من معالم التغيير الحضاري عند ابن باديس

بقلم: د. محمد زرمان -

لقد كان الاجتياح الفرنسي للجزائر عام 1830 يحمل بين طياته –بالإضافة إلى الطمع في الثروة والرغبة في التوسع- أهدافا صليبية أكيدة، بدت مظاهرها واضحة في وفود جماعات هامّة من القساوسة و الرهبان مع الجيش الفرنسي، ترافقه في حله و ترحاله تحدوها الأحقاد الدينية التي تراكمت خلال قرون طويلة من الصراع المرير بين الإسلام و المسيحية على ضفتي البحر الأبيض المتوسط و تمهد لحملة صليبية شرسة على الشعب الجزائري، تعيد بها أمجاد المسيحية القديمة في شمال إفريقيا، وتجعل من الجزائر أندلسا ثانية.

فقد كتب قائد جيش الاحتلال إلى القسيس الذي رافقه في حملته كتابا يقول فيه: "إنكم جئتم معنا إلى هنا لتفتحوا من جديد أبواب المسيحية في إفريقيا"(1).

وقد كانت الحملة العسكرية الفرنسية على الجزائر بداية لفصل طويل من المآسي والآلام والأهوال والمحن والنكبات التي دامت أكثر من قرن وربع قرن من الزمن، سفك خلالها الاستعمار مغزارا، و ارتكب المجازر التي يندى لها جبين الإنسانية و شن حملة رهيبة واسعة، استهدفت الثقافة العربية الإسلامية للقضاء على مقومات الشخصية الجزائرية وطمس معالمها ومحو آثارها و استبدال الثقافة الفرنسية بها حتى يقطع بين حاضر الجزائريين وماضيهم. وقد تميزت الهجمة الاستعمارية على مقومات الشخصية الوطنية ببشاعة و همجية فاقت بشاعته و همجيته العسكرية، و أعادت إلى الأذهان ما فعله التتار عند دخولهم إلى بغداد.

و جند الاستعمار لتحقيق مشروعه الصليبي كل الوسائل التي أتيحت له، حيث قمع الثورات الشعبية التي قاومته قمعا دمويا و حشيا، و سن قوانين "الأنديجينا" الجائرة، ومارس سياسة التفقير و التجهيل على نطاق واسع لإذلال الجزائريين و إخضاعهم، ووجه ضربات موجعة إلى معالم الدين الإسلامي كالمساجد و الزوايا و الكتاتيب القرآنية، و المدارس، ومعاهد التعليم الديني(2) و استولى على الأوقاف و حارب القضاء الإسلامي و حاصره، وشتت شمل العلماء(3) الذين كانوا يمثلون صفوة المجتمع ، كما صلت على الجزائريين الحركات التنصيرية (4) بمختلف مذاهبها مدعومة بالأموال الوفيرة، و القوة لتنصيرهم أو تشكيكهم في إسلامهم، وشجع البدع و الخرافات (5) وعمل على تشويه عقائد الإسلام و أخلاقه و شعائره، وقاد موجات الإلحاد و الإباحية.

فلا عجب - بعد هذه الحرب الشرسة و الإبادة الثقافية الشاملة –أن نجد الإنسان الجزائري على مشارف القرن العشرين ذليلا، مقهورا، محطما، فقيرا في دينه و دنياه، مستسلما للواقع الاستعماري في كل شؤونه و أن نجد –في المقابل الاستعمار الفرنسي تملؤه نشوة النصر، وهو يتحدث –في غطرسة و كبرياء عن عظمة فرنسا، وقوتها، وحضارتها التي قهرت الشعوب البربرية في شمال إفريقيا، و قضت على الإسلام و شيعت جنازته إلى الأبد(6) لترفع الصليب على أنقاضه.

وفي هذا الظرف الصعب الذي أوشكت فيه أركان الأمة الجزائرية أن تتقوض ، وأشرف فيه كيانها على الاندثار و الهلاك، وعند هذا المنعطف التاريخي الخطير، قيض الله للجزائر-في ليلها الحالك المظلم- رجلا حكيما، رشيدا، صلبا، جدد لها دينها، و غيّر حياتها، وقلب موازين القوى، ابتعثه القدر ليؤلف: "من الشعب ما عجزت عنه الأيدي المهزوزة، و يفجر فيه ما قصرت عنه العقول المتحجرة"(7)، و هو الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد النهضة الجزائرية الحديثة، وقائد الحركة الإصلاحية، وفارسها المغوار بلا منازع، و: "باني النهضتين العلمية و الفكرية بالجزائر، وواضع أسسها على صخرة الحق، وقائد زحوفها المغيرة إلى الغايات العليا، وإمام الحركة السفلية(8).

فالمتصفح لتاريخ الجزائر الحديث، لا يعدم شواهد كثيرة وحيّة تدل على شموخ هذا الرجل وعظمته و عبقريته الفذة و مواهبه الفريدة التي أهلته لأن يكون علما بارزا من أعلام التغيير الإسلامي الحديث في الجزائر، ورمزا من رموز الإصلاح الكبرى في العالم الإسلامي، لا يقل شأنا في ذلك كله عن جمال الدين الأفغاني و محمد عبده، ومحمد رشيد رضا و غيرهم.
فقد خاض ابن باديس تجربة التغيير الإسلامي طوال ثلاثة عقود متواصلة، أشرف خلالها على مسيرة التغيير الحضاري من موقع العالم القائد المسؤول، و أذن في الناس بفجر جديد يحمل معه بوارق الأمل و التحرير و الانعتاق، و عمل على صياغة وبلورة مجموعة من الأسس النظرية و القواعد الأساسية التي تستند إليها حركة التجديد الحضاري في الجزائر، و التي يمكن اعتبارها المعالم الكبرى في منهجية التغيير الحضاري عنده، و سنحاول في هذا البحث رصد أهمها و تحليلها.

أولا: اختيار المواجهة الثقافية:

يعد اعتماد المواجهة الثقافية معلما بارزا من معالم منهجية التغيير الحضاري عند ابن باديس إن لم يكن أهمها على الإطلاق، و من الطبيعي أن لا يكون هذا الاختيار      –الذي أحدث تغييرا عميقا و جذريا في بنية المجتمع الجزائري وحول مجرى التاريخ- اعتباطيا أو عفويا، بل كان مبنيا على أساس متين من الدراسة العميقة المتأنية في واقع الأمة الجزائرية و طبيعة الاستعمار الفرنسي.

ذلك أن ابن باديس كان –قبل أن يخوض غمار تجربته في التغيير- قد اكتسب معرفة دقيقة بالواقع الجزائري حيث أسهمت ثقافته الموسوعية و خبرته التاريخية، و احتكاكه المتواصل بمختلف شرائح الأمة الجزائرية في فهم طبيعة المجتمع الجزائري، و تشخيص أمراضه و علله تشخيصا صحيحا، وإدراك أسراره و ملابساته و قضاياه، و رصد ظواهره ومعرفة ما يسوده من مذاهب، وما يحركه من عوامل، وما يصطرع فيه من قوى، وما يعاني من أزمات و قد عزز هذه المعرفة العميقة للواقع، بقراءة واعية للتاريخ الجزائري منذ الاحتلال الفرنسي حتى قيام الحرب العالمية الأولى، وهي التي مكنته من رصد مكامن قوة العدو و تقديرها، ودراسة ظروف ثورات المقاومة الشعبية(9) واستكناه أسباب إخفاقها وعوامل فشلها، وما لحق الشعب الجزائري بعد هزيمة الثورات من محن و مآس كسرت عزة نفسه، و حطمت آماله و أسلمته لليأس والقنوط.

وقد هداه نفاذ بصيرته، وعمق نظرته للأحداث التاريخية إلى مواجهة الاستعمار الفرنسي بجيوشه الجرارة وأساطيله الضخمة عسكريا، وفي تلك الظروف الراهنة مغامرة مجنونة غير محمودة العواقب، لذلك لم يفكر في القيام بثورة شعبية أو انتفاضة مسلحة لتخليص الشعب من كابوس الاستعمار، وآمن  –في مقابل ذلك- أن طريق الخلاص يكمن في اعتماده المواجهة الثقافية التي رأى أنها أضمن وسيلة للتغيير المثمر، و أنجع طريقة توصله إلى هدفه البعيد بأحسن النتائج وأقل الخسائر.

ومثلما استبعد ابن باديس المواجهة العسكرية، فإنه لم يفكر أيضا في العمل السياسي، ولم يختر طريق المطالبة بالحقوق، باعتبار الجهل الدامس الذي كان الشعب غارقا في ظلماته، مما يقف حاجزا بينه و بين مناصرة من يطالب بحقوقه السياسية. كما أن الوعي الوطني كان ما يزال مغمورا تحت أنقاض الجهل و الأمية و الغزو الفكري الغربي، لذلك رأى أن الحكمة تقتضي مهادنة الإدارة الاستعمارية و تجنب إثارتها لحين من الزمن حتى تأمن حركته التغييرية على نفسها من ضربات الاستعمار القاضية التي لا تتواني عن خنق كل مبادرة وطنية لتغيير واقع الشعب الجزائري البائس، وحتى يجد متنفسا يمارس فيه نشاطه، بعيدا عن المضايقات والملاحقات، وقد عبّر عن هذا التوجه ب: "مسألة الحكومة وترك الاشتغال بالسياسة"(10)
ويبدو أن نصيحة الشيخ محمد عبده للمصلحين الجزائريين عند زيارته للجزائر في السنوات الأولى من هذا القرن بترك السياسة لأنها من السوس(11)، ولأنها: "ما دخلت عملا إلا أفسدته"(12) و الاهتمام بالتربية و التعليم لأنها أضمن وسيلة للوصول إلى الهدف، وقد وجدت لها أذنا صاغية لدى ابن باديس، بل إنه أدرك أن هذا التوجه أنسب لظروف المجتمع الجزائري في ذلك الوقت.

وهكذا استطاع ابن باديس أن يختار الطريق المناسب ليبدأ حركته التغييرية التي تخطت –في صمت- جمع التحديات، لتصل إلى عمق الداء فتداويه و تحدث المعجزة التي حيرت العالم الذي وقف مشدوها وهو يرى الشعب الجزائري –الذي ظنه الجميع قد طواه النسيان- ينفض عنه غبار السنين لينتفض قويا عملاقا يعلن عن وجوده في قوة تثير الإعجاب، ويقدم البطولات التي تحاكي الأساطير.

وقد اتخذت المواجهة الثقافية التي اعتمدها ابن باديس عدة مظاهر، أبرزها وأشدها تأثيرا في الواقع الجزائري: التعليم، الوعظ و الإرشاد، و الصحافة، وسنحاول تفصيل ذلك فيما يلي:
أ‌- التعليم: لقد كان ابن باديس يدرك أبعاد الخطر الحضاري الذي يمثله الاستعمار الفرنسي على الشعب الجزائري و يقدر مساعيه الحثيثة لمسخه وتحويله عن دينه ولغته حق قدرها، لذلك آمن أن السبيل الأضمن للنهوض بالشعب الجزائري لا يتم إلا بانتهاج سياسة التربية و التعليم، باعتبارها الوسيلة الثابتة التي ظلت –على مر العصور- المنقذ الوحيد من براثن الجهل و أنياب العدو، فوضع برنامجا واسعا لإحداث نهضة ثقافية عن طريق التربية و التعليم.
وكان يصدر في ذلك عن فلسفة تربوية إصلاحية عميقة، تتمثل في اعتقاده الراسخ بقدرة التعليم على صنع الحياة و إحداث التغيير المنشود في أمة أشرفت على الاندثار: "ولا أدلّ على وجود روح الحياة في الأمة و شعورها بنفسها و رغبتها في التقديم من أخذها بأسباب التعليم، التعليم الذي ينشر فيها الحياة و يبعثها على العمل، ويسمو بشخصيتها في سلم الرقي الإنساني و يظهر كيانها بين الأمم"(13).

