الشيخ محمد البشير الإبراهيمي قارئا للسيرة النبوية الشريفة
بقلم: د. زبيدة طيب-
الشيخ محمد البشير الإبراهيمي أحد علماء الجزائر ومجاهديها، وأحد مؤسسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كان لها فضل كبير في الحفاظ على الهوية الجزائرية بأبعادها الثلاث الجغرافية والتاريخية واللغوية. ويعرف الشيخ الإبراهيمي بأنه مجاهد منبر وقلم؛ سخر جهده ووقته وعلمه في سبيل الشعار الذي رفعته الجمعية وهو: الجزائر وطننا والإسلام ديننا والعربية لغتنا؛ مستندا في ذلك على المخزون الروحي الهائل الذي يوفره التراث الإسلامي وتغذيه مصادره الرئيسية؛ أي القرآن الكريم والسنة النبوية العطرة.
وتعد الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة وغزوة بدر وفتح مكة من أبرز المحطات التاريخية؛ التي ركز عليها الشيخ الإبراهيمي مقالاته وكتاباته في السيرة النبوية. والمطلع على ما كتبه يتساءل:
لماذا الكتابة في السيرة النبوية؟
“في قلب المعركة” و” عيون البصائر” هما الكتابان اللذان تضمنا مجمل ما يمكن أن يقف عليه القارئ بخصوص كتابات الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في السيرة النبوية الشريفة. والمتأمل في تلك الكتابات، على قلتها واختصارها، يلحظ أن حمولتها العقدية والفكرية غنية ومتميزة. وهي عبارة عن مقالات مقتضبة لا تنحو نحو الكتابة التاريخية المعهودة والمعتمدة على نقل الوقائع والأحداث، بل تتجه نحو استخلاص العبرة بالدرجة الأولى. ولعل الأمر يتعلق بأسباب ألجأت الشيخ إلى الكتابة في السيرة على هذا النحو ومنهاما يلي:
1/سبب ذاتي:
ويتعلق بطبيعة عقلية الرجل الميال إلى التحليل وقراءة الأبعاد، وهو بذلك لا يولي اهتماما كبيرا للوقائع والتفاصيل؛ بقدر ما يركز على استخلاص العبر؛ يقول الشيخ الإبراهيمي:” ما زلت منذ درست السيرة بعقلي أقف في بعض مقاماتها على ساحل بحر لجي من العبر والمثلات.”(1)
فما وقفنا عليه من كتابات في السيرة النبوية ينم عن تلك العقلية التي لا تذهب نحو التفاصيل التاريخية، على أهميتها، بقدر ما تركز على القراءة الأخرى؛ لأن السيرة النبوية في المحصلة النهائية ليست قصة بطل ملهم، بل هي مصدر تشريعي وصاحبها مؤيد من بالوحي؛ أي “لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.” [ سورة النجم/ 03]
يقول الشيخ الإبراهيمي:”… ومن المؤسف أن المسلمين افتتنوا بالمظاهر عن استجلاء الحقائق واستنباط العبر والحكم.”(2)
ثم إن الرجل مجاهد منبر؛يعد طلب العلم ونشره في فكره أحد وسائل الجهاد؛ ذلك هو الأصل الذي عمل الشيخ على تمثله في أرض الواقع؛ فقد كرس علمه لخدمة أمته وشعبه ولم يكن العلم عنده (بريستيجا) اجتماعيا ولم يكن همه تحسين الوضع الاجتماعي الخاص، بقدر ما كان همه تحسين الوعي الاجتماعي العام.
. فلم يهلك الأمة إلا تراجع علمائها عن أدوارهم الحقيقية وممارستهم لأدوار لا علاقة لها بالعلم.
إن الأصل في وظيفة العالم وأدواره في الثقافة الإسلامية أنه ينطلق من قاعدة أن عليه تجاه مجتمعه وأمته واجبات، وهو ما يستدعي الانخراط الكلي في هموم الناس ومشاكلهم ومشاغلهم ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم، والتفكير الجدي في إيقاظ الوعي والتغيير. وأما ممارسة مهمة العالم من الأبراج العاجية والانعزال عن الناس فهي ثقافة وممارسة بعيدة عن الثقافة الإسلامية، وهي التي نرى آثارها في زهد الكثير من الناس في الخطاب الإسلامي، وفي ازدراء مشايخ الفضائيات الذين ملأوا العالم صراخا وعجز الكثير منهم على الوقوف مع الحقوق المسلوبة ضد الخيانة والتآمر الواقع على المستضعفين في الأرض.
إن (العالم) المراهق أضحى عالة على الأمة؛ إنه من يحيل الدين أفيونا، ويمارس كي الوعي ويجبر على التنازل والخوف. وفي ظل هذه الأجواء المتعفنة صار من الضروري الحديث عن علماء وعوا مهمتهم وقدروا العلم الشرعي، وهبوا نحو الدعوة إلى الله تعالى وتحمل المسؤولية. وقد كان الشيخ المجاهد محمد البشير الإبراهيمي أحد هؤلاء.
2/ سبب موضوعي:
ويتعلق الأمر بالظروف التاريخية التي كانت تعيشها الجزائر والعالم العربي والإسلامي عموما؛ فقد واكب الشيخ استعمار بلده وأرضه، وعاش سياسة الإذلال والاحتقار والإهانة؛ التي كانت تمارسها إدارة الاحتلال الفرنسي على الشعب الجزائري، وشهد عمليات المسخ التي كانت تستهدف هويته وتاريخه وحضارته وانتماءه وعمقه باسم تمدينه، وإعداده للتحضر والعصرنة والحداثة. كما عايش وشهد ما لحق بالعالم العربي والإسلامي من تشتت وتخلف وهوان على يد الاستعمار الأوروبي عموما، وشهد احتلال فلسطين وإقامة دولة يهودية على أرض الإسلام والعروبة وطرد أهلها وتشريدهم في العالم، وهي من أقسى الأحداث التي شهدها العالم العربي والإسلامي في هذا العصر.
لا شك أن كثيرا من الناس قد عاشوا وعايشوا تلك الظروف، غير أن القليل منهممن شكلت له الظروف والأحداث وجعا؛
فالكثير ممن يسمون علماء ودعاة ومشائخيمرون على مثل تلك الأحداث مرور الكرام، ويعيش الظروف الاستثنائية القاسية ببرودة ولا مبالاة، ويفضل أن يكتب عن الحيض والنفاس وحقوق الزوج والزوجة وطاعة أولي الأمر وحرمة الخروج على الحاكم وغيرها…في وقت تباد فيه الهوية ويقتل فيه الناس ويذبح فيه الأطفال وتسبى فيه النساء وتهان فيه المقدسات وتسلب فيه الخيرات وتسرق فيه الأرض ويباع فيه العرض.
