تجديد الدين الإسلامي
بقلم: أ.د. مولود عويمر-
يجد القارئ في هذه السلسلة نصوصا قديمة متجددة حررها العلماء والأدباء الجزائريون حول قضايا عصرهم واهتماماتهم العلمية والأدبية والفكرية والسياسية الوطنية والعالمية.
وحوت هذه النصوص المرجعية للفكر الجزائري المعاصر معينا غزيرا يغرف منه الباحثون المشتغلون على تاريخ الجزائر في القرن العشرين والدارسون لذخائر تراثنا. وألتزم هنا قدر الامكان بنشر الآثار المغمورة أو المتداولة بشكل محدود لننفض الغبار عنها ونحيي جهود أصحابها الذين لم ينصفهم دائما الباحثون لأسباب مختلفة. وأمهد في كل مرة بترجمة موجزة لصاحب النص، وبيان سياقه العام وعرض مختصر لمضمونه، وتعريف مقتضب للمصدر الذي اقتبست منه، وهي في غالب الأحيان عبارة عن جرائد ومجلات قديمة تعتبر في حد ذاتها وثائقا مغمورة أو نادرة.
صاحب هذا المقال هو الشيخ مبارك الميلي. ولد في عام 1898 بقرية أولاد مبارك التي تقع جنوب الميلية. انتقل إلى مدينة ميلة للدراسة على الشيخ معنصر الميلي، ثم رحل إلى قسنطينة للدراسة في جامع الأخضر على يد الشيخ عبد الحميد بن باديس (1940/1889).
وسافر بعد ذلك إلى تونس لمواصلة تحصيله العلمي في جامع الزيتونة على كبار علمائه كالشيخ محمد بن يوسف (1939/1857)، والشيخ محمد النخلي (1869/ 1924)، والشيخ محمد الصادق النيفر (1882/ 1937). وتحصل في عام 1925 على شهادة التطويع فعاد إلى الجزائر للتدريس في ميلة وقسنطينة ثم الأغواط في الجنوب الجزائري.
لقد ساهم الشيخ مبارك الميلي في عام 1931 في تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تمثل في نظره «مؤسسة شعبية تعمل لتهذيب المجتمع في دائرة الدين والعلم بالوسائل المشروعة.» واختير من أول يوم عضوا في المكتب الإداري وأمينا للمالية. واختاره أيضا في أكتوبر 1937 مديرا لجريدة «البصائر» غداة استقالة الشيخ الطيب العقبي (1889/ 1960).
انتدبته جمعية العلماء إلى الأغواط فبقي فيها سبع سنوات مدرسا في المسجد العتيق، ومشرفا على مدرسة الشبيبة التي أسسها في عام 1933، وتخرج عليه طلبة سيلعبون فيما بعد دورا بارزا في الحركة الإصلاحية ومن أشهرهم: أبو بكر الأغواطي (1912/ 1987)، وأحمد بوزيد قصيبة (1919/ 1994)، وأحمد شطة (1908/ 1958).
وفي عام 1933، عاد الشيخ الميلي إلى مسقط رأسه بميلة ليواصل جهوده الإصلاحية في مجال التعليم والإرشاد. وعندما توفي الشيخ عبد الحميد بن باديس في أبريل 1940، خلفه الشيخ مبارك الميلي في دروسه بجامع الأخضر بقسنطينة. واستمر في هذا العمل التربوي إلى أن وافته المنية في 9 فبراير 1945.
كان الشيخ الميلي رائدا في مجال الكتابة التاريخية، فأصدر في عام 1928 الجزء الأول من كتابه: «تاريخ الجزائر في القديم والحديث». ثم أتبعه بالجزء الثاني في عام 1932. كما نشر كتابا في العقيدة الإسلامية عنوانه: «الشرك ومظاهره». وكان هدفه من وراء هذا الإصدار هو تطهير القلوب وتنوير العقول من الخرافات والشعوذة والأفكار الهدامة.
واشتغل الشيخ مبارك الميلي مبكرا بالصحافة، فكتب في الجرائد الإصلاحية منها: «المنتقد»، و«الشهاب» و «السُّنة»، و«البصائر». كما ساهم في جريدة «وادي ميزاب» لصاحبها الشيخ أبي يقظان باسم مستعار وهو الهلالي، و«المجلة الزيتونية» وصحيفة «النهضة» بتونس، ومجلة «الرابطة العربية» الصادرة في مصر.