لذلك ركز في المرحلة الأولى من بداية حركته التغييرية تركيزا قويا و خاصا على التعليم، وبذل فيه جهودا مضنية ليقدم نماذج راقية للتعليم المثمر الذي ينور العقول و يصحح العقائد، و يطهر النفوس، و يقوم الأخلاق  و يشحذ الهمم و العزائم، ويكون الأساس المتين الذي يستند إليه لإصلاح المجتمع و إيقاظ الأمة و القضاء على ما يفسد عليها حياتها من آفات اجتماعية: "لمن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم فإن العلماء من الأمة بمثابة القلب إذا صلح، صلح الجسد كله، و إصلاح المسلمين إنما هو بفقههم الإسلام و عملهم به، وإنما يصل إليهم هذا على يد علمائهم، فإذا كان علماؤهم أهل جمود في العلم و ابتداع في العمل، فكذلك المسلمون يكونون، فإذا أردنا إصلاح المسلمين فلنصلح علماءهم ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم"(14).

وقد استفذ منه التعليم من الوقت و الجهد ما لا يقوى على تحمله إلا أصحاب النفوس الكبيرة والهمم العالية و العزائم القوية، حيث رابط لسنوات طويلة بمسجدي سيدي قموش و الجامع الأخضر بقسنطينة يمضي سحابة نهاره، وجزءا كبيرا من ليله، في التربية و التعليم و الإرشاد والتوجيه و التكوين ؛ فكان يلقي أكثر من عشرة دروس في اليوم و الليلة، و يبدؤها بعد صلاة الفجر ولا يختمها إلا مع منتصف الليل، وخلال ذلك كله، لا يستريح إلا لمدة ساعة واحدة بعد صلاة الظهر يستأنف بعدها نشاطه دون كلل أو ملل.

وبعد مدة بدأت هذه الجهود الجبارة المخلصة تؤتي أكلها الطيب، و تطرح ثمارها اليانعة، حيث تخرج على يدي ابن باديس جيل جزائري صحيح العقيدة. نظيف الفكر، طاهر النفس، وقوي الإرادة، كان بمثابة الأسس التي ارتكزت عليها حركة الإصلاح و التجديد في الجزائر، وقد نوه الإبراهيمي بهذا العمل العظيم، وأكد على الأثر العميق الذي تركه في مسيرة الحركة الإصلاحية قائلا: "الثورة التعليمية التي أحدثها الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس بدروسه الحية، و التربية الصحيحة التي كان يأخذ بها تلاميذه، و التعاليم الحقة التي كان يبثها في نفوسهم الطاهرة النقية، و الإعداد البعيد المدى الذي كان يغذي به أرواحهم الوثابة الفتية، فما كادت تنقضي مدة حتى كان الفوج الأول من تلاميذ ابن باديس مستكمل الأدوات من فكر صحيح، وعقول نيرة، ونفوس طامحة، و عزائم صادقة وألسن صقيلة، و أقلام كاتبة، و تلك الكتائب الأولى من تلاميذ ابن باديس هي طلائع العهد الجديد الزاهر"(15).

وقد ظل ابن باديس –طوال حياته- يتعهد حركة التعليم بالعناية و الرعاية، و يحرص على توسيع دائرتها ما أمكنه ذلك، و بالتحام جهوده و جهود العلماء المجددين في ظل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أخذ التعليم العربي في الجزائر طابعا رسميا و تطورت أساليبه و مناهجه، فانتشرت المدارس و كثر المعلمون، و تزايدت أعداد التلاميذ الجزائريين المتمدرسين أضعافا مضاعفة، و تحولت المدرسة العربية إلى وسيلة فعالة في المواجهة الثقافية مع الاستعمار الفرنسي الذي بذل جهودا للحد من حركة التعليم العربي و تحجيمها، ومحاصرتها بما صبّه على العلماء من أسواط العذاب و الاضطهاد، وما أصدر من قوانين جائزة لإغلاق المدارس وتعطيلها، غير أنه لم يجد أمامه سوى الإصرار القوي و المقاومة الباسلة، وها هو ابن باديس يعلن في لهجة حادة للسلطات الاستعمارية التي طالبة بتسليم إحدى المدارس العربية لتحويلها إلى مدرسة فرنسية عن استحالة تحقيق ذلك فيقول: "لا يمكن أن تحل الفرنسية وتطرد العربية من مدرسة أسسها الشعب بأمواله لتعليم العربية ولن تخرج العربية من هذه المدرسة حتى تخرج روحي من جسدي"(16).

و قد أثبت التاريخ –بعد ذلك- أن حملة التعليم التي قادها ابن باديس، و رعاها و تعهدها بالعناية الشديدة هي التي أشعرت الجزائريين بهويتهم و خصائص أمتهم، ووضعتهم على خط المواجهة التاريخية المسلحة مع الاستعمار الفرنسي، وقد أشاد صلاح الدين الجورشي بحسن اختيار ابن باديس للتعليم كوسيلة ناجعة لإحداث النهضة الشاملة قائلا: "إن قدرة التعليم على غرس القيم و قلب الأوضاع السلوكية على مستوى الفرد و المجتمع، وقلب الأوضاع السياسية، والاقتصادية أمر لا ينكره أحد، ولذلك كان اتجاه ابن باديس إلى تعليم الناس هو الصواب بعينه، ولو اختار منفذا آخر لأضاع الفرصة و ضيع جهده دون حصاد نافع"(17).

لقد كان ابن باديس يعلم أن استقلال الجزائر لن يتأتي له والشعب غارق في ظلمات الجهل، مستسلم للطرقية المنحرفة، يدين بالبدع و الخرافات، فكان التعليم هو السلاح الذي أشهره في وجه هذا الواقع المنحرف، وقد كان مصيبا إلى حد بعيد في ذلك، لأن دروسه الأولى كانت فعلا أول مسمار دقه في نعش الاستعمار وقد سأله يوما أحد تلامذته: "بأي شيء تحارب الاستعمار؟" فأجابه على الفور: "أنا أحارب الاستعمار لأنني أعلم أهذب، و متى انتشر التعليم و التهذيب في أرض أجدبت على الاستعمار و شعر في النهاية بسوء المصير"(18).
وعلى الدرب نفسه سارت جمعية العلماء، مقدرة خطورة التربية و التعليم في عملها الحضاري، ومع إصرارها على توسيع دائرة التعليم العربي الحر، ونشر المدارس، و القضاء على الأمية، اختلفت –في سنوات الأربعين- مع بعض الأحزاب السياسية الجزائرية التي كانت تركز على المطالبة بالحقوق السياسية، وترى أن تؤجل قضية التربية و التعليم و التكوين إلى ما بعد الحصول على الاستقلال، أما علماء الجمعية فقد كانوا يؤمنون أن الاستقلال لا يوهب، بل يأخذ بالقوة، و أن الشعب الجاهل الأمي لا يستطيع انتزاع حريته وإنما ينتزعها الشعب المتعلم الواعي، المعبأ بالإيمان القوي الذي يمده بالعزيمة و الصمود و القدرة على الاستمرار و المواجهة: "إن جمعية العلماء تعمل لسياسة التربية لأنها الأصل، وبعض ساستنا –مع الأسف- يعملون لتربية السياسة، ولا يعلمون أنها فرع لا يقوم إلا على أصله... إنها –والله- لجريمة يقيم بها مرتكبوها الدليل على أنهم أعداء للعلم و قطاع لطريقه، أم يقولون (لا علم بدون استقلال) فيعاكسون سنة الله التي تقول (لا استقلال بدون علم؟ ) "(19).

ب‌- الوعظ و الإرشاد: وقد اعتمده ابن باديس كطريقة ناجعة لمعالجة النفوس التي أفسدتها البدع و الخرافات، ولوثتها الأباطيل، و عششت فيها الأفكار المنحرفة و الاعتقادات البالية. حيث يعمد إلى اقتلاع كل ذلك الركام الفاسد من آثار عصور الانحطاط و العهد الاستعماري المظلم، ليحل مكانها المفاهيم الإسلامية الأصيلة، و الاعتقادات الصحيحة، و التصورات السليمة، في محاولة جادة لإعادة تشكيل شخصية الإنسان الجزائري الذي كان يعاني من اختلال خطير في تركيبته النفسية التي غلبت عليها السلبية و الكسل و التواكل و اليأس القاتل الذي شلّ إرادته، و أقعده على التفكير في مستقبل مشرق.

و الوعظ و الإرشاد أسلوب من أساليب الدعوة الإسلامية و "ركن عظيم من أركان الإسلام"(20) اعتمده ابن باديس ليعالج به النفوس المحطمة، و يصلح ما أفسدته الظروف القاسية و المحن المتوالية، لإيمانه بفعالية هذه الوسيلة، في تذكير الناسي، وإيقاظ الغافل، و تليين القلوب القاسية، و ترقيق النفوس التي غلبت عليها الأهواء، ولاعتقاده أن الواعظ إذا امتلك ناصية البيان، وعرف مداخل الإنسانية بإمكانه أن يتناول مستمعيه برفق و أناة عن طريق الترغيب والترهيب، فيقتلع آثار الرذائل و المنكرات، و يزرع بدلها الفضائل و الصالحات، و يحقق بذلك أعظم النتائج. لذلك كان ابن باديس يرى أن الموعظة تؤثر متى: "حسن لفظها بوضوح دلالته على معناها، و حسن معناها بعظيم وقعه في النفوس، فعذبت في الأسماع، و استقرت في القلوب، وبلغت مبلغها من دواخل النفس البشرية، فأثرت الرغبة و الرهبة، و بعثت الرجاء والخوف بلا تقنيط من رحمة الله ولا تأمين من مكره، و انبعثت عن إيمان و يقين، ونادت بحماس وتأثر، فتلقتها النفس من النفس، و تلقفها القلب من القلب"(21).

و بهذه الطريقة، استطاع ابن باديس أن يحدث تغييرا عميقا في نفوس الجماهير التي كانت تحضر دروسه المسجدية حيث عززها بالعلم، و حضنها بالأخلاق، وعبأ روحها بمعاني العزة والكرامة و الأنفة من الظلم و الذل، و بعث فيها الحياة، و زرع فيها الأمل و خلصها من أثقال عصور الاضطهاد و الاستعباد ومن النظرة القاصرة التي كانت تشدها إلى الحضيض و تجعلها قانعة بحياة الهون، و أشعرها بقيمتها، و حسسها بالمسؤولية الحضارية الملقاة على عاتقها، وبالدور التاريخي العظيم المنتظر منها فأوجد بذلك إنسانا جزائريا إيجابيا، فعالا يختلف اختلافا كليا من ذلك الذي شكله الاستعمار.

وقد سجل ابن باديس الأثر التي تركته حركة الدروس و المواعظ في أوساط الشعب فقال: "بقدر تمسك الأمة بأسباب العلم، كان رفضها للجمود و الخرافات و الأوضاع الطرقية المتحدرة للفناء و الزوال، حتى أصبح القطر الجزائري كله لا يكاد يخلو بيت من بيوته ممن يدعو إلى الإصلاح، و ينكر الجمود و الخرافة و مظاهر الشرك القولي و العلمي، و أصبحت البدع و الضلالات تجد في عامة الناس من يقاومها و ينتصر عليها" (22).

كما تحدث الشيخ محمد البشير الإبراهيمي عن الوعظ و الإرشاد وأكد أنه وسيلة جمعية العلماء الفعالة في تربية الجماهير العريضة، وإعادتها إلى سواء السبيل، وبث معاني الشرف و العزة في نفوسها قائلا: "الوعظ الديني هو رائد جمعية العلماء إلى نفوس الأمة، جعلته مقدمة أعمالها فمهد و استقر وذلل الصعاب، وألان الجوامح، وعليه بنت هذه الأعمال الثابتة من إصلاح العقائد و نشر التعليم... و الوعظ الديني هو الذي حركت به جمعية العلماء الهمم الراكدة، وشدت به العزائم الواهية، و اجتثت به الرذائل الموبقة، فكان هو معينها على غرس الإصلاح الديني و تثبيت جذوره، و امتداد أصوله و فروعه"(23).