إن من يحترق ويعيش الوجع يخلص ويبدع وتثمر جهوده وإبداعاته ولو بعد حين، وقد كان الشيخ الإبراهيمي أحد الذين عاشوا الهم الجزائري والإسلامي. وهو الذي كان عنده العلم وسيلة لتأليف الرجال عندما قال:” شغلنا بتأليف الرجال عن تأليف الكتب.” لقد كان بإمكانه أن يملأ رفوف المكتبات بالمؤلفات والكتب والموسوعات، إلا أن الوقت لم يكن وقت الكتابة والتأليف إلا ما دعت إليه الحاجة. لقد كتب الشيخ، ولأنه يعيش الظرف ويتألم من أجله جاءت كتاباته ليست أنات مريض ولا أهات مكلوم ولكنها صبر وتبصر وتدقيق في السيرة وفي المواقف والأحداث، واستخلاص العبر من أجل البحث عن الدواء وعلاج الأدواء؛ إذ الوجع لا يعني الصراخ وإصدار الآهات والأنات؛ بقدر ما يعني المواجهة والاجتهاد في البحث عن وسائل العلاج.
وإلى جانب الظروف التاريخية فإن هناك سبب موضوعي آخر وهو أن السيرة النبوية الشريفة؛ تشكل بالنسبة للمسلمين في كل العصور مصدرا يستلهم منها الفرد والمجتمع والأمة أسباب السعادة والاستقامة والرفاه والقوة والصبر والنجاح في الدنيا والنجاة في الآخرة. ومن هذا المنطلق ولى الشيخ الإبراهيمي وجهه شطر السيرة النبوية، وهو وأمته في أحلك الظروف وفي أمس الحاجة إلى سند أو مرجع عملي يستمد منه أسباب القوة والنصر. ولم يكن الرجل ليتنكر لتجارب بشرية أخرى ناجحة، ولكن تجربة النبي صلى الله عليه وسلم أقوم وهي إلى نفوس المسلمين أقرب وهي، من ثمة، أيسر على العقل أن يتقبلها وأن يسعى إلى أن يستخلص منها العبرة، ويسعى إلى تمثلها والاقتداء بها في واقعه.
ولهذه الأسباب وغيرها كانت عودة الإبراهيمي إلى السيرة النبوية الشريفة واختيار محطات معينة منها ليكتب فيها أو عنها؛ لقد كانت عودة أراد فيها أن يقول إن للمسلمين تاريخا وتجربة طويلة؛ شهدوا فيها انتشار الباطل وتكاثر فيها العتاة وقوى الشر على المستضعفين. وفيها بالمقابل من أسباب النصر والقوة والصبر ما مكّن الله به للمؤمنين في الأرض واستعمرهم فيها. ولم تكن تلك العودة سياحة في التاريخ وزهو بالماضي المجيد وهروب من الحاضر البائس؛ بقدر ما كانت تفكرا وتبصرا في السنن والأحداث والوقائع. ولذلك رأيناه يقرأ الحدث أو الواقعة التاريخية بعقل يريد أن يستثمر الماضي من أجل الحاضر والمستقبل. وهو بذلك لم يخرج عن منهج القرآن الكريم في الحديث عن الأمم السابقة وإيراد قصص الأنبياء مع أقوامهم والصالحين منهم والفاسدين والتي يذيلها دائما بالتذكير بأن في قصصهم عبرة. قال تعالى:” لقد كان في قصصهم عبرة.” [ سورة يوسف/111]
لماذا الكتابة في الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة وغزوة بدر وفتح مكة على وجه الخصوص؟
لقد كانت تلك أهم المحطات التي انشغل الشيخ الإبراهيمي بالكتابة عنها؛ حيث وقف قارئا ومستخلصا منها العبر. وتكشف هذه القراءة عن بعد إنساني وآخر واقعيوآخر استشرافي تستبطنه تلك الأحداث، وقد استطاع الشيخ إظهارها بأسلوب فيه من المتعة بقدر ما فيه من الفائدة.
أولا/ البعد الإنساني:
وقبل الدخول في الحديث عن البعد الإنساني، كما يتبدى في تأملات الشيخ الإبراهيمي في تلك المحطات، من المهم أن نتعرف على مصطلح الإنسانية؛ ففي الفكر الغربي”…أطلق مصطلح الإنسانية على عدة حركات وتوجهات قامت كلها في أوروبا ومن أهمها:
- الإنسانية حركة فلسفية كانت تدعو إلى إعادة الكرامة الإنسانية إلى القيمة الإنسانية، وكانت ترجح التفكير العقلاني وأكدت على تفوق الإنسان بذاته وليس عن طريق القوى التي لا تخضع لمنطق العقل.”(3)
فالعقلانية والشعور بالتفوق والاستغناء عن كل القوى إلا قوة العقل هو ما يميز هذه النزعة. وقد تمادت نزعة الإعلاء من شأن العقل إلى أن وصلت أوجها في القرن العشرين لتعلن أن العقل وحده وسيلة ضمان صلاح الإنسان معلنة الطلاق النهائي مع القيم والتعاليم الدينية. إنها”… فلسفة إنسانية تعلي من شأن العقل، الأخلاق والعدالة لكنها ترفض التقاليد والطقوس الدينية كوسيلة لضمان صلاح الإنسان وجودة الحياة الاجتماعية. برز في القرن العشرين ليشير بوضوح إلى الفراق بين الإنسانية الدينية.”(4)
وهي التي صار يطلق عليها اصطلاح “الإنسانوية” في إشارة إلى درجة التطرف الذي انتهى بها إلى الإلحاد وإنكار أي دور للقوى الدينية أو الميتافيزيقية في إنتاج المعرفة أو توجيه السلوك.
