ابن باديس.. الاسم اللامع والعقل الراجح

بقلم: د. مسعود فلوسي -

في تاريخ الجزائر العام، والسياسي والثقافي منه على الخصوص، أسماء لامعة، درج الناس على ترديدها على الألسن، وتوقير أصحابها في القلوب، والسير على منهاجهم حين إعمال العقول. والإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس عليه الرحمة أحد هؤلاء اللامعين في تاريخنا وثقافتنا وتراثنا، نظرًا للدور الذي لعبه إبان الاستعمار الفرنسي في إنارة العقل الجزائري وإثارة النخوة والشهامة والعزة في نفوس الجزائريين الذين تمكن الاستعمار من نواصي أكثرهم، فأرداهم عبيدًا ليس لهم في هذه الحياة من عمل غير خدمة المعمرين والتذلل أمامهم.

ولذلك فليس ظهور ابن باديس في تاريخنا بالشيء الذي يمكن أن يُنسى أو يُغْمَدُ في صفحات الكتب كما تُغْمَدُ السيوفُ في أغمادها، بل هو الأمر الذي لابد أن يُذْكَرَ ويُشَاعَ، ويُعَلَّمَ للصغار، ويبقى أثرًا خالدًا لا يمحوه تعاقب العصور والأجيال.

لقد ظهر ابن باديس في تاريخنا وبلادنا بشعبها وأرضها في حاجة ماسة إلى من يُنيرُ لها الطريق، ويُعَبِّدُ لها مسالكهُ ويُذلِّلُ أمامها أوعاره وشعابه... جاء ابن باديس فوجد أفراد أمته يعيشون بعقول رَانَ عليها الجهل، وغلب عليها ظلام التجهيل، ومحاولة القضاء على الأصالة والتراث.

لذلك حين عقد العزم على أن يعمل لإنقاذ الأمة من الضياع، وإرجاعها من التيه، وإيقاظها من غفوتها الطويلة، عمد أولا وقبل كل شيء إلى التراث يحييه ويُنَمِّي حبه في نفوس تلاميذه ومعرفته في عقولهم، واتجه إلى القرآن يُحَفِّظَهُ لهم ويُبَيِّنُ لهم أنه ملاذهم الوحيد ومناصهم الذي ليس لهم غيره إن هم أرادوا إخراج الاستعمار ونيل الاستقلال.

لأجل كل ذلك يمكننا أن نقول عن ابن باديس إنه كان عالمًا ومصلحًا ووطنيًا، ورائدًا للكشافة، ورافع لواء تحرير المرأة..

عالمًا؛ لكونه مفسر القرآن وشارح الموطأ.

ومصلحًا؛ لكونه أنقذ أمة كاملة من التيه والجهل والاستعمار.

ووطنيًا؛ لكونه يحب وطنه ويعيش للإسلام وله، ذلك أن حب الوطن من الإيمان.

ورائدًا للكشافة؛ لكونه خَرَّجَ رجالا كانت لهم يد كبيرة في نشأة الكشافة الجزائرية.

ورافع لواء تحرير المرأة؛ نعم لقد رفع ابن باديس لواء تحرير المرأة، ولكن ليس بالمعنى الذي يفهمه الكثيرون؛ وهو المناداة بتعري المرأة وإخراجها من بيتها وعملها في أعمال لا تليق بتكوينها جسديا ولا نفسيا، بل بالمعنى الذي يجب أن يُفهم، وهو العمل على إخراج المرأة من ظلام الجهل الذي تعيش فيه إلى نور العلم الذي ينير عقلها ويعلمها كيف تربي أولادها، ويجعلها قادرة على أن تعين زوجها على مصاعب الحياة وصروف الأيام.

وبحكم عمل ابن باديس وخبرته وعلمه رأى أن الشباب ذخر الأمة وقلبها النابض وفخرها المذكور، ومُعلي شأنها بين الأمم والشعوب، وبمقتضى ذلك حرص على أن يصنع من الشباب قوة هائلة يَدُكُّ بها عروش الْمُسْتَبِدِّينَ ويُخرس بها أفواه الْمُتَشَدِّقِينَ، ويُعْلِي رؤوس المظلومين.

وقد عمل لهذا الهدف بجد ونشاط، فحرص على إقامة التجمعات الشبانية وتنظيم ندوات للتعلم والمعرفة وتوزيع أعضاء جمعية العلماء على الولايات والمدن الجزائرية حتى يَعُمَّ النفع ويتجدد الوعي العام.

كما عمل على إنشاء تنظيمات يجتمع فيها الشبان ويُرَبُّونَ فيها تربية الجندية، ويُعَلَّمُونَ فيها احترام النظام مثل المنظمات الطلابية والكشفية، ولتثقيف هذا الشباب المتحمس حرص ابن باديس أيضا على إنشاء دور العلم والتحصيل وإنشاء الصحف والمجلات ونشر الكتب والمطبوعات، وتشجيع المواهب، وبعث البعثات العلمية إلى الزيتونة وغيرها من دور العلم والمعرفة في العالم الإسلامي، وقد حرص ابن باديس على تذكير الشباب بوجوب طلب العلم في أشعاره ومقالاته.

لذلك حق لنا أن نقول في الختام إن ابن باديس شعلة مضيئة في ماضينا ونادرة من نوادر تاريخنا، فعلينا بإعلاء شأنه وإدامة ذكره بالقلب واللسان حتى تعرفه الأجيال القادمة فتعمل على اتباع نهجه والسير على طريقه: طريق العلم والمعرفة والتقدم.

 

* حررها الأستاذ الدكتور فلوسي كإجابة لأسئلة موضوع الفلسفة أثناء تأديته لامتحان البكالوريا، وكان موضوع الفلسفة حول شخصية الأستاذ الإمام عبد الحميد بن باديس ودعوته الإصلاحية؛ مساء يوم الاثنين 26 جانفي 2015 .

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.