و بذلك كان الوعظ و الإرشاد وسيلة حضارية أحسن ابن باديس اختيارها ليعيد بها بناء الكيان الثقافي الجزائري، وليكون بها جموع الشعب ويعدها لدخول معركة إثبات الذات مع الاستعمار الفرنسي وهي قادرة على المواجهة و المقاومة و الاستمرار.

جــ- الصحافة: لقد كانت المواجهة الثقافية التي اعتمدها ابن باديس شاملة لجميع الجهات التي كان يعاني فيها المجتمع من العجز و القصور، لأنها كانت تهدف إلى إحداث يقظة عامة في أوساط الشعب الجزائري، وقد كانت الصحافة إحدى هذه الوسائل الفعالة التي اتخذ منها أداة مؤثرة لتوسيع دائرة الحركة الإصلاحية، و ليتجاوز جمهور قسنطينة و المدن المجاورة لها ليصل إلى معظم طبقات الأمة و شرائحها في جهات الوطن المختلفة، باعتبار أن جمهور المساجد وطلبة المدارس ليسوا هم المعنيون الوحيدون بتحرير الجزائر، ويجب أن يصل صوت الإصلاح إلى كل الجزائريين.

وهكذا دخل ابن باديس عالم الصحافة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى بسنوات قليلة بقوة وحماسة كبيرين، بعد أن أدرك حاجة الحركة التجديدية إليها لقدرتها الهائلة على نشر الأفكار وتنوير العقول، و لاتصال الواسع بالجماهير على اختلاف مشاربها وطبقاتها.

ويعد ابن باديس من بناة الصحافة العربية الحديثة في الجزائر، وأحد الرجال القلائل الذين وضعوا لها أسسا متينة من الإيمان بالمبدأ، و الوطنية الحقة، و النضال الصادق، و الاستماتة في الصمود على الرغم مما عرفته مسيرتها من ألوان الأذى و صنوف الاضطهاد (24) التي صبها عليها الاستعمار الفرنسي.

وكانت صحيفة (المنتقد) هي أول جريدة تصدر عام 1925، وقد افتتح أول عدد منها يقوله: "بسم الله ثم باسم الحق و الوطن ندخل عالم الصحافة العظيم شاعرين بعظمة المسؤولية التي نتحملها فيه، مستسهلين كل صعب في سبيل الغاية التي نحن إليها ساعون، و المبدأ الذي نحن عليه عاملون، وها نحن نعرض على العموم مبادئنا التي عقدنا العزم على السير عليها لا مقتصرين ولا متوانين راجين أن ندرك شيئا من الغاية التي نرمي إليها بعون الله ثم بجدنا و ثباتنا و إخلاصنا و إعانة إخواننا الصادقين في خدمة الدين و الوطن"(25).

وكانت لهجة المنتقد حارة و حماسية، فقد تعرضت بالانتقاد الشديد لتصرفات الإرادة الاستعمارية و فضحت أساليبها العنصرية في التعامل مع الجزائريين، و كشفت عن المظالم الواقعة على كاهل الشعب، كما حملت بشدة على الطرقية التي كانت حليفة الاستعمار في تخدير الشعب، وزلزلت كيانها و هددت مراكزها بالسقوط، لأن ابن باديس أرادها أن تكون تحطيما لماض قديم تسيطر عليه الخرافات و الأساطير، و يدين لشعار "اعتقد ولا تنتقد"، فجاءت لوضع كل شيء في موضعه عن طريق النقد الصحيح البناء.

و بسبب توجهها الإصلاحي الوطني، و لهجتها الصادقة أوقفها الاستعمار بعد صدور ثمانية عشر عددا منها، فخلفتها صحيفة (الشهاب) في العام نفسه (1925) وكان شعارها "تستطيع الظروف أن تكيفنا ولا تستطيع بإذن الله إتلافنا"(26). هو إشارة إلى التغيير الطفيف الذي طرأ على لغة الصحيفة، بعد أن خفف ابن باديس قليلا من حدة لهجتها، حتى يأمن عليها ضربات الاستعمار، لكنها في صميمها ظلت وفية لمبادئها، تعمل لها بدأب من أجل إحداث نهضة عربية إصلاحية شاملة، تخلص الأمة من حياة الركود و السكون و الاستسلام، و تحافظ على شخصيتها من عوامل المسخ و التشويه و الانحراف، و تحصنها ضد الغزو الفكري الغربي، وتنشر الوعي في أوساط الشعب لتعده لليوم الحاسم.

وكذلك كانت الصحف التي صدرت عن جمعية العلماء المسلمين وكان لابن باديس نصيب و افر في كتابتها مثل (السنة والشريعة) و (الصراط) و (البصائر) إذ من خلالها كان يوصل إلى الجماهير أفكاره و يؤكد لهم فيها تصميمه على التحرير.

ولا يستطيع أحد أن ينكر الدور العظيم الذي لعبته الصحف العربية الوطنية في بلورة الاتجاه الإصلاحي و تكوين الرأي العام الوطني، و محاربة سياسة الفرنسة، و التنصير و الإدماج، و إنقاذ الجزائريين من براثن الطرقية، و محاربة البدع و المعتقدات البالية، و التعريف بالإسلام الصحيح في بساطته و يسره، وإحياء اللغة العربية، ونشر الثقافة الإسلامية الأصلية، ودفع الحركة الوطنية قدما إلى الأمام، و بذلك كانت وسيلة هامة من وسائل المواجه الثقافية التي اعتمدها ابن باديس.

و تخلص إلى القول أن جبهة المواجهة الثقافية التي فتحها ابن باديس مع إخوانه العلماء بمختلف مظاهرها كالتعليم و الوعظ و الإرشاد وغيرها، وآثر أن تكون وسيلته في مقاومة الاستعمار الفرنسي قد أثبتت فعاليتها في معركة الصراع الحضاري الذي كان يدور رحاه بين الشعب الجزائري وساسة الاستعمار.

فقد أحدثت هذه المواجهة تغييرا جذريا و عميقا في بنية المجتمع الجزائري  الثقافية حيث أدت إلى انتشار التعليم العربي الحر و ازدهار اللغة العربية، وانتعاش الحياة الثقافية، وتطور الفكر  الجزائري الحديث، و ظهور نهضة أدبية و علمية واسعة، ووجهت –في المقابل- ضربات قوية إلى مشروع الفرنسة و الإدماج الذي كانت فرنسا تعتمد عليه في التحطيم مقومات الشخصية الوطنية.

وهكذا استطاع ابن باديس –بعمق نظرته وشمول تصوره- أن يضع الجزائر على خط المواجهة الحضاري الصحيح مع الاستعمار الفرنسي عندما تجاوز الخيارين العسكري و السياسي، واعتمد المواجهة الثقافية كبديل فعال في المواجهة الحضارية.

ثانيا: تفعيل الثلاثية المقدسة (الدين-اللغة-الوطن):

لقد كان الاستعمار الفرنسي يدرك تماما أنه لا يمكنه الاستقرار في الجزائر إلا بالقضاء النهائي على هذه الأركان الثلاثة: (الدين - اللغة - الوطن).

من أجل ذلك كله تعرضت هذه المقومات الثلاث –غداة الغزو الفرنسي- إلى حرب ضارية، فقد دلت كل القرائن التاريخية و الأحداث الفظيعة التي صحبت الحملة العسكرية الفرنسية أن قوات الاحتلال إنما كانت تهدف –منذ أول يوم- إلى القضاء الكلي على كيان الجزائري ومحوه من الوجود بتحطيم مقومات شخصيته الحضارية وكان ذلك تنفيذا لمخطط استعماري صليبي أعد مسبقا بهدف تحويل الجزائر قطعة فرنسية و دمجها في الكيان الفرنسي لتصبح جزءا منه في الجنس و اللغة و الدين و الثقافة و الأرض.

فقد كتب أحد الكتاب الفرنسيين مؤكدا ذلك: "نحن بصدد خلق أمة في الجزائر لن تكون متمدنة بدوننا، وفي اليوم الذي احتللنا فيه هذا البلد، و طردنا منه الحكومة الوحشية التي كانت تضطهده تعهدنا بمصائر هذه الشعوب، واتخذنا على أنفسنا نحوها عهد تمكينهم من الأنوار والمعارف و العقائد التي تفضلت الحكمة الإلهية بمنحنا إياها. كل ذلك بفضل دولة متحضرة"(27).

وقد استخدم الاستعمار في سبيل تحقيق هذا الهدف –الذي كان يعده استراتيجيا و حيويا –جمع الوسائل و الأساليب التي أتيحت له، وحرص على أن تشمل عملية المسخ و التحويل كل مظاهر الحياة "من أدناها الملابس و الثياب، إلى أعلاها الذوق الفني و القيم الأخلاقية"(28)، حتى يتسنى له ضرب ضربته القوية و القاضية باقتلاع الشعب الجزائري من جذوره و فصله فصلا تاما عن تاريخه و حضارته و ثقافته.

وهكذا واجه المسلمين عدو شرس مس عليهم بدون رحمة، قد اقتحم الجنود الفرنسيين المساجد فهدموا معظمها وحولوا بعضها إلى كنائس وبيع لليهود، و البعض الآخر إلى إصطبلات للخيول و مخازن للذخيرة و ثكنات للجنود (29)، وما بقى منها على حاله وضع فيها رجالا من صنيعه رضوا أن يسيروا في ركابه، و يخضعوا لرغباته، فطفقوا يهدهدون الشعب بأحاديث التخدير و التنويم ليصرفوهم عن ميدان المقاومة.

ثم التفت الاستعمار إلى الأوقاف التي حبسها المسلمون على المساجد للتعليم، والحج، ووجوه البر في المجتمع، فاستولى عليها و ضمها إلى ملكيته (30)، وحرم المؤسسات الدينية و التعليمية و الاجتماعية من الاستفادة منها، إمعانا منه في حرب الإسلام وسعيا لتمكين الجهل و الفقر في أوساط الجزائريين.

وطالت يده أيضا معاهد التعليم الديني و المدارس و الكتاتيب القرآنية، فهدم و أغلق الكثير منها، واندثر الباقي بسبب افتقاره الشديد للعامل المادي الذي كان يسدد من واردات الأوقاف.
وفتح المجال واسعا للحركات التنصيرية التي جاءت في ركابه ومهد لها السبيل، ووفر لها الإمكانات وحماها بقوته، حتى تشد عضده في حرب الإسلام، وتمكن له من قلوب الجزائريين بعد أن تمكن من رقابهم بحد السيف.

ولم يتوان –في العهود الأخيرة من الاحتلال- عن التصرف في أخص الشعائر الدينية للمسلمين كالحج و الصوم و الأعياد، وعن تشديد القبضة على العلماء المصلحين بمنعهم من الوعظ والإرشاد، وتولى الإداريون الفرنسيون بأنفسهم مهمة الإشراف على الشؤون الدينية في الجزائر، و بذلوا جهودا مضنية في سبيل منع تطبيق قانون فصل الدين عن الدولة (31) على الإسلام، بعد أن استفاد منه الدينان المسيحي و اليهودي.

وظل الإسلام –طوال سنين وجود الاستعمار- مستهدفا بالكيد و الظلم و الحصار في محاولة جادة للقضاء النهائي عليه: "لبثت عوامل الاستعمار تهدم من هيكل الإسلام ولا تبني، وترمي المقومات الإسلامية و الخصائص العربية كل يوم بفاقرة من المسخ"(32).

وبالموازاة مع ذلك، وجهت للغة العربية ضربات قوية(33)، تمثلت بشكل خاص في هدم معاهد العلم و الثقافة، و تحويل ما بقي منها إلى دكاكين أو مقرات للهيئات التبشيرية أو مدارس فرنسية، و تحريم تعليم اللغة العربية على أي كان، واضطهاد المعلمين الأحرار، ومنع رخص التعليم عن الجمعيات و المنظمات الجزائرية، والاقتصار على إعطائها لمن يرضي بأن يكون عينا على أبناء وطنه.