- النزعة الإنسانية الدينية: وهي نزعة تعارض المذاهب المسيحية ذات الاتجاه السلفي التقليدي وتعتبر الدين نشاط ينطوي على مبادئ رفيعة وله اتجاه اجتماعي وأن كل ما يسهم في تحقيق سعادة البشر إلهي وكل أوجه النشاط التي تعمل على بلوغ البشرية أعلى درجات التقدم والتطور هي أوجه نشاط دينية. وهي نزعة تتعارض مع ما يطلق عليها النزعة الإنسانية العلمية وهي التي تفند كل أشكال العلو على الطبيعة وترى أنه لا يوجد سوى نظام واحد للوجود وهو العالم الطبيعي وأن الإنسان كائن طبيعي فحسب ليس لسعادته ورضاه من مصدر سوى جهوده الخاصة وترفض ما تسميه بأوهام الخلود.”(5)
وللإنسانية مفهوم آخر “… يقول بأهمية القيم الإنسانية وينطوي على اتجاه عاطفي نحو الإصلاح الاجتماعي.” (6)
وأما في السياق الإسلامي؛ فللفظة الإنسانية مدلول مغاير؛ يقوم على النظرة العقدية التوحيدية إلى الإنسان، والتي يميزها مبدأ التكريم الوارد في قوله تعالى:” ولقد كرمنا بني آدم.”(7)
- الانفتاح على جميع البشرية من خلال الدعوة إلى التراحم والمحبة. يقول عمار طالبي: ”فخاطب(القرآن) بني آدم كافة بهذا النداء العميق الذي يتوجه إلى فطرة كل كائن من الكائنات الناطقة: ”يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام.” [سورة النساء/01]
- التعايش السلمي بين مناهج الناس في الحياة وتصوراتهم لها وهوّن عليهم أمر الاختلاف فيها ”لكل جعلنا شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون.” [ سورة المائدة/48]
- احترام الإنسان وذلك من خلال تشريع مبدأ العدل حتى مع المخالف فقال تعالى:” ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا.”
وقرر مبدأ أخلاقيا اجتماعيا حضاريا في مخاطبة الإنسان لأخيه الإنسان فأمر بأن يكون خطابا لطيفا جميلا. قال تعالى:” وقولوا للناس حسنا.” [ سورة البقرة/83]
ليخلص عمار طالبي إلى القول:”…هكذا فهم ابن باديس أصول المذهب الإنساني الإسلامي[…] وأحب الإنسانية وبغضها من يبغضها أو يظلمها أو سولت له نفسه أن ينال من كرامتها. وعبر عن ذلك بصورة واضحة إذ قال:” إننا نحب الإنسانية ونعتبرها كلا ونحب وطننا ونعتبره منها جزءا ونحب من يحب الإنسانية ويخدمها ونبغض من يبغضها ويظلمها.”(8)
فإلى أي مدى يمكن أن نقف على تلك المعاني والأبعاد في كتابات الإبراهيمي في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟
إن القارئ لتأملات الشيخ في السيرة النبوية يمكن أن يلاحظ أن الفكر الإنساني عند الشيخ الإبراهيمي اتخذ معاني وأبعاد تنحو المنحى نفسه، وربما زاد وتعمق بعض الشيء، ويتضح ذلك من خلال النقاط التالية:
1- البعد الإنساني فيالنظرة إلى الهجرة النبوية
يقرأ الشيخ الإبراهيمي في الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة حدثا إنسانيا غير عادي.
لكن بأي المعايير هي حدث إنساني وغير عادي؟9
إنه يمكننا الوقوف على ذلك من خلال عرض تعريف للهجرة النبوية، كما يراها الإبراهيمي، إذ يقول:”…كانت الهجرة وما زالت هروبا من الباطل والمبطلين ونجاءبالنفس وبالعقيدة أو بهما، فهي في خلاصتها انهزام يعتذر بالضعف إلى أن يجد القوة وفرار بعزيز يخاف عليه إلى حيث يأمن عليه. لم يخرج عن هذا المعنى حتى هجرة الأنبياء والصديقين كإبراهيم ولوط.” (10)
في هذه القراءة نلاحظ ما يلي:
- إنه لم يخل زمن من الأزمنة من الخوف والظلم، كما إنه لم يخل أيضا من وجود الأمن على الدين والنفس ولم يخل العالم من وجود فكر يحتضن المظلومين وينتصر للحق وللإنسان ولو خالفه العقيدة واللون والجنس،
وقد حدث أن انتصر النجاشي النصراني العقيدة للمسلمين الذين فروا من مكة إلى الحبشة بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ملك لا يظلم عنده أحد. في الوقت الذي يلاقي فيه من الظلم والأذى الكثير من قبل عمه وزوجة عمه وأقرب المقربين إليه من الأهل والعشيرة. وقد شهد العالم ولا زال يشهد إلى اليوم نصرة المظلومين في العالم من قبل أشخاص وشخصيات وجمعيات وحتى دول وحكومات تخالفهم الدين والعرق والثقافة وما إلى ذلك في الوقت الذي لاقى ويلاقي المستضعفون النكاية والتآمر من قبل الأهل والمقربين في الدين واللغة والجنس وغير ذلك…
إن الهجرة حدث إنساني؛
لأن فيها تعبير عن الضعف البشري على المواجهة في أوقات معينة وظروف خاصة ومن قبل أشخاص بعينها؛ فليس كل الناس بمقدورهم المواجهة والتحمل وليست كل الظروف مهيأة لذلك وليست كل الأوقات هي وقت المواجهة. ولذلك يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة قبل ذلك لأنه أدرك أنه لم تعد لديهم الطاقة الكافية للمواجهة وأن الوقت هو وقت هروب من أجل ترتيب أوضاع جديدة. وقد تم ترتيب الأوضاع ببيعتي العقبة الأولى والثانية وكانت الهجرة إلى المدينة المنورة التي ترك فيها النبي صلى الله عليه وسلم الأرض والوطن ليلا مستخفيا بجنح الظلام في غار موحش يطارده كثير من الأهل والأقارب في مشهد ضعف بشري يؤازره ويقويه القرآن الكريم في لحظة الضعف تلك مطمئنا إياه بالعودة إلى مكة بقوله تعالى:” إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد.” [ سورة القصص/58]
وهنا يمكن أن نلحظ مغايرة تامة لنزعة الأنسنة التي جاء بها الفكر الأوروبي بخصوص الافتتان بقدرات الإنسان التي أدت إلى الغرور، والتحول إلى أداة تخريب للإنسان والطبيعة والقيم؛ إذ الأنسنة في الفكر الإسلامي وكما يمكن أن نلمح جزء منها عند الإبراهيمي؛ هي تلك التي تؤمن بالإنسان حراًّ كريماً مزوداً بالكثير من الفضائل والطاقات والقدرات، وتعترف في الوقت نفسه بمحدودية تلك القدرات، ومن ثمة هي تعترف بالضعف الذي قد يعتري الإنسان فتعوزه الحيلة ويعدم القدرة فيؤثر الهروب إلى أن يجدد الطاقة ويستجمع أسباب القوة.
