ترجمة الشيخ مبارك الميلي (1898-1945)
بقلم: محمد الصالح بن عتيق -
ولد الشيخ المبارك الميلي بقرية أولا د مبارك التي تقع جنوب الميلية، وتبعد عنها بنحو 15 كلم. ودخل كتاب القرية، وبه تعلم القراءة والكتابة.
ولما ظهرت نجابته أخده عمه سي أحمد إبراهيمي إلى ميلة التي كانت موئلا لطلبة القرآن، الذين يهاجرون إليها من جهات عديدة، وخاصة من جبال الميلية، بغية حفظ القرآن. وبميلة أكمل حفظ القرآن في سنوات قليلة.
ثم اتجه إلى دراسة العلم الأستاذ النفاع الشيخ ابن معنصر المعروف بالشيخ الميلي، بالتقي والورع.
ثم توجّه إلى قسنطينة للدراسة على الأستاذ الإمـام ابن باديس. حيت قضى مدّة يأخذ عنه العلم الصحيح، والفكرة السلفية، فكان التلميذ المبرز بين التلاميذ، مما جعل الأستاذ الإمام يهتم بشـأنه، ويعده للعمل الذي كان يسعى للقيـام به، في جملة من بعدهم من تلامذته النجباء في المستقبل، فأشـار عليه أن يلتحق بتونس للدراسة بجامع الزيتونة، حيث يجد فيه المنهل الذي يعنيه على رغبته في التوسّع في العلم وتحصيله، فالتحق بتونس، وانخرط في صفوف تلامذة جامع الزيتونة، أخذ عن مشاهر علمائه مثل: الشيخ النخلي، والشيخ الطاهر بن عاشور، وغيرهما....
وكان محل تقدير وإعجاب من شيوخه وزملائه، واستمر يلمع نجمه في أوساط الطلبة إلى أن شارك في امتحان شهادة التطويع، فحصل عليها سنة 1925 م بتفوق، وتقدير من لجنة الامتحان، حتى أنه لما انتهى من إلقاء الدرس أمامها ، قال له الشيخ الإسلام (أحمد بيرم) الذي كان ضمن اللجنة: (أنت مبارك علينا، وعلى أمتك ووطنك).
ولما رجع من تونس، قصد ميلة، فاستقبله أهلها بكل تقدير، وخاصة الطلبة الذين كانوا في قلق وحيرة، إزاء ما حدث من الخصومة بين العلماء والطرقيين، عندما ظهرت فكرة الإصلاح، وبرزت أول جريدة للمصلحين هي (المنتقد) فانقسموا إلى قسمين: فمنهم المؤيد ومنهم المعارض، فالتفوا حول الشيخ مبارك للاستفسار عنها، فتولى شرحها والتعريف بها بأسلوبه المنتقي، وحججه الواضحة، فاقتنع بها أغلب الناس، وزاد الفكرة إيضاحا – على مستوى الجمهور – عندما فتح دروسا في شهر رمضان سنة 1925 م في التوحيد من كتاب أم البراهين للإمام الشيخ السنوسي، وفي السيرة النبوية من كتاب الشمائل المحمدية للإمام النووي.
وكان يومئذ شاباً قوياً، قد أعطاه الله بسطة في العلم والجسم، ففتح أفاقا واسعة للعلم والمعرفة وركز في دروسه على بيان العقيدة الصحيحة من الكتاب والسنة، وعمل السلف الصالح، وهاجر البدع والخرفات، فأثّرت هذه الدروس، وانتشار صيتها في أنحاء البلاد، حتى عمّ السهول والجبال.
ثم انتقل إلى قسنطينة للعمل مع الأستاذ ابن باديس، فتولى إدارة مدرسة سيدي بو معزة بقسنطينة مدة، ولما كان العمل بها محدودا لا ينساب من أعدته الأقدار للعمل في دائرة أوسع، انتقل إلى مدينة الأغواط على مشارف الصحراء بجنوب عمالة وهران.
