دور وتأثير علماء الجمعية لمدينة تبسة في ثورة أول نوفمبر: الشيخ إبراهيم مزهودي التبسي
وهكذا التحق إبراهيم كسائر زملائه التبسيين من خريجي جامع الزيتونة مُعلمًا بمدرسة تهذيب البنين والبنات بتبسة، ومع الوقت أصبح مُعلمًا ناجحًا، ومُربيًا نشيطًا، ومُتفانيا ومُخلصًا في عمله. ومن زملائه الذين عمل معهم كمعلم ومُدرس في مدرسة تهذيب البنين والبنات بتبسة، نذكر: الشيخ العيد مطروح، ومحمد الشبوكي، والطيب قواسمية، وعلي الساسي، ومصطفى الزميرلي، ومحمد السحيري.
لِنشاطاته المُكثفة داخل وخارج مدرسة تهذيب البنين والبنات بمدينة تبسة، ولِتفانيه في تربية الأجيال، أحبه الجميع، من تلاميذ، وأولياء تلاميذ، ومُدرسين… حتى أنَّ الشيخ العلَّامة العربي التبسي أُعجبَ به، وأحبه وفضَّله على جميع زملائه الآخرين.
إبَّانَ الاحتلال الفرنسي للجزائر، رحلَ مُعظم مُفكري الأُمَّة الجزائرية إلى الخارج مُكرهين، فخرجَ البعض منهم مدفوعًا بقسوةِ ظرفٍ عامٍ أو خاصٍ، وخرجَ البعضُ الآخر راغبًا في العلم، أو حالمًا بالرزقِ، أو مشغوفًا بسحرِ الرحلةِ نفسها، غير أنَّ الفئة الراغبة في العلم كان طموحها أقوى. وبما أنَّ إبراهيم مزهودي كان طموحًا، فقد تعلَّقت همته باستكمال تعليمه العالي في المشرق العربي، أُسوة ببعض الشيوخ والزملاء الذين سبقوه إلى هناك، أمثال الفضيل الورتلاني وسعدي الصديق، وخاصةً عندما رأى بأم عينيه كيف كانت غزارة شيخه العربي العلمية والثقافية والمعرفية، وكيف أثرت تلك السنوات الطويلة التي قضاها الشيخ العربي بالأزهر بمصر في طلب العلم في شخصيته وتكوينه. لهذا قررَ الشيخ إبراهيم مزهودي السفر إلى مصر طالبًا العلم والثقافة والمعرفة.
غير أنَّ الشيخ إبراهيم مزهودي اصطدمَ بحاحز الاستعمار الفرنسي الذي تقاعس وتماطل ثم أمتنعَ في إعطائه تأشيرة السفر إلى مصر. حيثُ يذكر لنا الشيخ إبراهيم مزهودي في حوارٍ مُطول أجريته معه قبل وفاته بخمس سنوات أنَّه حاول بكل الوسائل السفر إلى مصر لتكملة دراسته في جامع الأزهر، فقد انتقل إلى باريس العاصمة الفرنسية في سنة 1948م لإقناع السُّلطات الفرنسية بإعطائه تأشيرة السفر إلى مصر، غير أنَّ هذه السُّلطات مانعت في إعطائه هذه التأشيرة.
ولقد حاول الشيخ إبراهيم مُحاولات عديدة لإقناع السُّلطات الفرنسية إعطائه تلك التأشيرة، على أمل أن يتيسر له ذلك، فاستعانَ ببعض رجال العلم وعلى رأسهم المرحوم الشيخ عبد الرحمن اليعلاوي، لكن مُحاولته هذه بائت بالفشل كباقي المُحاولات.
وبعد هذه المُحاولات اليائسة، عدلَ الشيخ إبراهيم عن السفر، وفضَّلَ أن يبقى في باريس، لإعانة شيوخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في المهجر، مُشرفًا على تعليم أبناء الجالية الجزائرية في باريس، بعد استشارة الشيخيْن: محمد البشير الإبراهيمي رئيس الجمعية، والشيخ العربي التبسي نائب رئيس الجمعية ومدير معهد عبد الحميد بن باديس، فانتدباه لتمثيل الجمعية في باريس مع القيام بالتعليم في الوقت نفسه.