ثم عمل الاستعمار –في مقابل ذلك- على فرنسة التعليم في جمع مراحله فرنسة كاملة، ابتداء بالبرامج ومرورا بالكتب و لغة التدريس، وفرض استعمال اللغة الفرنسية وحدها في الإدارة ووسائل الإعلام و الثقافة، وتم تصنيف اللغة العربية في الرتبة الثانية و تقسيمها إلى ثلاثة أقسام: عربية عامية، وعربية فصحى، و عربية حديثة، واعتبارها غير صالحة للتعليم، و الاكتفاء بتخيير طلبة الثانوية بدراسة أحد أقسامها(34) و تشجيع اللهجات البربرية على حسابها.
وتوج هذه الجهود كلها بقانون رسمي صدر عن وزير الداخلية الفرنسي (شوطان) في مارس 1938 اعتبرت العربية بموجبه لغة أجنبية، وبرر ذلك بقوله إن تعليم العربية هي: "محاولة لصبغ الجزائر بالصبغة العربية"(35).

وكما حارب الاستعمار الإسلام واللغة العربية عمل على إضعاف فكرة الوطن و الوطنية في أذهان الجزائريين، فركز –من خلال برامج التعليم الفرنسي- على تشويه التاريخ الجزائري بالاقتصار على تدريس الجزائريين فترتين تاريخيتين فقط هما فترة العهد الرومان التي سبقت الفتح الإسلامي وفترة الاحتلال الفرنسي، و تجاهل العهد الإسلامي، و اعتبار الفتح غزوا عربيا، و التوسيع التفصيلي في دراسة تاريخ فرنسا منذ أقدم العهود إلى الوقت الحاضر، لينشأ الطالب الجزائري وفي ذهنه فكرة واحدة هي أن بلاده: "فرنسية في حاضرها و مستقبلها، ورومانية في ماضيها ولا شيء غير ذلك"(36).

وحرم على المتعلمين الأحرار تدريس التاريخ الجزائري، وأرغموا على الاكتفاء بتعليم الأبجدية وتحفيظ القرآن الكريم دون تفسير.

وقد طبق الاستعمار الأسلوب نفسه على مادة الجغرافيا، حيث كان التلاميذ الجزائريون يدرسون جغرافية فرنسا بشريا و سياسيا و اقتصاديا و طبيعيا، و يلقنوهم أن الجزائر: "جزء لا يتجزأ من فرنسا (الأم) وهي عبارة عن ثلاث مقاطعات فرنسية توجد وراء البحر المتوسط ويحكمها وال عام معين من قبل حكومة فرنسا"(37).

وقد حرص أيضا على أن يثبت في باطن التلاميذ أنهم من الجنس نفسه الذي ينحدر منه العنصر  الفرنسي، وأن أجدادهم هم الغالبون الذين سكنوا قديما جنوب فرنسا وليس العرب الذين وفدوا في عصور قديمة من الجزيرة العربية كما أثبت ذلك المؤرخون الثقات، وهكذا كان الأطفال الجزائريون يرددون،: "كانت بلادنا قديما تسمى الغال LA GAULE وكان أجدادنا يسمون الغاليين LES GAULOIS تماما مثلما كان يدرس التلميذ الفرنسي في مقاطعة نورماندي"(38).

ويعد هذا الاستعراض السريع لمظاهر الحرب القاسية التي شنتها فرنسا على الأبعاد الحضارية الثلاثة للشخصية الجزائرية لمدة قرن كامل، نعود فنقول أن هذه السياسة الاستعمارية قد تركت بصماتها على الفكر و الثقافة في الجزائر، وجعلت الإنسان الجزائري يعيش حالة كئيبة من الاغتراب الكامل عن دينه ولغته ووطنه، وعند ذلك اطمأن الاستعمار إلى وجوده في الجزائر، فاحتفل بمرور مائة عام على احتلال الجزائر و تشييع جنازة الإسلام فيها.
عند هذا الخط الفاصل وقف ابن باديس يعيد قراءة المرحلة الاستعمارية بكل تفاصيلها ليتمكن من تحديد نقطة البداية التي ينطلق منها،  بعد أن أكدت له الأحداث أن الشعب الجزائري لا يمكنه أن ينهض بدون إعادة الفعالية لهذه الثلاثية المقدسة في نفسه، فهي التي ستحييه من موات و تبعثه من جديد، و تخلصه من أنياب المشروع الصليبي الفرنسي الاستئصالي؛ فكيف نظر ابن باديس إلى الثلاثية؟ وكيف عمل على تفعيلها؟.

أ.تجديد الدين: إن الأمة الجزائرية أمة مسلمة يحتل الإسلام مساحة كبيرة من وجدانها، و منه تستمد تصورها العقدي و الروحي، و انطلاقا من هذا التصور يمارس الإنسان الجزائري نشاطاته المختلفة على المستوى الأسري و الاجتماعي و الأخلاقي.

وعلى الرغم مما شاب الحقيقة الإسلامية في أذهان الجزائريين من انحرافات في التصور، وتراخ في الفعالية إلا أنها ظلت على مرّ السنين حاضرة في الضمير الجزائري.

و قد كان ابن باديس يدرك ذلك تمام الإدراك ولا يتصور مستقبلا آخر للجزائر خارج دائرة الإسلام، لأن الإسلام كان دائما هو الملاذ الذي يلجأ إليه الجزائريون في محاولاتهم المتكررة للدفاع عن النفس، و حفظ كيانهم من الاندثار، كما كان –كذلك- الحصن المنيع الذي احتموا به أمام موجات الغزو الديني والفكري، التي مارستها ضدهم الحضارة الغربية التي واكبت الاستعمار الفرنسي.
غير أن هذا الإسلام الذي استطاع أن يخفف من حدة الغارات الغربية طوال عقود الاحتلال، كان  يعاني في كثير من مظاهره من القصور و السلبية، وفقد تأثيره الحي و فعاليته في واقع المجتمع الجزائري بفعل رواسب عصور الانحطاط و سياسة الاستعمار التغريبية .
لذلك عمل ابن بأديس على تجديده و إحيائه ونفض غبار السنين العجاف التي توالت عليه وفق فهمه الصحيح للإسلام، و ذلك بتطهير الدين من البدع و الخرافات و الأوهام، و الرجوع به إلى صفاته و سماحته في عقائده و عباداته و شرائعه، ورفع ما أثير حول قيمه من شبه و شكوك، وتقديمه للناس في بساطته و يسره ليدركوا ارتباطه العميق بالحياة الإنسانية في جميع جوانبها، و ترقية فكر المسلم و إرشاده إلى الأخذ بأسباب الحياة العصرية (39) عن وعي وبصيرة، إيمانا منه بقدرة الإسلامية العالية على استنهاض النفوس و الهمم، و بعثها و دفعها نحو الإقلاع الحضاري الذي يجدد الحاضر، ويمهد لمستقبل أكثر إشراقا.

وقد يتطلب هذا التجدد الحضاري للدين العمل في ثلاث مجالات أساسية هي:

1- تطهير العقيدة (40)و تنقيتها من البدع و الخرافات، وصياغة العقل الجزائري صياغة جديدة ليمارس نشاطه الطبيعي باحتكاكه المباشر بالنصوص المعصومة، و ليتخلص من الضغط الذي فرضته عليه التراكمات التراثية ورواسب الأفكار الضالة، و الاعتقادات الخاطئة و الممارسات الشاذة المنافية لروح الإسلام في سبيل إعادة الفعالية الاجتماعية لهذه العقيدة.

2- إحياء الفقه الإسلامي و الدعوة إلى تحريك العقل الاجتهادي، وتجاوز القراءات المذهبية التي تأسر النص ضمن منظورها الفكري، ولا يعترف بوجهات النظر الأخرى، وطرح الاجتهادات البشرية التي تراكمت عبر العصور، واكتست طابع القداسة حتى كادت تحل محل الكتاب و السنة، وذلك بالرجوع المباشر إلى مصادر الإسلام الأصلية، و الاحتكام إليها من أجل إحداث عملية إخصاب بين النص الشرعي و الواقع المعيش باكتشاف إجابات جديدة للتحديات المعاصرة عن طريق حركة الاجتهاد و التجديد.

3- الثورة على الطرق الصوفية المنحرفة، و الدعوة إلى الصلاح الشرعي و التربية الروحية المنضبطة بقيم الكتاب و السنة و الاقتداء بسيرة السلف الصالح من الصحابة و التابعين الذين مثلوا هذا الصلاح في أرقى صوره.

وفي هذا الإطار نجده في حركته التي حاول من خلالها أن يعيد للإسلام سلطانه على الأنفس و الحياة وأن يحيي جذوته، وأن ينقيه من الأفكار الميتة و المسمومة، يتحدث عن الإسلام الوراثي و الإسلام الذاتي.

فالإسلام الوراثي هو الإسلام الذي وصل المسلمين في عصور الانحطاط بعد أن دخلته البدع والخرافات، و غلبت عليه التفسيرات الخاطئة و الاعتقادات المنحرفة، وحصل شرخ كبير بين ما يعتقده المسلم وما يفعله، و انفصلت في داخله العلاقة بين الشريعة و ميدان الحياة، و انحصر الدين في حدود ضيقة لا تتجاوز حركات الجوارح.

لذلك لم يعول عليه ابن باديس في إحداث النهضة، وتوعية الناس، وطرح بدله الإسلام الذاتي وهو الذي يأتي نتيجة المعرفة الصحيحة للإسلام من ينابيعه الأصلية:  الكتاب و السنة، وتمثل عقيدته الحية، و أخلاقه السامية، و شرائعه السمحة.

وهو يعرف النوع الأول بأنه: "الإسلام التقليدي الذي يؤخذ بدون نظر ولا تفكير، وإنما يتبع الأبناء ما وجدوا عليه الآباء، و محبة أهله للإسلام إنما هي محبة عاطفية بحكم الشعور و الوجدان... لكن هذا الإسلام الوراثي لا يمكن أن ينهض بالأمم، لأن الأمم لا تنهض إلا بعد تنبه أفكارها وتفتح أنظارها، و الإسلام الوراثي مبني على الجمود و التقليد فلا فكر فيه ولا نظر" (41).

أما الإسلام الذاتي: "فهو إسلام من يفهم قواعد الإسلام و يدرك محاسن الإسلام في عقائده و أخلاقه و آدابه و أحكامه و أعماله، و يتفقه –حسب طاقته- في الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية و يبني ذلك كله على الفكر و النظر فيفرق بين ما هو الإسلام بحسنه و برهانه وما ليس منه بقبحه و بطلانه فحياته حياة فكر و إيمان وعمل، و محبته للإسلام محبة عقلية بحكم العقل و البرهان كما هي تقتضي الشعور و الوجدان"(42).

وهذا الإسلام هو الذي ينهض بالأمم الإسلامية ويقودها في طريق التقدم و الرقي: "إذا فنحن المسلمين –مطالبون دينيا- بأن نكون مسلمين إسلاما ذاتيا"(43).

وبهذا الفقه العميق لفلسفة التغيير و البناء الحضاري، اجتهد ابن باديس في تفعيل الدين لكي يقوم بدوره الحيوي في المجتمع الجزائري، ويكون عنصرا أساسيا في المواجهة الحضارية مع المشروع الفرنسي.

بـ- ترقية اللغة العربية: ّإن اللغة العربية هي اللغة الوطنية والقومية للمجتمع الجزائري، وتعد مقوما جوهريا من مقومات الشخصية الجزائرية، وهي الربط الوثيق الذي يربط الشعب الجزائري بدينه وتاريخه وثقافته، ويربطه بأجزاء الوطن العربي المختلفة: "لغة الأمة هي ترجمان أفكارها وخزانة أسرارها، والأمة الجزائرية ترى في اللغة العربية –زيادة على ذلك القدر المشترك- أنها حافظة دينها، ومصححة عقائدها، ومدونة أحكامها، وأنها صلة بينها وبين ربها"(44).
لذلك كان إحياء اللغة العربية، ونشرها في أوساط المجتمع الجزائري، والدفاع عنها ضد المؤامرات الاستعمارية، هدفا حيويا، أدرجه ابن باديس  ضمن خطته الحضارية، باعتبار الدور المهم الذي تلعبه في الحفاظ على الشخصية الوطنية، وحماية الكيان الحضاري للأمة الجزائرية من الاندثار، فهي عنده: "لغة الدين، لغة الجنس، لغة القومية، لغة الوطنية المغروسة، إنها وحدة الرابطة بيننا وبين ماضينا، وهي وحدها المقياس الذي نقيس به أرواحنا بأرواح أسلافنا، وبها يقيس من يأتي بعدنا من أبنائنا و أحفادنا الغر الميامين، أرواحهم بأرواحنا، وهي وحدها اللسان الذي نعتز به، وهي الترجمان عما في القلب من عقائد، وما في العقل من أفكار، وما في النفس من آلام و آمال"(45).

