اهتمام الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بقضايا بالمرأة
علي الصلابي

اهتمام الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بقضايا بالمرأة

بقلم: د. علي الصلابي-

كان وضع المرأة الجزائرية في أوائل القرن العشرين متخلفاً للغاية، فأبواب التعليم موصدة في وجهها، ومشاركتها في المجتمع لم تتعد دور ماكينة الأولاد، بالإضافة إلى بعض الأعمال الإنتاجية البدائية، كغزل الصوف، ونسج البرانس، ومساعدة الرجل في الريف في أعماله الزراعية، وما عدا ذلك فقد كان يخيم على وضعها الاجتماعي جو قاتم، فلا رأي لها في الزواج، وكانت تعاني من اثار الطلاق.

وكان للحركة الإصلاحية الجزائرية التي قادها عبد الحميد بن باديس ـ والبشير الإبراهيمي من بعده ـ رأيها في الموضوع، فكانت الحركة الإصلاحية ترى بأن التعليم والتعليم الوطني والديني على الخصوص هو المدخل الأول لتحرير المرأة، وأن الحجاب لا يقف عائقاً أمام تطورها، وفي ذلك يقول ابن باديس: إذا أردتم إصلاحها الحقيقي فارفعوا حجاب الجهل عن عقلها قبل أن ترفعوا حجاب الستر عن وجهها، فإن حجاب الجهل هو الذي أخرها، وأما حجاب الستر فإنه ما ضرها في زمان تقدمها، فقد بلغت بنات بغداد وبنات قرطبة

وبنات بجاية مكاناً عالياً في العلم، وهنَّ متحجبات، فليت شعري ما الذي يدعوكم اليوم إلى الكلام في كشف الوجوه قبل كل شيء.

إن جمعية العلماء بقيادة العالمين ابن باديس والإبراهيمي سارت في المجال الاجتماعي بخطى متقدمة، ونظرت إلى المرأة كعنصر مهم في نهضة الجزائر والتصدي للمشروع الفرنسي الاحتلالي، وذلك من خلال تعليمها وتهذيبها، وغرس مفاهيم الحشمة والفضيلة والصيانة في نفوس الفتيات المقبلات على التعليم في مدارسها. وعمل الإبراهيمي على توجيه المجتمع نحو قيم القران الكريم وتعاليمه في شؤون الحياة، ومنها الاجتماعية، فتحدث عن الزواج والصداق والطلاق.

أ ـ الزواج:

ورأيه في هذه القضية يتمثل في ضرورة الحث على الزواج في الوقت المناسب، ويقول في هذا الشأن:

حتى لا يضيع على الجنسين ربيع الحياة، ونسماته وأزهاره وبهجته وقوته، ويضيع على الأمَّة نبات ذلك الربيع وثمر الخصب، والنماء والزكاء فيه، ثم تضيع بسبب ذلك أخلاق وأعراض وأموال، وإذا زادت هذه الفاشية فشواً، واستحكم هذا التقليد الفاسد ؛ فإن الأمَّة تتلاشى في عشرات السنين.

ويقصد بالتقليد الفاسد إعراض الشباب عن الزواج. وحين كان الإبراهيمي يدعو إلى الزواج المبكر والتناسل، كان واعياً جداً بالمراحل الصعبة التي كان يمر بها المجتمع الجزائري، والتي تميزت بارتفاع معدل الوفيات عند الأطفال والشيوخ، نتيجة الجوع والمرض والفقر، إضافة إلى عمليات التقتيل والنفي والتشريد والضياع والهجرة التي كان يمارسها الاستعمار الفرنسي بالجزائر، حيث لم يتجاوز عدد السكان يوم دخول الاستعمار الفرنسي، و لم يكن بعيداً عن هذا التقدير، إضافة إلى ما كانت تدفع به الثورات والانتفاضات الجزائرية

المتتالية من الشباب من أعداد هائلة من الشهداء من أجل الحرية والاستقلال.

ب ـ في الصداق:

غير أنه بقدر ما كان يحث على الزواج المبكر، بقدر ما كان مدركاً للأسباب والعوامل التي تبعد التفكير في الزواج عند الشباب، لقد كان ينتقد كثيراً أولئك الاباء الذين يغالون في مهور بناتهم، يقول: لو أننا وقفنا عند حدود الله، ويسرنا ما عسرته العوائد من أمور الزواج ؛ لما وقعنا في هذه المشكلة، ولكننا عسّرنا وحكّمنا العوائد، والعجائز القواعد، في مسألة خطيرة كهذه، فأصبح الزواج الذي جعله الله سكناً وإلفة ورحمة ؛ سبيلاً للقلق والبلاء والشقاء، وأصبح اللقاء الذي جعله الله عمارة بيت، وبناء أسرة ؛ خراباً لبيتين، بما فرضته العوائد في مغالاة المهور، وتفتن في النفقات والمغارم.