إن الهجرة حدث إنساني
باعتبارها رسم أو خط لطريق حماية المظلومين والمستضعفين في دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم. وقد كان القرآن الكريم قد سن للأنبياء والرسل طريق الهجرة قبل النبي صلى الله عليه وسلم. ما يعني أن الهجرة لا يراد بها التملص من القضية كما أنها لا تعني اللامبالاة تجاه الظلم الواقع؛ بقدر ما هي واحدة من وسائل الدفاع عن الإنسان. وقد جاء ميثاق حقوق الإنسان بعد دخول أوروبا في حربين عالميتين ليكرس هذا المعنى بإقرار حق الإنسان في الهجرة إلى البلد التي يريد إذا شعر بالخوف على أي من مقومات الحياة في بلده الأصلي وهو ما يسمى في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بحق اللجوء.
2- البعد الإنساني في النظرة إلى فتح مكة
لقد جاء فتح مكة تنفيذا لوعد الله تعالى بالرجوع إليها بعد أن اضطر المسلمون للخروج منها والذهاب إلى المدينة المنورة وبعد ظلم كبير لحق بالمستضعفين منهم، وقد دخلها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يزال فيها الكثير من الجبابرة والعتاة؛ الذين قتلوا وذبحوا وعذبوا المسلمين وآذوا رسول الله كثيرا، ولم يدخلها متكبرا متجبرا عاتيا يريد انتقاما أو ثأرا إنما
قال لأهل مكة: ” من دخل المسجد فهو آمن ومن بيته فهو آمن ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن.” وليخاطبهم:” ما تراني فاعل بكم؟ ” قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. فقال: ” اذهبوا فأنتم الطلقاء.” إنه مشهد يتراءى للقارئ فيه:
- تواضع القائد الإنسان الرحيم بالضعفاء.
- القائد الإنسان الذي يحتفظ بالود لأهل بلده ووطنه وإن خالفوه العقيدة أو ظلموه وآذوه في يوم من الأيام.
- القائد الإنسان الذي يحترم الأماكن المقدسة ويحترم أهل الوجاهة في المجتمع وينزل الناس منازلهم.
لقد رفعت الثورة الفرنسية شعار: الحرية – الأخوة-المساواة؛ شعار قضت به على الاستبداد السياسي والديني ممثلا في الفكر الكنسي؛ فحققت به تحررا كبيرا للشعوب الأوروبية ومساواة ظلت تنعم بها. غير أن ذلك الشعار الذي حقق الأخوة والعدالة للأوروبيين تعرى من مضمونه وكشر الإنسان الأوروبي المنتصر عن أنيابه ليسلب الإنسانية إنسانيتها في الكثير من البلاد الإسلامية وغيرها، فقد احتلت فرنسا الجزائر فلم تحترم بشرا ولا حجرا ولا شجرا ولا مكانا مقدسا ولا حيوانا؛ فقتلت وذبحت ونهبت وسرقت ممتلكات واستولت على أوقاف وحولت المساجد إلى كنائس ومخازن للأسلحة وأهانت العلماء وأذلت الوجهاء في المجتمع، ولم تبق على صورة من صور الإذلال والاحتقار إلا مارستها.
لقد وقف الشيخ الإبراهيمي يقرأ فتح مكة ويستلهم منها العبر والعظات؛ التي تبرز الجانب الإنساني في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وفي التعاليم الإسلامية؛ التي يفتقدها العالم اليوم. ويتأمل ما آل إليه وضع الإنسان في الجزائر وفي غيرها؛ ليبين حقيقة فرنسا الاستعمارية وتشدقها بالدفاع عن الإنسان وحقوقه وتعليم الجزائريين الحضارة وهي تدوس على أبسط الحقوق، ويسمي تلك العبر بالنفحات؛ فيقول:”… أما نفحة النفحات التي ما زالت تنعش المسلمين إلى قيام الساعة ويرفعون بها رؤوسهم فخرا وتيها فهي وضع قاعدة المساواة التي مات الأنبياء والحكماء وفي نفوسهم حسرة من عدم تحقيقها في العالم الإنساني إلى أن جاء الإسلام وأعلنها محمد صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فقال:” يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم وآدم من تراب.” 11
ثانيا -البعد والواقعي
1- البعد الواقعي في النظرة إلى الهجرة:
يقرأ الشيخ الإبراهيمي الهجرة النبوية بعيون الواقع الجزائري، وواقعه الخاص باعتباره أحد ضحايا الظلم والقهر الاستعماري؛ فقد ضاقت به وبأهله الدنيا بالجزائر وكثر إيذاء الاستعمار الفرنسي له فكان أن اختارت أسرته الهجرة ومغادرة البلد، وربما قرأ الكثير في ذلك هروبا من الواقع وتملصا من مسؤولية الدفاع عن الأرض والعرض، ولذلك يذهب الشيخ إلى تلك القراءة ليبين أن الهجرة سنة ماضية في الأنبياء ومعاشر المظلومين في التاريخ وليس يعني ذلك الهروب بل إنه يعني الحفاظ على الدين والنفس والإعداد لمراحل قادمة، ولا يعني دوما أن المواجهة هي الحل. ولقد ثبتت قراءة الشيخ على نفسه فإنه قد تغرب وهاجر وترك الأرض والوطن ليستقر في الحجاز إلى جوار الرسول صلى الله عليه وسلم، وتتاح له الفرصة لطلب العلم والانفتاح على العالم وما يحدث فيه وليزداد وعيه ويترسخ ويتمكن رفقة الشيخ عبد الحميد بن باديس من التفاكر ومراجعة ومناقشة أمور البلد ومستقبله وكانت النتيجة التوصل إلى ضرورة إنشاء هيئة أو جمعية تضطلع بالدفاع عن الأمة الجزائرية والحفاظ على هويتها وتاريخها وعمقها الحضاري؛ فقد شهدت المدينة المنورة ميلاد مشروع إعادة الجزائر إلى هويتها وأصالتها باجتماع وهجرة علمائها تماما كما حدث ذلك ذات يوم مع هجرة النبي صلى الله عليه وسلم يوم أن ولدت الدولة الإسلامية بهجرته صلى الله عليه وسلم إليها.