وعلى هذا الأساس، وجدنا جهود ابن باديس النظرية و العملية تصب كلها في إعادة الفعالية الحضارية للغة العربية حتى تصبح الأدة الأساسية في التفكير، و الكتابة، و الخطاب، و التواصل بين الأجيال، وهو يشير إلى هذا المعنى بقوله: "إن هذا اللسان العربي العزيز الذي خدم الدين، و خدم العلم و خدم الإنسان، هو الذي نتحدث عن محاسنه منذ زمان، ونعمل لإحيائه منذ سنين فليحقق الله أمانينا"(46).

وقد بدا ذلك واضحا في حركة التربية و التعليم النشيطة التي بدأها في قسنطينة قبل الحرب العالمية الأولى، ومن ثم انتشرت في سائر أنحاء الوطن، و ازدهرت بتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكان لهذه الحركة أثرها الكبير في تراجع مشروع الفرنسة، وحصر مده، وإضعاف تأثيره، و التخفيف من حدة الهجمة الفكرية الغربية على الشخصية الوطنية، وإفساح المجال للغة العربية لثبت جدارتها في حمل المعارف الإنسانية و استيعاب حركة العلوم، وتقضي على شبهات الاستعمار الذي اتهمها بالعجز و القصور، ومافتئ يهون من شأنها في نفوس أبنائنا.
ولعلّ من أينع ثمار هذه الحركة بروز نخبة هامة من الأدباء و المفكرين الذين كونوا طليعة فكرية و أدبية حملت راية اللغة العربية، وكانوا رُسلها المبشرين في أوساط الشعب الجزائري.
جـ- تعميق الانتماء الوطني: ومثلما عمل ابن باديس على تفعيل دور الإسلام و العربية في نفوس الجزائريين اجتهد أيضا في تعميق الانتماء الوطني و تفعيل فكرة الوطن و الوطنية في زمن كانت الأمة في أشدّ الحاجة إلى من يعيد لها ثقتها في نفسها.

فقد برزت إلى الوجود –في المرحلة التي كان ابن باديس يخوض فيها تجربته التغييرية-جماعة النخبة التي تعد إحدى ثمرات السياسة الاستعمارية المرة، و هي عبارة عن مجموعة من المثقفين الجزائريين الذين رضعوا لبان فرنسا، و تشبعوا بثقافتها و ارتووا من معين حضارتها، وتبنوا مبدأ الاندماج التام في فرنسا.

وقد كانت جماعة النخبة تؤمن أن لا وجود للجزائر بدون فرنسا، وتنكر وجود كيان قومي و تاريخي لها قبل اتصالها بالحضارة الأوروبية، لذلك دعت الجزائريين في حماسة إلى الإقبال على التجنيس و قبول مشروع الاندماج كخيار وحيد للحياة و البقاء.

وقد أصيب الإنسان الجزائري –في هذه المرحلة- بحالة من التمزق بين انتمائه الأصلي العربي الإسلامي الذي نشأ عليه في أسرته، وبين الانتماء إلى الحضارة الغربية و الذوبان فيها وهو الحل الذي تقدمه له جماعة النخبة و ترغبه فيه. ويمكن اعتبار هذه المرحلة مرحلة بحث عن الذات التي ضاعت في غمار الحرب الضروس التي شنها الاستعمار ضد مقومات الشخصية العربية الإسلامية.

وقد رسم لنا عبد الحميد بن باديس الخطوط العريضة لهذا الواقع الأليم في نهاية العشرينات من هذا القرن فقال: "لقد كان هذا العبد يشاهد قبل عقد من السنين هذا القطر قريبا من الفناء، ليس له مدارس تعلمه، وليس له رجال يدافعون عنه، ويموتون عليه، بل كان في اضطراب دائم مستمر، ويا ليته كان في حالة هناء، وكان أبناؤنا يومئذ لا يذهبون إلا للمدارس الأجنبية التي لا تعطيهم غالبا من العلم إلا ذلك الفتات الذي يملأ أدمغتهم بالسفاسف حتى إذا خرجوا منها خرجوا جاهلين دينهم ولغتهم وقوميتهم وقد ينكرونها"(47)

لذلك قرر التصدي لهذه السياسة الاستعمارية التي كانت تنفذ في بعض جوانبها بأيد جزائرية، و استطاع من خلال خطته التغييرية التي تبني ضمنها قضية تعميق الانتماء الوطني أن يقلب الموازين، وأن يوقظ في نفوس الجزائريين الإحساس بوجود وطن لهم له حدوده وتاريخه وثقافته ووجوده الحضاري المتميز عن فرنسا .

وقد شهدت الصحف العربية الوطنية الردود القوية والمفحمة التي دمجها ابن باديس في الرد على جماعة النخبة ، لعل أقواها وأشدها وقعا المقالة التي ردّ بها على فرحات عباس عام 1936 حينما كتب مقالة في جريدة الوفاق (L’entente)  تحت عنوان " فرنسا هي أنا ّ قائلا : " إنني لست مستعدا للموت في سبيل الوطن الجزائري لأن هذا الوطن لا وجود له ، إنني لم اكتشفه ، ولقد سألت عنه التاريخ ، وسألت عنه الأحياء والأموات ، وزرت المقابر من اجل اكتشافه فلم أجد من يكلمني عنه إطلاقا ... إننا يجب أن لا نبني فوق الرمال ، وإنني قد أبعدت بصفة باتة ونهائية كل خيال لكي نربط المصير بصفة مطلقة مع الوجود الفرنسي إن الأمة الجزائرية مجمعة على اعتبار نفسها أمة فرنسية بحتة ، لا وطن لها إلا الوطن الفرنسي ، ولا غاية لها إلا الاندماج الفعلي التام في فرنسا " (48) كما قال أيضا : " هذه سياستي ومسلكي ومنهاجي ولو بقيت وحيدا فيه فليس لنا وطن إلا فرنسا ، وليست لنا لغة علم ومدنية إلا لغة فرنسا ولن ننال حقوقنا إلا بواسطة فرنسا " (49) والأمة الجزائرية – في نظره – مجمعة على اعتبار نفسها أمة فرنسية بحتة ، لا وطن لها إلا الوطن الفرنسي ، ولا غاية لها إلا الاندماج الفعلي التام في فرنسا (50) .

وقد جاء رد ابن باديس على صفحات | الشهاب | قوله : " الأمة الجزائرية أمة متكونة موجودة كما تكونت ووجدت كل أمم الدنيا ، ولهذه الأمة تاريخها الحافل بجلائل الأعمال ، ولها وحدتها الدينية واللغوية ولها ثقافتها الخاصة وعوائدها وأخلاقها بما فيها من حسن وقبيح شأن كل أمم الدنيا ، ثم إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا ولا يمكن أن تكون فرنسا ، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت ، بل هي بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها وفي دينها ، لا تريد أن تندمج ولها وطن محدود ومعين هو الوطن الجزائري بحدوده المعروفة" (51) .

ولم يكن يريد لهذه الفكرة الجريئة أن تبقى حبيسة الفئة المثقفة ، بل كان يريدها عقيدة يدين بها جميع الجزائريين ، لذلك سعى إلى بثها في نفوس الجماهير ، وغرسها في أعماق الأطفال الذين يمثلون مستقبل الجزائر عن طريق الدروس المسجدية ، والمحاضرات ، والمقالات ، وحركة التعليم العربي الحر التي كانت الميدان الواسع الذي صال فيه ابن باديس وجال ، حيث سطر لأبناء الجزائر برنامجا دراسيا يتناسب مع أهداف الحركة الإصلاحية التي كانت تهدف إلى تخريج أجيال متشبعة بالروح الوطنية ، مدركة لأبعاد الشخصية الجزائرية ، رافضة لسياسة الإدماج والتجنس .

وقد عبّر عن ارتباطها العميق بهذا الوطن في كل المناسبات التي أتيح له فيها التعبير عن مشاعره تجاهه ، حيث أكد في مواضع عديدة عن حبه الكبير للجزائر ومتانة الروابط التي تشده إليه ، وفي هذا الصدد يقول : " أما الجزائر فهي وطني الخاص الذي تربطني بأهله روابط من الماضي والحاضر والمستقبل بوجه خاص ، وتفرض علي تلك الروابط لأجله كجزء منه ، فروضا خاصة ، وأنا اشعر بأن كل مقوماتي الشخصية مستمدة منه مباشرة ، فأرى من الواجب أن تكون خدماتي أول ما تتصل بشئ تتصل به مباشرة " (52) .

وهو يرى أن حب الوطن و التفاني في خدمته والدفاع عنه وحمايته من أعدائه والاعتزاز به والتضحية من اجله عمل إنساني عظيم : " إننا نحب الإنسانية ونعتبرها كلا ، ونحب وطننا ونعتبره منها جزءا ، ونحب من يحب الإنسانية ويخدمها ، ونبغض من يبغضها ويظلمها ، وبالأحرى نحب من يحب وطننا ويخدمه ونبغض من يبغضه ويظلمه، فلهذا نبذل غاية الجهد في خدمة وطننا الجزائري وتحبيب بنيه فيه ، ونخلص لكل من يخلص له ، ونناوئ كل من يناوئه من بنيه ومن غير بنيه " (53) .

وقد كان إحياء فكرة الوطن والوطنية وإقناع الجزائريين أن للجزائر شخصية حضارية متميزة تختلف جذريا عن الدولة الفرنسية في الدين واللغة والتاريخ والثقافة ، ضربة قوية لمشروع الإدماج الذي كانت تراهن عليه السياسة الاستعمارية ، وتعده خطوة مهمة نحو احتواء الجزائر نهائياً .
وقد اعترف احد الكتاب الفرنسيين أن العلماء الجزائريين هم الذين وضعوا فكرة الوطن الجزائري ، واليهم يرجع الفضل في غرس بذرة الوطنية وتعهدها حتى نمت في النفوس وأينعت عندما قال : " إن مجدد فكرة الوطن الجزائري هم بالأحرى هؤلاء الذين أسسوا جمعية العلماء أي الشيخ عبد الحميد ابن باديس وأشد إتباعه حماسة كالشيخ الإبراهيمي و العقبي " (54) .

كما أن التقارير السرية التي كانت تعدها المخابرات الفرنسية المكلفة بمتابعة نشاط الجمعية ومراقبة رجالها أكدت أن : " شعب مدارسهم عبارة عن خلايا سياسية والإسلام الذي يمارسونه هو مدرسة حقيقية للوطنية " (55) .

وكان ابن باديس يهدف من وراء إعادة تشكيل هذه المقومات وتفعيلها إلى تهيئة الظروف المناسبة لإقلاع حضاري قوي يمكن للشعب الجزائري من استئناف دوره الرسالي وهو ما يعبر عنه " علي مراد " بعملية : " إعادة قولية للشروط الثقافية الخاصة بالمجتمع الجزائري " (56) ، أو بمعنى آخر إعادة تأسيس وبناء المجتمع الجزائري الحديث وفق القوانين نفسها التي تحكمت في ظاهرة ميلاده لأن نهضة مجتمع ما – كما يقول مالك بن نبي - : " تتم في نفس الظروف العامة التي تم فيها ميلاده ، كذلك يخضع بناؤه وإعادة هذا البناء لنفس القانون " (57) .
ويمكننا أن ندرك الأهمية البالغة التي كانت تكتسيها هذه الثلاثية المقدسة في تجربة ابن باديس التغييرية من خلال نشيده المشهور الذي رددته الأجيال الجزائرية طويلا :

شعب الجزائر مسلــم      والى العروبة ينتسب

من قال حاد عن أصله     أو قال مات فقد كذب

أو رام إدــاجـا له      رام المحال من الطلب (58) .

