رحيل المثقفة التي جنت عليها مواقفها وصراحتها!
غيب الموت يوم (24 سبتمبر 2022) الكاتبة والإعلامية والمجاهدة زينب الميلي عن عمر ناهز 87 عاما بعد مرض عضال كانت تعالج منه في باريس حيث يقيم ابناؤها وأشهرهم الكاتب والمحلل السياسي نوفل الميلي.
الراحلة هي ثمرة رباط عاطفي بين عائلتين من أعمدة الإصلاح و قادة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فوالدها هوالشيخ العربي التبسي مفتي الجمعية، وأمينها العام، وحموها هوالشيخ مبارك الميلي ابراهيمي أمين مال الجمعية، ورئيس تحريرلسان حالها (البصائر)، ومؤرخها الرائد. جاء في برقية التعزية التي أرسلها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون إلى عائلة الفقيدة: «قضى المولى عز وجل أن يتوفَى المرحومة زينب الميلي الصحافية والمجاهدة ابنة عائلتي التبسي والميلي، أُولي العلم من رواد جمعية العلماء المسلمين بعد مسار متميز في عالم الصحافة والثقافة، تركت من خلاله رصيدًا مشرفًا غداة الاستقلال بانتسابها إلى جريدة الشعب، وعُرفت بجرأة آرائها وثباتها على الاعتزاز بتاريخنا الوطني والدفاع عن الجزائر». تميزت زينب جدري الميلي كريمة العلامة الشهيد الشيخ العربي جدري التبسي وزوجة الإعلامي القدير والوزير والدبلوماسي الأسبق والمجاهد محمد الميلي ابراهيمي نجل العلامة المؤرخ مبارك الميلي، بمواقفها الجريئة وصراحتها اللاذعة وعمق وطنيتها المتأصلة، فكانت من الأقلام الصحفية الرائدة والمناضلة بعد استرجاع الاستقلال، حيث مارست الصحافة في جريدة الشعب أم الجرائد اليومية الجزائرية باللغة العربية وقدمت برامج ثقافية في الاذاعة والتلفزة. امتازت بسعة ثقافتها وبمواقفها السياسية والثقافية الجريئة ودفاعها القوي عن اللغة العربية. لبت نداء الجهاد في مقتبل شبابها فاتلحقت بصفوف الثورة التحريرية في 1957 وهي السنة التي استشهد فيها والدها العلامة الشيخ العربي التبسي. شاء القدر أن تعيش زينب الميلي عمرا مساويا لعمر زوجها الكاتب محمد الميلي فكلاهما رحل عن عمر ناهز 87 سنة، وإن كان رفيق دربها قد سبقها إلى دار البقاء بحوالي ست سنوات، فقد توفي الأستاذ محمد الميلي في 7ديسمبر 2016، وكانت نهايتهما متطابقة إذ التحقا برحمة الله في باريس بعد تدهور صحتيهما ونقلهما للعلاج، فماتا خارج الوطن الذي دافعا عنه بالنفس والنفيس في زمن الثورة وسخرا جهودهما للدفاع عن تاريخه وثقافته الأصيلة وسمعته الدولية والمساهمة في جهود تنمية الوطن بعد استرجاع الاستقلال. ومن الغريب والمريب أن الدولة الجزائرية لم تتكفل بنفقات علاجهما كما جرت العادة مع رجال الدولة والمجاهدين، فزينب الميلي التحقت بثورة التحريروعمرها لم يتجاوز 22 عاما، أما زوجها محمد الميلي فقد التحق بالثورة في بداياتها مجاهدا في سبيل الله و الوطن، تعرف في تونس سنة 1955 على صديقه عبان رمضان، اسندت إليه قيادة الثورة في سنة 1957 مهام التحرير بجريدة المجاهد، لسان حال الثورة الجزائرية ثم تولى إدارتها و بعد الاستقلال تفرغ لبناء المؤسسات الإعلامية وتكوين الإطارات في مجال الإعلام، فأسس جريدة الشعب واصبح مديرا لها، كما ساهم في تاسيس المدرسة العليا للصحافة ثم تولى إدارة جريدة المجاهد الاسبوعي و بعدها انتخب في المجلس الشعبي الوطني، ثم عين سفيرا للجزائر باليونان ومندوبا دائما للجزائر في اليونسكو وسفيرا بالقاهرة قبل أن تسند إليه حقيبة وزارة التربية. زينب ومحمد الميلي ارتبطا بحياة زوجية امتدت لعقود كانت مثالا للعلاقة الزوجية الناجحة والرفقة النضالية الصادقة ،رغم الاختلاف الكبير في مزاج كلا الشخصيتين، إذ تميزت الراحلة زينب في حياتها وعلاقاتها الاجتماعية بطبعها الحاد وأسلوبها الصدامي حتى أنها دخلت في سجالات ساخنة وملاسنات شهيرة مع عدة رؤساء وزوجات رؤساء ودبلوماسيين وكتاب ومثقفين وصحفيين ، كما تميزت بجرأتها الكبيرة في الكتابة والتعبير والنقاش، فكانت نجمة الصالونات السياسية والأمسيات الادبية