مقومات الفكر الإصلاحي عند الإمام محمد البشير الإبراهيمي (العمل الجماعي: ضرورة وشرطاً)
بقلم: د.يوسف القرضاوي -
وإذا كان الشيخ الإبراهيمي يؤمن بالتوعية والتربية منهاجا للإصلاح، ولا يكتفي بمجرد الخطب الرنانة، والكلمات المسجوعة، أو الدعايات الحزبية، فإنه يؤمن كذلك، كما آمن شيخه ورفيقه وأسوته الإمام ابن باديس (بالعمل الجماعي) ضرورة وشرطاً للنجاح وتحقيق الرجاء.
فالعمل الفردي ـ مهما يصحبه من الإتقان والإخلاص محدود ـ الأثر، محصور القدرة، مقيد الإمكانات، ولكن إذا تضامّت الجهود، وتلاحمت القوى، أصبحت اللبنات المتفرقة بنيانا مرصوصا، يشد بعضه بعضا.
فالمرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه، ضعيف بمفرده، قوي بجماعته، ويد الله مع الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، والشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، وقد قال الله تعالى لموسى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [القصص:35].
وفكرة الإمام ابن باديس ورفقائه هنا، هي نفس فكرة الإمام حسن البنا وإخوانه في مصر، حيث لم يكتف بالوعظ والإرشاد طريقا للإصلاح، ولكنه رأى أن العمل الجماعي المنظم ضرورة لابد منها لنصرة الإسلام وإحيائه وتجديد أثره في الأمة، ولتحرير مصر وبلاد العرب والمسلمين من الاستعمار وكل سلطان أجنبي لإقامة دولة الإسلام فيها.
توافق الإمامان على غير التقاء بينهما، وأنشأ حسن البنا جمعية الإخوان المسلمين، سنة 1928 أو 1929م وأسس ابن باديس جمعية العلماء سنة 1931م.
وإن كنت قرأت مقالة العلامة الإبراهيمي: أن فكرة الشيخ ابن باديس في إنشاء الجمعية، كانت أسبق من ذلك، فقد حاول أن ينشئ جمعية أطلق عليها: جمعية (الإخاء العلمي) سنة 1924م ولكن حالت الحوائل دون ذلك.
أسس ابن باديس جمعية العلماء للنهضة والإصلاح والتحرير، وكان نائبه ورفيق دربه البشير الإبراهيمي. وبعد وفاته كان أمينا على العمل الذي بدآه معا، وفيّا له، حريصا على أن يستمر في إيتاء أُكُله، وتحقيق أهدافه الكبيرة. كما كان حريصا أبلغ الحرص على أن يعطي كل ذي حق حقه، فيتحدث عن ابن باديس أنه: هو المؤسس والباني والبادئ، وأول من بذر بذور الإصلاح والتجديد، وأول من ارتفعت صحيفته بتحرير الجزائر ونهوضها وبنيانها من جديد. بل أول داعية إلى التجديد والإصلاح في المغرب العربي كله.
من آثار العمل الجماعي:
والعمل الجماعي أقدر على إنجاز المشروعات الكبيرة، وتحقيق الآمال الطموحة، مما لا يستطيع الأفراد – وإن بلغوا ما بلغوا – أن يحققوه. وها هو الإبراهيمي يعدد لنا في مقال له: ما قامت به (جمعية العلماء) من أعمال أصيلة ومنجزات جليلة: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف:58].
(مائة وثلاثون مدرسة عربية مجهزة بكل الأسباب المادية العصرية اللازمة للمدارس، وبجهاز آخر من المعنويات أعظم منها شأنا وأجل خطرا، وبجند من المعلمين الأكفاء قوامه: مائتان وخمسون معلما، من بينهم عشرات النوابغ في التعليم والإدارة، ومشحونة بزهاء ثلاثين ألف تلميذ من أبناء الأمة بنين وبنات، يتلقون مبادئ الدين الصحيح: عقيدة وأعمالا، ومبادئ العربية الفصيحة: نطقا وكتابة وإنشاء، ويتربون على الوطنية الحقيقية وعلى الهداية الإسلامية والآداب العربية، ويتكوّن منهم جيل مسلّح بالعلم، ثابت العقيدة في دينه ووطنه، قوي العزيمة في العمل لهما 000 ويزيد في قيمة هذه الحصون العلمية أن الأمة تملك أعيان نحو الخمسين منها، وتملك الانتفاع بالباقي على وجه الكراء. وسبعة وثلاثون مدرسة أخرى شرعت الأمة الإسلامية في تشييدها في هذه السنة، وفيها ما يحتوي على ستة عشر قسما، وفيها ما تقدر نفقاته بخمسة عشر مليونا من الفرنكات.