ومن خلال تبنيه أيضا للشعار الخالد : ( الإسلام ديننا – العربية لغتنا – الجزائر وطننا ) ، والذي كان يعبر بدقة عن الأبعاد الحقيقية للصراع الحضاري مع الاستعمار الفرنسي الذي كان يتبنى في المقابل المشروع الصليبي القائم على الثلاثية المدمرة : ( التنصير – الفرنسة – الإدماج ) .

اعتماد العمل الجماعي المنظم : إن العمل الجماعي قاعدة أساسية ، وشرط ضروري في العمليات التغييرية الكبرى التي تستهدف إحداث انقلاب في نظام المجتمع ، وإعادة بنائه على أسس بديلة ، لأنه يجمع الطاقات ، ويوحد الصفوف ، ويضّم الجهود بعضها إلى بعض ، وينسق بينها ويوجهها لتحقيق الهدف المنشود ، لذلك كانت الأعمال التي يقوم بها الأفراد في هذا المجال غير قادرة على سدّ الثغرة التي يمكن أن تسدها الجهود الجماعية ، باعتبار الجهد الفردي محدود المدى ، ضعيف الطاقة ، وقتي التأثير  إذا ما قيس بضخامة التحديات التي تواجه الأمة .

وقد أكد القرآن الكريم والسنة النبوية أهمية العمل الجماعي في التغيير، فخاطب القرآن المؤمنين بقوله : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } (59) .

والأمة معناها : " الجماعة المؤلفة من أفراد لهم رابطة تضمهم ، ووحدة يكونون بها كالأعضاء في بنية الشخص " (60).

كما أن السيرة النبوية تبين بجلاء أن الدعوة الإسلامية لم تقم بجهد الرسول صلى الله عليه وسلم الفردي ، بل كانت مبنية منذ انطلاقتها على الجماعة التي كونها النبي الكريم ، واختار عناصرها بعناية فائقة ، لتقوم على كاهلها مهمة تغيير المجتمع الجاهلي ، مما يوحي بأن الانتصارات العظيمة ، والتحولات الكبرى في حياة الأمم ، لا تتم إلا عن طريق العمل الجماعي المنظم ، الذي تتظافر في إطاره الجهود وتتكتل القوى .

ثم إن أي واقع تستهدفه العملية التغييرية لتحويل وجهته ، يحمل في ذاته تحديات كثيرة وقوى متكتلة ، تشكل جبهة معارضة لكل محاولات الاستبدال ، فمن غير المعقول أن تقابل هذه القوة الرافضة بجهود فردية مبعثرة ، بل يستلزم هذا الوضع وجود تكتل مشابه ، يعدل ميزان القوى حتى يكون الصراع متكافئا .

وهذا العمل الجماعي لا بد أن يكون منظما، فعامل النظام يكتسي أهمية قصوى في هذا المقام، و التنظيم يعني وجود قيادة مسؤولة، وقاعدة مترابطة، ونظام أساسي ينظم العلاقات، ويحدد المسؤوليات و الواجبات، كما يعني إعداد برنامج عملي، ورسم الأهداف، وتحديد الوسائل و الأساليب وقد استطاع ابن باديس –من خلال معايشته للواقع المحلي و العالي –أن يدرك أن الجهود الفردية التي تتولى عملية التغيير، لن تثمر شيئا ذا بال، في عالم شهد تطورا مذهلا على جميع الأصعدة، وأن العمل المؤسساتي أصبح هو الطريقة المثلى التي تمكن العاملين من تحقيق الإنجازات الكبرى: "إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانيهم بالله و رسوله، إذ كانت لهم قوة، وإنما تكون لهم قوة إذا كانت لهم جماعة منظمة، تفكر و تدبر و تتشاور وتتآزر و تنهض لجلب المصلحة و لدفع المضرة،  متساندة في العمل عن فكر و عزيمة، ولهذا قرن الله في هذه الآية(61) بين الإيمان بالله و رسوله، و الحديث عن الجماعة وما يتعلق بالاجتماع، فيرشدنا هذا إلى خطر أمر الاجتماع و نظامه، و لزوم الحرص و المحافظة عليه، كأصل لازم للقيام بمقتضيات الإيمان و حفظ عمود الإسلام"(62).

ثم إن تمخض تجربة التغيير الفردية في الجزائر، التي خاضها جيل المصلحين الأوائل (63) من أمثال الشيخ عبد القادر المجاوي (1848-1913) و الشيخ عبد الحليم بن سماية (1866-1933) و الشيخ أبو القاسم الحفناوي (1852-1942) و الشيخ مصطفى بن الخوجة (1865-1915) وغيرهم- في بداية هذا القرن عن نتائج جزئية و ثمرات محدودة جعلته يتأكد أكثر أن الجهود الفردية مهما أخلص أصحابها نياتهم، و صدقوا في عزائمهم، وتسلحوا لها بالعلم و العمل، لا تستطيع أن تغير المجتمعات و أن تحدث فيها تحولات كبرى.

فقد حاولت هذه الثلة من العلماء أن تبعث يقظة فكرية في الجزائر عن طريق التدريس في المساجد و المدارس و تأليف الكتب في مختلف علوم اللغة و الدين، إلا أن جهودها –التي كانت تتسم في أغلبها بالفردية- لم  تتمكن من إحداث أثر مهم في المجتمع الجزائري، ولم يكن لها صدى بعيد في أوساط الشعب الغارق في ظلمات الجهل والأمية.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن هؤلاء العلماء لم يسعوا إلى تنظيم أنفسهم في إطار جمعية تنسق جهودهم و توجه أعمالهم فكانت آثارهم عند ذلك محدودة، لم تستطع أن تحرك الواقع الجزائري الذي كان يرزح تحت ضغط الاستعمار من جهة والطرقية المبتدعة من جهة أخرى.
وكان هذا الاقتناع رائده منذ دعوته من البقاع المقدسة، عام 1913، يدل على ذلك ما رواه الإبراهيمي عن الاجتماعات المتواصلة التي عقدها ابن باديس لمدة ثلاثة أشهر بالمدينة المنورة، والتي وضعا خلالها التدابير اللازمة و البرامج المسطرة المفصلة لبعث نهضة شاملة بالجزائر، إلى أن يقول: "وأشهد الله على أن تلك الليالي من سنة 1913 ميلادية هي التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي لم تبرز للوجود إلا في سنة 1931"(64).

غير أن إحجام ابن باديس عن المبادرة بتأسيس عمل جماعي منظم إنما كان صادرا عن إيمانه بأن الظروف المناسبة لوجود هذا الشكل التنظيمي لم تتوفر بعد، ولا بد من توفيرها خاصة وأن الجزائر كانت تعيش أجواء الحرب العالمية الأولى التي كانت تفرض التزام الهدوء و مهادنة الإدارة الاستعمارية.

ثم أعيد طرح هذه الفكرة مرة ثانية عام 1924 بمدينة سطيف عندما اجتمع ابن باديس مع الإبراهيمي و اتفقا على جمع و توحيد علماء الجزائر في إطار "جمعية الإخاء العلمي" التي يكون مقرها بمدينة قسنطينة وقد كلف الإبراهيمي بصياغة قانونها الأساسي و الداخلي.
وعندما صدرت جريدة الشهاب عام 1925م، وجه ابن باديس على صفحاتها نداء إلى العلماء و المتعلمين في جميع أنحاء الجزائر أن يتجمعوا في [حزب ديني محض] يهدف إلى تجديد الدين و تطهيره، و الرجوع إلى مصادره الأصلية حتى إذ رأى أن عدد الموافقين على المشروع كاف باشر بتأسيس هذا الحزب.

ولكن الظروف حالت –مرة أخرى- دون ظهور هذا العمل الجماعي المنظم بصفة رسمية ، على الرغم مما لقيته الفكرة من ترحيب و استجابة من طرف العلماء و المفكرين من آنذاك، لأن ميلاد أية حركة    - كما يقول أبو القاسم سعد الله – هو عملية  طويلة: " وفي بعض الأحيان مؤلمة، قبل أن يستطيع الناس رؤيتها وتقديرها"(65).

وبقيت الفكرة تختمر في الأذهان، و الإعداد لها متواصلا إلى أن جاءت اللحظة التاريخية المناسبة عام 1931، فخرجت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى الوجود ، كرد فعل قوي على الاحتفالات الاستفزازية التي نظمتها إدارة الاحتلال بمناسبة مرور قرن كامل على احتلال الجزائر.
إن المشاركة الفعالة لابن باديس في التفكير و الإعداد، و التأسيس والقيادة لجمعية العلماء دليل عملي حي على إيمانه بضرورة العمل الجماعي المنظم لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية الخطيرة التي كانت تعاني منها لأمة الجزائرية آنذاك.
وإن قراءة متأنية لتاريخ الجزائر الحديث، تكشف لنا أن جمعية العلماء كانت – بحق – نموذجا رائعا للعمل الجماعي المنظم ، وذلك بما توفر لها من قيادة حكيمة من العلماء المخلصين الذين استطاعوا أن يضبطوا لها التحديات الداخلية و الخارجية، وأن يحددوا لها الأولويات، وأن يرسموا لها الأهداف المرحلية و الإستراتيجية وأن يضعوا لها البرامج و الخطط وأن يعدوا لها الوسائل والآليات، وأن يفجروا طاقات الأمة الكامنة و يسيروا بها نحو الخلاص.
وقد كان العمل الجماعي المنظم ميزة اختصت بها الحركة الإصلاحية في الجزائر، و كان لذلك آثاره الحميدة في نجاح الحركة وتغلغلها في الأوساط الشعبية. وقد أشار الإبراهيمي إلى ذلك قائلا: "فلا يوجد قطر من أقطار الإسلام تأثر أهله بالفكرة الإصلاحية الدينية كما تأثر مسلمو الجزائر، ولا يوجد في علماء الإسلام جماعة قاموا بهذه الدعوة الجريئة متساندين مجتمعين ، يجمعهم نظام وانسجام ،  كما قام رجال جمعية العلماء المسلمون الجزائريين، على كثرة اللدد في الخصم وقوة اللجاج في المعارض"(66).

ويعقد عبد الله الركيبي مقارنة بين الحركة الإصلاحية في الجزائر ومثيلاتها في المشرق العربي، فيجد أن نقطة الاختلاف بينهما تبدو بارزة في مسألة التنظيم، و العلم الجماعي،على الرغم من وحدة المنابع التي استقوا  منها أفكارهم الإصلاحية، وفي ذلك يقول : " ولكن الفرق هو أن الجزائر أصبح هذا الفكر فيها يخضع " لتنظيم" قاده رجال لهم مشارب متفقة أو متقاربة، ولهم منابرهم الخاصة، بينما في المشرق اعتمد الفكر الإصلاحي على أشخاص أو أفراد، و إن اتفقوا في الأهداف ، فقد اختلفوا في الوسائل ، و كذلك لم يكونوا تنظيما يوجد جهودهم"(67).

التزام سياسة المرحلية  و التدريج: إن التزام سياسة المرحلية والتدرج في تغيير مجتمع ما من وضع سيء إلى وضع أفضل، شرط ضروري لنجاح عملية التغيير،وإن الاستعجال في تسوية الأوضاع الشاذة التي يعاني منها  المجتمع، ستقود حتما إلى الخيبة والخسران.

فالتدرج سنة كونية نراها بشكل واضح في خلق الإنسان و الحيوان و النبات، فهذه المخلوقات كلها تتدرج في مراحل متتابعة ، حتى تبلغ نماءها و كمانها، ولا تظهر هكذا بشكل فجائي في أكمل صورة.