وعمل الإبراهيمي على مساعدة الراغبين في الزواج بشكل عملي وتنظيمي، بالإشراف على زواج معظم الفتيات المتعلمات بمدرسة التربية والتعليم بقسنطينة، ومدن أخرى غيرها، على أساس مهور رمزية تمثلت في كثير من الحالات يكتب شعر وأدب وتربية، ومصاحف قرانية، وهدايا رمزية قدر المستطاع، ولعل أكثر هذه الزيجات نجاحاً في بلادنا، هي هذه الزيجات، كما أثبتت الأيام فيما بعد.. لأنها لم تبن على المصالح المادية، بل بنيت على البر والتقوى والمودة والرحمة من جهة، وحافظت على صحة البنية الاقتصادية للأسرة من جهة أخرى.

وقد استمر العمل بهذا القرار الحكيم حتى أيام الكفاح المسلح، حيث بقي الصداق رمزياً عند زواج المجاهدين والمجاهدات، لقد كان سابقاً عصره في تقديس الحياة الأسرية بوصفها القاعدة الصلبة والأساسية لبناء المجتمعات، وكان يعمل مصلحاً وواعظاً على المستوى الفردي والجماعي، على الارتفاع بمستوى هذه الأسرة وتفتحها وازدهارها، فكان التوافق الاجتماعي والفكري من أهم الشروط التي يطلب احترامها عندما يتدخل إيجابياً، وكالأب الروحي العطوف في زواج المجاهدين والمجاهدات، وزواج الأساتذة والمعلمين بالمدارس الحرة، كانت الأسرة بالنسبة إليه من أسس نهضة المجتمع الجزائري، والمرأة فيها يجب أن تكون من شروط القيادة الأسرية لتربية الجيل وتهذيب النشء.

في وقت كانت فيه الفتاة تباع وتشترى في سوق المزايدة، خصوصاً داخل بعض الأسر التي تغلبت عليها الروح المادية والإقطاعية والبرجوازية، فكان أن وجد لدى معظم الأسر من عامة الناس ـ خصوصاً في مدينة قسنطينة ـ الاستجابة الكاملة لارائه ووصاياه الإصلاحية تجاه تعليم البنت، واحترام إنسانيتها في الزواج، فكانت هذه أولى الخطوات في تطبيق المبادأئ الاجتماعية السليمة والمطلوبة في إنشاء مجتمع سليم.

ج ـ رأيه في الطلاق:

أما في القضية الثالثة وهي الطلاق: فإنه يبني رأيه فيها على الحديث الشريف: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق»، ويقول: الطلاق حل عقدة، وبتّ حبال، وتمزيق شمل وزيال خليط، وانفضاض سامر، فيه كل ما في هذه المركبات الإضافية التي استعملها شعراء العرب، وجرت في ادابهم العاطفية مجرى الأمثال، من التياع وحرارة، وحسرة ومرارة، ويزيد عليها جميعاً بمعنى اخر وهو ما يصحبه من الحقد والبغض والتألم والتظلم.

إنه رأي مبني على الوضعية الأسرية المتردية التي كان يشاهدها يومياً ككاتب مفكر وحكيم مصلح، حيث يتفشى الإهمال العائلي، والتفكك الأسري، واليتم والتشرد وانحراف الأحداث، نتيجة نظرة استعبادية متخلفة للمرأة من جهة وللأسرة ودورها القيادي في المجتمع من جهة أخرى، كحالة من حالات التخلف الاجتماعي التي فرضها المستعمر.

هكذا كان الإبراهيمي.

الكلمة الصادقة التي لا تبلى فيها جدة، والكلمة المخلصة النابضة أبداً، والكلمة المنهج الرشيد شامخة وارفة الظل، دانية القطوف.

كان فريداً بين علماء الإسلام، ولكنه نمط ليس غريباً، لأنه جمع في نسق واحد بين القيادة والزهادة والنزاهة، بين علوم الشريعة وعلوم اللسان والمعرفة بالسير والأخبار، ومذاهب أهل الفرق والديانات، وجاءت كتاباته الوافرة متنوعة الفنون متشعبة المقاصد، حتى أنه عالج كل الموضوعات الإنسانية والحضرية.

وهكذا يتراءى لنا أنه كان يعيش حياة قومه متكاملة، ويتفاعل معها سواء في مجال العلم والأدب، أو الفكر والسياسة، وكان دوماً متطلعاً إلى الأحسن، يخلق كل مرة افاقاً جديدة بفكره وعلمه، باحثاً دوماً عن صيغ جديدة لحياتنا الفكرية، صيغ تجمع بين أصالة ثقافية بمقوماتها الأساسية، ومعاصرة تجعلنا جزءاً من زماننا فكراً وجسداً، وذلك بالاجتهاد والتنقيب في الموروث من تراثنا الحضاري، لنأخذ جزأه العاقل المبدع الخلاق وننبذ جزأه الخامل البليد.. ونتحول من حضارة اللفظ إلى حضارة الفعل.


من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2)

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.