وهكذا يئسَ الشيخ إبراهيم مزهودي من دخوله مصر، ولكن الأقدار العظيمة كانت تدخر للشيخ أجمل المُفاجآت… فهنا تتراءى في الموقف المقادير وتتدخل مشيئة وإرادة الله عزَّ وجلَّ… فقد استطاعَ الشيخ إبراهيم مزهودي دخول أرض الفراعنة: مصر، بعد أكثر من عشر سنوات، ثم بعد ذلك في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وأراد ربك فوق كل هذا أن يكرم الشيخ، فدخلها بجواز سفر أحمر، ليكون ممثل دولته المُحررة في مصر، سفيرًا للجزائر في أرض الكنانة. ويذكر لنا كذلك الشيخ إبراهيم، أنَّه في هذه المُدة التي قضاها في باريس والتي دامت أربع سنوات، وبمناسبة احتضان باريس قمة الأمم المُتحدة في سنة 1952م، اشترك الشيخان الجليلان محمد البشير الإبراهيمي، والعربي التبسي في هذه القمة كملاحظين لإيصال القضية الجزائرية للرأي العام، وإيصال كذلك مفهوم عدم الخلط بين الدين والسياسة.
وبعد انتهاء هذه القمة، عاد الشيخان الإبراهيمي والعربي إلى أرض الوطن يُرافقهما الشيخ إبراهيم مزهودي، لِيُكلَّف من رئيس الجمعية بمهمة التفتيش في مدارسها، رفقةَ الشيخ محمد الغسيري، والشيخ محمد الصالح رمضان -عليهما رحمة الله-.
مهامه عند التحاقه ومشاركته في الثورة التحريرية الكبرى
وبقي الشيخ إبراهيم مزهودي على عهده في خدمة رسالة الإسلام، ورسالة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بجهاده التربوي والعلمي، اللذين يعدان من أهم الركائز المُثلى الرئيسية في تعزيز مُقومات مبدأ الدين التي يقوم عليها الجهاد الشامل الواسع.
لهذا نرى الشيخ، كان دائمًا في استعدادٍ تام لتلبية نداء الجهاد بمفهومه ومعناه الواسع الشامل: الجهاد السياسي، والإعلامي، والروحي، والعلمي، والتخطيطي، والقتالي…
فلما أذَّنَ مُؤذن الثورة التحريرية المُباركة في الفاتح من شهر نوفمبر 1954م، كان الشيخ إبراهيم مزهودي من أوائل المُلبين لِنداء الجهاد والمُنضمين تحت لواء الثورة التحريرية العادلة.
فكان بداية جهاده أثناء هذه الثورة المُباركة، باتصاله بين قيادة الثورة في العاصمة، والولاية الأولى والثانية في شرق قسنطينة، وكان زميله المُكلف بالاتصال بالقيادة في غرب البلاد، وهران، وعمالة الجزائر، الرفيق الكريم الطيب الثعالبي -المدعو علال-.
ثم التحق الشيخ إبراهيم بالجبل سنة 1956م بشمال قسنطينة، بعد أن اكتشفَ العدو الفرنسي أنَّه مُكلف بمهمة من طرف الثورة، وفي هذه المنطقة التي انصم إليها والتي تُسمى بالولاية الثانية التقى بالشهيد البطل زيغود يوسف رئيس هذه الولاية، ورِفاقَه ابن طبال، وابن عودة.
وعند انعقاد مؤتمر الصومام يوم20أوت 1956م، شارك الشيخ إبراهيم مزهودي والقائد زيغود يوسف في هذا المُؤتمر ضمن وفد الولاية الثانية، وفي ختام المُؤتمر تمَّ المُصادقة على قراراتٍ تبدو في الظاهر مُهمة وفي صالح الثورة التحريرية، غير أنَّ باطنها غير ذلك…!!