و الخبرة الإنسانية أثبتت أن التدرج سنة فطرية أيضا لان النفس البشرية بطبيعتها ، نزاعة إلى التمسك بموروثها ، و كثيرا ما ستعصي على محاولات التغيير، فكان التدرج في إلقاء التوجيهات ، و إحلال المفاهيم البديلة محل المفاهيم القديمة، و تغيير الأفكار والعادات ، أمرا تقتضيه سنن الفطرة التي تؤكد أن النفس الإنسانية لا يمكن تحويل وجهتها من نقيض إلى النقيض طفرة واحدة .
وهي أيضا سنة تشريعية ، اتبعها القرآن الكريم في التعامل مع المجتمع الجاهلي، حيث سلك معهم طريق الحكمة ، وطهر قلوبهم من الشك والوثنية ، و أنارها بالتوحيد، وربطهم بالله ورسوله برباط الحب والولاء ، وثبت في وجدانهم الإيمان بالبعث والجزاء ، ثم انتقل من مرحلة تثبيت دعائم الإيمان إلى العبادات، فبدأهم بالصلاة قبل الهجرة، ثم شرع الصوم والزكاة في السنة الثانية من الهجرة ولم يفرض الحج إلا في السنة السادسة منها.
و تناول العادات المتوارثة و السلوكات السيئة بالعلاج نفسه ، فزجرهم أولا على الكبائر ، ثم نهاهم عن الصغائر و تدرج معهم في تحريم كان مستحكما في نفوسهم كالخمر والربا والميسر تدرجا حكيما ، اعتمد فيه على ما تشربته نفوسهم من قبل من المبادئ الإسلامية العامة ، فاستطاع أن يقتلع الشر و الفساد من جذوره اقتلاعا كاملا.

وفي هذا المعنى تقول عائشة رضي الله عنها : " وإنما أنزل أول من أنزل من القرآن سور فيها ذكر الجنة و النار، حتى إذا تاب الناس إلى الإسلام ، نزل الحلال و الحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر ولا تزنوا لقالوا لا ندع الخمر ولا الزنا أبدا" (68).

والتدرج في التشريع الذي انتهجه القرآن في تحويل المجتمع من الجاهلية إلى الإسلام ، فيه تعليم للمسلمين حتى يقتبسوا منه فقها صالحا للتغيير في كل زمان ومكان يتوجب فيه عليهم مغادرة وضع باطل إلى وضع صحيح .

و الحركة التغييرية التي قام بها ابن باديس كانت تهدف إلى العودة بالمجتمع الجزائري إلى الإسلام في صفائه ونقائه الأول، ثم تحريره من الاستعمار الأجنبي، وكان يدرك أن هذا الأمر لا يمكن أن يتم دفعة واحدة ، خاصة وأن الزمن الذي استغرقه انسلاخ المسلمين من التصورات العقدية السليمة، و الأحكام الشرعية، و الفضائل الإسلامية، يمتد إلى قرون عديدة.
فكان من الضروري اعتماد فقه المرحلية و التدرج في علاج الواقع المتردي ، وأخذ النفوس بالحكمة وتربية الأمة عبر المراحل ، السير بها خطوة خطوة حتى يتحقق المطلوب ، وقد مرّ ابن باديس في تجربته التغييرية بمراحل مختلفة كانت كلها مدروسة بعناية فائقة ، لتتناسب مع ظروف الشعب الجزائري.

وقد ارتأينا أن نقسم هذه التجربة إلى ثلاثة مراحل ، تمثل في تقديرنا المحطات الرئيسية التي ميزتها وهي كالتالي : وتبدأ منذ عودة ابن باديس من الحج عام 1913 وتنتهي حوالي عام 1923 ، وقد استغرقت قرابة العشر سنوات ، والمرحلة الثانية تبدأ عام 1923 وتنتهي عام 1931 تاريخ تأسيس جمعية علماء المسلمين الجزائريين ، أما المرحلة الثالثة فتمتد من 1931 إلى وفاته عام 1943 ، ولكل مرحلة مميزاتها وخصائصها التي سنحاول الإشارة إليها فيما يلي .
1- المرحلة الأولى: (1913-1923): لقد استهل عبد الحميد بن باديس عمله الحضري الضخم عام 1913 في ظروف صعبة جدا، وفي مرحلة تاريخية حرجة كل مظاهرها توحي بأوخم العواقب و أسوء النتائج ، فانطلق من الصفر، وأوجد بنفسه الميدان الذي سيتحرك فيه ، وتحلى بالصبر وسعة الصدر ، ووضع رجله على أول الطريق وبدأ مرحلة " العمل الصامت " التي تطلبت منه بذل جهود عظيمة جدا ، و تضحيات جسيمة .

وقد استغرقت هذه المرحلة قرابة عشر سنوات سلخها كلها في التربية و التعليم و الدعوة إلى الله على بصيرة ، تعليم الكبار والصغار النساء و الرجال، و إيقاظ معاني الحياة في النفوس ، وتهيئة القاعدة الشعبية التي سوف تلقي خطاب النهضة و اختيار العناصر الممتازة ليتم الاعتماد عليها في حمل هموم أمة وتبليغ فكرة الإصلاح .وأوضح ما ميز هذه المرحلة الهدوء التام والتزام الصمت ، والعكوف على العمل الحثيث المتواصل بدون ضجة ولا شعارات، تماشيا مع طبيعة الظروف المحيطة والابتعاد قدر الإمكان عن إثارة انتباه السلطات الاستعمارية ومسالمتها حتى يشتد عودة الحركة  . ومن مميزاتها أيضا أنها كانت محصورة من حيث المكان ، فالجهود كلها كانت مركزة في قسنطينة وضواحيها .

و قد ركز ابن باديس – خلال هذه المرحلة – على التعليم والتهذيب والتربية والتكوين ، وتقويم الأخلاق و تطهير العقائد و إصلاح العبادات و هي تعد – بحق - مرحلة إلقاء البذرة ووضع الأساس القوي للحركة الإصلاحية.

ولا نجد نصا مثل يصور بصدق ملامح هذه المرحلة مثل نص ابن باديس الذي جاء في مقاله " بعد عشرين سنة من التعليم نسأل: هل عندنا رخصة ؟ " حيث قال: "عشرون سنة مضت ونحن ننشر العلم بالجامع الأخضر وفي مسجد سيدي قموش و مسجد سيدي عبد المؤمن والطلبة يأتون من جميع نواحي قطر يتزودون من علوم الدين و اللسان... مضت عشرون سنة والناس يشكرون الحكومة توظيفها مدرسا يقضي سحابة نهاره وشطراً من ليله في خدمة العلم الديني و اللساني و نشره ظنا منهم أنني أتقاضى مرتبا كسائر الموظفين . ولما لم أرزق من الحكومة فلسا واحدا –والفضل لله- وما كنت إلا مدرسا متطوعا مكتفيا بالإذن في التعليم ذاكراً ذلك للناس عن الحكومة في المناسبات بالجميل. مضت عشرون سنة و السواح الأجانب يأتون للجامع الأخضر يشهدون حلقات العلم ووفرة الطلاب فيعدون ذلك من عناية الحكومة بالمساجد الإسلامية و تركها حرية التعليم للمسلمين"(69).

ففي هذا النص إشارة واضحة إلى سياسة ابن باديس خلال المرحلة الأولى، وهي العمل الصامت و تجنب إثارة الحكومة، و الاكتفاء بتربية الجمهور و تهذيبه و تعليمه.

2- المرحلة الثانية: (1923-1913): وهي تبدأ – في تقديرنا – عام 1923 ، و أبرز ما ميزها أن ابن باديس قد ادخل عنصرا جديدا في حركته ، وحاول أن يخرج من العمل الصامت إلى العمل العلني من خلال المقالات التي كان ينشرها في الصحف العربية الصادرة آنذاك ، واتضح هذا الاتجاه أكثر عام 1925 عندما اقتحم ميدان الصحافة بكل قوة ، وأشهر على منابرها مبادئ حركته ، و أعلن عن برنامج عمله ، وكشف جزءا من خطته التي يعمل بموجبها ، وأسس المطبعة الجزائرية الإسلامية واصدر المنتقد ثم الشهاب. 

ومع استمراره في عملية التربية والتهذيب والتكوين ، بدأ هجومه العلني والصريح على الطرقية التي تمثل العدو الأول للشعب ، وحلف الاستعمار في تكريس الواقع المنحرف والجهل والأمية والهيمنة الروحية  فوجه لها سهام النقد الجارح ، وكشف عن وجهها الحقيقي وهدم أركانها كخطوة أولى وإستراتيجية وضرورية للمرور للخطوة التي تليها ، وكانت الحركة – قد اكتسبت – خلال هذه المرحلة جيشا من الأنصار ، وكونت نسخة ممتازة من المثقفين الدعاة .
والطرقية هي التحدي القوي الذي كان يواجه حركة التغيير ويشدّ الشعب إلى الوراء بقيود الشعوذة والدجل والخرافات والتفكير الأسطوري ، ويمنعه من التطلع إلى الخلاص لاعتقاده أن ما يجري له قضاء وقدر، وفي ذلك يقول ابن باديس محذرا المسلم الجزائري من الوقوع في شراك الطرقية : " واحذر كل        ( متريبط ) يريد أن يقف بينك وبين ربك ويسيطر على عقلك وقلبك وجسمك ومالك بقوة يزعم التصرف بها في الكون ... واحذر من دجال يتاجر بالرقي والطلاسم ، ويتخذ آيات القرآن وأسماء الرحمن هزؤا يستعملونها في التمويه والتضليل و ( القيادة ) و ( التفريق ) ويرفقونها بعقاقير سمية فيهلكون العقول والأبدان " (70) .

وتقديم مهاجمة الطرقية قبل الاستعمار الفرنسي خطة ذكية أيضا تدخل ضمن إطار سلم الأولويات الذي يفرض معرفة ميدان المعركة ، واختيار الأولى بالمهاجمة ، وتأجيل ما ينبغي تأجيله .

وقد ارتأى ابن باديس أن يبدأ بالجبهة الداخلية فيزيح الطرقية من طريق حركة الإصلاح ليتخلص الإنسان الجزائري من بلائها ويستعد لمواجهة العدو الأكبر .

وخلال هذه المرحلة أيضا ، حاول ابن باديس أن يبتعد قدر الإمكان عن إثارة إدارة الاحتلال حتى يؤمن لنفسه قدرا معينا من الاستقرار الذي يمكنه من التفرع لحسم المعركة لصالحه ضد الطرقية .
غير أن حذره لم يحمه من بطش سلطات الاستعمار التي سارعت إلى وقف | المنتقد | بعد صدور ثمانية عشر عددا منه ، وعلى الرغم من ذلك ، استطاع ابن باديس أن يحتوي هذه الحادثة ويستأنف نشاطه الصحفي مع | الشهاب | متبنيا شعار " تستطيع الظروف أن تكيفنا ولا تستطيع بإذن الله إتلافنا " ، ملتزما الحيطة والحذر في التعامل مع إدارة الاحتلال .
وقد يعجب القراء حين يطالعون قول ابن باديس موجها خطابه للمسلم الجزائري : " حافظ على مبادئك السياسية ولا سياسة ل كالا سياسة الارتباط بفرنسا ، والقيام بالواجبات اللازمة لجميع أبنائها ، والسعي لنيل جميع حقوقهم ، فتمسك بِفْرَاسَة العدالة والأخوة والمساواة ، فإن مستقبلك مرتبط بها " (71) .

فهذا النص وما يجري على شاكلته كان يدخل ضمن خطة مدروسة تهدف إلى تجنب فتح ثغرة في جدار حركة الإصلاح قد تحدث فيه صدعا ، وتفسد كل ما تم بناؤه ، وتعمل على إبعاد أنظار الاستعمار عن حقيقة ما يجري الإعداد له في سبيل المحافظة على انجازات الحركة .
3- المرحلة الثالثة : ( 1931 – 1940 ) : أما المرحلة الثالثة فتبدأ عام 1931 ، وهي المرحلة التي اكتست فيها حركة الإصلاح الطابع الرسمي والنظامي بتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كان لابن باديس حظ وافر في الإعداد لها ، وتهيئة الأرضية المناسبة لقيامها ، ثم قيادتها .