وخاضت معارك فكرية وثقافية عدة في الصحف. في المقابل كان زوجها الإعلامي والدبلوماسي محمد الميلي مثقفا رزينا ورجل نقاش يمتاز باللباقة ولطف المعشر والميل إلى التوافق وفن المجاملة والانفتاح على الرأي الآخر. بعض آراء الراحلة زينب الميلي اعتبرت انحرافا فكريا وزيغا عقائديا بدت من خلالها أقرب إلى أفكار الحركات النسوية الغربية والتيارات العلمانية ،ولم يستسغ الكثير من رفاق وتلاميذ والدها الشيخ المصلح العربي التبسي تلك الآراء الاستفزازية ،خصوصا ما تعلق منها بقضية الحجاب وحرية المرأة . فقد نزعت زينب الميلي حجابها بعدما التحقت بصفوف الثورة، وظلت متمسكة بهذا التصرف رغم انها لا تنكر أن الحجاب فرض إسلامي، كانت تقول عن نفسها: «عندما اتخذ موقفا لا أتراجع عنه حتى لو تبين لي فيما بعد أنه غلط». غيرأن زينب ابنة الشيخ التبسي لم تتخل عن فرائض الاسلام وعن الإيمان بالله تعالى وكتبه ورسله واليوم الآخر، وظلت متمسكة بممارسة الشعائر الدينية من صوم وزكاة وحج بيت الله الحرام، كما انها كانت مدافعة شرسة في الكثير من المناسبات عن رجال جمعية العلماء وتراثها الفكري والإعلامي والأدبي أما عن طبعها فتقول: «الجرأة ليست وليدة الساعة ولا تعود إلى فترة معينة. أستطيع أن أسميها طبعاً أو صفة جُبِلْتُ عليها، قد تكون الوراثة. دائما أقول لبعض الأصدقاء، إن والدي رحمه الله بدلا من أن يورّثني أطيانا وبيوتا، ورثني الصراحة وإبداء الرأي، وكم سببت لي صراحتي وإبداء الرأي من مشاكل وعراقيل، خاصة أيام اشتغالي، كم سببت لي من خسائر مادية وأحيانا معنوية. نصحني الأهل والأصدقاء بالتخلي عنها، حاولت لكن الفشل الذريع كان حليفي». هذا الطبع وتلك المواقف جعلت زينب الميلي تتعرض للتهميش والجفاء، فرغم مواهبها المتعددة وشرف نسبها وماضيها النضالي الناصع وتعدد معارفها في الاوساط السياسية والثقافية والاعلامية إلا أنها قضت اواخر أيامها في معاناة نفسية واجتماعية قاسية واختطفها الموت خارج ديار الوطن، حتى أن بعض الحاقدين والمصطادين في المياه العكرة نشروا عنها في بعض مواقع التواصل الاجتماعي أن أبناءها تخلوا عنها وأنها تعيش في دار العجزة في باريس، وهذا ماكذبه معارفها الذين واضبوا على زيارتها وأكدوا قبل وفاتها بشهور قليلة أنها متواجدة في مصحة للعلاج لأنها تعاني من عديد الأمراض المزمنة، وتحتاج لعناية دائمة ومركزة أن أولادها يدفعون تكاليف العناية الباهظة بوالدتهم والتي تقدّر بآلاف اليوروهات شهريا. كانت من أكبر الفجائع والصدمات التي تلقتها زينب الميلي في حياتها الحافلة فقدانها في حادث مميت بالقاهرة في مصر لابنتها الشابة التي كانت على أهبة الزفاف ولكنها استطاعت بموهبتها الأدبية والابداعية أن تحول الصدمة والفاجعة إلى إبداع أدبي وفني فألفت كتاب «عرائس من الجزائر» الذي يؤرخ لبعض ما يمارس في الجزائر من تقاليد وعادات تتعلق باللباس الذي يحاك للعروس الجزائرية، وبالحلي الذي تستعمله في ليلة زفافها بدءا بالأقراط وانتهاء بقبقاب الحمام. أما الفاجعة أو الصدمة الثانية فكانت ما لاقاه زوجها محمد الميلي من نكران جميل ورفض الدولة للتكفل بمصاريف علاجه رغم ماقدمه للجزائر من إسهامات في المجال النضالي التحرري والميادين الفكرية والتربوية الدبلوماسية والإعلامية.وعن ذلك تقول زوجته زينب الميلي: «كان جد حزين على وضعه، لم يكن يسأل عنه أحد، وهو الذي أوصل الكثير من وزراء الدولة الجزائرية إلى تلك المناصب وكون الإطارات، ثم يكافأ بالنسيان، وكان يسأل في كل مرة “لماذا لم توفر لي الرعاية الصحية على غرار بقية المسؤولين في الدولة؟». هذا الجحود الذي دفع زينب الميلي لأن تطرح السؤال في رسالة مفتوحة إلى الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة: «هل تعاقبون محمد على جرأتي، أم أنكم تعاقبونه على وطنيته؟ مضيفة: بعت ذهبي وحتى المحزمة التي أهداها والدي العربي التبسي لأمي عندما تزوج منها، ولم يبق لي شيء أبيعه حتى أعالج زوجي.»