ولقد ذكر الأستاذ محمد الهادي الحسني أنَّه شاهدَ بأم عينيه جزءًا هامًا من ميثاق الصومام مكتوبًا بخط يد الشيخ إبراهيم مزهودي، حيثُ قال: «… وأشهد أنني رأيتُ جزءًا هامًا من ميثاق الصومام مكتوبًا بخط اليد عند الشيخ أحمد توفيق المدني يرحمه الله، وقال لي: هذا خط الأستاذ إبراهيم مزهودي، وقد جاءتنا هذه النسخة إلى القاهرة».
وعند اختتام هذا المُؤتمر كُلِّفَ الشيخ إبراهيم مزهودي مع رفيقه زيغود يوسف بتبليغ مُقرراته إلى الولاية الأولى، ومُحاولة إصلاح ذات البين بين قادتها: الأوراسيين منهم، والنمامشة. وتمَّ ذلك في تونس، لا في الأوراس، ولا في النمامشة، لأنَّ قادة الولاية كانوا وقتئذٍ في تونس، يُحاولون رأب الصدع فيما بينهم خاصةً بعد استشهاد المرحوم مصطفى بن بو العيد شهر مارس 1956م… وانتهت المهمة… وتأسست ولاية أوراس النمامشة من جديد تحت قيادة القائد المُحنَّك العقيد محمد الشريف -رحمه الله-.
وعند وجوده بتونس طلبت منه القيادة في الجزائر أن يظل فيها لمواصلة مساعيه نحو الثُّوار بتونس، إلى أن يلتحق به رفاقُه من لجنة التنسيق والتنفيذ الذين غادروا العاصمة بعد إضراب السبعة أيام. وفي تونس أشرف الشيخ إبراهيم مزهودي على القسم العربي بجريدة المُجاهد، والمقاومة الجزائريتيْن. وبعد توسيع لجنة التنسيق والتنفيذ في القيادة الجزائرية، وتأسيس الحكومة الجزائرية المُؤقتة في القاهرة سنة 1959م، التحق الشيخ إبراهيم مزهودي بالعمل بها كمدير لديوان رئيسها المرحوم فرحات عباس.
ولقد تقلدَ الشيخ إبراهيم مزهودي عدة مسؤوليات في الثورة التحريرية وصار برتبة رائد في جيش التحرير الوطني بعدما خاض معارك عديدة ضد المُحتل أظهر فيها شجاعة فائقة، وبطولة نادرة قلَّما أظهرها باقي قواد الجيش التحرير الوطني، ثم صار عضوًا في مجلس الثورة منذ مؤتمر الصومام، فنائبًا للقائد البطل زيغود يوسف بالولاية الثانية.
وعن مُلابسات اغتيال القائد البطل زيغود يوسف، يذكر لنا الشيخ إبراهيم مزهودي، خلاف ما يدّعيه الكثير بأنَّ الشهيد القائد البطل اُغتيلَ من طرف الاستعمار الفرنسي، فإنَّ الشيخ إبراهيم يُؤكد لنا بأنَّ زيغود يوسف اغتيل من طرف زملائه وأعوانه…!!
ويذكر لنا كذلك الشيخ إبراهيم مزهودي أنَّه أثناء هذه الثورة التحريرية الكبرى، كانت له خِلافات حادة مع جماعة مصالي، أدت بهذه الجماعة إلى الحكم عليه بالإعدام، لكن إرادة ومشيئة الله عزَّ وجلَّ عجَّلت باستقلال الجزائر ونجا الشيخ من جماعة مصالي بأعجوبة…!!
