علي مرّاد: باحث بين ضفتيْن
بقلم أد مولود عويمر -
لم تكن المعاهد الإستشراقية المعروفة في الغرب يديرها فقط المستشرقون الأوروبيون، وإنما ثمة مراكز وأقسام للدراسات الشرقية أخرى أسسها علماء عرب أو مسلمون في رحاب الجامعات الأوروبية والأمريكية، وأشرفوا فيها على تكوين أجيال من المستشرقين الأوروبيين والباحثين العرب المختصين في مجال الدراسات العربية والإسلامية، ومن بين هؤلاء الأساتذة البارزين: ألبرت حوراني(1) في إنجلترا، وفيليب حتّي (2) في الولايات المتحدة الأمريكية، وفؤاد سزكين (3) في ألمانيا، ومحمد أركون وعلي مَراد (4) في فرنسا، …الخ. هل كانت لهذه البيئة الغربية تأثير على منهجهم العلمي وإنتاجهم المعرفي وعلاقتهم الوجدانية بثقافتهم وصلتهم بمصير أمتهم، أم على العكس من ذلك، استفادوا من الإمكانات المادية والفرص المتاحة لخدمة تراثهم والتعريف بحضارتهم؟
مسار في محطات
ولد علي مرّاد في الأغواط في 21 أكتوبر 1930. درس في كلية الآداب بجامعة الجزائر وتحصل فيها على الإجازة في اللغة العربية في سنة 1954. وواصل دراساته العليا بجامعة السوربون بباريس حيث نال فيها شهادة التبريز في سنة 1956 في نفس التخصص وشهادة دكتوراه الدولة في الآداب في سنة 1968 بعد أن قدم أطروحة حول الحركة الإصلاحية في الجزائر بين 1925و1940.
وتفرغ بعد ذلك للتدريس والبحث في مجال التاريخ والدراسات الإسلامية، وقد أثمرت كل هذه الجهود فكوّن أجيالا من المختصين في تاريخ العالم الإسلامي وآدابه، وألف عددا من الكتب والبحوث النفيسة، أذكر منها: الحركة الإصلاحية في الجزائر بين 1925 و1940، ابن باديس مفسرا للقرآن، نور على نور. صفحات من الإسلام. مدخل إلى الفكر الإسلامي، الإسلام المعاصر، السنة النبوية، شارل دو فوكو في نظر الإسلام، الإسلام والمسيحية في حوار، الإمبراطورية العثمانية وأوروبا من خلال أفكار وذكريات السلطان عبد الحميد الثاني، الخلافة، سلطة للإسلام؟
ولم يقتصر على تأليف الكتب بل لم يتغيب -كسائر الباحثين الجادين- عن المساهمة الدائمة في المجلات المعروفة فنشر مقالات وبحوثا قيمة في حوليات معهد الدراسات الشرقية (كلية الآداب، جامعة الجزائر)، وحوليات كلية الآداب (جامعة اكس-أون بروفانس/ فرنسا)، ومجلة كونفليو (باريس)، وأوريو (الشرق، باريس)، والمناهل (الرباط/ المغرب)، والمجلة التاريخية المغاربية (تونس)، وإبلا (مجلة معهد الآداب الجميلة والفنون/ تونس)، وأورينتي مودرنو (الشرق الحديث/ روما)، ومجلة الغرب الإسلامي والمتوسط (جامعة اكس-أون بروفانس/ فرنسا)، والقنطرة (باريس)، ومغرب رفيو (مجلة المغرب/ لندن)…الخ.
وإضافة إلى هذا لا يتأخر في المشاركة في الكتب الجماعية التي تصدرها المؤسسات الثقافية والأكاديمية مثل جامعة ستراسبورغ، وجامعة تولوز، والمركز الثقافي الجزائري بباريس، والمجلس الأوروبي، وجامعة الدول العربية…الخ.
في رحاب الجامعات الفرنسية
عمل الدكتور علي مرّاد أستاذا ثم مديرا لمعهد الدراسات العربية والإسلامية بجامعة ليون 3، ثم انتقل في بداية التسعينيات إلى العاصمة الفرنسية ليعمل أستاذا في جامعة باريس 3، ثم مديرا لمركز دراسات المشرق المعاصر التابع لهذه الجامعة خلفا لصديقه الدكتور محمد أركون الذي أحيل على التقاعد.
وإضافة إلى تدريس تاريخ الإسلام المعاصر، أشرف على مجموعة من الرسائل الجامعية في 4 مؤسسات جامعية، وهي: جامعة ليون 3، جامعة باريس 3، جامعة باريس 4، مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية (باريس). وكانت هذه الأطروحات تهتم بالأدب العربي المعاصر والتاريخ الإسلامي القديم والحديث وحاضر العالم العربي ودينامكية الإسلام في المجتمعات المعاصرة.
