداءات إلى جميع الأحرار في العالم العربي الإسلامي ومنددا في نفس الوقت بأبشع الجرائم الوحشية التي يرتكبها الغلاة الاستعماريين في الجزائر، وقد كان على صلة بكبار قادة جبهة التحرير الوطني مجددين العهد على درب مسيرة النضال حتى النصر.
مجندا قلمه ولسانه المتين لإذاعة كل ما يجري من أحداث ضخام بأرض الوطن فأجرى بها أنهارا من الحبر لشرح حقائق هذا النضال الذي يخوضه شعب أعزل من السلاح مجردا من كل وسائل الدفاع سوى سلاح الصبر والإيمان ولكنه قوي بإيمانه وواثق من نصره، فكانت له تلك المساعي الموفقة والمواقف المشهودة، لقد فارق الحياة منذ ثمانية وعشرين سنة وقضى نحبه في بلاد الغربة بعيدا عن وطنه وذويه ولم يفترش جثمانه شبرا أو ذراعا من هذه الأرض التي أحبها وكافح من أجلها ومن أجل تحريرها ورفعة شأنها وإسماع صوتها في عالمي الشرق والغرب.
وخلاصة القول أن المرحوم الشيخ الفضيل الورتلاني يعتبر بحق من رواد الحركة الإصلاحية والنهضة الفكرية في العصر الحديث، فعظمته تتجلى في أنه صاحب رسالة آمن بيا وضحى من أجلها منذ نعومة أظافره بكل غال ونفيس، فقد هيأته الظروف وتكوينه التقافي المتين، لكي يتحدى الصعاب وظل كالطود الشامخ لا تهزه الأعاصير ولا النكبات ولا الدسائس والمؤامرات، فعاش مجاهدا بالقلم واللسان، وناضل طوال حياته دون ملل وبدون توقف، ونضاله الذي يتمثل خاصة في الدفاع عن شخصية الأمة الجزائرية بصفة خاصة والأمة الإسلامية بصفة عامة.
إن الذي نذر حياته كلها منذ نعومة أظافره وسخر نفسه لخدمة قضية وطنه دفاعا عن مبادئها المقدسة وحفاظا على ذوبان شخصيتها الغالية، لا جدال بأنه أهل وجدير لأن تكتب عنه مئات المؤلفات وتخصص من أجله العديد من البحوث والدراسات حتى تفوز به الأجيال الصاعدة وتتخذه نبراسا ومصباحا تستضيء به في طريقها الطويل نحو الغد الأفضل.
لقد كان المرحوم الفضيل الورتلاني في الصف الأول مع رائد الإصلاح الكبير الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، وسار مع الفوج الأول يدا في يد لمحاربة الجهل والأمية والبدع والخرافات وكل أنواع الانحراف، وقد كانت المعركة شاملة واسعة النطاق، لأن جميع جوانب الإصلاح الاجتماعي كانت مستوعبة من محاربة المعتقدات البالية والضلالات والبدع إلى التربية الخلقية الإسلامية الصحيحة، والدعوة التي تسني ولا تتوقف إلى نمط جديد من الحياة، يتفق مع الإسلام باعتباره دين التجديد لقد كانت المعركة دائمة متواصلة، لأنها كانت متأنية إرادية ومطالبة حتى اليوم الذي جاء فيد دور السلاح.
إن مآثر الرجل الفقيد متعددة لا تفي بها كلمة عابرة مستعجلة كهذه، تكتب كلما دارت دورة الزمن، إذ أن للشيخ الفضيل الورتلاني جوانب متعددة تتطلب دراستها مجلدات، ولعل ذكرى وفاته التي تصادف شهر مارس تكون حافزا للأقلام المتخصصة في الوطن العربي الإسلامي وفي وطنه الجزائر بصفة خاصة، وللذين أتيح لهم الحظ العيش معه، أن يدرسوا ما يزال مادة خاما من مآثره الجليلة التي لا تعد ولا تحصى وأن يستخلصوا العبرة من أعماله ومواقفه النبيلة عبر مراحل حياته، ومما قدمه من جليل الخدمات للجزائر بصفة خاصة وللعرب والمسلمين بصفة عامة حتى يتاح لجيلنا أن ينعم بالحرية ويستظل براية الاستقلال.
لقد بر بوعده بر العظماء، فما مضى يوم من أيام حياته الغالية إلا كان مجاهدا كريما، وقد أصيب في أيام حياته الأخيرة بمرض عضال أخذ يستأثر بجهده الوهي وهو لا يأبه بذلك ولا يسمع إلى أقوال الأطباء إلا قليلا ولطالما وصفوا له الدواء فإذا بالأيام تمر تباعا، والدواء عند رأسه باقيا على حاله، وعندما تدهورت صحته واشتد به المرض نصحه بعض الأصدقاء بالسفر إلى تركيا للعلاج هناك بإحدى المستشفيات فسافر إليها في أواخر سنة 1958م. لم تمض على إقامته بالمستشفى المذكور سوى بضعة أيام حيث أجريت له عملية جراحية لم تنجح فكانت خاتمة لحياته ووافته المنية في الثاني عشر من شهر مارس 1959م ودفن بتركيا، ثم أعيد رفاته إلى أرض الوطن في 12 مارس 1987 ودفن بمسقط رأسه بني ورتلان ولاية سطيف.
المصدر: الجزائر الثائرة.