مهامه ووظائفه بعد الاستقلال
في بداية الاستقلال، كان الشيخ إبراهيم مزهودي من ضمن الأعضاء الذين رشحتهم الولاية الأولى كنائب في المجلس الوطني التأسيسي، حيثُ التقى زُمرة فاضلة من قُدامى جيش وجبهة التحرير، رجالًا ونساءً. وفي هذا المجلس التأسيسي ترأس الشيخ إبراهيم لجنة التربية والثقافة، وكان ممن أبلوا البلاء الحسن في سبيل تثبيت المادتيْن اللتيْن تنصان على أنَّ الإسلام هو دين الدولة، وأنَّ اللغة العربية هي اللغة الرسمية، وذلك في دستور الجزائر سنة 1963م، وفي ميثاق الجزائر سنة 1964م. ولقد كان الشيخ إبراهيم ممن كانوا مُعارضين للتوجه الاشتراكي التي انتهجته الدولة الجزائرية في بداية الاستقلال، لهذا قام الرئيس الراحل بن بلة بزَّجِ الشيخ إبراهيم في السجون والمعتقلات، وذلك خشية من معارضته للتوجه اليساري الذي سارت عليه حكومة الثورة باعتمادها على الشيوعية الماوية وتحويلها إلى اشتراكية جزائرية… فكانت خاتمة هذه الفترة النيابية أن اعتُقل وسُجن الشيخ في الصحراء الكبرى، رفقة زملاء آخرين…!!
مهامه في وزارة التربية الوطنية
وبعد خروجه من المعتقل، عاد الشيخ إبراهيم مزهودي مرة ثانية إلى مدرسة تكوين المعلمين ببوزريعة، تحت إدارة المُناضل السياسي الأستاذ عبد الحميد مهري، إلى أن تفضَّلَ بدعوته إلى وزارة التربية الوطنية معالي الوزير الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، فكلَّفه بإدارة الشؤون الثقافية بالوزارة كمدير لهذه الإدارة، وفي عهده تمَّ تعريب الجزء الخاص بالعلوم الإسلامية من فهرس “فانيان” لمخطوطات المكتبة الوطنية، حين أَسندَ المهمة لأديبيْن من أُدباء الجزائر، هما: الشيخ جلولي بدوي، والأستاذ رابح بونار -عليهما رحمة الله-، لكن عملهما الجليل حِيكت له مُؤامرة بنهار، فلم يرَ النور… وكانت المخطوطات سببًا في وفاة الأستاذ رابح بونار، رحمه الله.
مهامه كسفير للجزائر في مصر (1974-1970م)
ولِنشاطات الشيخ إبراهيم المُكثفة والكثيرة في وزارة التربية الوطنية، وتفانيه وإخلاصه في خدمة مبادئ دينه الحنيف، رشَّحه وزير التربية الوطنية الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي عند الرئيس الراحل هواري بومدين ليكون سفيرًا فوق العادة للجزائر بمصر سنة 1970م، بعدما ساءت العلاقات الجزائرية-المصرية من أيام الحرب المصرية-الإسرائيلية، ونكسة حُزيران 1967م.
ويذكر لنا الشيخ إبراهيم مزهودي، أنَّه عندما استدعاه الرئيس الراحل هواري بومدين في مكتبه برئاسة الجمهورية لتعيينه سفيرًا للجزائر في مصر، اشترط الشيخ إبراهيم على الرئيس بومدين أنَّه بعد تحسين العلاقات بين البلدين مُباشرةً فإنَّه سيعود على إثرها إلى وزارة التربية الوطنية بالجزائر.
وعند تسلمه مهامه كسفير للجزائر في مصر، استطاع إبراهيم مزهودي إصلاح العلاقات الجزائرية-المصرية بحنكته السياسية، وثاقب نظره، وعميق تفكيره، وحكمته وبُعد رُؤاه، وحلمه الفريد وثوريته المُتميزة. وهكذا قام السفير بمهمته على أكمل وأحسن وجه، وبنزاهةٍ غير عادية في الوسط السياسي، الذي يغلب عليه في معظم المواقف والأوقات طابع الديبلوماسية القائمة على المُراوغة والاستدارة والتلاعب والمُجاملة والنفاق.