أما ما يتعلق بتراث الشيخ الميلي، فقد جمع ابنه الأستاذ محمد الميلي مقالات الشيخ مبارك الميلي وعددا من الشهادات والمقالات التي تناولت حياة الشيخ الميلي وأعماله. وجمع الدكتور أحمد الرفاعي شرفي مقالاته ضمن كتابه: «مقالات وآراء علماء جمعية العلماء المسلمين». كما نشرت دار الرشاد الجزائرية في عام 2012 آثار الشيخ الميلي في 4 أجزاء.
نشر المقال في جريدة البصائر في 28 صفر 1657ه الموافق لـ 29 أفريل 1938. تأسست صحيفة البصائر في ديسمبر 1935 بعد توقف جرائدها السابقة: السُّنة، الشريعة والصراط. وأشرف عليها كل من الشيخ الطيب العقبي والشيخ محمد السعيد الزاهري، وحين تحوّلت من الجزائر العاصمة إلى مدينة قسنطينة في عام 1937 ترأسها الشيخ المبارك الميلي. توقفت سلسلتها الأولى في عددها 180 الصادر في 25 أوت 1939 بسبب الحرب العالمية الثانية.
وتطرق الشيخ مبارك الميلي في هذا المقال إلى شرح الحديث النبوي الشهير المتعلق بتجديد الدين الاسلامي وظهور المجددين على رأس كل مئة سنة. ومازال هذا الموضوع يطرح في الفكر الاسلامي خاصة مع تعدد المذاهب الفقهية واختلاف المدارس الكلامية وضغط متطلبات العصر وتصاعد الصراع الفكري مع العالم الغربي. وقد استأنس الشيخ الميلي في قراءته لهذه المسألة القديمة المتجددة بآراء العلماء في العصر القديم وفي الفترة الحديثة.
«اقتضت حكمة أحكم الحاکمین أن يكون محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خاتما للنبيين والمرسلين، ولكن لم يغلق باب النبوة تماما كما لم تنقطع دعوة الرسالة انقطاعا. بل بقي من النبوة شعاع ومن الرسالة معنی.
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات». قالوا: وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة» . وقد بينت الأحاديث هذا الشعاع الباقي من النبوة وأن نسبته منها نسبة الواحدة من الستة والأربعين.
وغرضنا من هذا المقال أن نعرض لبيان المعنى الباقي من الرسالة. وذلك بمناسبة إقبال شهر ربيع الأول شهر ميلاد خاتم النبيين، وإمام المرسلین صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
أخرج أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». قال العجلوني في كشف الخفاء: «وأخرجه الطبراني في الأوسط عنه أيضا بسند رجاله ثقات. وأخرجه الحاكم من حديث ابن وهب وصححه. وقد اعتمد الايمة هذا الحديث».
وقد أورد الحافظ ابن عساكر في كتابه «تبيين كذب المفتري» هذا الحديث من طريق أبي داود. ثم أخذ يذكر المجددين على رأس كل مائة سنة مبتدئا بعمر بن عبدالعزيز منتهيا إلى أبي حامد الغزالي.
واقتضى كلامه بناء المائة سنة على الهجرة، وأن المجدد واحد، وأن رأس مائة هي سنة وفاته، وأن ما قارب المائة يعطي حكمها.
وأورد هذا الحديث أيضا التاج السبكي في طبقاته. وانتهى في تعيين المجددين إلى ابن دقيق العيد. وسلك مسلك الحافظ ابن عساكر من غير أن ينسب إليه مع أنه مطلع على تبيينه معجب به.
ونقل العجلوني عن السيوطي نظمه للمجددين. فاقتفى أثر الأولين وانتهى إلى المائة التاسعة، فرجا أن يكون هو مجددها. ولكنه سد باب التجديد بعده إلا على عيسى عليه السلام.
وقال ابن كثير في نقله عن العجلوني، «والظاهر – والله أعلم – أنه يعم حملة العلم من كل طائفة ومن كل صنف من أصناف العلماء من مفسرین و محدثین وفقهاء ونحاة ولغويين إلى غير ذلك من الأصناف».
والمستخلص من هذا تسلیم ما أرشد إليه الحديث من بقاء معنى من الرسالة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، والصبر على الأذى في سبيل الله. وبذلك يكون تجديد الدين الإسلامي.