وواقعية قراءة الشيخ الإبراهيمي تتجلى في تحليل التعبير الوارد في القرآن الكريم حول الهجرة؛ فقد ورد التعبير عنها بلفظ أو فعل الإخراج. قال تعالى:”…إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين.” [ سورة التوبة/40]
وهو ما فهم منه بأن الهجرة لا تعني المغادرة النهائية للبلد؛ بقدر ما تعني فترة استعداد أو إعداد ليوم يقضى فيه على الظلم وتحصل العودة؛ لأن لفظة الإخراج فيها ما يوحي بالتبشير بعودة من أُخرج من الوطن، وهي لطيفة لا ينتبه إليها إلا من ذاق مرارة الإخراج من الوطن وهجرة الأرض والديار. وفي قوله تعالى:”إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد.” ما يؤيد هذا الفهم؛ فقد نزلت الآية، بحسب أسباب النزول، ليلة الهجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يختبئ بغار ثور ليطمئنه بأن سيعود إلى الديار والوطن.
وقد أراد الشيخ الإبراهيمي أن يوصل إلى الجزائريين الذين أخرجوا من أرضهم وديارهم تحت ضغط الخوف والجوع والفقر؛ الذي فرضته سلطات الاستعمار الفرنسي عليهم رسالة مفادها أن عودتكم تستدعي جهادا كبيرا وعملا متواصلا وأنها قريبة وأن الاستقرار في أرض أخرى لا ينبغي أن ينسيكم الرجوع إلى أرضكم ووطنكم. يقول:”… من اللطائف أن القرآن ذكر قصة الهجرة المحمدية من مكة إلى يثرب بأسلوب ليس من نسق التاريخ فسماها إخراجا[…] وبعض الحكمة في ذلك أن التذكير بالإخراج من الديار يذكي الحماس ويبقي الحنين إلى الديار متواصلا وينمي غريزة الانتقام والأخذ بالثأر وأن إيجاب الهجرة بتلك الأساليب المغرية البديعة هو جمع لأنصار الحق في مأرز واحد بعد تشتتهم لينسجموا ويستعدوا إلى الرجعة والكرة.” (12)
إن ظلم الطغاة لم يتوقف وإنما تختلف أزمنته وتتقارب بل، وربما تتطابق أشكاله وصوره؛ فيؤدي ذلك بالبعض إلى المغادرة وفي القلب حنين وتعلق بالوطن، وذلك هو ما عبر عنه الله عز وجل هنا بالخروج. يقول الشيخ الإبراهيمي:”…ثم انظر أية ثورة تثيرها في النفوس الحرة آية:”إذ أخرجه الذين كفروا.” “إن للإخراج من الديار في القرآن لشأن أي شأن فهو يبدئ ويعيد في تقبيحه وإنكاره وتحريمه. وهو يقرنه بالقتل تشويها وتشنيعا عليه وإن له في نفوس الأحرار لأثرا يتعاصى عن الصفح والعفو وإن له في نفس سيد المرسلين لوقعا مؤلما من يوم قال له ورقة: “إذ يخرجك قومك.” قال :” أومخرجي هم؟” إلى يوم أخرجه قومه بغير حق إلى يوم أخرجه ربه إلى بدر بالحق إلى يوم صدقه ربه الرؤيا بالحق.”(13)
2- البعد الواقعي في النظرة إلى غزوة بدر
يتجلى الفكر الواقعي للشيخ محمد البشير الإبراهيمي في تأملاته لغزوة بدر في عدة نقاط منها:
إن الدولة التي تأسست بعد الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة صارت تحتاج إلى قوة تحميها بعد الاعتداءات والتهديدات والملاحقات التي لم تتوقف من قبل قريش وغيرها. ولذلك وصفها الله عز وجل بيوم الفرقان وفي ذلك يقول الشيخ: “… يوم بدر هو الفرقان لأنه أول يوم انتقلت فيه الدعوة الإسلامية من اللسان والحجة والنظر إلى السيف والدم.”(14)
إن اللسان والحجة والنظر كلها وسائل ضرورية، غير أنها ليست كافية لحماية الدين والأوطان أو لاسترجاع حق مسلوب أو رد ظلم. ولذلك جاءت غزوة بدر لاستكمال طريق الدعوة إلى الله تعالى وحماية أهلها والدفاع عن النفس والدين والأرض. ومن يعتقد أن الحقوق تعود إلى أصحابها والمظالم ترفع بالحجة واللسان فقط؛ هو واهم فالواقع وتاريخ الأمم والشعوب، ومنها الشعب الجزائري، يشهد على صحة مذهب الرجل؛ فقد جثمت فرنسا الاستعمارية على أرض الجزائر ما يزيد عن القرن من الزمن، فلم تخرجها أصوات الأحزاب والعتاب وتنظيرات الشخصيات ولا المظاهرات السلمية ولا نداءات الشجب والاستنكار، على أهميتها، إنما صوت الرصاص ومنطق القوة هو ما فعل كل ذلك. وهذا ما فهمه الشيخ الإبراهيمي من موقعة بدر؛ إذ يقول: “… فلما أعياهم الأمر في دفاعه بالمنطق الذي لم يفهمه وبالحكمة التي لم يفقهها هبوا يشترون الحياة بالموت ويتحدون القوة المادية بالإيمان.”(15)
إن الذين حملوا السلاح في بدر لم يخرجوا طمعا في الدنيا أو حبا في سفك الدماء، وإنما خرجوا للدفاع عن أنفسهم وحماية دولتهم ورد العدوان عليها. وهو الأمر الذي ينبغي أن يحدث في الجزائر التي ظل الاستعمار الفرنسي ينعت مجاهديها بالإرهابيين وقطاع الطرق و”الفلاقة.” يقول الشيخ تعقيبا على وصف غزوة بدر:”… فالحرب في نظر الإسلام مفسدة لا ترتكب إلا لدفع مفسدة أعظم منها.”(16)
فالقتال في الرؤية الإسلامية وسيلة وليس غاية وقد كتب على المسلمين وهو كره لهم.