وهكذا عادت العلاقات الجزائرية -المصرية كما كانت عليها قبل تلك الحرب المشؤومة، الحرب المصرية- الإسرائيلية. وهذا الإنجاز الكبير، يعود الفضل فيه إلى السفير المُحنّك النزيه: إبراهيم مزهودي، فبفضله عادت العلاقات الجزائرية -المصرية إلى دفئها بعد فُتورٍ.
ولَخير دليل على عودة العلاقات بين البلدين إلى أحسن ما يُرام، هو أولًا زيارة رئيس وزراء مصر، ثم ثانيًا زيارة رئيس الجمهورية المصرية بعد ذلك للجزائر سنة 1974م.
وأثناء زيارة السيد عزيز صدقي رئيس الحكومة المصرية آنذاك للجزائر سنة 1974م، وقعَ حادثٌ يُبيِّن صفات وأخلاق السفير الشيخ إبراهيم العالية الراقية، فعند وجود السفير إبراهيم بالجزائر مع الوفد المصري جاءهُ خبر وفاة ابنته الشابة “هدى” بالقاهرة، وظل الشيخ مُلازمًا للوفد وللجلسات، فاتصل به الأستاذ نوار جدواني من القاهرة -وهو الذي ذكرَ هذه القصة- سائلًا الشيخ: ماذا نفعل؟ فأجابه الشيخ: “هيئوا لها قبرًا في القاهرة، فكلها تربة إسلام”… وكتم أحزانه، وأكمل مهمته، وفي اليوم المُوالي امتطى الطائرة وعاد إلى القاهرة، ولما رأى أعضاء الوفد المصري غيابه عن الجلسات تساءلوا عنه فقيل لهم الخبر، فسألوا أكان على علم؟ قالوا نعم، فدهشوا لصبر وإيمان هذا الرجل.
ولما وصل الشيخ إبراهيم مزهودي إلى القاهرة، قرأ فاتحة الكتاب على قبر ابنته حيثُ دُفنت في مقبرة أُسرة كريمة، في حَيِّ الدرَّاسة بالقرب من الأزهر الشريف والحسين -رضوان الله عليه- ونامت في قبر واحد إلى جانب أختها “حنان” ابنة الدكتور عبد الله ركيبي الذي كان يُحضِّر رسالة الدكتوراة في القاهرة، وقد اغتالها عسكري أرعن يقود شاحنة عسكرية، لا في ضفة القناة ولكن تحت سفح هرم “خوفو” ونحسبهما من الحور العين، فقد اختارهما الله إلى جواره ولمَّا تبلغا سِنَّ التكليف… أو ممن خصَّهن بقوله: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ}(سورة الواقعة، الآية: 18-17).
اعتزاله السياسة والمجتمع
أثناء فترة التعددية الحزبية التي عرفتها الساحة السياسية في الجزائر في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي، اعتزل الشيخ إبراهيم مزهودي السياسة والمجتمع، مُفضلًا الابتعاد بعيدًا عن النفاق والمُنافقين، والتزلف والمُتزلفين، والفتنة والفتَّانين.
ولقد كان الشيخ على حق، فلقد دخلت البلاد في بداية التسعينات من القرن الماضي في عشرية مُظلمة، وفتنة عارمة أصاب لهيبها كل أرجاء الوطن، حتى وصلت إلى سنوات الصِّراعات السياسية الدامية وقتل المُسلم لأخيه المُسلم بدون حقٍّ…!!