وهنا حط رحاله، وفتح مدرسة للتعليم، مع القيام بدروس الوعظ والإرشاد في المدينة وفي الجهات المجاورة لها، وكان لها صدى واسع الأثر.
وفي هذه المدة ولد له أول مولود هو الأستاذ النابغة محمد الميلي، أو الأغواطي إن صحت النسبة.
وفي هذه الفترة تأسست جمعية العلماء سنة 1931 م، فعين عضوا فيها، وأسندت إليه أمانة المال، فقام – بهذه الوظيفة – أحسن قيام.
وله مع هذا آثار في مقالاته التي كان يحررها بجريدة (المنتقد) وفي (الشهاب) وغيرها، وهي تمتاز بالصراحة والنقد اللاذغ، والأسلوب البليغ.
ومن آثاره – رحمه الله – كتابة الفريد (تاريخ الجزائر) الذي نوه به الأمير شكيب أرسلان، فقال عنه: ''ما كنت أظن أن في الجزائر من يفري مثل هذا الفري).
كما شهد الأستاذ ابن باديس بفضل هذا الكتاب فقال: إن كتاب (تاريخ الجزائر) لمبارك الميلي، كان من حقه أن يسمى (حياة الجزائر).
وكان من آثاره - أيضا- كتابة (رسالة الشرك ومظاهره) وهو كتاب فريد من نوعه، قد تناول فيه القضية التي وقع النزاع فيها بين الطرقيين، والمصلحين الذين ينكرون عليهم تلك البدع، والخرافات، وتقديس القبور والمشائخ، ويرجون منهم النفع.
وكان في بحثه محققاً مدققاً، حاكى فيه المحققين من العلماء أمثال: ابن تيمة، والشاطبي، في أسلوب هادئي رصين، وعرض قوي متين، وشدة و صلابة على المبتدعين.
ومقالاته التي كان يمضيها باسم (بيضاوي) أكبر دليل على صراحته، وصدق لهجته، وخطورة هجماته، مما أثارت حثالة بعض الزوايا من تدبير مكيدة لاغتيال الإمام ابن باديس – انتقاما من صاحب الشهاب – الذي لم يعرفهم بعدوهم (بيضاوي) ومن هو؟
ومن مقالاته التي نشرها في مجلة (الشهاب) في 2 جوان 1928 م، ردا على دعاة الاندماج، قال : (...سياسة الاندماج هي القبر الذي لا نشر بعده !.. وإن سياسة الاندماج بعيدة في نفسها، بعيدة من الأمة وأخلاقها، وعقائدها، فهي سياسة عقيمة، والمنتصر لها غير حكيم...).
وقال: (إن البقاء على الحالة التي نحن عليها – ونحن متفقون على مقتها – خير عندي من الاندماج، لأن حياة منحطة خير من ميتة شاذة من ميتة الأمم)...
ثم رجع من الأغواط إلى ميلة، وأسس حركة علمية، وفتح دروسا للطلبة الذين كانوا يفدون إليه من عدّة جهات، وخاصة من الجبال الشمالية. كما أسس مسجدا عظيما، وناديا للشباب.
كما كان يقوم برحلات للوعظ والإرشاد، بالشمال القسنطيني، القرارم، الميلية، الطاهير، الشقفة، فنشر الوعي واليقظة فيها.
ولما توفي الأستاذ ابن باديس خلفه في دروس التفسير بالجامع الأخضر للرجال، ومثلها للنساء. وأما الطلبة فإن صحته لم تسمح له بتعليمهم، ولذلك أحلهم على زميله الأستاذ الشيخ العربي التبسي في تبسة.
وما زال المرض يلح به وهو منهمك في العمل إلى أن وافته المنية في مسيلة يوم 9 فبراير 1945، فيكون عمره يومئذ: 47 سنة وشهرا، وتسعة أيام، خلافا لمن جعله 49 عاماً.
وقد دفن في مقبرة ميلة القديمة، ونام إلى جانب أستاذه، فرحمهما الله رحمة واسعة.