ومعهد تجهيزي عظيم، يخطو إلى الرقي والكمال في كل يوم في نظامه وبرامجه وأساتذته وتلامذته. يؤوي من تخرجه تلك المدارس، ليزود الأمة منهم بالوعاظ والمرشدين وخطباء المنابر، ويزود الطامحين منهم إلى المزيد من العلم بالمؤهلات إلى ما يطمحون إليه.
وجمعيات بلغت المئات، مقسمة على العلم والإحسان والأدب والرياضة، تبث في الأمة: النظام، والإدارة، وآداب الإجتماع، وديمقراطية الانتخاب، وتعلمها كيف تناقش، وكيف تصوغ الرأي، وكيف تدافع عنه، وكيف تنقضه بالحجة، وكيف تزن الأفكار، وكيف تحاسب العاملين. وتدربها على التدرج من الإدارات الصغرى إلى الإدارات الكبرى. لأن الأمة التي لا تحسن إدارة جمعية صغيرة، لا تحسن بالطبع – إدارة مجلس فضلا عن حكومة، ولا كالجمعيات مدارس تدريب، ونماذج تجريب.
ونواد بلغت العشرات، غايتها إصلاح ما أفسدت المقاهي والملاهي من أخلاق الشباب، وكلها ميادين للعمل، ومنابر للخطابة، ومستغلات للعلم والتعليم.
وآلاف من الشباب العربي المسلم كان كالمجهول في نسبه، وكالجاهل لحسبه، ففتحت المحاضرات الحية أذهانه على تاريخ أسلافه وفتقت ألسنته على آدابهم، فتقاسم على أن يقفو الأثر، ويجدد ما اندثر، وأقبل على العلم حتى إذا ضاقت به الجزائر فارقها كالنحلة، ترحل إلى المكان السحيق، لترجع إلى خليتها بالرحيق.
وإصلاح ديني تمكن من النفوس وتغلغل في الأفئدة، فطهرها من الشوائب التي شابت الدين، ومن النقائص التي شانت الدنيا، وصحح العقائد فصحت القواعد، وصحح العزائم، فأقدمت على العظائم، وإذا صحت العقائد وصلحت النيات، ظهرت الآثار في العزائم والإرادات.
وفضائل شرقية كانت مشرفة على التلاشي فأحيتها مدارسة القرآن وممارسة التاريخ، وإفشاء الآداب العربية، ونشر المآثر العربية.
وأمة كاملة كانت نهبا مقسما بين استعمارين متعاونين على إبادتها: مادي متسلط على الأبدان. وروحاني متسلط على العقول، فصححت حركة الإصلاح الديني عقولها فصح تفكيرها، واتزن تقديرها، واستقام اتجاهها للحياة. وإن تحرير العقول من الأوهام، سبيل ممهد إلى تحرير الأبدان من الاستعباد.
هذا هو رأس المال الضخم الذي أثلته جمعية العلماء للأمة الجزائرية في بضع سنين، وغدت به البقايا المدخرة من ميراث الأسلاف).
(وهذه هي الأعمال التي عملتها جمعية العلماء للعروبة والإسلام، فحفظت لهما وطنا أشرف على الضياع، وأمة أحاطت بها عوامل المسخ، فأصبحت أمة عربية مسلمة شرقية نضاهي بها أخواتها في العروبة والإسلام، بل نباهيهن بها.
وما شيدت جمعية العلماء هذا البناء الشامخ من الماديات والمعنويات ورفعت سمكه إلا بعد أن أزالت أنقاضا من الباطل والضلال تنوء بالعصب أولي القوة والأيد، وبعد أن نازلت جيوشا من المبطلين المضللين تكع عن لقائها الأبطال، وبعد أن لقيت من حماة الاستعماريين ما تلقاه فئة الحق من فئات الباطل: كانوا أكثر وأوفر، وكنا أثبت وأصبر، وكانت العاقبة للصابرين)[1].
الهوامش:
[1]- البصائر: العدد 46- السنة الثانية من السلسة الثانية – 23 أوت 1948م.