ولقد حلم الشيخ إبراهيم مزهودي بجزائر أفضل، فتبدد حلمه كسرابٍ أتلفته أشعة الشمس في صحراءٍ واسعة قاحلة، فأصبح لا وجود له، ولا حلم بعده. فالشيخ إبراهيم مزهودي كان يعشق أرض الجزائر، ويفتخر ببطولات شعبها البطل، ويعتز بانتمائه لهذا الوطن العزيز؛ حتى أنَّه عندما نُحاول وصف جمال الجزائر وسحرها، لا نجد الكلمات اللائقة والمُناسبة لوصفها في أبياتٍ شعرية رنَّاقة، وصدق الشاعر عندما قال:
وصْفُ الجزائرِ في القصائدِ يَعْسُرُ وجمالُها يَسْبي العقولَ ويَبْهَرُ
ماذا عساني أن أقول؟ سوى أنَّ أرض الجزائر، هي أرضٌ ساحرة، طيبة، أرضٌ معطاءة، كريمة، سخية، أرضٌ غنية بثرواتها الطبيعية والبشرية، لكنها دُنِّست بأيادي الاختلاس والغدر والخديعة. وإذا أردنا تطهير هذه الأرض من دناستها، فلابد علينا جميعًا أنْ نقطع تلك الأيادي الظالمة من جذورها.
الشيخ إبراهيم مزهودي لم تخسره مدينة تبسة فحسب، بل خسرته الجزائر بأكملها، خسرت فيه المجاهد البطل، وخسرت فيه الديبلوماسي المُحنَّك النزيه، رحمه الله وأدخله فسيح جناته.
لقائي الأخير مع الشيخ في هذه الحياة الدنيا
بعد تكريمه من طرف الجمعية في الجزائر العاصمة، في 31 جويلية سنة 2008م، المُوافق لـ28 رجب 1429ه، عاد الشيخ إبراهيم مزهودي إلى بلدته الحمامات. وبعد أقل من شهرٍ من تكريمه هذا، وبالتحديد في يوم 26 أوت 2008م، زُرتُهُ في منزله بالحمامات، فتفاجأتُ بوجوده حاملًا الفأس وهو يُقلِّب به تُراب حديقة منزله، كأنَّه شابٌّ في رَيْعانِ شبابه، ليس عجوزًا هرمًا في سن السادسة والثمانين من العمر…!!
ولما أبصرني أمامه ابتسم في وجهي ابتسامةً عريضة، لاحظتُ من خلالها أنَّ معنوياته النفسية كانت مُرتفعة، ربما كانت نتيجة ذلك التكريم الذي كُرِّمَ به قبل شهر من ذلك من طرف الجمعية.
وأثناء حديثنا في هذا اللقاء، أخبرني الشيخ بأجواء ذلك الحفل الذي أُقيمَ بمناسبة تكريمه من طرف الجمعية بالجزائر العاصمة، وما حدثَ في كواليس ذلك الحفل.
وفي ختام هذا اللقاء اقترحتُ على الشيخ إبراهيم أخذ بعض الصور الفوتغرافية لِتبقى ذكرى جميلة في هذا العصر الذي نُدِرَت فيه الذكريات الجميلة، عصر الانهيار القومي والروحي، والتردي والانحلال الخُلُقي الفظيع الرهيب.
وعند خروجي من منزل الشيخ ودعتُه وطلبتُ منه الدعاء لي وللأُمَّة الإسلامية بالخير والتوفيق والنجاح، ولم أكن أعلم أنَّ هذا اللقاء سيكون آخر لقاء يجمعني بالشيخ إبراهيم مزهودي في هذه الحياة الدنيا، فبعد أقل من عامٍ ونصف توفي الشيخ إبراهيم مزهودي، وذلك يوم الجمعة 12ربيع الثاني سنة 1431ه، المُوافق لـ26فيفري 2010م، وشُيِّعت جنازته في موكب جنائزي مُهيب، بحضور وفودٍ كثيرة جاءت من كل الجهات، رحمه الله.
ولقد أوصى الشيخ إبراهيم مزهودي قبل وفاته بأنْ لا يتبع جنازته أحد من السُّلطة، وأنْ لا يُؤبنه أحد، ولا يخطب عليه ولا يُمجده أحد، وأنْ لا تقوم بعد وفاته الوفود على قبره أو في داره يأكلون ويشربون ويتحدثون، ونفى أن يُلبس باسمه البدع والمنكرات…!!