ثمة نقطة أخرى يركز عليها الشيخ في قراءته؛ وهي أن واقع المسلمين تسوده الكثير من الاعتقادات الفاسدة والبعيدة عن حقيقة العقيدة الإسلامية بخصوص عقيدة القضاء والقدر؛ مع انتشار الطرق الصوفية المنحرفة وما صاحبها من اعتقاد في الخوارق؛ إعتقادات يهم إدارة الاستعمار آنذاك أن تنتشر بين الناس لأنها باعث على الكسل والتخاذل. ولذلك جاء كلام الشيخ في توضيح الفكرة من خلال التنبيه إلى ضرورة التركيز على ربط النتائج بالأسباب، وعدم الاكتفاء بذكر الخوارق لما في ذلك من خطورة على فهم العوام ومن ثمة الركون إلى الاستسلام وعدم الاجتهاد في رد الظلم؛ إذ يقول: “… فلا يلهج قديمهم ولا حديثهم إلا بالنصر والخوارق المصاحبة للنصر وكثيرا ما يكون الافتتان بالنتائج مشغلة عن الحقائق والأسباب التي هي محل القدوة. وكأنهم بهذا الافتتان يعتقدون أن انتصار الإسلام على الوثنية يوم بدر من الخوارق الخارجة عن نطاق الأسباب. وهذا إبطال للتشريع الإلهي في النفوس فإن الخوارق ليست محلا للأسوة ولا أساسا للتشريع.” (17)
إنها وقفة تأملية واقعية تنبئ عن عقيدة سليمة عنوانها الإيمان بالقضاء والقدر والثقة في الله تعالى والتوكل عليه لأنه وحده صاحب القوة وهو وحده من يمتلك مفاتيح النصر. قال تعالى: “إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.” [ سورة محمد/07]
مع ضرورة الأخذ بالأسباب والإعداد الجيد للمعارك الكبرى؛ ذلك أن النصر الذي تحقق في بدر؛ إنما جرى الإعداد له ماديا ومعنويا مدة طويلة؛ أي منذ بداية الدعوة في مكة تحضيرا آخذا المنطق البشري والقدرات البشرية بعين الاعتبار. وهي النظرة نفسها التي يقف عليها حينما يتحدث عن فتح مكة؛ ذلك الفتح الذي سبقته تضحيات جسيمة وإعداد كبير. يقول الشيخ:”… إنهم (أي المسلمون) حين يجيلون في خواطرهم هذه الذكريات يذكرون كيف نصر الله عبده وكيف أعز جنده وكيف هزم الأحزاب وحده فتنقلهم الذكرى من عالم المسببات إلى عالم الأسباب فتنصرف خواطرهم إلى البحث في سبب انتصار الحق على الباطل يوم الفتح الأكبر.” (18)
إنها العقيدة الصحيحة القائمة على الإخلاص لله تعالى والعبودية المطلقة له والنظرة الواقعية؛ التي أراد الإبراهيمي أن يتمسك بها الجزائريون إذا أرادوا أن يطردوا المحتل الفرنسي وأن يسترجعوا أرضهم واستقلالهم؛ فيقول مبينا ذلك:” … فلا يجدون إلا في إخلاص التوحيد لله وصدق العبودية له ونذر الجندية في سبيله وتلك هي الغايات التي أشار إليها من لا ينطق عن الهوى في استهلال خطبته يوم فتح مكة.” (19)
ثالثا – البعد الاستشرافي
1- البعد الاستشرافي للنظرة إلى الهجرة
إن الهجرة حدث غير عادي، كما يقول الإبراهيمي، ذلك أنه يستشرف انطلاقا منها حقيقة موضوعية، وهي أن العقيدة والدين إنما تحميه الدولة المسؤولة. فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة فرارا بدينهم وخوفا على عقيدتهم ولم يكن لهم سلطة أو هيئة تحميهم أو تدافع عنهم، وكان أول ما بدأ به المسلمون بعد وصولهم إلى المدينة هي التفكير في بناء نظام الدولة فكان بناء المسجد والمؤاخاة والوثيقة دعائم الدولة الفتية؛ التي ستقوم بحماية العقيدة والدين. وإن العالم الإسلامي يشهد صحة ما يذهب إليه الرجل، وهو أنه عندما تتراجع الدولة في مهمتها في حماية الإسلام ومقدساته ورموزه ومخزونه الحضاري؛ يكون ذلك منفذا لجهتين: إما واحدة تتلاعب به وتمعن في الازدراء باسم الحداثة والعصرنة، أو أخرى تنصب نفسها حامية له بالسلاح وقطع الرؤوس وسبي النساء وما إلى ذلك من أعمال لا تمت بصلة إلى الإسلام أو إلى عقيدته وشريعته وأخلاقه وآدابه وتاريخه وحضارته.
إنها حدث غير عادي لما تحمله من معاني؛ وهي أن الفئة المظلومة والضعيفة قد تتحول إلى قوة ودولة وأن القوة والضعف أمران مؤقتان وظرفيان؛ فلا توجد فئة ضعيفة دائما وأخرى قوية دائما؛ إنما الأمر مرهون بمدى أحقية تلك الفئة أو الأمة لأسباب القوة أو عوامل الضعف. فلما استحقت الفئة الإسلامية القوة والنصر سيقت إليها ما يعني إظهار سنن الله تعالى في النصر والهزيمة والقوة والضعف. وهذا ما ينبغي أن يفهمه الجزائريون وهم يواجهون فرنسا الاستعمارية القوية ومن ورائها الحلف الأطلسي أن المسألة ليست مرتبطة بقوة العتاد وكثرة العدد بقدر ما ترتبط باستحقاق تلك الفئة أو الأمة وأهليتها للنصر والقوة. يقول في ذلك:”… أما هجرة محمد(صلى الله عليه وسلم) وأصحابه فكانت هجرة قوة كاثرها الباطل المتهافت والشرك المتخافت وعاقها عن امتداد العروق وبسوق الأفنان في أرضها التي فيها نبتت وجوها الذي فيه تنفست وقد طاش ذلك الباطل الطيشة الكبرى وبحث عن حتفه بظلفه فأخرج تلك القوة إلى حيث تزداد قوة ورسوخا وهذا من عجيب صنع الله لهذا الدين القوي الراسخ.”(20)