ولا بأس أن أذكر هنا عناوين هذه الأطروحات لعلها تستأثر اهتمامات بعض القراء الباحثين في هذه المجالات العلمية: الشاعر اللبناني سعيد عاقل، السيرة النبوية لابن إسحاق وابن هشام: دراسة تحليلية ونقدية للنصوص، مسألة الخلافة (1924-1969)، الدين والسياسة في جزر القمر: تطور السلطة الروحية من الحماية الفرنسية إلى أيامنا الحاضرة، العلاقات السلمية بين المسلمين وفرنج الشرق (1095-1291)، التشيّع الإسماعيلي والحداثة عند السلطان محمد شاه أقا خان (1877-1957).
ولاشك أن هذه العناوين لا تدل فقط على اهتمامات المشرف الواسعة وإنما تبرز أيضا تسامحه مع طلبته حينما يترك لهم حرية اختيار مواضيعهم حسب استعداداتهم ورغباتهم وقدراتهم واعتبارات أخرى مقنعة.
الحركة الإصلاحية: جذور ومسارات
لا شك أن الدكتور علي مرّاد يعتبر من أكبر المختصين في الفكر الإصلاحي المعاصر، واكتسب شهرة عالمية في هذا المجال المعرفي بفضل أعماله القيمة التي أشرت إلى بعضها سابقا. فقد كشف من خلالها جذور الحركة الإصلاحية في الإسلام وتابع مساراتها في التاريخ القديم والمعاصر، وعرّف بتفصيل المنظومة المفاهيمية لمصطلح الإصلاح في دائرة المعارف الإسلامية، ودرس العلاقات القائمة بينها والحركات والأحزاب القائمة.
كما خصص كتبا ودراسات ومقالات لرواد الإصلاح في العالم الإسلامي أمثال: محمد عبده، محمد إقبال وأبو الأعلى المودودي وغيرهم. غير أنه اعتبر الشيخ عبد الحميد ابن باديس أعظم من كل هذه الشخصيات المرموقة إذ قال عنه: ” لا يوجد شخص آخر مثل الإمام عبد الحميد بن باديس قد جسد أصالة وعالمية الرسالة الإسلامية. لا أحد مثله أيضا، استطاع أن يذكي، بمثل هذه الطاقة الجمة، العديد من الآمال بالتطور والتكيف مع الأزمة الحديثة”.
وقد يكفي أن أشير هنا إلى إسهامات الدكتور مراد في حقل الفكر الإصلاحي أن عددا من كتبه خاصة “الإسلام المعاصر” عرف رواجا كبيرا وأعيد طبعه مرات كثيرة، وترجم إلى عدة لغات كالإنجليزية والعربية والتركية والاسبانية واليونانية والرومانية والسويدية…الخ.
والحق فإن كتابه “الحركة الإصلاحية في الجزائر بين 1925 و1940” مرجعية في تاريخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ولا يضاهيه كتاب آخر في عمقه وتحليله وبنائه واستنتاجاته رغم صدور كتب عديدة في هذا الموضوع منذ صدوره في عام 1968 إلى يومنا هذا اعتمدت على معطيات جديدة واستغلت وثائق مغمورة. ذلك بأن الدكتور مرّاد عاش في أحضان هذه الحركة الإصلاحية، وتعرف عن قرب على رجالها، وقرأ أدبياتها بتمعن، ووظّف المناهج العلمية الحديثة في التعامل مع النصوص والفهم للوقائع ضمن سياقاتها. فهنا تكمن أهمية المنهجية الصحيحة التي تصنع الأعمال الرصينة مهما كانت قلة المادة المتوفرة خلال إنجاز البحث.
تاريخ الجزائر: محطات وإضاءات
اهتم مراد مبكرا بتاريخ الجزائر سواء في العصور القديمة أو في الفترة المعاصرة، فقد نشر أول بحوثه العلمية في مجلة حوليات معهد الدراسات الشرقية (الجزائر) في عام 1957، عن دور عبد المؤمن بن علي في تأسيس دولة الموحدين. كما درس تاريخ التعليم في الجزائر بين 1880 و1960.
وكتب أيضا حول تطور الحركة الوطنية الجزائرية بعد الحرب العالمية الأولى، وتوقف عند نشاط الأمير خالد في الحياة السياسية الجزائرية وصداه عند النخبة الجزائرية خاصة عند الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي عبر عن إعجابه بهذا الزعيم السياسي، وشرح دوره في الحركة الوطنية الجزائرية. وتطرق الدكتور مراد أيضا إلى تأثيرات كمال أتاتورك على النخب الجزائرية خاصة المثقفين الليبراليين.
ومما لا شك فيه أن الدكتور مرّاد دشّن مجالا هاما في البحث التاريخي لما أرّخ لتطور الصحافة الجزائرية بين 1919و1939. وتعتبر هذه الدراسة الرائدة التي نشرها في تونس في عام 1964 الصفحة الأولى في تاريخ الصحافة الجزائرية وقد استفاد منها كل الباحثين الذين اشتغلوا في هذا المجال أمثال زهير إحدادن ومحمد ناصر والزبير سيف الإسلام وعبد الملك مرتاض وغيرهم.