ووراء ذلك أربع مسائل ؛ إحداها تعیین مبتدإ المائة، ثانيتها تحديد المجددین، ثالثتها تبيين المعنى الذي من أجله عد المجدد من أهل المائة ، رابعتها ختم التجديد.
ورأينا في المسألة الأولى أن ابتداء المائة بعد عصري النبوة والخلافة. وهي سنة إحدى وأربعين من الهجرة. فقد روى الترمذي والنسائي وأبو داود عن سفينة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة»، وهي مدة الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم كما بينها سفينة نفسه. وهو صلى الله عليه وسلم توفي أول سنة احدى عشرة من الهجرة فإذا ضمت الثلاثون إلى العشر كانت أربعين. وإنما جعلنا بداية المائة بعد عصري النبوة والخلافة لأن التجديد إنما يكون عن رثاثة، ولا ريب أن الدين لم يزل على جدته في عصري النبوة والخلافة وإنما أخذ الفساد يغلب من بعد.
أما المسألة الثانية فلا نرى فيها تحديد المجددین بواحد أو اثنين لحديث لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين. وهذا قريب من رأي الحافظ ابن کثیر. وأما المسألة الثالثة فرأينا فيها أن المعنى الذي من أجله يعد العالم مجددا في الدين، هو قيامه بالدعوة والارشاد فتنسب المائة إليه بذلك الاعتبار لا باعتبار وفاته. وأما المسألة الرابعة فرأينا فيها أن باب التجديد غير مسند الحديث لا تزال طائفة ولخير الخير بي وفي أمتي إلى يوم القيامة . قال السخاوي لا أعرفه ولكن معناه، صحيح.
هذا نظرنا في تلك المسائل الأربع. وهو خلاف نظر من تقدمنا غير الحافظ ابن كثير في إحدى المسائل. وقد أجملنا نظرنا هذا في خطبة رسالتنا «الشرك ومظاهره». ونشرت تلك الخطبة بمجلة «الشهاب» الغراء في جزء ذي القعدة من سنة خمس وخمسين. ثم برزت الرسالة في شعبان من السنة التالية لها.
ونورد الآن كلمتنا الاجمالية بالنص المنشور في الرسالة. فقد قلنا بعد إيراد حديث بقاء طائفة ظاهرة وحديث التجديد وذكر صفات المجددین ما يلي: «تلك صفات رجال الإصلاح الديني بوطن الجزائر التي ظهروا بها في ميدان الدعوة بالكتاب والسنة منذ سنة 1343، وهي من أوائل المائة الرابعة عشرة بعد عصري النبوة والخلافة».
وبعد ذيوع الرسالة وقفنا في جزء المحرم سنة 1357 من مجلة الهداية الإسلامية بمصر على مقال بعنوان: «من يجدد لهذه الأمة أمر دينها» دبجته براعة شيخ الإسلام المالكي بتونس الطاهر ابن عاشور. فألفيناه مقالا سدید النظر، محكم الأسلوب، جم الفوائد لا يخالفنا في شيء مما أجملناه في الرسالة وفصلناه هنا إلا في المسألة الأولى. فالشيخ يرى ابتداء حساب المائة يحتمل أن يكون من وفاته (ص)، وأن يكون من يوم تحديثه بذلك الحديث. ثم هو يجمع بين الاحتمالين باحتمال أن يكون ذلك القول صدر منه صلى الله عليه وسلم آخر حياته.
وسواء اطلع على رسالتنا وقصد إلى معارضتنا في تلك المسألة أو لم يطلع ولم يقصد. فإنا لم نر ما يرجعنا عن رأينا. ومع تمسكنا بنظرنا نعترف بجودة المقال ونسر بذيوع أمثاله في الصحف المصرية لاعتقادنا أن مثل ذلك التحرير مما يرفع من قيمة تونس العلمية، ويزيد في شرف جامع الزيتونة الذي نرجو له رقيا مطردا وسمعة واسعة.
ولعل القراء يرون في ثنائنا على هذا المقال وإنكارنا سابقا على الشيخ بعض مواقفه تناقضا أو تراجعا. وكل ذلك لم يكن. وإنما التناقض في قلم الشيخ وبين علمه وسلوكه. ونحن لا ننكر الحسن يخالطه قبيح، ولا نغطي القبيح الضار لوجود الحسن النافع، والله الموفق».