_ينظر الشيخ الإبراهيمي إلى مستقبل الأمة، وقد آل وضعها إلى التفتت والانقسام والضعف وضياع السيادة على الأرض والخيرات؛ فيتوجه إلى قراءة إنجازات الهجرة النبوية من أجل العمل على جمع كلمة الأمة الإسلامية كما اجتمعت كلمة المؤمنين من الأوس والخزرج على يد النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كان أمرهم بينهم حتى صاروا مطمع الفرس والأحباش. يقول:”… فلا يكاد عقلي يستثير بواعثها الطبيعية حتى أتلمح العوامل الإلهية فيها فأستجلي من بعض أسرارها التمهيد للجمع بين أصلي العرب اللذين كانا في الجاهلية يتنازعان ملاءة الفخر ويؤرث الرؤساء والشعراء بينهما نار العصبية وحتى أطمح الضعف فيها جاريهما القويين: جار الجنوب الحبشي وجار الجنب الفارسي.”(21)
وقد حولت الهجرة فرقتهما وحدة وضعفهما قوة.”… جاءت النبوة من مكة إلى المدينة تعمل عملها في جمع القوتين اللتين أحالهما التفرق ضعفا.” (22)
لقد أطلق الشيخ هذا النداء وحال المسلمين لم يكن بعد على ما هو عليه اليوم من التشتت والفرقة والضعف والتخلف والهوان؛ فكان هذا النداء بمثابة نظرة استشرافية تحذيرية مما يمكن أن يؤول إليه الأمر؛ نداء متوجس يحمل دعوة إلى ضرورة استثمار إنجازات الهجرة من أجل الترفع عن المصالح الخاصة والعصبيات المقيتة، والالتفات إلى مصلحة الأمة ومستقبلها. يقول الشيخ: “… ليت شعري هل تحمل ذكرى الهجرة المتكررة مع كل عام أولئك اليمانيين الراكدين وهم جمهرة أنساب قحطان وأولئك الحجازيين الراقدين وهم منحدر دماء عدنان على أن يتداعوا إلى ما تداعى إليه أجدادهم وأن يتآخوا على ما تآخوا عليه. هل يرجعون بالذاكرة إلى بيعة العقبة وما جرّت للعرب من أخوة وسيادة وعزم وسعادة؟ […] هل آن لهم أن يعلموا أن هذه المذاهب التي صيرتهم أوزاعا في الدين والدنيا هي السبيل المفرقة عن سبيل الله الواحد وهي التي نهى الله عن اتباعها؟ هل يعلمون أن طلاب الغاز غزاة وأن الشركات أشراك وأن رؤوس الأموال ذات قرون ناطحة وأن الوطن الذي يعمر بمال الأجنبي ويد الأجنبي وعلم الأجنبي محكوم عليه بالخراب وإن تعالت في الأفق قبابه وكسيت بوشي السماء هضابه وسالت بذهب الأرض شعابه.” (23)
البعد الاستشرافي في النظرة إلى غزوة بدر
لا تزال الأمم الحية تقرأ الأسباب وتأخذ بها وتسخرها وتركز على سؤال: “ما هي الأسباب التي أوصلت إلى هذه النتائج؟” أكثر من تركيزها على سؤال: “ما هي تلك النتائج؟” وتبدأ بوادر وعلامات الموت والتراجع حين تتسارع إلى قطف الثمرات الإيجابية من غير أن تولي اهتماما كبيرا بالأسباب. هكذا ينظر الإبراهيمي إلى ما تحقق في غزوة بدر على أنه نتيجة عمل وجهاد طويل وشاق؛ جرى التحضير له منذ فترة طويلة ولم يكن صنيعة يوم أو شهر أو سنة، ويتمثل ذلك العمل الشاق في تربية إيمانية قوية صنعت إرادة صلبة انتصرت بها القلة على الكثرة. من هنا بدا لي أن نظرة الشيخ الإبراهيمي الاستشرافية لغزوة بدر تضمنت نقطتان أساسيتان:
أولهما: التركيز على الأسباب قبل النتائج
إن الشعوب أو الأمم التي تريد أن يكون لها مكانا بين الأمم؛ ينبغي عليها أن تنظر إلى المستقبل، وأن تعمل على تحضير نفسها للأصعب دوما، وهي ترى أن ما تحقق أيسر وأن القادم أصعب. وربما كان هذا أحد معاني قوله صلى الله عليه وسلم: (رجعنا من الجهاد أصغر إلى الجهاد الأكبر.) في إشارة إلى أن المسلم لا يتوقف عن بذل الجهد فإن لم يكن في ميدان القتال ففي ميادين أخرى وهي كثيرة.
إن الشعوب والأمم الحية لا ينبغي أن تلهيها الانتصارات السابقة والمحققة على التخطيط للمستقبل من أجل تحقيق إنجازات أكبر.
إن الركون إلى الماضي والزهو به يوشك أن يكون حالة مرضية؛ قد تضيع الماضي وتميع الحاضر ولا تحقق المستقبل.
إن الأمم والشعوب الحية تفكر في إنجازات الماضي بالتخطيط والعمل للمستقبل؛ إذ لا يمكن لكل الأجيال أن تعيش على إنجاز جيل واحد أو بتاريخ جيل واحد.
إن تلك الملاحظات إنما تبرز للباحث نظرة استشرافية أو فكر استشرافي تميز به الرجل؛ إنه ينظر إلى ما كانت تحققه الثورة الجزائرية في الميدان، وهو بلا شك حصيلة جهاد طويل ومعاناة قاسية امتدت منذ أن دخلت فرنسا الاستعمارية في العام 1830م، غير أنه كان يقرأ في خضم تلك الانتصارات والآراء السائدة قراءات وأبعاد أخرى قد تعصف بتلك الإنجازات. وربما صدقت الكثير من قراءاته المتوجسة
لقد اكتفى الجزائريون بنشوة الانتصار، وآل الأمر بعد الاستقلال إلى الزهو وتكريس خطاب المعجزة الذي كانت له الكثير من الآثار السلبية نذكر منها:
تحويل تاريخ الثورة إلى ما يشبه الحكايات الأسطورية، وهو ما حال ويحول بين الأجيال وبين الاستفادة من تاريخ الثورة وآل الأمر إلى الزهد في التاريخ بل وعزوف أغلبية الشباب عن الاطلاع عليه أو معرفته.
الركون إلى الكسل والاكتفاء بالعيش على إنجازات الثورة.