ولم يقتصر الدكتور مراد على دراسة الجزائر في فترة الاحتلال بل درس قضايا لها صلة بالدولة الجزائرية المستقلة فقد بيّن على سبيل المثال مكانة الإسلام في تشريعاتها المختلفة انطلاقا من الدستور الجزائري الذي اعتبر الإسلام دين الدولة.
الدراسات الإسلامية
بدأ علي مراد مشواره العلمي بالاهتمام بالقضايا الإسلامية وهو طالب في كلية الآداب بجامعة الجزائر فكان ينشر مقالاته في مجلة “الشاب المسلم” التي كانت تشرف عليها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بين عامي 1952و1954.
لقد ساهم باستمرار في ركن ” في ضوء القرآن والحديث” باسم مستعار وهو أبو جميل طه، تناول بالعرض والتحليل القيم السامية في الإسلام كما جاءت في الكتاب والسُنة، مثل التضامن، الأخوة، الكرم، الصدق، التواضع، التسامح، النفاق، الواجب، الابتلاء، تحرير العبيد، الرفق على اليتيم،…الخ.
واستمر في البحث في مجال الدراسات الإسلامية فدرس منهج الشيخ ابن باديس في تفسير القرآن، وترجم مختارات من القرآن والأحاديث النبوية للتعريف بالإسلام لغير الناطقين باللغة العربية، وتطرق إلى قضايا سياسية كانت وماتزال محل سجال ونقاش مثل الشورى في الإسلام، وموضوع نظام الخلافة وصلاحيته للعصر الحديث.
صلة الدكتور مرّاد بالجزائر
في الحق لا أعرف متى غادر الدكتور علي مراد الجزائر بالضبط، وما هي الأسباب التي دفعته إلى الاستقرار النهائي في فرنسا منذ -على الأقل- 45 سنة؟ غير أنني أعرف أنه بقي على صلة بوطنه فكان يزور الجزائر خاصة في فترة الثمانينات من أجل المشاركة في النشاطات الفكرية والعلمية. وأذكر هنا مساهماته في أعمال الملتقيات للفكر الإسلامي التي كانت تنظمها كل عام وزارة الشؤون الدينية. وقد وجدت له ثلاثة مشاركات، وهي:
-“من الصحوة إلى الانطلاقة الجديدة” (الجزائر، 10- 16 يوليو 1984).
-“نحو دينامكية جديدة” (بجاية، 8- 16 يوليو 1985).
-“حاضر العالم الإسلامي دراسة إحصائية”(سطيف، 2-9 سبتمبر 1986).
أما في فرنسا، فقد شارك الدكتور مراد في بعض النشاطات التي نظمها المركز الثقافي الجزائري بباريس، فقد قدم في هذا الإطار محاضرة حول الإسلام في أوروبا نشرتها إدارة المركز ضمن كتاب عنوانه: ” الجزائر: الماضي، الحاضر والمستقبل”.
مشاركات في الفضاءات الثقافية
لقد ساهم الدكتور مراد في النشاطات الثقافية والفكرية التي كانت تنظمها الجمعيات الفرنسية في فضاءات عمومية لشرح الرؤية الإسلامية تجاه القضايا المعاصرة المطروحة. فشارك على سبيل المثال في الندوة التي نظمتها جمعية المعلمين اللائكيين في ديسمبر 1989 بالتعاون مع مجلة نوفيل أوبسرفتور في دار الكيمياء بباريس حول موضوع: “الإسلام والعلمانية”. وشارك فيها أيضا عدد من المثقفين والأكاديميين الفرنسيين أمثال جون دانيال، كلود ليوزو وبرينو إيتيان…الخ.
اهتم الدكتور مراد بالحوار الإسلامي المسيحي، وشارك في عدة ندوات ولقاءات نظمتها المؤسسات الكنسية. كما نشر عدد من المقالات والكتب مؤكدا فيها حاجة المسلمين والمسيحيين إلى التعارف والتقارب والتعاون خاصة وأنهم يعيشون في مجتمع واحد ويشتركون في مصير واحد. فقد ساهم على سبيل المثال في أيام دراسية التي نظمتها جمعية الرهبان اليسوعيين بباريس بين 21و30 يناير 1992حول موضوع “المسلمون بيننا”.
غير أن حضوره تراجع في السنوات الأخيرة واختفى عن الأنظار عكس صديقه ورفيق دربه الدكتور محمد أركون. وقد حاولنا في عام 2002 أن نكرمه مع الباحث التونسي القدير الدكتور عبد المجيد التركي في إطار جمعية العلماء الاجتماعيين المسلمين في فرنسا إلا أنه اعتذر عن الحضور لأسباب صحية، بينما حضر الدكتور التركي الذي رحب بهذه الالتفاتة الكريمة وتأثر كثيرا بهذه المبادرة التقديرية.
ولا أريد أن أختم هذا المقال عن الدكتور علي مرّاد دون أن أشير إلى ضرورة تكريم هذا العالم وهو حي قبل أن ينتقل إلى عالم الخلود، وهو العالم الجزائري الذي خدم تاريخ الجزائر ونشر الفكر الجزائري في الجامعات الفرنسية والعالمية. فالحق فإنه جدير بالتقدير والاعتراف وأهل لكل تكريم.