وقد نشط – خلال هذه المرحلة – نشاطا ملحوظا ، حيث وهب الجمعية جل وقته ، فكان يشرف على إدارة شؤون الإصلاح بمنطقة الشرق الجزائري كله ، وكان ينتقل من مكان إلى مكان معلما ، ومرشدا ، وموجها ، ومؤسسا لكثير من المساجد والمدارس والنوادي والجمعيات المحلية ، ولا تكاد تحلو منطقة من مناطق الشرق الجزائري من آثار زيارات ابن باديس الميدانية ، تستوي في ذلك المدن الكبرى والقرى الصغيرة وحتى الأرياف .

وفي هذه المرحلة ، أسهم ابن باديس مع إخوانه العلماء في تأسيس صحف الجمعة كــــ | السنة | و | الشريعة | و | الصراط | و | البصائر | ، وكان في الوقت ذاته يرأس تحرير مجلة : | الشهاب | التي كانت منبرا حرا للفكر والعلم والثقافة تضاهي في قيمتها الإعلامية مجلة | المنار | التي كان يديرها محمد رشيد رضا بالقاهرة .

كما عمل مع إخوانه العلماء أيضا على إقامة العديد من المؤتمرات العلمية والتربوية في سنوات    1935– 1937 لتنشيط الحياة العلمية والثقافية ومدها بدماء جديدة .
كما قاد بالدور فعال في الإعداد والتنظيم والإشراف على المؤثر الإسلامي المنعقد عام 1936 ، للمطالبة بالحقوق السياسية للشعب الجزائري ، والدفاع عن مصالحة الحيوية .
وكان أهم ما ميز هذه المرحلة هو احتفال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بختم ابن باديس لتفسير القرآن الكريم تدريسا لمدة خمس وعشرين سنة على طريقة الشريف التلمساني ( 72) .

وتعد هذه المرحلة من أخصب المراحل في حياة ابن باديس من حيث العطاء والفعالية .
وبعد ، فهذه جوانب مشرقة من مسيرة ابن باديس في مجال التغيير الحضاري الذي حاول من خلاله إعادة الأمة الجزائرية إلى جادة الصواب لتقوم بدورها الرسالي المنوط بها ، بعد أن كانت مشرفة على الهلاك والاندثار .

ومما لاشك فيه أن هناك جوانب كثيرة في هذه التجربة لم يسمح المقام بالحديث عنها واكتفينا ببعضها لنقدمها كنماذج حية لهذه التجربة الرائدة في البناء الحضاري ، وهي – في نظرنا – ما تزال بكرا ، يحتاج إلى كثير من الجهود المخلصة لتقديمها لأبناء الأمة ، حتى يستفيدوا منها في هذه الظروف الصعبة التي تتعرض فيها مقومات الأمة الحضارية للمؤامرات ، والتي ستسهم أيضا في استعادة صورة ابن باديس وجمعية العلماء المشرقة والتي يحاول بعضهم – للأسف الشديد – تحجيمها والاستهانة بدورها الحضاري ، في تاريخ الجزائر الحديث .

 

الهوامش:

1- فرحات عباس ، ليل الاستعمار ، ص91 .

2- راجع : د. أبو القاسم سعد الله ، حركة الوطنية الجزائرية ، ج1 ص79 الى 98 .

3- من امثال ابن العناني وابن الكبابطي وغيرهما .

4- راجع :خديجة بقطاش ، الحركة التبشيرية الفرنسية في الجزائر .

5- راجع : الإبراهيمي . عيون البصائر ، ص 356 ، كما نحيل القارئ على كتاب |  صفحات من الجزائر | لصالح خرفي ، ص 324 ، حيث ذكر أن المجاهدين أثناء الثورة التحريرية اكتشفوا في بعض مناطق الشرق الجزائري فبرا لراهب مسيحي بصليبه كان يؤمه الناس ويتركون به اعتقادا منهم انه ضريح لأحد الأولياء الصالحين .

6- الإبراهيمي : أنا " الثقافة ، ع87 ، جوان 1985 ، الجزائر ، ص 27 .

7- د. صالح خرفي ، المدخل إلى الأدب الجزائري الحديث ، ص 59 .

8- الإبراهيمي ، عيون البصائر ، ص 632 .

9- د. أبو القاسم سعد الله ، الحركة الوطنية الجزائرية ، ج2 ، ص10-57 .

10- عبد الحميد بن باديس ، " نصيحة الأستاذ الإمام لأهل الجزائر وتونس " الشهاب ، مج11 ، ج6 أوت 1935 ، قسنطينة ، ص365 .

11- محمد الطاهر فضلاء ، دعائم النهضة الوطنية الجزائرية ، ص 82 .

12- محمد رشيد رضا ، تاريخ الأستاذ الإمام ، ج1 ، مطبعة المنار ، القاهرة ، مصر ، 1931، ص 827 .

13- الشهاب ، ج1 ، مج12 ، افريل 1936 ، ص1 إلى الافتتاحية .

14- عبد الحميد بن باديس ، " صلاح التعليم أساس الإصلاح " الشهاب ، ج11 ، مج10 ، أكتوبر 1934 ، ص 381-438 .

15- الإبراهيمي ، آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ، ج1 ، ص 115

16- صلاح طالب الإبراهيمي ، من تصفية الاستعمار إلى الثورة الثقافية ، ص77 .

17- صلاح الدين الجورشي  ، تجربة في الإصلاح ، ص30 .

18- باعزيز بن عمر " عظمة الأستاذ الأكبر عبد الحميد بن باديس " البصائر ، ع24 ، 3ماي 1948

19- الإبراهيمي ، عيون البصائر ، ص 45 – 50 .

20- تفسير ابن باديس ، ص 540 .

21- تفسير ابن باديس ، ص 538 .

22- الشهاب ، ج1 ، مج12 ، ص41 ، افريل 1936 ، افتتاحية ، و: عمار طالبي : ابن باديس حياته وأثاره ، ج1 ، ص 359 .

23- الإبراهيمي ، عيون البصائر ، ص 314 .

24- راجع ، محمد ناصر ، المقالة الصحفية الجزائرية ، ص41 وما بعدها .

25- المنتقد ، ع1 2جويلية 1925 ، الافتتاحية

26- الشهاب ، ع1 ، 12 نوفمبر 1925 ، الافتتاحية .

27- إدريس شابو : " الشخصية الجزائرية " ، جريدة ( الشعب ) ، ع18 فيفري 1970 ، ص7 .
28- احمد طالب الإبراهيمي : التجربة الجزائرية في الثورة الثقافية ، الثقافية  ، ع8-9 ، ماي – جوان 1972 ، ص 18 .

29- احمد توفيق المدني ، كتاب الجزائر ، ص 203 ، 208 ، 239 وكوليت وفرنسيس جونسون " الجزائر الثائرة " ترجمة : محمد علوي شريف وهنري يوسف سردار ، ص 40 – 41 . 

30- كوليت وفرانسيس جونسون ، الجزائر الثائرة ، ص 172 .

31- تركي رابح ، التعليم القومي والشخصية الوطنية ، ص 191 – 192

32- الإبراهيمي ، عيون البصائر ، ص 22 .

33- د. تركي رابح ، التعليم القومي والشخصية الوطنة ، ص 128 ، 190 ، 324 .

34- د. تركي رابح ، التعليم القومي والشخصية الوطنة ، ص 102 .

35- كوليت وفرانسيس جونسون ، الجزائر الثائرة ، ص 130 .

36- د. تركي رابح ، التعليم القومي والشخصية الوطنة ، ص 193

37- المصدر نفسه ، ص 191 .

38- د . رابح تركي ، الشيخ عبد الحميد باديس ، ص 135 ، وراجع أيضا : عثمان الكعاك ، البربر  ص 134 ، تونس ، 1956 ، و : عمار طالبي : ابن باديس حياته وأثاره ، ص 50 – 51 ، 59.

39- د. احمد الخطيب ، جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ، ص 126

40- راجع : محمد زرمان ، منهج جمعية العلماء في تجديد العقيدة الإسلامية ، ص 22 ( مخطوط ) .

41- عبد الحميد ابن باديس " الإسلام الذاتي والإسلام الوراثس " ، الشهاب ، ج3 ، مج11 ، ص 105 – 107 ، فيفري 1938 .

42- المصدر نفسه ، ص 105 – 107 .

43- المصدر نفسه ، ص 105 – 107 .

44- الإبراهيمي ، عيون البصائر ، ص 310 .

45- البصائر ، ع171 ، ص4 ، 22 جوان 1939 ، ص5 .

46- البصائر ، ع171 ، س4 ، 22 جوان 1939 ، ص5 .

47- البصائر ، س1 ، ع171 ، 22 جوان 1939 ، ص 5 ، 6 .

48- احمد توفيق المدني ، حياة كفاح ( مذكرات ) القسم الثاني ، ( في الجزائر 1925 – 1954 ) ص 61 .

49- المصدر نفسه ، ص 59 .

50- الشهاب ، ج1 ، مج12 ، افريل 1936 .

51- عبد الحميد بن باديس " كلمة حرة " الشهاب ، ج9 مج13 ، نوفمبر 1937 ، ص 403 – 406
52- عبد الحميد بن باديس " لمن أعيش " الشهاب ، ج10 ، ج12 ، ص424 -428 ، جانفي 1937 .

53- المنتقد ، ع 1 ، 2 جويلية 1925 .

54- خمسة رجال ،  JEAN LA COUTURE   ص 275 .

55- د. أبو القاسم سعد الله ، الحركة الوطنية الجزائرية ، ج3 ، ص 111 .

56- ALI MERAD Le Réformisme musulman en Algérie de 1925 – 1940 , ESSAI d’Histoire religieuse et social ( paris , Mouton Ldgo , Lahaye 1972 ) P334 .
57- مالك بن نبي ، ميلاد مجتمع ، ص 127 .

58- البصائر ، ع71 ، ص2 ، 18 جوان 1937 .

59- أل عمران ، 104 .

60- احمد مصطفى المراغي ، تفسير المراغي ، ج4 ، ص 21 .

61- النور ، 62 – 63 .

62- عبد الحميد ابن باديس ، تفسير ابن باديس ، ص 559 .

63- سعد الدين بن أبي شنب " النهضة العربية في الجزائر في نصف الأول من القرن الرابع عشر للهجرة " مجلة كلية الآداب ، جامعة الجزائر ، ع1 ، 1961 .

64- الإبراهيمي " أنا " الثقافة ، ع87 ، ماي – جوان 1985 ، ص19 .

65- د. أبو القاسم سعد الله ، الحركة الوطنية ، دار الآداب ، بيروت ، لبنان ، ج2 ، ص 114 .

66- الإبراهيمي ، عيون البصائر ، ص 315 .

67- د. عبد الله الركيبي ، الشعر الديني الجزائري الحديث ، ش.و.ن.ت الجزائر ، ط1 ، 1981 ، ص 562 .

68- أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري ، صحيح البخاري ، مج3 ، ج6 ، ص 101 .

69- عبد الحميد ابن باديس ، " بعد عشرين سنة في التعليم " الصراط السوي ، س1 ، ع7 ، 30 أكتوبر 1933 ، ص6 .

70- عبد الحميد ابن باديس ، " أيها المسلم الجزائري " ، الشهاب ، ع49 ، س3 ، 23 أوت 1926 .

71- عبد الحميد بن باديس ، " أيها المسلم الجزائري " الشهاب ، 49 ، س3 ، 23 أوت 1926 .

72- احمد بدوي ، " الشريف أبو عبد الله التلمساني " الأصالة ، ع4 ، س1 ، أكتوبر 1971 ص 48
مجلة الموافقات، العدد السادس ، 1418 هـ ، (1997 م).

د. محمد زرمان أستاذ بجامعة قسنطينة – الجزائر –

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.