والأهم والأخطر غياب الفكر السنني، وهو ما أسهم بقسط وافر في تعطيل مسار التنمية في الجزائر، وفي الركون إلى الكسل وازدراء العمل والاجتهاد في طلب العلم. وهو مشهد يكاد يفرغ الثورة والمسيرة الجهادية للشعب الجزائري من محتواها ويحيلها جملة من الخوارق. يقول الشيخ:”… والإسلام لم يبن قواعده وأحكامه على الخوارق وإنما بناها على الأسباب والمسببات وعلى السنن الثابتة التي يتعايش بها البشر وتدخل في إمكانهم ولو بناها على الخوارق لبطل العقل وشلت الإرادات وفلت العزائم.” (24)
ثانيهما: العقيدة الصحيحة تصنع الإرادة القوية
إن العقيدة التي تربى عليها المؤمنون على يد النبي صلى الله عليه وسلم؛ هي التي صنعت فيهم أو لهم إرادة الجهاد إلى أن وصلوا إلى بدر. موقعة بدر كانت، بنظر الإبراهيمي، هي موقعة انتصرت فيها الإرادة المؤمنة الصلبة على الكثرة الكافرة. وهذا يعني أن سنة الله تعالى اقتضت أن يكون انتصار الحق مرهون بقوة الإيمان وليس له علاقة بكثرة العدد أو تطور العتاد، وإن كان ضروريا ومهما، وهنا لا ينبغي أن يخلط القارئ لمقال الشيخ بين تركيزه على ضرورة مراعاة السنن والأخذ بالأسباب وبين تركيزه من جهة ثانية على انتصار الفئة القليلة العدد والمفتقرة للقوة إلا قوة الإيمان؛ فذلك ليس من قبيل التناقض الذي قد يتراءى لمن لا يحسن تفحص الكلام؛ لأن الإيمان الحقيقي إنما يستمد القوة من قوة الله تعالى التي لا تقهر. والثورة الجزائرية توفرت على إرادة كبيرة للنصر وإيمان عميق بقوة الله تعالى. تلك هي الرسالة التي أراد الرجل إيصالها للجزائريين الذين قطفوا ثمرة النصر؛ رسالة مفادها التحذير من التنكر لقيم الإسلام والإيمان والتراجع عن المكتسبات الروحية والعملية التي أدت إليه؛ إذ الجهاد غير مرتبط بزمن خاص أو جيل معين إنما تختلف صوره وأشكاله وميادينه؛ إنه عملية متواصلة تحوي قيم الوفاء والاستمرار والعطاء. ولقد رأى الشيخ أن روحا مغايرة ربما ستتنكر لقيم الثورة ولمكتسباتها ستنتشر وستجد لها أنصارا وأتباعا، ورأى أن روحا أخرى ستتخذ جهادها وعطاءها وسيلة للتسلط والنفوذ إلى مراكز القرار والتحكم في الرقاب والأرزاق تحت عنوان الجهاد والشهادة.
تلك النظرة الاستشرافية التحذيرية التي أطلقها الإبراهيمي، وهو ينظر ويقرأ تاريخ موقعة بدر التي استجمعت عناصر الإيمان والإرادة والاستقامة والإقبال على الآخرة. يقول في الموضوع:”… إن المسلمين انتصروا يوم بدر بالإيمان الصحيح القوي الذي ثبّت العقائد فثبتت الإرادات.[لقد] كانوا يعتقدون أن ما يقاتلون عليه هو الحق من ربهم وأن محمدا الداعية إلى هذا رسول الله الصادق الأمين وأن موتهم في سبيل دعوته طريق إلى الجنة…أما الفئة الثانية فقد خرجت تدافع عن العرض الزائل.”(25)
خاتمة
إن السيرة النبوية الشريفة هي معين لا ينضب، ومن الإجحاف والانحراف أن تُقرأ سيرته عليه الصلاة والسلام قراءة تسلب الإنسان إنسانيته أو تحولها إلى جملة من الخوارق متجاوزة القواعد السننية التي خلق الله عز وجل عليها الكون. أو تقرأ بصورة سردية موغلة في التاريخ ومقطوعة عن صناعة الواقع والمستقبل.
إن الكتابة في السيرة النبوية تتطلب عنصرا مهما حتى تصل المعاني إلى القلوب، وتتحول إلى تطبيقات وإنجازات، وهذا العنصر هو حبه صلى الله عليه وسلم. إنك ما لم تحس بهذه العاطفة؛ فإنه حري بك أن تنأى عن الكتابة أو الحديث عنه. فهو الرسول الذي لم يفتأ يصرح ويذكر بحب أمته وخوفه عليها قال تعالى:” لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ* فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [ سورة التوبة/ 128_129]
لقد كتب الشيخ البشير الإبراهيمي عن النبي صلى الله عليه وسلم بحب وجدنا أثره ونحن نقرأ هذه المحطات، وقد اعتقدنا قبل أن نطلع عليها أنه لم يُكتب في السيرة مثل ما كتب الشيخ محمد الغزالي والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي في منجزيهما ” فقه السيرة” وإذا بالمكتوب عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبل الشيخ الإبراهيمي لا يقل فائدة ومتعة.
الهوامش:
1- محمد البشير الإبراهيمي، عيون البصائر، مجموع المقالات التي كتبها افتتاحيات لجريدة البصائر،دار المعارف، دت،ص528
2- محمد البشير الإبراهيمي، في قلب المعركة 1954 _1964، ط1، الجزائر، دار الأمة، يناير، 1994، ص73
3- مصطفى حسيبة، المعجم الفلسفي، عمان، دار أسامة للنشر والتوزيع، 2012، ص104.
4- المرجع نفسه.
5- عبد الفتاح مراد، موسوعة البحث العلمي، دط، دت، ص735
6- المرجع نفسه، ص 736.
7- عمار طالبي، النزعة الإنسانية والجمالية عند بن باديس، الأصالة، ع7، السنة الثانية، مارس-أفريل1972، مجلد 02، ص50
8- المرجع السابق، ص 50-51.
9- أنظر: محمد البشير الإبراهيمي، عيون البصائر، مصدر سابق، ص 526
10- المصدر نفسه، ص 527.
11- محمد البشير الإبراهيمي، في قلب المعركة، مصدر سابق، ص 80.
12- الإبراهيمي، عيون البصائر، مصدر سابق، ص 527.
13- الإبراهيمي، في قلب المعركة، مصدر سابق، ص 72.
14- المصدر نفسه.
15- المصدر السابق، ص73.
16- المصدر نفسه، ص 72.
17- المصدر نفسه، ص73.
18- المصدر السابق، ص78.
19- المصدر نفسه.
20- الإبراهيمي، عيون البصائر، مصدر سابق، ص527
21- المصدر نفسه ،528
22- المصدر نفسه، ص528
23- المصدر السابق، ص529
24- الإبراهيمي، في قلب المعركة، مصدر سابق، ص 73.
25- المصدر السابق، ص 74-75.
المصدر: مجلة الربيئة